إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / حقوق الإنسان في الإسلام









مقدمة

5. حقوق الإنسان المتعلقة بمقصد الحياة والحرية والمساواة

أ. حق الحياة

إن حق الحياة هو الحق الأول في حقوق الإنسان، بل إنه رأس الحقوق جميعاً، فمن دون الحياة تصبح بقية الحقوق عديمة الجدوى والفائدة، من أجل هذا كان لهذا الحق أهمية قصوى في الإسلام.

وإذا كان هذا الحق، قد جاء موجزاً في إعلان حقوق الإنسان (أُنظر وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) حيث يقول: (لكل إنسان الحق في الحياة، والحرية، وسلامة شخصيته)، فإن الإسلام قد فضله وجعله حقاً مقدساً، فلا يجوز لإنسان أن يعتدي على حياة إنسان أو المساس بها بأي شكل من أشكال الاعتداء. ويستوي في ذلك المسلم وغير المسلم، والحر والعبد، والرجل والمرأة، والكبير والصغير، فالجميع بشر متساوون في استحقاق الحياة، ]مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا[ (سورة المائدة: الآية 32).

ويصل حد احترام الحياة، ولو حياة غير المسلم، أن المسلم إذا اعتدى على حياة معاهد لم يُشم رائحة الجنة. فعَنْ النَّبِيِّ r قَالَ: ]مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 2930).

إن حق الإنسان في الحياة مقدس في الإسلام، ولا يُسلب هذا الحق من أي إنسان ـ مهما يكن هذا الإنسان ـ إلاّ بالإجراءات، التي تقررها الشريعة الإسلامية وقواعدها المنظمة لهذه الأمور، بل إن الإسلام عندما قرر القصاص في حالة القتل العمد، فإنه جعل لولي المقتول أن يعفو عن حقه في هذا القصاص، تقديساً لحق الإنسان في الحياة.

فالإنسانية قيمة لها احترامها في الإسلام، وليس ذلك خاصاً بحالة الإنسان أثناء الحياة فحسب. بل يمتد ذلك الحق، وهذه الحماية للإنسانية في أثناء الموت وبعد الموت أيضاً؛ إذ من حق الإنسان إذا توفي أن يُحترم جثمانه، ونترفق به ونكرمه، لقول النبي، r: ]إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ إِنْ اسْتَطَاعَ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 13999).

ب. حق الحرية

حق الإنسان في الحرية حق مقدس، ولا يقل قداسة عن حقه في الحياة. فالحرية في الشريعة الإسلامية حق طبيعي لكل إنسان. فهو يولد حراً، وتظل هذه الحرية تلازمه إلى أن يموت. فما من مولود إلا ويولد على الفطرة، التي خلقه الله عليها.

والحرية في حقيقة الأمر هي معنى الإنسانية. ولهذا فمن يفقد حريته، يفقد إنسانيته، إذ الحرية هي الاختيار في الفعل، والترجيح والموازنة في الحكم على الأشياء وتقديرها. والإنسانية، التي يتميز بها الإنسان عن الحيوان، هي استعداده لأن يفكر ويوازن فيما يفكر فيه، ثم يختار ما يراه جديراً بالتنفيذ.

ولو لم يكن للإنسان هذا الاستعداد الفطري، لكان هو والحيوان سواء، في أن الحيوان ـ بحكم الفطرة ـ لا يستطيع أن يفرّق بين ضار ونافع، وبين حسن وقبيح، ومن ثم لا يجد مجالاً للاختيار والترجيح. ومجال حركته في الحياة عندئذ، هو أن يُساق حيث يريد غيره لا حيث يريد هو، ويدفع نحو ما يحقق مصلحة غيره، لا ما يحقق مصلحته الخاصة.

فالإنسان ـ إذن ـ هو وحده صاحب الإنسانية، وصاحب الحرية بين الكائنات الحية. فهو حر فيما يفكر، وحر فيما يعبر، وحر فيما يعتقد، وحر فيما يملك، وحر فيما يعامل به غيره، ولا ضابط لحريته هذه، إلاّ إبعاد الأذى عن نفسه وعن غيره، ممن يعيشون معه في مجتمع الإنسانية.

وما دامت الحرية هي الصفة الطبيعية، التي ولد عليها الإنسان، وهي معنى الإنسانية فيه ولها كل هذه القداسة، فإنه لا يجوز لإنسان أن يعتدي على حرية إنسان آخر، ولهذا قال عمر t، قولته الشهيرة لابن عمرو بن العاص: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).

فإذا كان الأمر كذلك، فيجب توفير الحماية لحرية الإنسان، فلا يجوز أن تُقيد أو يُحد منها، إلاّ بحسب ما تقتضيه الشريعة الإسلامية، التي نزلت أصلاً لمصلحة الإنسان ونفعه ودفع الضرر عنه.

إن الإسلام في تقريره لحق الحرية، سبق الإعلان العالمي  عن حقوق الإنسان، الذي جاء فيه: (يولد الناس جميعاً أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق)، وجاء في المادة الثالثة: (لكل إنسان الحق في الحياة والحرية).

وإذا كان الإسلام يمنع، أن يعتدي إنسان على حرية آخر، فإنه، في الوقت نفسه، يمنع أن يعتدي شعب على حرية شعب آخر، أو أن تعتدي أمة على أمة، أو دولة على دولة، مهما يكن الدافع إلى ذلك. فإذا حدث اعتداء، فللمُعتدى عليه أن يقاوم هذا الاعتداء، وأن يستعيد حريته، ويستردها بما يستطيع من وسائل وإمكانات، وعدة وعتاد ]وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ[ (سورة الشورى: الآية 41)، وعلى المجتمع الإنساني كافة، أن يساند من يجاهد في سبيل حريته حتى يستردها.

ج. حق المساواة

يرجع الناس جميعاً إلى أصل واحد، ومن ثم فلابد أن يكونوا متساوين في القيمة الإنسانية، فكلهم لآدم. ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً[ (سورة النساء: الآية 1).

وآدم يرجع أصله إلى التراب، ]إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[ (سورة آل عمران: الآية 59).

ولهذا يقول النبي، r: ]إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْفَحْمِ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجِعْلاَنِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 4452).

وإذا كان البشر متساوين في الأصل والنشأة، فليس هناك ميزان للتفاضل، إلاّ الأعمال التي يؤديها كل منهم ]وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا[ (سورة الأحقاف: الآية 19).

وإذا كان الناس متساوين في القيمة الإنسانية، فإنه لا يجوز أن يتعرض إنسان لخطر، أو ضرر، بأكثر مما يتعرض له غير من الناس، لأن (المسلمون تتكافأ دماؤهم).

وإذا كان الأمر كذلك، فليس هناك مبرر ولا مسوغ للتفريق بين الناس على أساس اللون، أو الجنس، أو العرق، أو اللغة، أو الدين. وأي تفرقة من هذا القبيل تكون منافية، وهادمة لمبدأ المساواة، الذي أقره الإسلام الحنيف.

وفي الحديث الشريف: ]مَا مِنْ رَجُلٍ يَسْلُكُ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا إِلاَّ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقَ الْجَنَّةِ وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ[، (سنن أبو داود، الحديث الرقم 3158)، فليس على أساس الجنس أو النسب يتميز الإنسان.

وإذا كان الناس أمام الإسلام متساوين في القيمة الإنسانية، فلابد أن يكونوا متساوين في تطبيق شرع الله عليهم، لا يُستثنى من ذلك أحد، مهما يكن منصبه، أو جاهه، أو غناه، أو شرفه ونسبه. فالناس أمام تطبيق الشرع وقوانينه سواء. ]فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ r فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ r فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 3216).

وما دام الناس متساوين في القيمة الإنسانية، وتطبيق الشرع عليهم، من دون استثناء، فإنه يلزم أن يكونوا متساوين في حق الانتفاع بالموارد المادية للمجتمع، من خلال فرص عمل متكافئة. فلكل إنسان أن يأخذ فرصته في العمل، كما يأخذها غيره، ولا سيما أن موارد الرزق قد أتاحها الله للجميع بقوله: ]هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ[ (سورة الملك: الآية 15).

وإذا كان الجهد المبذول واحداً، والعمل المؤدى واحداً، من حيث الكم والكيف، فإنه فلا تجوز التفرقة في الأجر بين إنسان وآخر، فلا معنى لأن يأخذ إنسان أجراً أعلى من أجر إنسان آخر يعمل العمل نفسه، كما يحدث أحياناً في بعض الدول.

هذا هو حق المساواة، الذي سبق به الإسلام إعلان حقوق الإنسان ، الذي جاء فيه: (يحق لكل فرد أن يستمتع بجميع الحقوق والحريات، المنصوص عليها في هذا الإعلان، من دون تفرقة أو تمييز من أي نوع، كالتمييز بسبب السلالة، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي، أو غيره من الآراء، أو الأصل القومي، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو غير ذلك من الأوضاع).

وتتخذ المساواة في الإسلام صوراً عدة، مثل:

(1) المساواة أمام القانون

يتبين من الأدلة السابقة، أن المسلمين لا تمايز بينهم أمام القانون؛ فهم جميعاً يخضعون لقانون واحد، بما في ذلك الخليفة نفسه. فلا تعرف الشريعة الإسلامية حصانة لأحد في مواجهة القانون، كما لا تخص فرداً أو فئة بقانون، يخالف ما يطبق على باقي المسلمين، فالمبدأ هو وُحْدة القانون.

وتطبيقاً لهذا المبدأ، حرص النبي، والخلفاء من بعده، على الخضوع لأحكام الشريعة وتنفيذها على أنفسهم.

إن أبلغ ما يستشهد به في المساواة بين الناس أمام القانون، ما كان من أمر جبلة بن الأيهم. وكان من ملوك آل جفنة، أسلم هو وقومه وحضر لزيارة عمر في المدينة في خمسمائة من أهل بيته. ففرح به عمر كقوة جديدة للإسلام، وأدنى مجلسه وخرج معه للحج. وبينما جبلة يطوف حول الكعبة، وطئ إزاره رجل من بني فزارة فانحل الإزار، فأخذت جبلة العزة بالإثم، وضرب الفزاري على وجهه فحطم أنفه. فاستعدى الفزاري عليه عمر، وأقر جبلة بما هو منسوب إليه، فقال له عمر: لقد أقررت فإما أن تُرضي الرجل، وإما أن أقتص منك بهشم أنفك. فقال جبلة: وكيف ذاك يا أمير المؤمنين، وهو سوقة وأنا ملك؟ قال له عمر: إن الإسلام قد سّوى بينكما. فلست تفضله بشيء، إلاّ بالتقوى والعافية. قال جبلة: قد ظننت يا أمير المؤمنين أني أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية. قال الخليفة في حزم: دع عنك هذا فإنك إن لم ترض الرجل اقتصصت منك. قال جبلة: إذاً أتنصر. قال الخليفة: إن تنصرت ضربت عنقك؛ لأنك قد أسلمت فإن ارتددت قتلتك. ففر جبلة هاربا بليل إلى القسطنطينية وتنصر.

فعمر يحرص على تأكيد المساواة أمام القانون، ولو أدى الأمر إلى فقد كسب كبير للإسلام من القوى المؤيدة له.

وقد أهدر عمر أي تفرقة أمام القانون، بين حاكم ومحكوم، عندما أمر بأن يقتص أحد أقباط مصر من ابن عمرو بن العاص واليها، عندما ضربه. كما طلب من أهالي الأقاليم، أن يحيطوه علما بما ينالهم من حكامهم ليقتص لهم منهم . وبذلك رفض تقرير أي ميزة للوالي على الرعية.

(2) المساواة أمام القضاء

يكاد الإسلام أن يكون هو النظام الوحيد، الذي لا يستثني أحداً، مهما كان شأنه، من المثول أمام القضاء حتى لو كان الخليفة، سواء أحوكم بشخصه أم بصفته. كما أنه ليس هناك أمر ممتنع على القضاء. وفي هذا ضمان أكيد للعدالة في الإسلام، تمتاز به على كثير من النظم، التي تحظر محاكمة رئيس الدولة أو الوزراء أو تنشئ هيئات خاصة لمحاكمتهم. وكذلك، تمنع القضاء من نظر بعض التصرفات والإجراءات.

وقد جرى العمل في الإسلام، على مقاضاة الخلفاء والولاة تماماً، كما يُحاكم سائر الناس أمام القاضي. فليس هناك جهات أو درجات متعددة للقضاء ، ومن ذلك أن الخليفة علي بن أبي طالب عندما افتقد درعه، فوجدها لدى يهودي يدعي ملكيتها، قال له: بيني وبينك قاضي المسلمين. فتحاكما إليه، فحكم القاضي لصالح اليهودي، لأنه حائز للدرع والحيازة سند الملكية . وكذلك عندما أخذ عمر بن الخطاب فرساً من رجل على سوم، فحمل عليه فعطب. فخاصم الرجل عمر فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً. فقال الرجل: إني أرضى بشُريح العراقي. فقال شُريح لعمر: أخذته صحيحاً فأنت له ضامن، حتى ترده صحيحاً سليماً، فأدى عمر ثمنه للرجل، ثم عين شُريح قاضياً.

وادعى جماعة حقاً على الخليفة المنصور، أمام القاضي محمد بن عمر الطلحي. فأرسل القاضي للخليفة يستدعيه، فاستجاب الخليفة وحضر. فلما حضر الخصوم سوّى القاضي بينهما في المجلس. وبعد سماع أقوال طرفي الخصومة حكم القاضي ضد الخليفة. وبعد عودة الخليفة، أمر باستدعاء القاضي، بعد انصراف الناس عن مجلسه. فلمّا مثل بين يدي الخليفة قال له المنصور: جزاك الله عن دينك ونبيك، وعن حسبك وعن خليفتك، أحسن الجزاء.

وهكذا، طبق المسلمون مبدأ المساواة أمام القضاء تطبيقاً لا نظير له في أي نظام آخر. ولعل هذا التطبيق يبدو جلياً في دستور القضاء، الذي وضعه عمر بن الخطاب، في وصيته التي أوصى بها أبا موسى الأشعري حين ولاه القضاء.

وبمقتضى هذا الدستور، لا يجوز للقاضي أن يفرق بين طرفي الخصومة في نظرته، فيقبل على هذا ويعرض عن ذاك؛ ولا في مجلسه، فيواجه طرفاً، ويعطي جنبه أو ظهره للطرف الآخر؛ ولا في قضائه، فيميل إلى خصم على حساب غيره.

(3) المساواة في حق تولي الوظائف العامة

جاء الإسلام بالمساواة في تولي الوظائف، ولم يميز بين فئة وأخرى، أو طائفة وغيرها، ولم يحاب أحداً ولم يؤثر عربياً على غير عربي. فالأفراد يتساوون في تقلد الوظائف العامة، طبقاً لكفاءتهم وعلمهم وقدرتهم، لا لسبب آخر.

وليس معنى المساواة، أن يستوي العالم والجاهل، والحاذق والخامل، بل يكون تحقيق المساواة إذا تساوت الشروط، وهو ما يعبر عنه اليوم بالمساواة القانونية. وليس المساواة الحسابية، يقول الله تعالى: ]قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ[ (سورة الزمر: الآية 9).

وفي ذلك يقول النبي، r، لأبي ذر عندما سأله أن يستعمله: ]يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 3404).

وقد ولىّ رسول الله، r بعض الموالي مثل بلال، وزيد بن حارثة، حكم المدينة نيابة عنه، عند خروجه للغزوات. ولم يكن هناك أي اعتبار لعدم عروبتهم.

كما ولىّ أسامة بن زيد، قيادة الجيش، لأنه كان يراه أقدر الناس على القيادة. وعندما طُعن عمر بن الخطاب في المسجد، أمر أن يؤم الناس صهيب الرومي، وهو من الموالي وليس عربياً.

ويؤثر عن عمر بن الخطاب، أيضاً، أنه قال، عند ترشيحه، للصحابة الستة، الذين تنحصر فيهم الخلافة من بعده : لو كان سالم مولى حذيفة موجوداً لاخترته.

(4) المساواة في حق العطاء

يتميز النظام الإسلامي، بأنه الأول من نوعه في العالم، الذي فرض لكل فرد في الدولة حقاً في بيت المال، منذ أن يولد حتى يموت. فالنظم المعاصرة في الدول، لا تُفرض فيه من بيت المال مرتبات، إلاّ للعاملين بها، وكذلك لغير القادرين على العمل. وفي ذلك يقول عمر بن الخطاب: والله الذي لا إله إلاّ هو، ما أحد إلاّ وله في هذا المال حق أُعْطِيَه أو منعه . ولا يميز الإسلام بين الأفراد في هذا الاستحقاق، فلا يمنح أحداً ويحرم آخر، ولا يفرق بين ذكر وأنثى، أو بين مسلم وذمي. فقد أخذ عمر بن الخطاب، اليهودي الفقير إلى بيت المال وقال لعامله: اقرض له ( أي: خصص له ) ولضربائه من بيت المال.

على أن الخليفة أبا بكر حين فرض للمسلمين أنصباءهم، أعطى لكل شخصٍ كان رسول الله، وعده شيئاً، وما بقي من المال قسّمه بين الناس بالسّوية، على الصغير والكبير، والحر والمملوك، والذكر والأنثى. فبلغ في أحد الأعوام سبعة دراهم وثلث لكل شخص، وبلغ في العام الذي تلاه عشرين درهماً لكل شخص، فقال بعض الناس لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، إنك قسّمت هذا المال فسويت بين الناس، ومن الناس من لهم فضل وسوابق وقِدم، فلو فضّلت أهل السوابق والقدم والفضل بفضلهم. فقال: أما ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما أعرفني بذلك، وإنما ذلك شئ ثوابه على الله جل ثناؤه، وهذا معاش فالأسوة فيه خير من الأثرة .

وهكذا، ساوى أبو بكر في العطاء بين الأفراد مساواة حسابية، وترك الجزاء على العمل لله تعالى، على أساس أن العطاء غايته الإعاشة وليس الجزاء. وحدُّ الإعاشة يستوي فيه الجميع. فلما ولي عمر بن الخطاب، اتبع سبيلا آخر في توزيع العطاء، ففرض لأهل السوابق والقدم من المهاجرين، والأنصار، ممن شهد بدراً، خمسة آلاف خمسة آلاف، ولمن لم يشهد بدراً أربعة آلاف أربعة آلاف، وفرض لمن كان له إسلام كإسلام بدر، دون ذلك، وأنزلهم على قدر منازلهم من السّوابق. فلما سئل عن ذلك قال: لا أجعل من قاتل رسول الله، r، كمن قاتل معه.

كما اختص آل بيت النبي، صلى الله عليه وسلم، ففرض لأزواجه اثني عشر ألف درهم، لكل منهن، وفرض للعباس خمسة آلاف درهم، وللحسن والحسين خمسة آلاف درهم.

والذي يتضح من ذلك أن عمر، عندما قسّم العطاء راعى ثلاثة مبادئ:

الأول: فضل آل بيت رسول الله، لقرابتهم للنبي r.

الثاني: فضل بعض الناس لقربهم من رسول الله r، إذ فرض لأسامة بن زيد، أربعة آلاف درهم، فقال له ابنه عبدالله بن عمر: فرضت لي ثلاثة آلاف، وفرضت لأسامة أربعة آلاف، وما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لأبي، ولا كان له ما لم يكن لي. فقال له عمر: زدته لأنه كان أحب إلى رسول الله r، وكان أبوه أحب إلى رسول الله r، من أبيك.

الثالث: فضل السابقين في الإسلام والجهاد. إذ فرض عمر لصفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمر، من أهل الفتح، أقل مما أخذ مَنْ قبلهم، فامتنعوا عن أخذه، وقالوا: لا نعترف أن يكون أحد أكرم منا. فقال: إنما أعطيتكم على السابقة في الإسلام، لا على الأحساب. قالوا: نعم إذاً.

وهكذا، كانت القواعد التي وضعها عمر للعطاء من بيت المال، وإن اختلفت في الفئات، إلاّ أنها يستوي فيها الأفراد داخل كل فئة، لا يختلف فيها فرد عن فرد. بل إن العطاء يفرض للمسلم وغير المسلم. كما أن ذلك لم يقتصر على العرب في شبه الجزيرة العربية وحدهم، بل كان العطاء حقاً لكل مسلم أينما كان، فقد سحبه عمر إلى المحتاجين من أهل الذمة، كما فرض للأعاجم من بيت المال.

(5) المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق

ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في القيمة الإنسانية، في الثواب والجزاء. وبيّن أن المعيار الفاصل بينهما، هو العمل وليس الجنس، وذلك بمقتضى قول الله تعالى: ]وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ[ (سورة الإسراء: الآية 70)، ]فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ[ (سورة آل عمران: الآية 195)، ]كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ[ (سورة الطور: الآية 21)، ]لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ[ (سورة النساء: الآية 32).

ومن هنا، لم يُهْدر الإسلام مركز المرأة، بالنسبة للرجل، في الأمور الآتية:

·   الحقوق  السياسية.

·   التعليم.

·   التصرفات القانونية.

·   نظام الأسرة.

·   الميراث.

وأساس كل ولاية في الإسلام، القدرة على أدائها، ممن هو أهل لقيام المصلحة به. وعلى ذلك، فإن حقوق المرأة تتحدد بقدرتها على القيام بها أفضل من غيرها.

وفي ذلك يقول الفقهاء: فمن كان قادراً على الولاية فهو مطالب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها مطالب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها.

والمساواة الكاملة، بين الرجل والمرأة، ليست ممكنة، لاختلاف خصائص كل منهما وقدراته وكفاياته. فالصفات الإنسانية، والطبيعة التكوينية، والمستوى العلمي، هي معيار اختيار الشخص للعمل، رجلاً أو امرأة.

ومما يوضح عمق نظرة الإسلام، ويؤكد صلاحية تطبيقه في كل العصور، أن معظم الدول المعاصرة، التي أقرت للمرأة بالحقوق السياسية، بل وغالت بعضها إلى حد المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، سواء في نطاق الدول الرأسمالية، أو الدول الشيوعية، لا يزال معظم المناصب القيادية في تلك الدول، سواء في نطاق الأحزاب السياسية، أم في أجهزة الدولة، في أيدي الرجال. ولم تشغل المرأة تلك المناصب، غالباً، إلاّ بصفة رمزية. كما أن برلمانات الدول، بلا استثناء، شكلت وما تزال، من أغلبية ساحقة من الرجال. كل ذلك على الرغم من مرور زمن طويل على منحها هذا الحق.

والمرأة، وإن كانت ممنوعة من تقلد الولايات الكبرى، كالخلافة وولاية الأقاليم، وولاية الجهاد بإجماع الفقهاء، وكذلك إمامة الصلاة، عند جمهور الفقهاء ما لم يكن المقتدى نساء[1]، إلاّ أنه يحق لها، وفقاً لتقاليد الإسلام، أن تشغل بعض الولايات، التي تناسب طبيعتها. فلها أن تتولى الوزارة التنفيذية، إذا تعلقت أعمالها بشؤون الأسرة، لحاجتها للشفقة والرحمة. كما أجاز أبو حنيفة أن تتولى القضاء، فيما تجوز فيها شهادتها.

كما يجوّز الفقهاء أن يكون للمرأة حق الانتخاب، وحق عضوية المجالس النيابية، إذ لا يعدو ذلك أن يكون تمكيناً لها من إبداء رأيها، شأنها في ذلك شأن الرجل، سواء بسواء. فقد حدث أن قصدت امرأة عمر بن الخطاب في المسجد، وهو يناقش مهور النساء، وعارضته؛ فعدل عن رأيه إلى رأيها، ذلك أن المرأة من حقها أن تؤم المساجد[2]. والمسجد كان برلمان الدولة الإسلامية، وأن المجالس النيابية لها وظيفتان: وظيفة سياسية، هي الرقابة على أعمال الدولة، ووظيفة تشريعية هي سن القوانين.

لا أحد ينكر على المرأة حقها في الرقابة، فقد سبق أن أجرتها على أمير المؤمنين. كما لا ينكر أحد عليها حقها في أن تكون مجتهدة، وبالتالي تملك حق المشاركة في سن القوانين.

والمرأة أهل لأن تُوكِل وأن تُوكَّل، وبذلك يجوز توكيلها للنيابة عن بنات جنسها، قياساً على قيامها بمهمة القضاء عند بعض الفقهاء.

وفيما دون ذلك من وظائف، فإلى جانب الواجب الأصيل للمرأة في رعاية بيتها وأسرتها، ليس هناك ما يمنعها من العمل، الذي يحتاج إليها وتحتاج إليه، مما يُصلح لها بيتها وطبيعة تكوينها، ولا يؤدي إلى مُحَرَمِ أو مكروه، نتيجة تبرجها وخلوتها؛ إذ إن العمل الشريف المنتج، يعصم المرأة من الزلل ويجنبها التعرض للمتاعب.

وفي تاريخ الإسلام ما يشير، إلى أن المرأة كانت تعمل، إلى جانب وظيفتها الأساسية، في المنزل والأسرة. حق المرأة في التعليم.

أباح الإسلام التعليم للمرأة، بمختلف أنواعه ومراحله، كما أباحه للرجل، بل جعله في أمور الدين وفيما يهمها من أمور الدنيا، فهو فريضة عليها في الحدود الضرورية. فعَنْ رَسُولُ اللَّهِ r: ]طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 220).

وقد كانت أم المؤمنين عائشة من أحفظ الناس للحديث والفقه، وكانت أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب، رضى الله عنهما، تتعلم الكتابة في الجاهلية، على يد امرأة كاتبة، تدعى الشفاء العدوية، فلما تزوجها عليه السلام، طلب إلى الشفاء أن تعلمها تحسين الخط وتزيينه، كما علمتها أصل الكتابة.

(6) المساواة في التصرفات القانونية

سوى الإسلام بين الرجل والمرأة أمام القانون، وفي جميع الحقوق المدنية، لا فرق في ذلك بين المرأة، المتزوجة وغير المتزوجة.

فللمرأة شخصيتها المدنية، وأهليتها للتعاقد، وحقها في التملك. فهي تملك إجراء مختلف العقود، من بيع وشراء، ورهن وهبة، ووصية. كما أنها أهل لتحمل الالتزامات، ما دامت عاقلة مميزة رشيدة، وليس لزوجها ولا لأحد من أهلها حق معها في ذلك. كما لا يحل للزوج أن يتصرف في شيء من أموالها، إلاّ إذا أذنت له بذلك، أو وكلته في إجراء عقد بالنيابة عنها. ولها أن تلغي وكالته، وتوكل غيره، إذا شاءت يقول الله تعالى: ]وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًاً[ (سورة البقرة: الآية 229)، ويقول أيضاً: ]وَءَاتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًاً[ (سورة النساء: الآية 4).

(7) المساواة في نظام الأسرة

تملك المرأة، كالرجل، القيام بأعمال الوصاية على الصغار، والولاية على المال، والنظارة على الأوقاف.

وفي شؤون الزواج، كفل الإسلام حق المرأة في قبول زوجها، أو عدم قبوله. فقد اتفق الفقهاء على أن المرأة البالغة الرشيدة، لا تجبر على قبول زوج من دون موافقتها، بل لها الحرية المطلقة في اختيار الزوج، كما أنها لا تعضل ( أي: تمنع من الزواج ) عن الزوج الكفء. فإن أساء أولياؤها وعضلوها عمن اختارت، رفع القاضي ذلك الظلم، ودفع عنها هذا الإيذاء، وأمكنها من الزواج ممن ارتضته، ما دام من الأكفاء لها.

وبالنسبة للطلاق، فإن الشريعة الإسلامية، لم تُطلق حق الزوج فيه من دون أن يكون للزوجة أي حـق، مما يعتبر مخالفاً لمبدأ المساواة، وإخلالاً بمبدأ إلزام العقود، حيث لا يجوز الفسخ إلاّ برضاء الطرفين المتعاقدين.

والأصل في عقد الزواج في الشريعة الإسلامية، أنه يتم بين الطرفين. وتقبل فيه المرأة أن يتولى الرجل وحده إيقاع الطلاق، في الحدود التي قررها الإسلام، فإذا مارس الزوج حقه في الطلاق، فإنما يكون ذلك وفق ما اتفق عليه الطرفان عند الزواج.

والزوج عند إيقاعه الطلاق، يلتزم لمطلقته بمؤخر صداقها ونفقتها وحضانة أولادها، وبالمثل يكون على الزوجة التي ترغب في الطلاق، أن تتنازل عن كل أو بعض حقوقها قِبَل مطلقها.



[1] أما المالكية فيشترطون إمامة الرجل في كل الأحوال.

[2] أي: تصلي في المسجد لا أن تصبح إماماً.