إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أنبياء الله: تعريف وتاريخ




منظر علوي وجانبي للسفينة
آثار سد مأرب
أثر سفينة نوح
نحت في الجبل
مجسم لهيكل سليمان
مصحف عثمان
مكة المكرمة
مقام يحيى عليه السلام
المسجد الحرام
الكعبة المشرفة
بحيرة لوط عليه السلام
ختم الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمير البحرين
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى النجاشي
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى المقوقس
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى كسرى
صناعة الدروع والأسلحة
غار ثور
قبر أيوب عليه السلام

من مولد النبي إلى إرهاصات النبوة
من البعثة إلى الهجرة
من تأسيس الدولة إلى الوفاة
أولو العزم
نسب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ارتفاع الجبال عن سطح البحر
شجرة أبناء آدم
قبة الصخرة والمسجد الأقصى

أهم الأصنام
ممالك اليمن
أوضاع اليهود بعد وفاة سليمان عليه السلام
هجرة إبراهيم عليه السلام
هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
مراحل توحيد شبه الجزيرة العربية
أصحاب الرس
أصحاب السبت
أصحاب القرية
مكانا هبوط آدم وحواء
الوضع السياسي قبل البعثة
اتساع مملكة داود عليه السلام
توزيع الجنس البشري
بعثة نوح عليه السلام
بعثة هود عليه السلام
بعثة لوط عليه السلام
بعثة إلياس عليه السلام
بعثة أيوب عليه السلام
بعثة إدريس عليه السلام
بعثة إسماعيل عليه السلام
بعثة إسحاق عليه السلام
بعثة يونس عليه السلام
بعثة يوسف عليه السلام
بعثة داود عليه السلام
بعثة يعقوب عليه السلام
بعثة سليمان عليه السلام
بعثة صالح عليه السلام
بعثة شعيب عليه السلام
بعثة عيسى عليه السلام
بعثة ذي الكفل عليه السلام
بعثتا زكريا ويحيى عليهما السلام
حادث الفيل
خروج موسى من مصر
خروج موسى وهارون
رحلة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الشام
شبه الجزيرة العربية
طريق حج الأنبياء
عودة موسى إلى مصر
عبور بني إسرائيل
غزوات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ذرية نوح عليه السلام
قوم تُبع



قصة محمد

المبحث التاسع عشر

من مولدهr حتى زواجه من خديجة

أولاً: نسبه، وهيئته، ومولده

1. نسبه

هو محمدُُ بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصى بن كِلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤِى بن غالب بن فِهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خُزيمة بن مُدرِكة بن الياس بن مُضر بن نِزار بن مَعَدّ بن عدنان بن أُدّ بن مُقَوَّم بن ناحور بن تيرح بن يَعٌرُب بن يشجب بن نابت بن إسماعيلu بن إبراهيمu.

2. هيئته

أ. كان وسيم الطلعة، ربعة [ وسيط القامة] في الرجال، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، ضخم الرأس، ذا شعر رَجٌلٍ [لا جعد ولا مسترسل] شديد سواده، مبسوط الجبين، فوق حاجبين سابغين [ضخمين] منونين متصلين، واسع العينين أدعجهما [أسودهما]، تشوب بياضهما في الجوانب حمرة خفيفة، وتزيد في قوة جاذبيتهما وذكاء نظرتهما أهداب طوال حوالك، مستوي الأنف دقيقة، مفلج الأسنان، كث اللحية، طويل العنق جميله، عريض الصدر، رحب الساحتين، أزهر اللون، شثن الكفين والقدمين [غليظهما]، يسير ملقيا جسمه للأمام مسرع الخطو ثابتة، على ملامحه سيما التفكير والتأمل، وفى نظرته سلطان الآمر الذي يخضع الناس لأمره.

ب. وصف علىَّt رسول اللهe فقال: (لم يكن بالطويل الممغَّط [الممتد]، ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط [ الشديد خشونة الشعر] ولا بالسبط، كان جعدا رجلا [مسرح الشعر]، ولم يكن بالمطهَّم (كثير اللحم)، ولا المكلثم (المستدير الوجه)، وكان أبيض مشرباً بحمرة، أدعج العينين (أسود العينين)، أهدب الأشفار [طويلها]، جليل المُشاش [عظام رؤوس المفاصل] والكتد [مابين الكتفين] دقيق المَسْرُبة [الشعر الممتد من الصدر إلى السرة]، أجرد [قليل شعر الجسم]، شثن [غليظ] الكفين والقدمين، إذا مشى تقلّع (لم يثبت قدمه)، كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهةً هابه، ومن خالطه أحبه، لم أر قبله ولا بعده مثلهe).

3. مولده e

يرتبط حديث مولد محمدe بالحديث عن زواج أبيه"عبد الله" بأمه "آمنة بنت وهب"، ونعود بالسنين إلى الوراء قبل مولد محمدe، حيث أحس "عبد المطلب" قلة حوله في قومه، فهو قليل المال والأولاد، فنذر نذراً إن وُلد له عشرة بنين وبلغوا أشدهم، لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، وتحقق نذره حيث وهبه الله عشرة أبناء، ولم يبق إلا الوفاء به، فذهب "عبد المطلب" إلى صاحب القِدَاح، وهو الرجل الذي يرمي بالقدح ليستفتي به كبير الأصنام، وهى عادة كانت عند العرب، كلما اشتدت بهم الحيرة في أمر ذهبوا إليه ليرمي لهم بالقداح، وكتب "عبد المطلب" اسم كل ابن من أبنائه على قدح، فلما ضرب صاحب القداح بقداحه، وبها أسماؤهم، خرج قدح "عبدالله"، وكان "عبدالله"، أصغر أبناء عبد المطلب وأحبهم إليه، فأخذ عبد المطلب ابنه "عبدالله" إلى هُبل ليوفي بنذره، ويذبحه هناك عند زمزم، بين صنمي إساف ونائلة، ولما علمت قريش بذلك هرعت إليه لتثنيه عن هذا الفعل.

وتحير "عبد المطلب" في هذا الأمر ماذا يفعل؟..، واقترح  "المغيرة بن عبدالله المخزومي" اقتراحاً حسناً أن يذهب "عبد المطلب" إلى عرافة "بيثرب" تعرف تلك الأمور، ولها فيها رأى، ثم تشاور القوم، واستقر رأيهم على الذهاب إلى تلك العرافة، فلما ذهبوا إليها، وقصوا عليها قصتهم، استمهلتهم إلى الغد، وسألتهم عن الدية (أي دية القتيل التي عادة ما يدفعونها في القتلى)، قالوا : عشر من الإبل.

وفى اليوم التالي أشارت عليهم أن يضربوا على "عبدالله" القداح وعلى الإبل، فإن أصابت الإبل نحروها فدية له، وإن أصابت القداح "عبدالله" فعليهم أن يزيدوا عشراً من الإبل، وهكذا حتى ترضى الآلهة.

وقبلوا ما قالته العرافة، وذهبوا مرة أخرى إلى القداح، وظلت القداح تخرج على "عبدالله" في كل مرة، فيزيدون في الإبل حتى بلغت مائة، وأخيراً خرجت القداح على الإبل، ولم تخرج على عبد الله، وقالت قريش لعبد المطلب: (لقد رضي ربك يا عبد المطلب)، ولما اطمأن "عبد المطلب" إلى رضاء ربه نحر الإبل المائة، وتركها لا يُصدُ عنها إنسان أو حيوان، هكذا أراد الله أن يبقى "عبد الله" حياً ليكون له شأن عظيم في مولد رسول كريم، أرسله الله رحمة للعالمين، هو محمد بن عبد اللهe.

حين جاوز "عبد المطلب" السبعين كان "عبد الله" قد بلغ الرابعة والعشرين، فرأى "عبد المطلب" أن يزوجه، واختار له "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة"، وذهب به إلى منازل زهرة، ودخل بيت "وهب" وهو إذ ذاك سيد بني زهرة سناً وشرفاً ليخطبها له [بعض المؤرخين قالوا انه خطبها من عمها "أهيب" التي كانت في كفالته بعد موت أبيها "وهب"]، وفى اليوم الذي تزوج فيه عبد الله من آمنة ، تزوج عبد المطلب أيضا من عمة آمنة وكان اسمها" هالة"، وأنجبت له "حمزة" عم رسول اللهe ونده.

وكان من عادة العرب عند الزواج أن يقيم الزوج عند بيت العروس ثلاثة أيام، فلما انقضت تلك الأيام انتقل عبد الله وآمنة إلى منازل بني عبد المطلب، وتشاء الأقدار ألا يقيم طويلا معها، فقد ذهب في تجارة إلى الشام، وهى حامل بِمحمدe، ومكث في رحلته هذه عدة أشهر، وحين قفل عائداً من الشام قاصداً مكة، عرج على أخواله بالمدينة، ليستريح عندهم من وعثاء السفر ومشقته، لكنه مرض هناك، ولم يتابع رحلة العودة مع القافلة، وبقي "عبدالله" عند أخواله حتى مات، ودفن بالمدينة بعد شهر من مسيرة القافلة إلى مكة، ولما علم عبد المطلب بمرض"عبد الله" أرسل إليه أكبر بنيه وهو "الحارث"، ليحضره من هناك إلى مكة، لكن "الحارث" حين بلغ المدينة علم بموت أخيه "عبدالله" فعاد حزيناً إلى مكة ليثير في قلب أبيه و"آمنة" زوجته الحزن والأسى لفراقه، فعبد المطلب لم تدم فرحته بفدائه من آلهته حين نذر نذره، وآمنة لم تنل ما كانت تحلم به من حياة هانئة وسعيدة معه، فقد مات من قريب، وترك لها خمساً من الإبل، وقطيعاً من الغنم، وجارية تسمى" أم أيمن" التي كانت حاضنة للنبيe من بعدُ.

ومرت أشهر الحمل بآمنة حتى وضعت، فلما ولدت محمداًe فرحت به فرحاً كبيراً، وأرسلت إلى جده عبد المطلب لتخبره، واستقبل عبد المطلب هذا الخبر العظيم وهو عند الكعبة، وفاضت عيناه من الفرح والسرور، وأسرع إلى آمنة، ليرى هذا الطفل ليقبله ويأخذه بين يديه، ويدخل به الكعبة، ويسميه"محمداً"e، وكان هذا الاسم غير متداول بين العرب في ذلك الوقت، ثم رد "عبد المطلب" الطفل إلى أمه مرة أخرى؛ لينتظرا المراضع من بني سعد على عادة أشراف العرب في مكة.

ولد رسول اللهe في عام 570 ميلادية وهو عام الفيل كما ذكر أكثر المؤرخون، واختلف المؤرخون في اليوم والشهر اللذين ولد فيهماe، والجمهور على أنه ولد في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وقد اختُلف في وقت ولادته أيضاً هل كان نهاراً أم ليلاً، وكذلك في مكان ولادته في أي مكان ولد بمكة؟، ويقول الكاتب "كُوسَّان دبِرٌسِفَال" في كتابه عن العرب، أن محمداًe ولد في أغسطس سنة 570م، أي في عام الفيل، وأنه ولد بمكة (اُنظر صورة مكة المكرمة) بدار جده عبد المطلب، وفى اليوم السابع لولادته نحر"عبد المطلب" الجزور، ودعا إليها رجال قريش، ليطعموا منها، ويباركوا له .

ثانياً: حليمة السعدية مرضعة الرسولr

هي حليمة بنت أبي ذؤيب، من بني سعد أبوها هو "عبد الله بن الحارث بن شِجنة بن جابر بن ناصرة بن قُصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عِكرمة بن خَصفة بن قيس بن عَيلان، وزوجها " الحارث بن عبد العُزى بن رفاعة بن مَلان بن ناصرة بن قُصية، وأولاد حليمة هم أخوات رسول اللهe من الرضاعة وهم: عبد الله بن الحارث، وأنيسة وخِِذامة (الشيماء) بنت الحارث، استرضعها عبد المطلب لمحمدe.

خرجت حليمة مع زوجها من بلدها في نسوة بني سعد تلتمس الرضعاء، وكان ذلك في سنة قحط وجدب، خرجت على أتان قمراء (شديدة البياض)، ومعها شارف (ناقة مسنة)، وكان معها صغير لها ترضعه، وكانت لا تنام من صراخه من الجوع، فليس في صدرها ما يغنيه، ولا في بيتها ما يغذيه، ترجو من الله الغيث والفرج، فلما وصلت مكة تلتمس الرضعاء لم تجد أحداً يرجو محمداًe ليتمه، فما بقيت مرضعة من بني سعد إلا أخذت معها رضيعا، غير محمدe لم يجد من يأخذه، ولما هموا بالعودة إلى بني سعد، كرهت أن تعود من دون أن تأخذ معها رضيعاً كسائر نساء بني سعد ولم تجد أمامها سوى محمد e، فاحتملته على الرغم من أنها لم تكن ترجو أجراً كبيراً على رضاعته من أمه آمنة، التي مات زوجها، وقد حملها على ذلك أنها لم تجد غيره كي ترضعه.

فلما أخذته معها وأرضعته وجدته لا يُقبل إلا على ثدي واحد، وكانت تعرض عليه الثدي الآخر فيأباه، كأنه كان يشعر بفطرته العادلة أن معه شريكاً له في لبنها، وذهب زوج حليمة في تلك الليلة ليحلب الشارف [الناقة المسنة] فوجدها حافلة باللبن [غزيرة]، فشربوا من لبنها حتى ارتووا وشبعوا، وتقول حليمة إنها منذ أن أخذت محمداًe لترضعه حلت عليها البركات، وجاءها رزقها من كل مكان، حتى أن بني سعد كانوا يقولون لرعيانهم: اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبي ذؤيب [يقصدون راعي حليمة]، لقد شعرت حليمة بالخير والسعادة من بعد رضاعتها  لمحمدe فسمنت غنمها، وزادت ألبانُها وبارك الله في كل ما عندها.

أقام محمدe في الصحراء في بني سعد لمدة سنتين، كانت حليمة خلال هذه الفترة ترضعه بينما تحتضنه الشيماء، وأثرت الأجواء المحيطة به في تلك البادية، فزادت في نموه وحسن تكوينه، حتى إذا أتم سنتين، وآن موعد فصاله، ذهبت حليمة به إلى أمه آمنة، ثم لم تلبث كثيراً هناك، وعادت به مرة أخرى، حتى يغلظ عوده ويشتد، وبقي محمدe في بني سعد سنتين أخريين وقبل أن يبلغ الثالثة ذهب مع أخيه من الرضاعة ليلعبا، فإذا بأخيه يسرع في عدوه حتى أتى أبواه فقال: (ذاك أخي القرشي، قد أخذه رجلان، عليهما ثياب بيض، فأضجعاه فشقا بطنه، فهما يسوطانه [أي يضربون بعضه ببعض])، فلما سمعا منه ذلك ذهبا ليريا ما قال، فوجدا محمداًe قائماً ممتقعا وجهه، فالتزماه، وسألاه: (مالك يا بني؟)، قالe: ((جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني وشقا بطني، فالتمسا شيئاً لا أدرى ما هو!!))، ثم رجعا به إلى بيتهما.

لما سمع زوج حليمة هذا الحدث لم ينم، وقال لها أخشى أن يكون الغلام قد أصيب بشيء، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، فأعادته حليمة إلى أمه، فلما قصت عليها هذا الحادث، قالت آمنة: (أتخوفت عليه من الشيطان؟)، قالت: (نعم!)، قالت آمنة: (والله ما للشيطان عليه من سبيل، وإن له لشأناً، لقد رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء قصور بُصرى من أرض الشام، فو الله ما رأيت من حملٍ قط كان أخف ولا أيسر منه)، وقد سُئل رسول اللهe عن نفسه فقال: ((أنا دعوة أبي إبراهيم، وبُشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر)).

ثالثاً: محمدr في كفالة جده ثم عمه

بعد خمس سنوات قضاها محمدe في بني سعد عاد مرة أخرى إلى أمه، وبقيت حليمة وأهلها موضع محبته طوال حياته، حتى أنه كلما جاءته حليمة بعد زواجه من خديجة كان يعطيها الهدايا، ويجزل لها العطاء، ويُذكر أنه أعطاها بعد زواجه من خديجة بعيراً وأربعين رأساً من الغنم، وكان يمد لها طرف ردائه لتجلس عليه كلما قدمت إليه.

أخذته "آمنة" ذات يوم إلى المدينة لزيارة أخواله من بني النجار، وأخذت معها جاريتها "أم أيمن" التي خلفها زوجها "عبد الله" لها من بعده، ومكثت به عند أخواله بيثرب شهراً، ثم عزمت على الرحيل والعودة إلى مكة، وفى طريق العودة مرضت بالأبواء، وماتت، ودفنت بها، وهو في السادسة من عمره، وعادت "أم أيمن" بمحمدe لتسلمه يتيماً إلى جده "عبد المطلب" ليكفله، ولما بلغ محمدe الثامنة مات جده "عبد المطلب" بعد أن بلغ الثمانين من عمره، وحزن محمدe حزناً شديداً لموت جده، وكان موت عبد المطلب ضربة قاسية على بني هاشم كلها، فلم يكن في أبناء عبد المطلب من يأخذ مكانته من بعده، فقد كان عبد المطلب ذا مكانة، وذا عزم وقوة، وأصالة وكرم، وأثر موته أيضاً في العرب جميعاً فهو الذي كان يطعم الحجيج ويسقيهم، ويبر أهل مكة، ويدفع عنهم الشر والأذى.

وبعد موت عبد المطلب كفله عمه "أبو طالب"، وعلى الرغم من أن أبا طالب لم يكن أكبر أخوته سناً، ولا أيسرهم حالاً، إلا أنه كان أنبلهم وأكرمهم في قريش، فقد كان "الحارث" أكبرهم سناً، وكان "العباس" أكثرهم مالاً، ومع ذلك فقد كفل أبو طالب محمداًe بل وأحبه حباً شديداً، حتى كان يقدمه على أبنائه، وازداد تعلقاً بمحمدٍe يوماً بعد يوم لنجابته وذكائه وبره، وطيبة نفسهe.

رابعاً: رحلته الأولى إلى الشام وحرب الفجار

تروي كتب السيرة أن محمداًe خرج مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام، وكان في الثانية عشرة من عمره، والتقى أثناء هذه الرحلة براهب يدعى "بحيرى"، هذا الراهب رأى في محمدe علامات النبوة التي أتت في أنباء النصرانية، ونصح "بحيرى" الذين مع محمدe ألا يوغلوا في بلاد الشام خوفاً عليه من اليهود، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فذلك مكتوب عندهم في التوراة، خشي "بحيرى" عليه من أن يعرفوه فينالوا منه، فأنذرهم ونصحهم، وفى هذه الرحلة مر محمدe على مدين ووادي القرى وديار ثمود (اُنظر خريطة رحلة محمد e إلى الشام) التي سمع عن أخبارها وماضيها من أهل البادية، كما عرف في الشام من أخبار الروم ونصرانيتهم، ومناوئتهم للفرس وعبادتهم للنار.

عاد محمدe مع عمه إلى مكة بعد رحلته إلى الشام، فإذا جاءت الأشهر الحرم كان يظل بمكة، أو يذهب إلى أسواق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز يستمع هناك إلى أصحاب المذهبات والمعلقات، ويستمع إلى خطب الخطباء بما فيهم خطب اليهود والنصارى ضد العرب ووثنيتهم، وقد وقف محمدe مع أعمامه في حرب الفجار، وهو في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره، تلك الحرب التي كان سببها أن" النعمان بن المنذر" كان يرسل كل عام قافلة تأتي من الحيرة إلى أكثر أسواق العرب شهرة وهو سوق عكاظ ، تحمل المسك، وتعود بالجلود، والحبال، وأنسجة اليمن المزركشة.

وعرض كل من "البَرَّاض بن قيس الكنانى"، و "عُروة الرحال بن عُتبة الهوازنى" نفسه على "النعمان" ليقود قافلته، فلما اختار النعمان "عروة الهوازنى"، كتم البَرَّاض ذلك في نفسه، وتربص "بعروة" وقتله في الشهر الحرام، ولم يكتف بذلك بل أخذ قافلته أيضاً، لذا سميت بحرب الفجار لحدوثها في الشهر الحرام، ولما علمت هوازن بذلك لحقت بقريش قبل أن يدخلوا البيت الحرام واقتتلوا فيما بينهم، وتراجعت قريش، وأنذرتها هوازن بالحرب في عكاظ في العام القادم، وظلت هذه الحرب المعروفة بحرب الفجار بين هوازن وقريش لأربع سنوات متتابعة، إلى أن عقد الصلح بينهم بأن دفعت قريش دية العدد الزائد على قتلاهم إلى هوازن، وهى دية عشرين رجلاً من هوازن، وقد اختلف فيما قام به محمدe في تلك الحرب، ففريق قال إنه كان يجمع السهام من هوازن ويدفعها إلى أعمامه، وفريق آخر يقول أنه اشترك في الحرب فعلا، ورمى بالسهام على هوازن، ونظراً لأن الحرب امتدت بين الفريقين أربع سنوات، فليس ما يمنع حدوث ما جاء في الروايتين.

كانت حرب الفجار لا تستغرق سوى أيام من كل عام، أما باقي العام فكانوا يزاولون أعمالهم وتجارتهم، من دون أن تترك الحرب بينهما أي أثر في نفوسهم، ولما شعرت قريش بعد هذه الحرب أن مكة قد تفرقت كلمتها خاصة بعد موت هاشم وعبد المطلب، ما أطمع العرب فيها من بعد موتهما، رأت أن توحد صفوفها مرة أخرى، فقام "الزبير بن عبد المطلب" ودعا إلى اجتماع بني هاشم وزهرة وتيم في دار عبدالله بن جدعان، وصنع لهم طعاماً، وتعاهدوا في هذا اليوم على أن يكونوا مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه، وحضر محمدٌe هذا الحلف الذي سماه العرب "حلف الفضول".

خامساً: حياة تأمل وتدبر

إن اشتغال محمدe بالرعي زاده تأملاً وتدبراً، كان يقول: ((ما بعث الله نبياً إلا راعي غنم)) وكان يقول أيضا: (( بُعث موسى وهو راعي غنم، وبُعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا أرعى غنم أهلي بأجياد))، ففسحة الوقت عنده، وفسحة المكان، وصفاء السماء، جعلت محمداًe ينظر إلى الكون نظرة لم يعرفها عبّاد الأصنام ولا الأوثان من حوله، فهم في غفلة من هذه الأنوار والإشراقات، كان ينظر إلى ولوج الليل في النهار، وولوج النهار في الليل، يراقب حركة الشمس التي تشرق بالنهار من مشرقها، ويراقبها وهى تغرب في مغربها، ثم يراقب دخول الليل، وهو يعسعس، فيرى نجوماً وكواكب تزين السماء تدريجياً، تسير وفق نظام دقيق ومحكم، فمن الذي يسيطر على تلك الكائنات السماوية، ومن الذي يتحكم في نظامها، فالشمس تشرق دائما من المشرق، ما انفلت هذا النظام، ولا اختل لحظة واحدة، وهى تغرب أيضاً في اتجاه الغرب، ما انفلت هذا النظام، ولا اختل لحظة واحدة، إن مدبر أمر هذه الكائنات هو الله، خالق تلك الأشياء كلها، ومدبر أمرها.

إن هذا التفكير والتأمل صرف محمداًe عن شهوات الحياة الدنيا وزخرفها، لقد كان محمدe أشد الناس زهداً في المادة، ورغبة عنها، كان لا يحتاج من الحياة إلى أكثر مما يقيم صلبه، كان يقول :))نحن قومُ لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع))، كانت لذة محمدe هي التأمل في هذا الكون، والتفكر والتدبر في أمره، و لقد ساعده على ذلك اشتغاله بالرعي.

سادساً: زواجهr من خديجة

هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العُزى بن قصي بن كِلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤى بن غالب، كانت تسمى الطاهرة في الجاهلية وفي الإسلام، وكانت تسمى أيضا سيدة نساء قريش، أمها فاطمة بنت زائدة بنت الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لُؤي بن غالب بن فهر (اُنظر شكل نسب الرسول e)، أراد أبو طالب عم الرسولe أن يجد لمحمدe سبيلاً أوسع للرزق بدلاً من رعي الغنم، فعلم أن خديجة بنت خويلد تستأجر رجالاً من قريش يديرون تجارتها، وكانت خديجة امرأة ذات مال وشرف، تزوجت مرتين في بني مخزوم، وأصبحت أوفر أهل مكة غنى، وكان أبوها "خويلد" وآخرون من ذوى الثقة يعاونونها على إدارة أموالها، وكانت ترد خطبة من أراد خطبتها من كبار رجال قريش، لاعتقادها أنهم يطمعون في مالها.

سارع أبو طالب إلى خديجة حين علم أنها تجهز لتجارة الشام، وعرض عليها أن تستأجر محمداًe لقيادة القافلة، وهو حينئذ في الخامسة والعشرين من عمره، فوافقت خديجة وخرج "ميسرة" غلام خديجة معهe في هذه التجارة، ولما انطلقت القافلة إلى الشام، وبلغت بُصرى، اتصل محمدe بنصارى الشام، وتحدث إلى الرهبان والأحبار هناك، وسمع عن عقائدهم وعباداتهم، وخلال رحلته هذه استظل بظل شجرة قريباً من صومعة أحد الرهبان، وبصحبته ميسرة، فلما سأل الراهب ميسرة عن محمدe قائلاً: (من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟) قال ميسرة: (هذا رجل من قريش من أهل الحرم)، فقال له الراهب: (ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي)، واستطاع محمدe بأمانته وحلو شمائله، وجمال عواطفه، أن يكسب محبة ميسرة خلال هذه الرحلة، وأن يحقق أرباحاً وفيرة، لم تعهدها خديجة في تجارتها من قبل.

ولما آن لهم أن يعودوا من تجارتهم إلى مكة، ابتاع محمدe لخديجة كل ما رغبت فيه من تجارة الشام، ولما اقتربت القافلة من مكة قال ميسرة لمحمدe: (أسرع إلى خديجة فأخبرها بما صنع الله لها على وجهك فإنها تعرف لك ذلك)، ولما دخل محمدe مكة، وكان في ساعة الظهيرة، رأته خديجة، واستبشرت به، واستقبلته في دارها، وأخذe يقص عليها رحلته إلى الشام، وما حقق لها من أرباح في هذه التجارة، وما أحضره لها أيضاً من أِشياء، أوصته أن يحضرها معه من الشام، وسرت بذلك كثيراً، وأقبل ميسرة على خديجة، وروى لها عما رآه من محمدe ومدى صدقه وأمانته، ورقة شمائله، وزهده، وجمال نفسه.

انقلبت غبطتها بعد سماع هذه الأخبار الطيبة عن تجارتها، وعن محمدe إلى حب لمحمدe، وودت لو تزوجها، وأسرت ذلك إلى "نفيسة" بنت منية صديقتها؛ لتستكشف لها رأي محمدe في الزواج منها، فقالت "نفيسة": (يا محمد ما يمنعك من أن تتزوج؟)، قال e: ((ما بيدي ما أتزوج به))، قالت: (فإن كُفيت ذلك، ودُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟) قال e: ((فمن هي؟))، قالت :(خديجة بنت خويلد)، قال محمد e: ((كيف لي بذلك؟)) فاقترحت عليه اقتراحاً فأعلن قبوله بعد أن وافقها عليه، وذهبت نفيسة إلى خديجة وأخبرتها بما تم مع محمد e فسُرت خديجة لذلك، وحددت موعداً عندها في بيتها، يحضره محمد e وأعمامه، على أن تحضر هي أهلها فيتم الزواج بينهما.

جاء في السيرة النبوية لأبن هشام، أن خديجة لما أعجبت بمحمدe، ورغبت في الزواج منه حين أخبرها ميسرة بخلق محمدe أثناء رحلته معه إلى الشام، بعثت إليه فقالت له: (يا بن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسِيطَتِك[1] في قومك وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك) ثم عرضت عليه نفسها، وهي أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً. وتقول كتب السيرة أن محمدe ذهب معه عمه أبو طالب، وقيل ذهب معه "حمزة بن عبد المطلب" ليخطبها لهe من أبيها خويلد بن أسد، وقيل أيضاً ليخطبها من عمها (عمرو بن أسد) نظراً لهلاك خويلد قبل حرب الفُجّار.

وكان صداق خديجة عشرين بكرة، وحين قام أبو طالب مع محمدe ليخطب له خديجة من أهلها بدأ بالكلام بقوله: (أما بعد: فإن محمداً ممن لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً، وإن كان في المال قل، فإنما المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك).

وهى أول امرأة تزوجها رسول الله e وكانت في الأربعين من عمرها، بينما هو في الخامسة والعشرين من عمره (اُنظر ملحق زوجات الرسول e)، ولم يتزوج رسول الله e غيرها حتى ماتت (رضي الله عنها). وقد أنجب منها أولاده كلهم إلا إبراهيم وهم: (القاسم، الطيب، الطاهر) وكلهم هلكوا قبل الإسلام، وكان يكنى e بالقاسم أكبر أولاده الذكور، وولدت خديجةt لرسول الله e أربع بنات هن: (رقية، زينب، أم كلثوم، فاطمة) وكلهن أدركن الإسلام وهاجرن معهe. (اُنظر ملحق أبناء وبنات الرسول e) و(شكل نسب الرسول e)



[1] من الوسط، وهى من أو صاف المدح في مقامين أثنين: النسب ، والشهادة.