إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / أنبياء الله: تعريف وتاريخ




منظر علوي وجانبي للسفينة
آثار سد مأرب
أثر سفينة نوح
نحت في الجبل
مجسم لهيكل سليمان
مصحف عثمان
مكة المكرمة
مقام يحيى عليه السلام
المسجد الحرام
الكعبة المشرفة
بحيرة لوط عليه السلام
ختم الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمير البحرين
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى النجاشي
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى المقوقس
رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم ـ إلى كسرى
صناعة الدروع والأسلحة
غار ثور
قبر أيوب عليه السلام

من مولد النبي إلى إرهاصات النبوة
من البعثة إلى الهجرة
من تأسيس الدولة إلى الوفاة
أولو العزم
نسب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ارتفاع الجبال عن سطح البحر
شجرة أبناء آدم
قبة الصخرة والمسجد الأقصى

أهم الأصنام
ممالك اليمن
أوضاع اليهود بعد وفاة سليمان عليه السلام
هجرة إبراهيم عليه السلام
هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
مراحل توحيد شبه الجزيرة العربية
أصحاب الرس
أصحاب السبت
أصحاب القرية
مكانا هبوط آدم وحواء
الوضع السياسي قبل البعثة
اتساع مملكة داود عليه السلام
توزيع الجنس البشري
بعثة نوح عليه السلام
بعثة هود عليه السلام
بعثة لوط عليه السلام
بعثة إلياس عليه السلام
بعثة أيوب عليه السلام
بعثة إدريس عليه السلام
بعثة إسماعيل عليه السلام
بعثة إسحاق عليه السلام
بعثة يونس عليه السلام
بعثة يوسف عليه السلام
بعثة داود عليه السلام
بعثة يعقوب عليه السلام
بعثة سليمان عليه السلام
بعثة صالح عليه السلام
بعثة شعيب عليه السلام
بعثة عيسى عليه السلام
بعثة ذي الكفل عليه السلام
بعثتا زكريا ويحيى عليهما السلام
حادث الفيل
خروج موسى من مصر
خروج موسى وهارون
رحلة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الشام
شبه الجزيرة العربية
طريق حج الأنبياء
عودة موسى إلى مصر
عبور بني إسرائيل
غزوات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ذرية نوح عليه السلام
قوم تُبع



قصة محمد

المبحث الثالث والعشرون

مرض الرسول محمدr ووفاته

أولا: آخر غزوات الرسولr قبل مرضه

1. كان آخر غزوات الرسو r قبل مرضه هي: غزوة حنين وحصار الطائف في شوال 8هـ (اُنظر خريطة غزوات الرسولe)، وكان سببها أن المسلمين بعد فتح مكة وانهيار قريش لم يبق من المشركين في الجزيرة العربية سوى بعض القبائل، وبعد خمسة عشر يوماً من فتح مكة تنامي إلى المسلمين أن" مالك بن عوف " قد جمع هوازن وثقيفاً، واجتمعت أيضاً قبيلتا نصر وجشم معهم بأموالهم ونسائهم يريدون القضاء على المسلمين في مكة، والاستيلاء على مكة التي فتحها المسلمون، فأراد رسول اللهr ضرب القبائل المحتشدة قبل أن يستفحل أمرها.

ثم كانت غزوة تبوك في شهر رجب 9هـ وكان سببها أن المسلمين بعد أن سيطروا على شبه الجزيرة العربية وحتى حدود الشام والعراق، حشدت الرومان جيوشها لغزو المسلمين، فأراد رسول اللهr أن يقف أمام هذا الغزو، كما أراد أيضاً رد اعتبار المسلمين بعد الذي حدث لهم في غزوة مؤتة.

ثانياً: عام الوفود

لما انسحبت الروم إلى داخل الشام، ترك هذا الانسحاب في نفوس قبائل العرب، وفى نفوس قبائل الجنوب باليمن وحضرموت أثراً عميقاً؛ فهؤلاء الروم هم الذين غلبوا الفرس من قبل، وهاهم اليوم ينسحبون إلى داخل الشام ليتحصنوا بمعاقلهم فيها، فأجدر باليمن والبلاد العربية الأخرى أن تدخل تحت لواء محمدr، وتحت علم الإسلام حتى تخرج من سيطرة الروم والفرس، فلتكن إذا السنة العاشرة من الهجرة هي عام الوفود، وليدخل الناس في دين الله أفواجاً بعد هزيمة الروم، وانسحابها إلى داخل الشام (اُنظر خريطة مراحل توحيد شبه الجزيرة العربية)، وتشاء الأقدار أن تكون (الطائف) هي أول من سارع من البلدان إلى إعلان الطاعة، وهى التي حاصرها المسلمون من قبل، ثم انصرفوا عنها، دون اقتحامها لصمودها أمام الحصار، فكيف تكون (الطائف) هي أول من يعلن الطاعة والانصياع!!.

كان "عروة بن مسعود" غائبا باليمن حين غزا النبيr بلاده بعد موقعة حنين، فلما عاد من اليمن وعلم بأخبار انتصار المسلمين في تبوك، أسرع إلى رسول اللهr ليعلن إسلامه، ويتطوع بدعوة قومه إلى الإسلام، وهو الذي كان أحد سادة ثقيف المقيمين بالطائف، وكان متعصباً لقومه، وهم على دينهم، فهو أحد الذين فاوضوا رسول اللهr في صلح الحديبية، ولما كان الرسول على معرفة بأحوال ثقيف وتعصبها لصنمها "اللات" فقد حذر"عروة" من قومه وقال له: ((إنهم قاتلوك))، وقال عروة: (يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم)، وصدق حدس رسول اللهr، فلما ذهب "عروة" إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام لم يبدوا له رأياً، فلما أصبح نادى في قومه إلى الصلاة، فاستشاطوا غضباً، وأحاطوا به من كل مكان، وقاموا برميه بالنبل فأصابه سهم قاتل، وقال وهو يسلم الروح: (كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلىَّ، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول اللهr قبل أن يرتحل عنكم)، مات عُروة شهيداً ودفنه أهله مع الشهداء.

أسلمت جميع القبائل التي تحيط بالطائف، ورأت ما صنع أهل ثقيف بسيد من سادتهم، وأيقنت ثقيف في الوقت نفسه أن شوكة المسلمين قد قويت، وإن لم يعقدوا مع رسول اللهr هدنة أو صلحاً فإنهم سيخسرون لا محالة وسيكون مصيرهم إلى الفناء، أرادوا أن يرسلوا كبيرهم "عبد يا ليل" ليعرض صلح ثقيف مع رسول اللهr، ولما خشي" عبد ياليل " أن يفعل قومه معه كما فعلوا "بعروة"، رفض أن يذهب وحده، وطلب أن يوفد معه خمسة آخرين، فلما أرسلوا هؤلاء الرجال معه اطمأن قلبه، وحين اقتربوا من مقر النبيr في المدينة رآهم" المغيرة بن شُعبة" فأسرع ليبلغ الرسولr بقدومهم، ورأى أبو بكر الصديق أن يبشر الرسولr بذلك بنفسه، ويزف له تلك البشرى.

كان الوفد المرافق "لعبد يا ليل"على حذر من المسلمين، فقد كانوا على جانب من الاعتزاز بأنفسهم لأن الرسولr حاصرهم من قبل فصمدوا، حتى عاد المسلمون دون اقتحام للطائف، وبرغم أن"عُروة" قد علمهم كيف يحيَّوُن رسول الله بتحية الإسلام، إلا أنهم أبوا ذلك، وحيوه بتحية الجاهلية، لقد كانوا على حذر من المسلمين، وضرب لهمr قبة خاصة في ناحية من المسجد كي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا، ولقد بلغ شدة حذرهم أنهم ما كانوا ليشربوا شراباً، أو يُطعموا طعاماً قبل أن يتذوقه "خالد بن سعيد بن العاص" الذي كان وسيطاً بينهم، بين "عبد ياليل" وبين رسول اللهr في تلك المفاوضات، وكانت المفاوضات شاقة وعسيرة كثر فيها جدالهم، أبلغوا محمداًr استعدادهم للإسلام على أن يدع لهم صنمهم "اللات" ثلاث سنوات من قبل أن يهدمها، فأبىr ذلك، برغم أنهم تنازلوا عن مطلبهم تدريجياً فيما يتعلق بالفترة الزمنية التي يُبٌقىِ لهم فيها رسول اللهr على صنمهم، لكنهr أصر على موقفه من هدم الأصنام دون تحديد فترة زمنية لذلك، تدرجت تنازلاتهم من ثلاث سنوات إلى سنتين إلى سنة إلى شهر فأبىr ذلك أيضاً، طلبوا منه أن يعفيهم من الصلاة فقال: ((إنه لا خير في دين لا صلاة فيه))، وافقت أخيراً ثقيف على هدم أصنامهم وأوثانهم بعد هذا الجدال، وطلبوا من رسول اللهr ألا يكون هدم أصنامهم بأيديهم، فوافق الرسولr وقال: ((أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منها)).

جعل رسول اللهr "عثمان بن أبى العاص" أميراً عليهم برغم حداثة سنه ذلك لتفقهه في الدين عنهم، وأقاموا عند رسول اللهr ما بقي من شهر رمضان، وكان رسول اللهr خلال شهر رمضان يرسل لهم طعام الإفطار والسحور، حتى إذا انتهى رمضان وحان وقت العودة أوصىr "عثمان بن أبى العاص" أن يصلى بهم إماماً وقال: ((تجاوز في الصلاة وأقُدُر الناس بأضعفهم، فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة))، ووجه الرسولr معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة ليقوما بهدم "اللات" الذي كانوا يتخذونها إلهاً من قبل، كانت لهم روابط مودة وحرمة مع رسول اللهr، وكان الناس يهابون فعل ذلك بالآلهة حتى لا تصب عليهم لعناتهم، وبدأ المغيرة في هدم "اللات" بعد أن أخذ مالها وحليها فقضى بها ديناً كان على "عُروة بن مسعود" كأمر رسول اللهr له بالاتفاق مع أبي سفيان.

وبهدم اللات، وبإسلام الطائف، تكون الحجاز كلها قد أسلمت، ويكون الإسلام قد انتشر من بلاد الروم في الشمال، إلى بلاد اليمن وحضرموت في الجنوب، فقد كانت الوفود تأتي منها إلى المدينة للمبايعة وإعلان الطاعة والولاء، وظلت الوفود تتوافد على المدينة من هنا وهناك حتى جاء موعد الحج، كان هناك في الجزيرة من لم يؤمن بالله ولا بمحمدr، إضافة إلى اليهود والنصارى الكفار الذين مازالوا يحجون إلى الكعبة في الأشهر الحرم، وهم قوم نجس فالعهود التي قطعها معهمr تنص على عدم صدهم عن الحج، وبالتالي سيكون هناك تناقض غير مفهوم !!، فكيف يحج المسلمون جنباً إلى جنب مع المشركين النجس، كيف يطوفون سوياً حول الكعبة؟، لن يستطيع أحد أن يفهم اجتماع عبادتين في مكان واحد في بيت الله الحرام وفى وقت واحد هي الأشهر الحرم، عبادة تأمر بتحطيم الأصنام، وعبادة تأمر ببقائها وعبادتها، لذا قرر رسول اللهr أن يخرج أبو بكر t حاجاً بالناس هذا العام، وخرج أبو بكرt في ثلاثمائة مسلم للحج قاصداً مكة، ونزلت في ذلك سورة براءة، فأرسل رسول الله e علىَّ بن أبى طالب ليلحق بأبي بكر الصديق t ليقرأ سورة براءة على الحجيج، هذه السورة التي تؤكد أمر الله بنقض العهد بين المشركين والمسلمين، إلا العهود المحدد لها أجل، فتبقى سارية حتى تنتهي مدتها.

لما اجتمع الناس لتأدية مناسك الحج في مِنى، وقف علىَّّ بن أبى طالب وبجانبه أبو هريرة t ينادي في الناس ويقرأ من سورة التوبة قوله تعالى: )بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ َإِلى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِين(1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأََكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(4)فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءاَتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ(6)كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(7)كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ(8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(9)لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ ولاَ ذِمَّةً وَأولئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ(10)فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاَتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(11)وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ(12) أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أول مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ(14)وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ(17)إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءاَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَءاَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ(18)( (التوبة: الآيات 1-18).

واستمر علىَّ بن طالب يقرأ عليهم من سورة التوبة ويقول: ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءاَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ولاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)( (التوبة: الآيتان 28، 29).

حتى انتهى إلى قوله تعالى: )إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ( (التوبة: الآية 36). فلما أتم تلاوته لتلك الآيات توقف ثم صاح بالناس: (أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول اللهr عهد فهو إلى مدته)، من يومئذ لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان، ومن ذلك اليوم وضع الأساس الأول لبناء الدولة الإسلامية، إن الشرك الذي كان موجوداً حين قام محمدr بالدعوة إلى الإسلام، لم يكن يتمثل في عبادة الأصنام وحدها، بل كان هناك شرك من نوع أخر يتمثل في مجموعة من التقاليد والعقائد والعادات، فقد كان هناك رق ووأدُ للبنات وخمر، وربا، وتعدد زوجات بلا حدود، حتى كان الرجل يتزوج بعدد من الزوجات يصل إلى عشرات، بل مئات من الزوجات.

دخل في دين الإسلام عدد من البلاد، منها اليمن ومهرة والبحرين واليمامة، ولم يكن هناك من يرفض الدخول في هذا الدين إلا عدد قليل أخذته العزة بالإثم، كان من هؤلاء" عامر بن الطفيل" الذى أبى أن يكون من المسلمين، ولما أتى مع وفد من بني عامر وحاول رسول اللهr إقناعه، أبى وأصر على موقفه بل وأراد أن يكون نداً لرسول اللهr، فخرج وهو يقول: (أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا)، قال رسول اللهr: ((اللهم أكفني عامر بن الطفيل!))، وانصرف عامر ليلحق بقومه، وفى الطريق أصيب بالطاعون وقضى عليه وهو في بيت امرأة من بني سلول، مات وهو يردد: (يابني عامر! أغُدة كغُدة البعير وموتة في بيت سلولية!).

ومن هؤلاء الذين أبوا أن يؤمنوا ويسلموا لله، وأخذتهم العزة بالإثم "أربد بن قيس" الذي أبى أن يسلم، وعاد إلى بني عامر، ثم لم يلبث طويلا بينهم حتى أحرقته صاعقة، أما أشرهم فكان" مسيلمة بن حبيب" هذا الرعديد الذي جاء في وفد بني حنيفة من أهل اليمامة فخلفه القوم على رحالهم، ولما عادوا إليه أدعى النبوة، وأخذ يقول أقوالا تضاهي القرآن، وما هي من عند الله من شيء، كان يقول على سبيل المثال: (لقد أنعم الله على الحُبلى. أخرج منها نسمة تسعى. من بين صفاق وحشى)، وأحل الخمر والزنا، ووضع عن قومه الصلاة، ولم يكتف بذلك بل كان يدعو الناس إلى تصديقه، هذه كانت نماذج من الذين آخذتهم العزة بالإثم، ورفضوا الإسلام، وأما ما عداهم فقد أقبلوا على الإسلام يدخلون في دين الله أفواجاً فرحين مستبشرين، حتى ملوك حمير بعثوا رسولا بكتاب إلى رسول اللهr يعلنون فيه إسلامهم، فأقر الرسولr إسلامهم، وأرسل لهم يُعرَّفُهم مالهم وما عليهم في الإسلام.

وهذه أسماء القبائل والوفود التي أقبلت على رسول اللهr لتُسلم وهي: مُزينة، أسد، تميم، عبس، فزارة، مُرة، ثعلبة، مُحارب، سعد بن بكر، كلاب، رؤاس بن كلب، عُقيل بن كعب، جعدة، قشير بن كعب، بني البكاء، كنانة، أشجع، باهلة، سُليم، هلال بن عامر، عامر بن صعصعة، ثقيف.

ووفود ربيعة من: عبد القيس، بكر بن وائل، تغلب، حنيفة، شيبان.

ومن اليمن وفد من: طيئ، تُجيب، خولان، جعفى، صُداء، مُراد، زبيدة، كندة، الصدف، خشين،سعد هُزيم، بلى، بهراء، عُدرة، سلامان، جهبنة، كلب، جرم، الأزد، غسان، الحارث بن كعب، همدان، سعد العشيرة، عنس، الداريين، الرهاويين[1]، غامد، النخع، بجيلة، خثعم، الأشعريين، حضرموت، أزد عمان، غافق، بارق، دوس، ثمالة، حُدان، أسلم، جُذام، مهرة، حمير، نجران، جيشان.

هكذا دخلت كل شبه الجزيرة العربية في دين الله أفواجاً، إلا ما قدمنا من الذين أخذتهم العزة بالإثم منهم، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، لقد سارع المشركون إلى الدخول في الإسلام، فتركوا عبادة الأوثان، وتطهرت بلاد العرب كلها من الأصنام طواعية واختياراً دون إراقة دماء أو إزهاق أية أرواح.

ثالثاً: حجة الوداع

1. كان رسول اللهr يكرم الوفود فيستقبلهم أحسن استقبال، ويودعهم أحسن توديع، وكان يكرم الأمراء الوافدين، ويردهم مكرمين إلى إماراتهم، فحين قدُم" وائل بن حُجر الكندى" مع "الأشعث" وكان أمير بلاد الشاطئ من حضرموت فى ذلك الوقت، كلف محمدr معاوية بن أبي سفيان باصطحابه إلى بلاده، ولما انتشر الإسلام في ربوع اليمن أوفد النبيe "مُعاذا"ً إلى أهله يعلمهم ويفقههم فى الدين وأوصاه قائلاً:((يسر ولا تعسر، وبشر ولا تنفر، وإنك ستقوم على قوم من أهل الكتاب يسألونك: ما مفتاح الجنة؟ فقل: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له))، بهذه الروح انتشر الإسلام في ربوع شبه الجزيرة العربية، أصبحت كلها تحت لواء واحد هو لواء محمد رسول اللهr، كلها تدين بدين واحد هو دين الإسلام، بعد أن كانت قبائل متفرقة قبل عشرين سنة، كل قبيلة تعبد صنماً من الأصنام، غير أنه كان هناك جماعة من نصارى نجران ظلوا على دينهم، ولم يسلموا، احتفظوا بدينهم دون قومهم الذين أسلموا من بني الحارث، فأرسل محمدr "خالد بن الوليد " إليهم ليدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا!!.

2. وبعث "خالد بن الوليد " وفدا منهم إلى المدينة قابلهم رسول اللهr بالترحيب والمودة، وكان هناك جماعة أخرى من اليمن عز عليها أن تخضع للواء الإسلام في الحجاز، فأرسل النبيr إليهم علىَّ بن أبى طالب ليدعوهم إلى الإسلام فأبوا في البداية وهاجموه، وبرغم صغر سنه وقلة عدد فرسانه [كان معه ثلاثمائة فارس فقط]، إلا أنه استطاع أن يشتت جمعهم ويهزمهم ويوقع في صفوفهم الرعب، فلم يجدوا من التسليم بداً، فسلَّموا وأسلموا!!، وحسن إسلامهم، واستمعوا إلى معاذ وأصحابه فتعلموا منهم الإسلام وتعاليمه السمحة، وكان هذا آخر وفد يستقبله رسول اللهr في المدينة قبل وفاته.

3. بينما كان علىَّ بن أبي طالب يتأهب للعودة من اليمن، كان النبيr في الوقت نفسه يتجهز للحج ويأمر الناس بالتجهز له أيضا، فقد أقبل شهر ذو القعدة واقترب موعد الحج، أراد النبي أن يدعو المسلمين في كل الجزيرة العربية للحج هذا العام، وانتشرت دعوة رسول اللهr للحج في أنحاء الجزيرة العربية، وأقبل الناس ألوفاً ألوفاً من كل فج عميق، من كل بقعة في البلاد العربية المترامية الأطراف، وسار الناس قاصدين بيت الله الحرام، وضربت الخيام حول المدينة لما يقرب من مائة ألف من المسلمين، جاءوا كلهم إخوة متحابين في الله متعارفين، تجمع بينهم المودة والأخوة الإسلامية.

4. في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة من السنة العاشرة الهجرية، سار رسول اللهr ومعه نساؤه جميعاً، وسار معه جمع كبير من المسلمين [قدره بعض المؤرخين بتسعين ألفاً]، وقدره آخرون [بأربعة ومائة ألف]، ساروا جميعاً خلف رسول الله يتعلمون منه مناسك الحج، وينتهجون نهجه، ويسلكون طريقه، فلما بلغوا " ذا الحليفة" أقاموا فيها ليلتهم، فلما أصبحوا أحرم رسول اللهr، وأحرم المسلمون معه، كلُُ يلبس إزاره ورداءه، في زى موحد للمسلمين جميعاً فقيرهم وغنيهم، صغيرهم وكبيرهم، كلهم يرتدون لباساً واحداً، ويقلدون ما يفعل رسول اللهr ويتعلمون منه مناسكهم في الحج.

5. نادى رسول اللهr ملبياً، ولبى المسلمون من ورائهr قال:((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إنَّ الحمد والنعمة والشكر لك لبيك، لبيك، لاشريك لك لبيك))، انطلق الألوف من المسلمين، بل وعشرات الألوف يلبون ويقطعون الطريق بين المدينة ومكة مع رسول اللهr، يقفون مع رسول اللهr عند كل مسجد، ليصلوا فيه حين يأتي موعد الصلاة، فلما بلغوا "سَرِفاً" [محلة في الطريق بين المدينة ومكة]، وقف رسول اللهr وقال لهم: ((من لم يكن منكم معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدى فلا)).

6. وصَلَ الجمع الكبير من الحجيج مع رسول اللهr إلى مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة، وأسرع المسلمون إلى الكعبة مستلمين الحجر الأسود في شوق ولهفة، واستلم رسول اللهr الحجر الأسود وقبله وطاف بالبيت سبعاً، هرول في الثلاث الأولي منها كما فعل في عمرة القضاء، ثم صلى عند مقام إبراهيم فقد أمر الله المسلمين أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى لقوله تعالى:)وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى( (البقرة: من الآية 125).

7. خرج الرسولr ومعه المسلمون من المسجد الحرام إلى ربوة الصفا، فسعى بينها وبين المروة، ثم نادىr في المسلمين بأن يتحللوا من إحرامهم إن لم يكن معهم هدى، وتردد البعض في التحلل فغضب رسول اللهr منهم أشد الغضب ودخل قبته، فلما سألته عائشة: ما أغضبك؟ قاr: ((ومالي لا أغضب وأنا آمر أمراً فلا يتبع!))، فلما بلغ المسلمين غضب رسول اللهr، حل الألوف منهم إحرامهم آسفين على ترددهم لآمر رسول اللهr، وحلَّ نساء النبي، وحلت فاطمة ابنته أيضاً، فلم يبق على الإحرام سوى من كان معه هدى ليذبحه.

8. أقبل علىَّ بن أبى طالب من اليمن وقد أحرم حين علم أن رسول اللهr قد حج بالناس، فلما بلغ مكة دخل على فاطمة فوجدها قد حلت إحرامها وذكرت له أمر الرسولr بالحلِّ من الإحرام لمن ليس معه هدى، وتوجه علىَّ t إلى رسول اللهr يقص عليه ما حدث خلال رحلته إلى اليمن، فلما فرغ من قصته قال له رسول اللهr: ((انطلق فطُف بالبيت وحِل كما حَلَّ أصحابك)) قال عليَّ: (يا رسول الله إني أهللت كما أهللت ) قال النبيr: ((ارجع فاحلل كما حلَّ أصحابك )) قال عليَّ: (يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أُهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك محمدr)، فسأله محمدr: ((أمعك هدى؟)) قال علىَّ: (لا يا رسول الله)، فأشركه محمدr في هَدٌيه، وقام علىَّ مع رسول اللهr ليكمل حجه.

9. في الثامن من ذي الحجة [ يوم التروية] ذهب محمدr إلى مِنّى، وصلَّ بها فروض يومه، وظل بها حتى مطلع فجر يوم الحج [التاسع من ذي الحجة]، فصلى الفجر وركب ناقته[القصواء]، ويمم بها جبل عرفات، وجموع المسلمين من ورائه تحذو حذوه ويتبعونه في مسيرته، يأخذون عنه مناسكهم في الحج والعمرة، بعضهم يلبي، وبعضهم يكبر، والرسولr يسمعهم ولا ينكر عليهم ذلك، ثم ضربوا لرسول اللهr قبة "بنمِرة"[قرية شرق عرفات] حتى زالت الشمس، فسار حتى بطن الوادي من أرض عرفة.

10. خطب رسول اللهr في المسلمين وربيعة بن أمية بن خلف يردد ما يقوله محمدr حتى يسمعوه قاr بعد أن حمد الله وأثنى عليه:((أيها الناس: اسمعوا قولي فإني لا أدرى لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا. وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلَّغتُ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كان رباً فموضوع [أي مهدر]، ولكن لكم رؤوس أموالِكُم لا تَظٌلِمون ولا تُظلمون، قضى الله أنه لا رِباً، وأن رِبا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وان أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب...، أمّا بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يُعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يُطِع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تَحقِرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم. أيها الناس، إن النسئ زيادة في الكفر يُضَلُ به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حُرم، ثلاث متوالية ورجب مفرد الذي بين جمادى وشعبان.

أما بعد، أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فُرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبيَّنة، فإن فعلن فإن الله قد أذِن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبّرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا فهن عندكم عَوَان [أي كالأسرى] لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلَّغتُ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً أمراً بيناً: كتاب الله وسنة رسوله.

أيها الناس، أسمعوا قولي واعقلوه. تَعَلمُنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين أخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمُنَّ أنفسكم. اللهم هل بلغت !))، فلما ختم الرسولr خطابه بقوله اللهم هل بلغت، أجاب المسلمون كلهم في صوت واحد: (نعم)، فقال رسول اللهr: ((اللهم اشهد))، خطب رسول اللهr هذا الخطاب من فوق ناقته القصواء، فلما فرغ من خطبته نزل عنها وأقام حتى صلى صلاتي الظهر والعصر، ثم ركبها مرة أخرى حتى الصَّخَرات، وهناك تلى قول الله عز وجل:)الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلَامَ دِينًا( (المائدة: من الآية 3).

11. لما سمع أبو بكر هذه الآية من رسول اللهr بكى، فقد أحس أن الرسولr قد أتم رسالته، وأن يومه الذي يلقى فيه ربه قد دنا، ثم ترك الرسولr عرفة وقضى المسلمون ليلهم بالمزدلفة، وفى الصباح نزلوا بالمشعر الحرام، ثم ذهب رسول اللهr إلى مِنى وألقى الجمرات وهو في طريقه إليها، ثم نحر ثلاثاً وستين ناقة من مائة ناقة كانت معه حين بلغ خيامه هناك، نحر واحدة عن كل سنة من سني حياته، ونحر علىَّ بن أبى طالب باقي النوق المائة، ثم حلق رسول اللهr رأسه وأتم حجه، هذه الحجة التي رأى فيها رسول اللهr مكة والبيت الحرام للمرة الأخيرة في حياته، سميت هذه الحجة[حجة الوداع] لأن رسول اللهr ودع فيها مكة والبيت الحرام، وسميت أيضاً [حجة البلاغ] لأن رسول اللهr أتم فيها ما أمر الله أن يبلغه للناس، وسميت [حجة الإسلام] لأنها الحجة التي أكمل الله فيها للناس دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضى لهم اٌلإسلام ديناً.

رابعاً: مرض الرسولr ووفاته:

1. تمت حجة الوداع وعاد عشرات الألوف من الحجيج إلى ديارهم، وفكر رسول اللهr في أمر البلاد الخاضعة للروم والفرس بالشام ومصر والعراق، فقد آمَّنَ شبه الجزيرة العربية بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجاً، حتى الملوك العرب أخلصوا ولاءهم للنبي، منهم "باذان" عامل فارس على اليمن الذي أبقاه الرسوr بعد إسلامه على أرض اليمن.

2. في نفس الوقت ظهر مدعو النبوة أمثال "طَليٌحة" كبير بني أسد، وذو السلطان بنجد حيث زعم أنه نبي ورسول؛ وأيد زعمه أمام الناس أنه تنبأ بموقع ماء حين كاد قومه يموتون من الظمأ، غير أنه لم يجرؤ على الثورة على النبr إلا بعد وفاته، وتكفل خالد بن الوليد بالقضاء على هذه الثورة وهزمه، وانضم "طَليٌحة" من جديد في صفوف المسلمين وحسن إسلامه.

3. كما ظهر "مُسَيٌلِِمِة" الذي بعث للنبيr يقول: (أنا نبي مثلك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم لا يعدلون)، فأرسل إليه محمدr مع رسله رسالة قال فيها: ((قد استمعت إلى كتابك وما فيه من كذب، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، والسلام على من اتبع الهدى)).

4. أما "الأسود العنسي" الذي تولى حكم اليمن بعد موت "باذان" فقد أدعى السحر، وذاع صيته، وعظم أمره، فسار إلى الجنوب، وطرد عمال محمدr على اليمن، ثم سار إلى نجران فقتل ابن باذان، وتولى الحكم بدلا منه وأخذ زوجته، ونشر سلطانه، واستفحل أمره، فبعث رسول اللهr إلى عماله باليمن كي يحيطوا بالأسود أو يقتلوه، فنجحوا في ذلك، وقتلته زوجته انتقاما لزوجها "ابن باذان" الذي قتله هو من قبل، وتزوجها عنوة.

5. رأى رسول اللهr أن يعيد الحسابات مرة أخرى نحو الروم، بعد غزوة مؤتة التي نجح فيها خالد بن الوليد في الانسحاب بقوات المسلمين سالمين، ورأى أن يقوى سلطان المسلمين على حدود الشام لمنع الروم من مهاجمة شبه الجزيرة العربية، فجهز لذلك جيش "العَرِم" للذهاب إلى الشام بقيادة "أسامة بن زيد بن حارثة" الذي كان صغير السن، على الرغم من وجود من هم أكبر منه سناً [لم يكن قد بلغ إلا عشرين عاماً] في ذلك الوقت، فقد كان في هذا الجيش من المهاجرين الأولين "أبو بكر وعمر"، وبرغم أن تعيين أسامة قد أثار دهشة كبار الصحابة !، فكيف يولي الرسولr قيادة الجيش لأسامة؛ على حداثة سنه قياساً بالمخضرمين من المهاجرين !؟، لكن رسول اللهr أراد أن يقوم أسامة مقام أبيه، الذي استشهد في موقعة مؤتة فيكون له الفخار بالنصر، وأيضا لبعث الهمة والحمية في نفوس الشباب المحاربين في صفوفه القريبين من سنه، أما كبار الصحابة فكانوا يؤمنون إيمانا ًعميقاً بما يراه محمدr دون ريب أو وجل.

6. أمر رسول اللهr "أسامة" أن يطأ بالجيش تخوم البلقاء، من أرض فلسطين، وهى على مقربة من مؤتة، حيث استشهد أبوه، وأمره أن ينزل على أعدائه في عماية الصباح، ويمعن في قتلهم وحرقهم بالنار دون أن يشعر به أعداؤه، فإن انتصر فلا يطيل البقاء هناك، ويعود غانما منتصراً، وتحرك "أسامة" بالجيش إلى "الجُرٌف" قرب المدينة يتجهز للذهاب إلى فلسطين، وبينما هو يستعد إذ برسول اللهr يمرض مرضاً شديداً حال بينهم وبين المسيرة، كيف يسيرون؟، ورسول اللهr الذي هو أحب إليهم من أنفسهم مريض، كيف يتركونه وهو في هذا المرض، ويغادرون المدينة دون أن يكونوا مطمئنين على صحته، فهذا يقلقهم إذا ذهبوا للحرب، فحين يمرض الرسول فمن الطبيعي أن يخاف عليه محبوه وأصحابه.

7. برغم مرض رسول اللهr إلا أنه كان بشوشاً يداعب عائشة رضى الله عنها ويبتسم في وجهها، فقد مر بعائشة وهى تشكو صداعا في رأسها تقول: (وارأساه !) فكانr يقول لها: ((بل أنا والله يا عائشة وارأساه!))، فلما كررت عائشة الشكوى من هذا الصداع قال لها رسول اللهr: ((وما ضرَّك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟!))، فأثارت تلك الدعابة غيرتها وحرصها على الحياة فقالت: (ليكن ذلك حظ غيري، والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لكنت رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك)، فتبسمr من قولها، غير أن مرضه كان يشتد به، فذهب يطوف بأزواجه كعادته، حتى إذا كان في بيت "ميمونة" لم يستطع المواصلة، ورأى أنه في حاجة إلى تمريض، فدعا نسائه إلى بيت "ميمونة" يستأذنهن في أن يُمَرَّض في بيت عائشة فوافقن جميعاً، واتكأ الرسولr على عليَّ بن أبي طالب، وعلى عمه العباس حتى دخل بيت عائشة.

8. اشتدت الحمى على رسول اللهr لكنها لم تمنعه من أن يمشي إلى المسجد للصلاة بالناس، إلا انه لم يكن ليزيد على الصلاة بالناس لشدة مرضه، فهو لا يقوى على الجلوس لمحادثة أصحابه أو الاستماع إليهم، وكان يستمع أثناء ذلك وهو في المسجد لهمس الناس عن "أسامة بن زيد بن حارثة" الذي أمَّره رسول اللهr على كبار المهاجرين والأنصار على الرغم من حداثة سنه، فقررr أن يتحدث إلى الناس في هذا الشأن، فقرر أن يذهب إلى المسجد متحاملاً على نفسه متغلباً على شدة مرضه، فقال لأزواجه وأهله: ((هَريقوا علىَّ سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم))، فاستجابوا له، وأتوا بالماء من آبار شتى وأقعدوه في مِخْضَب[2] لحفصة، وصببن عليه الماء من القرب السبع، ثم لبس ثيابه، وعصب رأسه، وذهب إلى المسجد، ثم جلس على المنبر، وبعد أن حمد الله وصلى على أصحابه الذين استشهدوا في غزوة "أُحد" واستغفر لهم وأكثر من الصلاة عليهم،قال: ((أيها الناس أنفِذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليقاً لها )) ثم سكت، ثم عاد للحديث فقال:((إن عبدا من عباد الله خيَّره الله ما بين الدنيا والآخرة ومابين ما عنده فاختار ما عند الله)) ثم سكت مرة أخرى والناس كأن على رءوسهم الطير، وعرف أبو بكر أن النبي إنما قصد نفسه بتلك العبارة فأجهش بالبكاء وقال:(بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا)، وخشي رسول اللهr أن تمتد عدوى هذا التأثر الذي أبداه أبو بكر إلى الآخرين فأشار إليه قائلاً: ((على رسلك يا أبا بكر)).

9. أمر رسول اللهr بإغلاق جميع أبواب المسجد عدا باب أبي بكر وقال: ((إني لا أعلم أحداً كان أفضل في الصحبة عندي يداً منه، وإني لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده))، ثم نزل من على المنبر، وقبل أن يخرج من المسجد قال:((يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيراً، فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم كانوا عَيٌبتي [3] التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مُسيئتهم))، ثم ذهب إلى بيت عائشة مجهداً، وقد زادت عليه وطأة المرض وشدته.

10. حاول رسول اللهr في اليوم التالي أن يقوم للصلاة بالناس في المسجد، لكنه لم يقو على ذلك، حينئذ قال للناس:((مُرُوا أبا بكر فليصل بالناس))، وحاولت عائشة رضي الله عنها أن تشجع رسول اللهr على القيام والصلاة بالناس في المسجد كعادته فذلك يعكس مظهر الصحة والعافية لرسول اللهr عند المسلمين، ويرفع من معنوياتهم، لكن رسول اللهr أمام هذا المرض كرر أمره بأن يتولى أبو بكر الصلاة بالمسلمين، وقام أبو بكر يصلي بالمسلمين عدة أيام، حتى غاب عنهم في يوم من الأيام، فدعا بلال "عمر بن الخطاب" ليصلي بالناس بدلا من أبي بكر t، فلما صلى عُمر بالناس، وكان صوته جهورياً، سمعه رسول اللهr وهو في فراشه فقال: ((فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون))، لقد ظن بعض الصحابة أن رسول اللهr بهذا القول قد استخلف أبا بكرt من بعده.

11. وكانت فاطمة بنت رسول اللهr تعوده كل يوم، فلما اشتد عليه المرض، أراد أن يخفف عنها حين دخلت عليه فقبلها وقال لها: ((مرحباً يا بنيتي))، ثم أجلسها جانبه، وأسر لها حديثاً فبكت، ثم أسر لها حديثاً آخر فضحكت، فلما سألوها بعد وفاتهr عما أبكاها وأضحكها من رسول اللهr، قالت: (أنه أسر إليها أنه سيُقبض في مرضه هذا فبكت، فلما أسر لها أنها أول من يلحقه من أهله ضحكت)، لقد كانت الحمى على أشدها، كان يغشى عليه منها أحياناً، ثم يفيق، وهو في أشد المعاناة من قسوة هذا المرض، حتى كانت فاطمة تقول: (واكرب ابتاه!) فكان يقول لهاr: ((لا كرب على أبيك بعد اليوم))، وتجمع الرجال حوله في بيته حين اشتد به المرض فقال لهم: ((ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تَضلوا بعد أبداً)).

12. يُذكر أن عُمرt قال في هذا الوقت: (إن رسول اللهr قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، وحسبنا كتاب الله)، وكان بعضهم يريد أن يقرب صحيفة لرسول اللهr ليكتب لهم فيها ما شاء أن يكتبه، فلما رأىr هذا الخلاف في الرأي بينهم قال: ((قوموا! ما ينبغي أن يكون بين يدي النبي خلاف))، ولقد رأى ابن عباس أنهم أضاعوا شيئاً كثيراً بعدم إعطاء رسول الله صحيفة ليكتب لهم فيها في هذا الوقت.

13. لما سمع "أسامة بن زيد" بأن المرض قد اشتد على رسول اللهr، نزل من الجُرف إلى المدينة ومعه كثيرون، فلما دخل على رسول اللهr وهو في بيت عائشة (رضي الله عنها) [كان رسول اللهr في هذه اللحظة لا يستطيع الكلام من شدة المرض]، نظر الرسولr إلى أسامة ورفع يده لأعلى علامة الدعاء له، وصنعت أسماء قريبة ميمونة شراباً لرسول اللهr كانت قد تعلمته أثناء مقامها في الحبشة، وصبوا هذا الشراب في فيه، فلما أفاقr سأل: ((من صنع هذا ؟ ولم فعلتموه؟!))، قال عمه العباس: (خشينا يا رسول الله أن تكون بك ذات الجنب)، قالr: ((ذلك داء ما كان الله عز وجل ليقذفني به))، وكان لدى رسول اللهr حين اشتد به المرض سبعة دنانير، أمر أهله أن يتصدقوا بها، لكنهم انشغلوا بمرضه، ولم يتصدقوا بها، فلما أفاق من إغمائه سأل عن هذه الدنانير، فأجابت عائشة أن الدنانير مازالت عندها، فطلب منها أن تحضرها إليه، فلما أحضرتها له وضعها في كفه وقالr: ((ما ظن محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه؟))، ثم تصدق بها جميعا للفقراء من المسلمين.

14. استطاع رسول اللهr أن يخرج إلى المسجد في صباح اليوم التالي، عاصباً رأسه معتمداً على عليَّ بن أبي طالب وعلى الفضل بن العباس، وكان أبو بكر t يصلي بالناس، فلما أحس الناس بوصول رسول اللهr كادوا يفتنون بوجوده المفاجئ فأشار إليهم أن يثبتوا، فلما شعر أبو بكر بوصول رسول الله إلى المسجد أراد أن يتخلى له عن مكانه في إمامة المسلمين بالمسجد، فدفعه محمدr في ظهره وقال له: ((صلِّ بالناس)) ثم جلس إلى جانب أبي بكر حتى أتم الصلاة، فلما فرغ أبو بكر من الصلاة خطب رسول اللهr في الناس وقال: ((أيها الناس،سُعِّرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون علىَّ بشيء. إني والله لم أحِل إلا ما أحل القرآن ولا أحَرِم إلا ما حرم القرآن، لعِن الله قوماً اتخذوا قبورهم مساجد))، وقد فرح المسلمون لمظهر التقدم الذي بدت عليه صحة رسول اللهr في ذلك الوقت.

15. عاد رسول اللهr إلى بيت عائشة مسروراً برؤية المسلمين، وقد امتلأ بهم المسجد خلف أبي بكرt، لكن خروج الرسولr إلى المسجد لم يكن سوى الصحوة التي تسبق الموت، فقد شعرr بدنو أجله، وما أحس إلا أنها سويعات ثم ينتقل إلى الرفيق الأعلى.

16. معظم الروايات تُجمِع على أن الرسولr في يوم 8 يونيو 632م وكان يوماً شديد الحر، طلب أناء ماء يبلل منه يده ثم يمسح بها على جبينه، ودخل رجل من آل أبي بكر معه سواك، فنظر رسولr إليه نظرة تدل على أنه يريد السواك، فأخذته عائشة، ومضغته له، وأعطته إياه، فاستاك به، وفى النزع الأخير من الموت توجهr إلى الله يدعوه قائلاً:((اللهم أعنِّي على سكرات الموت))، وتقول عائشة وهى تصف اللحظات الأخيرة لحياة محمدr وهو يرقد في حجرها قالت:(وجدت رسول اللهr يثقُل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: ((بل الرفيق الأعلى من الجنة))، قلت: خُيرتَ فاخترتَ والذي بعثك بالحق، قبض رسول اللهr بين سحري [أي مستنداً إلى ما يحاذي الرئة من الصدر]، ونحري ودولتي لم أظلم فيه أحداً، فمن سفهي وحداثة سني أنهr قُبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت التدم مع النساء، وأضرب وجهي).

17. مات رسول اللهr، ولم يصدق عمرt أنه قد مات حقاً، فأسرع إلى حيث كان جثمان النبيr وكشف عن وجهه الشريف فلم يجد أي حراك له فظن للوهلة الأولي أنه في غيبوبة، وحاول المغيرة إقناعه بالحقيقة غير أنه كذبه وخرج إلى المسجد وهو يصيح في الناس: (إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول اللهr قد توفي، وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات. والله ليرجعن رسول اللهr كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات)، وذهل المسلمون لما سمعوه عن وفاة النبيr ويا للهم الناصب لأولئك الذين سمعوه ورأوه، وأحاط بعض الرجال بعُمر يحاولون تصديقه، فكيف يموتr، وقد كان معهم منذ ساعات، كانوا يرونه ويسمعونه، ويستمعون إلى دعائه واستغفاره بصوته الجهوري، كيف يموت وقد اهتزت الدنيا له ودانت له العرب كلها، ولم يبق إلا أن يدين له هرقل وكسرى بالإسلام (اُنظر شكل من تأسيس الدولة إلى وفاته e).

وأنهم لكذلك لا يصدقون موت النبيr إذ أقبل أبو بكر وقد بلغه الخبر، فذهب إلى بيت عائشة واستأذنها فقالت: (لا حاجة لأحد اليوم بإذن)، فدخل فلقي النبيr مسجى عليه [بُرد حبرة موشى مخطط] فكشف عن وجهr وقبله وقال: (ما أطيبك حياً وما أطيبك ميتاً!) ثم قال: (بأبي أنت وأمي! أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً)، ثم غطى البردة على وجههr، ثم خرج أبو بكر ورأى عمر بن الخطاب ما يزال يحاول إقناع الناس بأن محمداًr لم يمت، فقال لعمر: (على رسلك يا عمر! انصت!) فلم يصمت عمر، واستمر في حديثه، لكن الناس أقبلوا على أبي بكر وانصرفوا عن عمر، فخطب أبو بكر في الناس وقال: (أيها الناس، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، ثم تلا قوله تعالى: )وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ( (آل عمران: الآية 144).

18. لما سمع عُمرt قول أبي بكر وسمع تلك الآية، خر إلى الأرض، موقناً أن رسول اللهr قد مات، أما الناس الذين أخذوا بقول عمر فقد تعجبوا إذ سمعوا هذه الآية يتلوها أبو بكر، وكأنهم لم يعلموا من قبل أنها نزلت عليهم، وكان "أسامة بن زيد" قد رأى محمداًr في الصباح فظن أنه قد تعافى وشفى من مرضه فعاد إلى معسكره بالجرف، وأمر الجيش بالتجهز للمسير، فلما سمع بوفاة الرسولr عاد أدراجه مرة أخرى، وأمر الجيش فرجع كله إلى المدينة، ثم ذهب إلى بيت عائشة، ووضع علمه على بابها، ثم انتظر ماذا يكون من أمر المسلمين بعد موت رسول اللهr.

19. كاد المسلمون أن يتفرقوا بعد وفاة رسول اللهr فانحاز "حيُّ" من الأنصار إلى "سعد بن عُبادة" في سقيفة بني ساعدة، كما أعتزل "الزبير بن العوام"، و"طلحة بن عبيد الله" مع "على بن أبى طالب" في بيت فاطمة، وانحاز المهاجرون ومعهم "أسيد بن حُضير" في بني الأشهل إلى "أبي بكر الصديق"، فلما علم أبو بكر وعمر بانحياز الأنصار إلى "سعد بن عبادة"، توجها إليهم لينظرا ما هم عليه قبل أن يتفاقم الأمر، وفي الطريق لقيهما رجلان صالحان من الأنصار نصحهما بعدم الاقتراب من الأنصار، فلما سمع عمر ذلك قال "والله لنأتينهم" فانطلقا حتى نزلا في سقيفة بني ساعدة فوجدوا "سعد بن عبادة" بها وبه وجع، وحدثت خلافات بين المهاجرين والأنصار كلُ يتحيز لفريقه.

20. قام خطيب من الأنصار فقال:(أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دَفَّتٌ دافةُ من قومكم وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر)، فلما سمع عمر ذلك غضب وأراد أن يدفع هذا الرجل الأنصاري فأمسكه أبو بكر وقال : (على رسلك يا عمر)، ثم وجه أبو بكر كلامه إلى الأنصار فقال:(أيها الناس نحن المهاجرون أول الناس إسلاماً وأكرمهم أحساباً، وأوسطهم داراً، وأحسنهم وجوهاً، وأكثرهم ولادة في العرب، وأمسهم رحماً برسول اللهr، أسلمنا قبلكم، وقُدَّمنا في القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى عنا: )والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{100}((التوبة: الآية 100)، فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفىء، وأنصارنا على العدو، وأما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، وأنتم أجدر بالثناء من أهل الأرض جميعاً، فإما العرب فلن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، فمنا الأمراء ومنكم الوزراء) فقاطعه رجل من الأنصار غاضباً وقال: (أنا جذ يلها [أي أصل الشجرة] المحكك، وعذيقها المرجب[4]، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش) قال أبو بكر: (بل منا الأمراء ومنكم الوزراء، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين "عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة بن الجراح" فبايعوا أيهما شئتم).

21. ارتفعت الأصوات وخيف الاختلاف فأخذ عمر بن الخطاب بيد أبي بكرt وبايعه وهو يقول: (ألم يأمرك النبي بأن تصلي أنت يا أبا بكر بالمسلمين! فأنت خليفته، ونحن نبايعك فنبايع خير من أحب رسول اللهr منا جميعاً)، هذه الكلمات فعلت فعل السحر في قلوب المسلمين الحاضرين، وقضت تلك المبايعة على ما بينهم من خلاف، فبايع المهاجرون أبا بكر ثم بايعه الأنصار.

22. في صباح اليوم التالي جلس أبو بكر على المنبر وتقدم عمر بن الخطاب ثم قال: (أني قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده إلىََّ رسول اللهr، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله r سيدبَّر أمرنا ويبقى ليكون آخرها، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسول الله r، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول اللهr، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه)، فقام الناس فبايعوا أبا بكر البيعة العامة بعد بيعة السقيفة.

23. قام أبو بكرt بعد هذه البيعة وخطب فيهم خطبة تُعَدّ آية من آيات الحكمة، قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه :(أما بعد، أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله).

24. بعد أن بايع الناس أبا بكرt اختلفوا أيضاً على مكان دفن رسول اللهr، قال جماعة من المهاجرين يدفن في مكة، وقال غيرهم يدفن في بيت المقدس، واستقر الرأي على دفن رسول اللهr في المدينة، واقترحوا أن يدفن في المسجد، لكن عائشة روت أن رسول اللهr كره ذلك وهو حي حيث قالr:((قاتل الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، ثم قضى أبو بكر بأنه قال: (إني سمعت رسول اللهr يقول ما قُبض نبي إلا دفن حيث يقبض)، ثم قرر أن يدفن تحت مكان فراشه الذي قُبض فوقه.

25. تولى غسل النبيr أهله الأقربون وهم: [عليَّ بن أبي طالب، العباس بن عبد المطلب؛ وولداه الفضل وقُثم، أسامة بن زيد]، وكان "أسامة بن زيد" و"شُقران" مولى رسول اللهr هما اللذان يصبان الماء عليه، كما كان علىَّt يغسل رسول اللهr وهو بقميصه، فقد أبوا أن ينزعوا قميص رسول اللهr،وكانوا يصبون الماء من فوق القميص، وكانوا يجدون به طيباً، فكان علىَّt يقول وهو يغسل رسول اللهr:(بأبى أنت وأمى ! ماأطيبك حياً وميتاً)، ثم كُفِّن الرسولr في ثلاثة أثواب، أثنين صُحاريين [5]وبُرد حبرة أدرج فيها إدراجاً، ثم ترك الجثمان حيث كان، وتركت أبواب المسجد مفتوحة للمسلمين يلقون على نبيهمr نظرة الوداع، ويصلون عليه ويخرجون وهم مملئون بالحزن الشديد على فراقه، فلما فرغ الناس وصمتوا قال أبو بكرt :(السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، نشهد أن نبي الله ورسوله قد بلغ رسالة ربه، وجاهد في سبيله حتى أتم الله النصر لدينه، وأنه وفَّى بوعده، وأمر ألا نعبد إلا الله وحده لا شريك له).

وبعد أن خرج الرجال دخلت النساء يودعن جثمان رسول اللهr ويصلين عليه، ثم أدخلوا الصبيان بعد النساء، الكل يودع الرسولr وينظر النظرة الأخيرة قبل أن يوارى جثمانه في مكانه الطاهر، هكذا فارق رسول اللهr الحياة لكنه رحل إلى الرفيق الأعلى، يصلي الله عليه وملائكته، ويصلي المسلمون عليه في كل صلاة وحين يُذكر اسمهr فصلاة الله عليك وسلامه يا أكرم خلق الله، صلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله، قال تعالى: )إِن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءاَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا( (الأحزاب: الآية 56).

خامساً: عظمة الرسولr

إن أكثر الكائنات في عالمنا المحسوس أضعف وأعجز من أن تتلقى مباشرة من الخالقI عطايا الربوبية التي هي مقومات وجودها من الخير والرحمة والبركة والسلام؛ ذلك لأن الكائنات بها نقص في عبوديتها، وضعف في كيانها، فلا يصلح للتلقي مباشرة من اللهI سوى العبد الكامل العبودية، الذي هو أقرب الخلق للخالق، وأعبد العبيد للمعبودI وهو رسول اللهr محمد بن عبد الله، كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق كما يفعل البشر، ومع ذلك، فهو أول من كان يطبق آيات الله التي كانت توحى إليه على نفسه قبل أن يطلب تطبيقها على غيره، وهذا وحده حمل ثقيل لا يقوى عليه إلا محمدr، هذا الأمر يستغرق من العبد الانقطاع والصبر، والبعد عن الترف واللهو؛ لينفذ أمر الله الذي أوحاه إليه قبل أن يأمر به المسلمين لينفذوه.

تحمل الأذى من قريش، وهاجر من مكة إلى المدينة، وأنشأ الدولة الإسلامية التي يسير على نهجها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها حتى الآن، وسيسير عليها المسلمون في كل العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، حارب الكفار والمشركين، ولم يخش في الله لومة لائم، كان رسول اللهr: قرآنا يمشي على الأرض، تفرد وحده من دون سائر الخلائق بكمال العبودية لله بقدر ما تطيقه طبيعة المخلوق، لقد أرسله الله رحمة للعالمين يفك كرب المكروبين، ويفك أسر المأسورين ويقول لهم:((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) وهم الذين حاربوه من قبل أعداء، يعطف على الفقير، ويتعامل برفق مع الشيوخ والأطفال والنساء، بل وسائر الكائنات من طيور وحيوانات وزرع ونبات، لقد كان محمدr صاحب رسالة وجودية كونية، قبل أن تكون بلاغية تعليمية دنيوية.

اتخذ رسول اللهr في الدعوة إلى الدين الإسلامي أساليب عديدة، فهو يذهب إلى الأسواق، ويلتقي بالحجاج الوافدين إلى مكة، ويستقبل الوفود، ويذهب إلى المناطق المجاورة لمكة، فلم يقتصر نشاطه على مكة وحدها بل انتقل بالدعوة خارج مكة، كان يشرح بصدر رحب، ويناقش من هو أمامه بالحكمة والموعظة الحسنة، كان يوصل الليل بالنهار دون كلل أو ملل، لم يعتمد في شرحه للدين على الغيبيات، بل كان يقنع بالحجة بوجه باش باسم، وفكر متوقد وقلب رحيم، يقابل زائريه بتواضع وكرم، فتأخذهم شخصيته، كان من يؤمن يؤمن عن حب ورضى واقتناع، ويسجل التاريخ أن بعض من حاول الاعتداء عليه أسلم بين يديه، وكان إسلامه قوة للمسلمين، ومن أمثال هؤلاء عُمر بن الخطاب.

كانr قوى الحجة مقداماً شجاعاً في الحق، لم يثنه عن الدعوة عداوة قريش، لم يجد المشركون في يد محمدr سيفاً أو رمحاً، بل وجدوا عقلاً قوياً وحجة، وقلباً رحيماً، فأين كان السيف حين بدأ الدعوة سراً، وأين كان السيف حين جهر بالدعوة لعشيرته الأقربين، وأين كان السيف حين أقام مع بني عبد المطلب في الشعب محاصراً، وأين كان السيف حين ذهب إلى الطائف، وأين كان السيف حين كان يقابل الوفود في الأسواق، وأين كان السيف عند بيعة العقبة الأولي والثانية، وأين كان السيف حين انتشر الإسلام في يثرب، وأين كان السيف حين هاجر المسلمون إلى الحبشة، وأين كان السيف حين هاجر إلى يثرب، وأين كان السيف يوم الحديبية، وأين كان السيف حين أرسل رسله للملوك والأمراء...الخ، إنما كان السيف حين حاربته قريش والمشركون، إنما كان السيف حين مكر به اليهود، فحينئذ خرجت السيوف من أغمادها لتحارب هؤلاء الفاسقين، ولولا ذلك لشاع في الأرض الفساد.

كان محمدr خير أسوة في تطبيق الحضارة كما صورها القرآن الكريم، فقد كان إخاؤه لبني الإنسان جميعاً إخاءً تاماً صادقاً، فقد كان إخوانه بمكة متساوين وإياه في احتمال الشدائد، وكان هو أشدهم في تحمل البأساء والضراء، ولما هاجر إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، ثم كان إخاؤه للمسلمين عامة إخاء محبة وتقوى،إخاء صادق وإيمان صادق بالله بلغ من قوته أنه كان يسمو بr إلى حد الاتصال باللهIµ، وهذا مظهر من مظاهر قوة اتصال محمدr بالله عز وجل، يتجلى في موقفه من غزوة بدر حين ناشد ربه النصر الذي وعده إياه، فأمده الله بالملائكة يقاتلون مع المسلمين حتى جاءه نصر الله المبين كما وعد، ولقد كانr دائم الاتصال بالله عن طريق الوحي الذي كان يأتيه من عند ربه في أوقات لا يعلمها إلا ربه، كان لا يهاب الموت بل يستهين به ويقبل عليه ويتمناه، لأنه يعلم أن لكل أجل كتاب وهذا مالا يعلمه اعداؤه الكفار والمشركون، يعلم من الله أنه حين يأتي المرء أجله فلا يستأخر عنه ساعة ولا يستقدم، هذا الذي جعله يوم حنين يثبت حين فر المسلمون منهزمين، يدعو الناس إليه غير آبه بالموت المحيط به، ولا بالعدد القليل الذي ثبت معه، هذا الإيمان الذي جعله يبر اليتيم وابن السبيل، ويعطى كل بائس ومحروم، وحينما حذا المسلمون حذوه، انتشر الإسلام في ربوع الأرض، ورفرفت راياته في كل البقاع، وعم الخير في كل البلاد، وفى الوقت الذي اندس فيه العلماء المضلون ظلت المبادئ الإسلامية التي رسخَّها الرسول باقية تواجه الأعاصير التي تهب ضد الإسلام على مر العصور، لقد ترك فينا ما إن تمسكنا به لن نضل بعده أبداً، كتاب الله وسنتهr.

إن عظمة الرسولr تتمثل في جهاده المستمر حتى اللحظات الأخيرة من حياته، لقد أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله رغم كره الكافرين، ورغم كره المجرمين، من أجل ذلك تحمل أشد أنواع الأذى قولاً وفعلاً من المشركين وعبَّاد الأوثان، حتى سّرى الله عنه I فقال: )قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(33)وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِِى الْمُرْسَلِينَ( (الأنعام : الآيتان 33، 34).

إن عظمة الرسولr تأتى من الرحمة التي أنزلها اللهI عليه، فحبب فيه المسلمين في كل بقاع الأرض منذ بدء الدعوة وحتى يومنا هذا، هذه الرحمة التي جعلته يلين للمسلمين وغير المسلمين، يلين للمستضعفين، ويلين بالقول مع أعدائه حتى دخلوا في دين الله أفواجاً، أعطاه الله رحمة من عنده تفيض على العالمين، ولو كان فظاً غليظ القلب لانفضوا من حوله، قال تعالى:)فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاورْهُمْ فِي الأََمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( (آل عمران: الآية 159).

إن عظمة الرسولr تتجلى في أنه حمل الدين الذي ارتضاه الله للمسلمين، فدين الإسلام الذي أتى به محمدr هو دين كل الأنبياء والرسل، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، والله قد ارتضى هذا الدين الحنيف للناس أجمعين، ومن يبتغ غير هذا الدين فلن يتقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين، فخالق الناس هو الذي أرسل الرسل والأنبياء وأنزل الكتب السماوية التي أوحاها إليهم، فجعل لنا ديناً حنيفاً هو خير الأديان في الدنيا والآخرة، ألا هو دين الإسلام، الذي وصى به الأنبياء من قبل، تدبر قوله تعالى:)وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( (البقرة: الآية 132).

إن الدين عند الله هو الإسلام، تدبر قوله تعالى: )إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب( (آل عمران: الآية 19).

أرسله الله بهذا الدين ليظهره على الدين كله، تدبر قوله تعالى: )هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ( (التوبة: الآية 33).

هذا الدين، الذي ختم به محمدr الأديان السماوية السابقة، هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، تدبر قوله تعالى: )فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( (الروم: الآية 30).

وتدبر قوله تعالى: )هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ((الفتح: الآية 28).

وتدبر قوله تعالى: )هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ( (الصف: الآية 9).

لن يقبل الله دينا من البشر ينتهجون نهجه، ويسيرون على تعاليمه سوى هذا الدين الحنيف، دين الإسلام تدبر قوله تعالى: )وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ((آل عمران: الآية 85).

لقد رضى الله لنا الإسلام ديناً، تدبر قوله تعالى: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامِ دِينًا( (المائدة: من الآية 3).

وتدبر قوله تعالى:)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( (الصف: الآية 7).

خاض الحروب والغزوات دفاعاًُ عن هذا الدين الحنيف، حاملاً كتاب الله ليبينه للناس بلسان عربي مبين، لم يكن معتدياً في يوم من الأيام، ولم ينشر الإسلام في ربوع الأرض بالسيف وبالرعب كما يفعل المجرمون، بل كان يدعو إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.

إن عظمة الرسولr تتجلى في أن الله قد أرسله رحمة ليس للمسلمين وحدهم، ولا للناس كافة على اختلاف مذاهبهم ومللهم فحسب، بل أرسله الله رحمة للعالمين، فهو الذي علمنا كيف نرفق بالكائنات، بالحيوانات والطيور، وأن نميط الأذى من الطريق، قال تعالى:) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ((الأنبياء: الآية 107).

إن حياة محمدr كانت حياة إنسانية بلغت من السمو غاية ما يستطيع إنسان أن يبلغها، فكانت أسوة حسنة لمن حاول أن يبلغ الكمال الإنساني عن طريق الإيمان الصادق والعمل الصالح، لقد كان محمدr قبل الرسالة مضرب المثل في الصدق والكرامة والأمانة، وكان بعد الرسالة كذلك كما كان أيضاً مضحياً بحياته وبراحته، فلم تغره مغريات الدنيا، ولم تثن من عزمه على مواصلة رسالته في سبيل الله، وفى سبيل الحق، تلك المغريات الدنيوية الزائلة، ولقد بلغت حياة رسول اللهr الإنسانية من السمو في جميع نواحي الحياة ومن القوة ما لم تبلغه حياة غيره من البشر.



[1] حى من مذجح.

[2] مخضب: طست.

[3] عيبتي: خاصتي.

[4] العذيق: تصغير العذق بفتح العين وهو النخلة، والمرجب: دعامة تبنى بالحجارة لحماية النخلة أن تنقعر من العواصف.

[5] أى ثوب في لون الصحراء وقيل ثوب مصنوع في قرية باليمن تسمى صحارى.