إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أنبياء الله: تعريف وتاريخ




منظر علوي وجانبي للسفينة
آثار سد مأرب
أثر سفينة نوح
نحت في الجبل
مجسم لهيكل سليمان
مصحف عثمان
مكة المكرمة
مقام يحيى عليه السلام
المسجد الحرام
الكعبة المشرفة
بحيرة لوط عليه السلام
ختم الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمير البحرين
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى النجاشي
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى المقوقس
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى كسرى
صناعة الدروع والأسلحة
غار ثور
قبر أيوب عليه السلام

من مولد النبي إلى إرهاصات النبوة
من البعثة إلى الهجرة
من تأسيس الدولة إلى الوفاة
أولو العزم
نسب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ارتفاع الجبال عن سطح البحر
شجرة أبناء آدم
قبة الصخرة والمسجد الأقصى

أهم الأصنام
ممالك اليمن
أوضاع اليهود بعد وفاة سليمان عليه السلام
هجرة إبراهيم عليه السلام
هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
مراحل توحيد شبه الجزيرة العربية
أصحاب الرس
أصحاب السبت
أصحاب القرية
مكانا هبوط آدم وحواء
الوضع السياسي قبل البعثة
اتساع مملكة داود عليه السلام
توزيع الجنس البشري
بعثة نوح عليه السلام
بعثة هود عليه السلام
بعثة لوط عليه السلام
بعثة إلياس عليه السلام
بعثة أيوب عليه السلام
بعثة إدريس عليه السلام
بعثة إسماعيل عليه السلام
بعثة إسحاق عليه السلام
بعثة يونس عليه السلام
بعثة يوسف عليه السلام
بعثة داود عليه السلام
بعثة يعقوب عليه السلام
بعثة سليمان عليه السلام
بعثة صالح عليه السلام
بعثة شعيب عليه السلام
بعثة عيسى عليه السلام
بعثة ذي الكفل عليه السلام
بعثتا زكريا ويحيى عليهما السلام
حادث الفيل
خروج موسى من مصر
خروج موسى وهارون
رحلة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الشام
شبه الجزيرة العربية
طريق حج الأنبياء
عودة موسى إلى مصر
عبور بني إسرائيل
غزوات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ذرية نوح عليه السلام
قوم تُبع



قصة محمد

المبحث الثاني والعشرون

من صلح الحديبية حتى فتح مكة

أولا: رسل محمد r إلى الملوك

بعد تمام الصلح في الحديبية بين محمدr وقريش والذي سمى (بصلح الحديبية)، عاد رسولr والمسلمون إلى المدينة بعد ثلاثة أسابيع من هذا الصلح، وفى نفوسهم شيء، فقد حسب بعضهم أن هذا الصلح غير متفق مع كرامة المسلمين، لما حدث من تنازلات من رسول اللهr في نص المعاهدة، وما قابله في الوقت نفسه من تشدد من جانب قريش، ولم يستمر هذا الشعور بين المسلمين كثيراً، فقد أنزل الله على رسولهr، وهم في طريق عودتهم إلى المدينة، سورة الفتح التي تبشر المسلمين بالنصر القريب، وفكر رسول اللهr بعد هذا الصلح في أمرين:

1. توسيع نطاق الدعوة الإسلامية خارج الجزيرة العربية.

2. القضاء على شوكة اليهود داخل الجزيرة العربية.

من أجل ذلك قرر رسول اللهr إرسال رسل إلى هرقل، وكسرى، والمقوقس، والنجاشي، والحارث الغساني، وعامل كسري في اليمن وغيرهم، وكان هرقل على رأس دولة الروم، وكسرى على رأس دولة الفرس، والنجاشي على رأس الحبشة، وكان النزاع دائم بين الدولتين الكبيرتين، الروم والفرس، فهما اللتان تتحكمان في سياسة الأمم ومصائرها في ذلك الوقت، غَلبت الفرس الروم في أول الأمر، واستولت على فلسطين ومصر وبيت المقدس، ونقلت الصليب منه إلى عاصمة الإمبراطورية، ثم انتصر الروم على الفرس بعد ذلك، واستولوا على مصر وسورية وفلسطين، وأعاد هرقل الصليب مرة أخرى إلى بيت المقدس، في الوقت نفسه لم يكن أحد ليجرؤ على مواجهة هاتين الدولتين الكبيرتين، ومع هذا فقد قرر محمدr إرسال الرسل إلى ملوك تلك الدول الكبرى، وغيرها ليدعوهم إلى الإسلام، وجدير بالذكر أن فارس والروم كانتا ذاواتي حضارة إلا أنها حضارة تخلو من القوة الروحية، ففارس مقسمة بين الوثنية والمجوسية، بينما بيزنطية كانت مضطربة بسبب اختلاف المذاهب والفرق هناك.

لم يتردد محمدr في دعوة هؤلاء الملوك إلي الدين الإسلامي، وخطبr في الناس وقال: ((أيها الناس، إن الله قد بعثني رحمة للناس كافة فلا تختلفوا علىَّ كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم))، قال أصحابه وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟ قال: ((دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضى وسلَّم، وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل))، وذكر لهمr أنه سيرسل إلى هرقل، وكسرى، والمقوقس، والحارث الغساني ملك الحيرة، والحارث الحميري ملك اليمن، والنجاشي ملك الحبشة، رسلاً ليدعوهم إلى الإسلام.

كتب محمدr إلى هرقل ملك الروم كتاباً جاء فيه: ]بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعوة الإسلام. أسلم تٌَسلَم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الإيريسيين [أي رعيته الذين يصدهم عن هذا الدين][، ثم ختم كتابه بخاتم من فضه نقش عليه كلمة (محمد رسول الله) (اُنظر صورة ختم الرسول r)، ودفع "دحية بن خليفة الكلبي" بهذا الكتاب إلى هرقل (اُنظر صورة رسالة الرسول r إلى هرقل)، وكذلك أرسل إلى كسرى كتاباً جاء فيه: ]بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله، فأني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس[ ودفع "عبدالله بن حذافة السهمي" بهذا الكتاب إلى كسرى (اُنظر صورة رسالة الرسول r إلى كسرى)، وأرسل كتاباً إلى النجاشي ملك الحبشة قال فيه : ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصخم ملك الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فأني أحمد الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت به، فخلقه من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده، وأني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فأني رسول الله وأني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى)) ودفع" عمرو بن أمية الضمري" به إلى النجاشي (اُنظر صورة رسالة الرسول r إلى النجاشي)، وكتاباً إلى المقوقس عظيم القبط قال فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى . أما بعد فإنى أدعوك بدعايه الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فعليك إثم كل القبط. يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمه سواء بيننا وبينكم، أن لانعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا إشهدوا بأنا مسلمون. محمد رسول الله)) ودفع "حاطب بن أبي بلتعة" به ليسلمه إلى المقوقس (اُنظر صورة رسالة الرسول r إلى المقوقس)، وأرسل كتاباً إلى ملك البحرين دفع به "العلاء بن الحضرمي" (اُنظر صورة رسالة الرسول r إلى أمير البحرين وكتاباً إلى ملك عُمان دفع به"عمرو بن العاص السهمي، وكتاباً إلى ملك اليمامة دفع به"سليط بن عمرو"، وكتاباً إلى الحارث الغساني ملك تخوم الشام دفع به "شُجاع بن وهب الأسدي"، وكتاباً إلى الحارث الحميري ملك اليمن دفع به "المهاجر بن أمية المخزومي"، وانطلقوا جميعاً بتلك الرسائل إلى الملوك لتسليمها.

أما "هرقل" فقد أظهر مظهر الذي لم يحفل بما جاء به "دحية بن خليفة الكلبي"، وأما "كسرى" ملك الفرس فقد استشاط غضباً من كتاب محمداًr ومزقه، وكتب إلى "باذان" عامل اليمن أن يبعث إليه برسول اللهr مع رجلين جلدين من قومه، وقد زاد من غضبه أنه كان واقعاً تحت تأثير هزيمته من هرقل، بل وكانت هزائمه المتلاحقة ما زالت تتوالى في ذاك الوقت، وأرسل "باذان" رسله يحملون رسالة منه إلى محمدr، وفي تلك الأثناء مات كسري وخلفه "شيرويه" فعلم رسول اللهr بهذا الخبر من جبريل u فأبلغ رسل "باذان" بنبأ موت كسرى، ولما بلغ النبيr ما فعله كسري بكتابه الذي مزقه، قالr لرسل باذان: ((مزق الله ملكه))، وطلب منهم أن يكونوا دعاة الإسلام عند أهل اليمن، فلما رجع رسل باذان وأبلغوه بما قال محمدr وما فعل معهم سُر بذلك وأعلن إسلامه، وظل باذان عاملاً لمحمدr على اليمن بعد إسلامه، ولعل باذان بإسلامه هذا كان نقطة ارتكاز قوية للإسلام في جنوب شبه الجزيرة العربية.

أما "المقوقس" فقد رد رداً جميلاً بعد أن استقبل رسول محمدr وأحسن استقباله، وقال: ( بسم الله الرحمن الرحيم . لمحمد بن عبدالله من المقوقس عظيم القبط . أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه وقد علمت أن نبيا قد بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت لك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم وبكسوه وأهديت لك بغله لتركبها والسلام ). قال إنه يعتقد أن نبياً سيظهر، لكنه سيظهر في الشام!!، ثم بعث مع رسول محمداًr بهدايا (جاريتين هما [مارية القبطية ـ وسيرين])، وبغلة، وحمار، ومقداراً من المال، وبعض خيرات مصر، أما "مارية" (اُنظر شكل نسب الرسول e) فقد تزوجها رسول اللهr وولدت له إبراهيم (اُنظر ملحق زوجات الرسول e)، أما "سيرين" فقد أهداها إلى "حسان بن ثابت"، وأما البغلة فكانت بيضاء وفريدة من نوعها في أرض العرب سماها النبيr "دُلٌدَل"، أما الحمار فسمى "عُفيراً" أو "يعفورا"، وقَبِل رسول اللهr هدايا المقوقس، قيل إن المقوقس كاد أن يسلم لولا خشيته من أن يسلبه الروم ملك مصر إذا علموا بإسلامه، ولولا ذلك لأسلم.

أما "النجاشي" فقد رد على"عمرو بن أمية الضمري" رسول محمداًr رداً جميلاً، وأرسل كتاباً إلى محمداًr قال فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصخم بن أبجر، سلام عليك يا نبي الله من الله، ورحمة الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو، الذي هداني إلى الإسلام، أما بعد، فقد أتاني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض أن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثغروقاً، وإنه كما قلت، ولقد عرفنا ما بعثت به إلينا، ولقد قربنا ابن عمك وأصحابه وأشهد أنك رسول الله صادقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وبعثت إليك بابني ارمى بن الأصخم، فأني لا أملك إلا نفسي وان شئت أن آتيك يا رسول الله فعلت، فأني أشهد أن ما تقوله حق، والسلام عليك يا رسول الله)، لقد كانت له صلة وطيدة بينه وبين المسلمين، وكان كريماً مع من هاجر إليه من مكة، ولقد أرسل له محمدr خطاباً آخر مع رسوله يطلب فيه عودة المسلمين الذين أقاموا بالحبشة إلى المدينة، فجهز "النجاشي" لهم سفينتين حملتاهم برئاسة "جعفر بن أبي طالب، وكان معه "رملة" أم حبيبة بنت أبى سفيان (اُنظر شكل نسب الرسول e) التي مات زوجها "عبدالله بن جحش"، بعد أن تنصر في الحبشة، بعد أن كان مهاجراً إليها مسلماً، وقد تزوجها رسول اللهr بعد عودتها من الحبشة (اُنظر ملحق زوجات الرسول e).

وكذلك اختلفت ردود فعل الأمراء العرب، فقد رد أمير اليمن وعمان رداً قبيحاً فاحشاً، ورد أمير البحرين رداً حسناً وأعلن إسلامه، بينما رد أمير اليمامة رداً ليس من باب الإسلام الحقيقي بل من باب الطمع في الولاية، فقد أعلن استعداده للإسلام إن نُصِّب حاكماً، لذا لعنه محمدr، وقد مات أمير اليمامة بعدها بعام واحد كما تقول بعض الروايات، لكن بوجه عام لم يُقتل أحد من رسل محمدr ولم يسجن أحد منهم، بل عادوا جميعاً سالمين محملين برسالات إلى رسول اللهr أكثرها حسن، وقليلها فيه غلظة وحدة.

التقى رسل محمدr في المدينة مع رسول اللهr بعد عودته من خيبر وأخبروه بردود الملوك والأمراء، وهاهم قد عادوا مرة أخرى سالمين، كما عاد جعفر والمسلمون من الحبشة، كلهم ينتظرون العام المقبل ليحجوا إلى مكة ويدخلوا المسجد الحرام آمنين، محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون، لقد بلغت فرحة محمدr بعودة "جعفر بن أبي طالب"، أنه ذكر له أنه لا يدري بأي أمريه يغتبط، أيغتبط بالنصر على خيبر أم بلقاء جعفرt، وظل المسلمون في المدينة آمنين مستمتعين بالعيش والحياة الآمنة هناك، لا يفكرون في أمر غزو أو هجوم إلا دفع لبعض السرايا التي كان الرسول يرسلها لردع من يفكر في الاعتداء على المسلمين أو سلب حقوقهم، فلما دار العام وهَلَّ ذو القعدة، خرج النبيr لعمرة القضاء في ألفين من المسلمين، تنفيذا لما قُطع من عهد في العام السابق في الحديبية.

ثانياً: عمرة القضاء

مر عام على صلح الحديبية، وأصبح للمسلمين الحق في دخول مكة، وزيارة الكعبة، وقضاء العمرة، ونادى رسول اللهr في الناس أن يجهزوا أنفسهم للخروج إلى مكة لقضاء العمرة، وأقبل المهاجرون والأنصار يلبون هذا النداء، وبعد أن كان ركب المسلمين إلى مكة في العام السابق قد بلغ ألفاً وأربعمائة، زاد هذا العدد في هذا العام إلى ألفين، خرجوا جميعاً دون سلاح إلا السيف في قِرابه، وجهز الرسولr مائة فارس يرأسهم "محمد بن مَسٌلَمة"، ليكونوا في الطليعة، وليقوموا بتأمين الركب خشية غدر قريش ونقض عهدها، وسار المسلمون إلى مكة يتقدمهم رسول اللهr على ناقته القصواء، ومعهم ستون ناقة للهدى، ولما علمت قريش بقدوم محمدr وأصحابه، جلوا عن مكة، وصعدوا إلى التلال المجاورة، وركبوا كل مرتفع يطل على مكة، تنفيذا لعهد الحديبية الذي قطعوه مع محمدr في العام السابق.

انحدر المسلمون من شمال مكة وأخذ "عبد الله بن رواحه" بخطام القصواء ناقة رسول اللهr تحيط به الصحابة، حتى إذا بلغوا البيت الحرام نادوا جميعاً: (لبيك لبيك!)، كانوا يلبون بصوت فيه الفرحة والإجلال الذي يهز القلوب، ولما بلغ رسول اللهr المسجد اضطبع بردائه أي [أخذ بالإزار أو البرد وجعل وسطه تحت إبطه الأيمن وألقى بطرفيه على كتفه الأيسر من جهتي الصدر والظهر]، ثم قالr: ((اللهم أرحم إمرأً أراهم اليوم من نفسه قوة))، ثم استلم الركن عند الحجر الأسود ليبدأ مناسك العمرة ومعه ألفان من المسلمين يحذون حذوه متحمسين لهذا الموقف المهيب؛ وبلغ من حماسة "عبد الله بن رواحة" أن أطلق صيحة حرب ضد قريش، فصده عمر، وقال له رسول اللهr: ((مهلاً يا بن رواحة وقل لا إله إلا الله وحده، نصر عبده وأعز جنده، وخذل الأحزاب وحده))، فنادى بن رواحة بما قاله الرسولr وردد المسلمون من بعده هذا النداء، تلك الأصوات العالية المُهَلِلة التي خرجت من حناجر المسلمين، أخافت قريش وهم في أماكنهم فوق الجبال المطلة على مكة.

ولما أتم المسلمون الطواف بالكعبة توجهوا إلى الصفا والمروة ليقوموا بباقي مناسك العمرة، فقاموا بحلق رؤوسَهم ليتموا بذلك أول عمرة بعد صلح الحديبية، أتموها بكل مناسكها وهم آمنون، محلقين رؤوسهم ومقصرين وكأنهم هم أصحاب هذا البلد الأمين، ولما جاء الفجر دخل محمدr الكعبة، وبقي بها حتى صلاة الظهر وصلى خلفه ألفان من المسلمين في مشهد مهيب، وكان بلال يؤذن لهم للصلاة في أوقاتها، وأقام المسلمون بمكة ثلاثة أيام، وهى المدة التي نص عليها عهد الحديبية، ولما أسلمت "ميمونه" أخت أم الفضل زوج العباس بن عبد المطلب، وكلت أختها في زواجها من محمدr، وهي حينئذ في السادسة والعشرين من عمرها، وفوضت أم الفضل هذا الأمر إلى زوجها العباس.

وكانت "ميمونة" (اُنظر شكل نسب الرسول e) قد دخلت الإسلام حين رأت ما يفعله المسلمون في عمرة القضاء، فخطب العباس ميمونة لمحمدr وقَبِل محمدr زواجها، وجعل صداقها أربعمائة درهم (اُنظر ملحق زوجات الرسول e)، وأراد محمدr بزواجه من "ميمونة" أن يزيد من أواصر الروابط بينه وبين قريش، ولما انقضت الأيام الثلاثة طبقاً لعهد الحديبية ، جاء"سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى" يقول لمحمد r: (إنه انقضى أجلك فاخرج عنا)، فقال رسول اللهr: ((ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه))، لكن سهيل كان سفيها في قوله فقال: (لا حاجة بنا إلى طعامك فاخرج عنا)، قال ذلك خشية أن يؤثر المسلمون في قريش إن أطالوا مدة بقائهم في مكة، واضطر رسول الله r إلى الاستجابة لما نصت عليه المعاهدة وأذِن للمسلمين بالرحيل، واستعد المسلمون للرحيل وخرجوا كلهم معه، وخلَّف رسول الله r "أبا رافع" مولاه على "ميمونه" لتستعد للذهاب معهr، على أن تلحق به مع أبي رافع في "سرف" [موضع قريب من مكة]، فلما أتى "أبو رافع" بها إلى رسول الله r بنى بها هناك، وكانت هي آخر زوجات الرسولr (اُنظر ملحق زوجات الرسول e)، وعمرت بعده خمسين سنة.

بلغ المسلمون المدينة ومحمدr لا يشك لحظة واحدة فيما تركته تلك العمرة من أثر في نفوس أهل مكة بعد رحيلهم عنها، ودليل ذلك أن" خالد بن الوليد" فارس قريش المقدام، حين هم رسول اللهr والذين معه بالرحيل عن مكة، وقف خالد في جمع من قريش قائلاً: (لقد استبان لكل ذي عقل أن محمداًr ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين. فحق على كل ذي لب أن يتبعه)، جاء هذا الكلام كالصاعقة على قريش، ما جعل "عِكرمة بن أبي جهل" يقول لخالد بن الوليد: (لقد صبوت يا خالد)، وقد بعث خالد بن الوليد إلى النبي بأفراس وأقر بالإسلام وأسلم.

لما سمع أبو سفيان بإسلام خالد بن الوليد ذلك غضب غضباً شديداً، وقال: (واللات والعزى لو أعلم أن الذي تقول حقُّ لبدأت بك قبل محمد) قال خالد: (فوالله إنه لحق على رغم من رَغَمٍ)، ولم يتمالك أبا سفيان نفسه من الغضب فاندفع نحو خالد فحجزه عِكرمة وقال: (مهلا يا أبا سفيان فوالله لقد خفت للذي خِفٌتَ أن أقول مثل ما قال خالد وأكون على دينه.أنتم تقتلون خالداً على رأى رآه وقريش كلها تبايعت عليه! والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم)، وانضم خالد إلى المسلمين ليزيدهم قوة ومنعه وذهب معهم إلى المدينة، وقد أسلم من بعد خالد بن الوليد كل من (عمرو بن العاص)، (عثمان بن طلحة)حارس الكعبة، وبإسلام هؤلاء أسلم كثيرون من أهل مكة، فقويت بذلك شوكة الإسلام وأصبح فتح مكة أمراً وشيكاً.

ثالثاً: غزوات الرسولr من بعد الحديببية حتى فتح مكة

خلال هذه الفترة كانت الغزوات الآتية:

1. غزوة خيبر في ذي الحجة 6هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، وكان سببها استمرار يهود خيبر في تحريض القبائل الأخرى ضد المسلمين وإيواء أعداء المسلمين عندهم، بالإضافة لرغبة المسلمين في التخلص نهائياً منهم لتأمين المنطقة والتفرغ بعدها لقريش وللإعراب.

2. غزوة مؤتة فى جمادى الأولي 8هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، وكان هدفها تأديب الإعراب الذين غدروا بدعاة المسلمين" بذات أطلاح" وتأديب "شرحبيل بن عمرو الغسانى" عامل هرقل على بصرى، وتأديب مناصريه لسكوتهم على اغتيال مبعوث محمدr الذي أرسله إلى هرقل.

3. غزوة ذات السلاسل في جمادى الآخرة 8هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، وكان سببها أن رسول اللهr أراد أن يستعيد هيبة المسلمين مرة أخرى في شمال الجزيرة العربية بعد عودة "خالد بن الوليد "من مؤته، بالإضافة إلى منع "قضاعة" من الاقتراب من أطراف المدينة.

4. ثم كان فتح مكة في شهر رمضان سنة 8هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسول e)، وكان سببه تنازع بنو بكر مع خزاعة بسبب قتل بني بكر رجالاً من خزاعة عند بئر من آبار المياه، وفرار خزاعة إلى مكة ولجوئهم إلى دار "بُديل"، وذهاب "عمرو بن سالم" من رجال خزاعة إلى رسول اللهr ليستنصره، كما رأى رسول اللهr أن قريش قد نقضت عهدها، فقرر أن يقابل هذا النقض بفتح مكة.