إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / القرآن الكريم









الملحق الرقم ( 3 )

خامساً: أسباب النزول

يقصد بسبب النزول، الدافع أو المحرك الذي أدى إلى نزول الوحي بالآية أو الآيات؛ وقد يكون سبب النزول وقوع حادثة في زمن النبيr أو إجابة عن سؤالٍ وجّه إليه، أو يكون النزول ابتداءً، من دون أن تسبقه حادثة أو سؤال.

ولا يعني هذا أن يلتمس الإنسان لكل آية سبباً، فنزول القرآن لم يكن فقط وقفاً على الحوادث والوقائع، أو على السؤال والاستفسار، بل كان القرآن يتنزل ابتداءً، بعقائد الإيمان، وواجبات الإسلام، وشرائع الله تعالى في حياة الفرد والجماعة.

1. أسباب النزول المتصلة بحادثة

قد تنزل الآية أو الآيات من القرآن، مبينة ما يتصل بوقوع حادثة، لها أثرها وخطرها على حياة المسلمين، وذلك على النحو التالي:

أ. قد تكون الحادثة خصومة، كالخلاف الذي وقع بين جماعة من الأوس وجماعة من الخزرج، بدسيسة من اليهود، حتى تنادى الفريقان المسلمان: السِّلاحَ السِّلاحَ. فنزل بسبب هذه الحادثة الآيات الحكيمة في سورة آل عمران، من أول قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[ (سورة آل عمران: الآية 100)، حتى قوله ]وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ (سورة آل عمران: الآية 105). وتُعدّ هذه الآيات من أشدّ ما ينفّر من الانقسام، والشقاق، ويرغِّب في المحبة والوحدة والاتفاق.

ب. قد تكون الحادثة خطأ فاحشاً ارتُكب، مثل الحكاية التي رواها الترمذي  عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ t قَالَ: ]صَنَعَ لَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْرِ فَأَخَذَتْ الْخَمْرُ مِنَّا وَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)[ (رواه الترمذي، الحديث الرقم 2952). 

ج. قد تكون الحادثة رغبة أو أمنيةٌ، مثل موافقات عمر، t لربه سبحانه وتعالى. قَالَ عُمَرُ t: ]وَافَقْتُ رَبِّي U  فِي ثَلاَثٍ، أَوْ وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلاَثٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْتَ الْمَقَامَ مُصَلًّى، قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّىٍ) وَقُلْتُ لَوْ حَجَبْتَ عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، قَالَ وَبَلَغَنِي عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ شَيْءٌ فَاسْتَقْرَيْتُهُنَّ أَقُولُ لَهُنَّ لَتَكُفُّنَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، r أَوْ لَيُبْدِلَنَّهُ اللَّهُ بِكُنَّ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ يَا عُمَرُ أَمَا فِي رَسُولِ اللَّهِ r مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ، فَكَفَفْتُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ U (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ) الآيَةَ[ (رواه الترمذي، الحديث الرقم 2940). 

2. أسباب النزول المتصل بسؤال

قد تنزل الآية أو الآيات من القرآن الكريم، لبيان ما يتصل بجواب سؤال أو استفسار، وجه للنبي، وذلك على النحو الآتي:

أ. قد يكون السؤال رُفع إلى النبي r في أمر مضى، مثل قوله تعالى: ]وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ[ (سورة الكهف: الآية 83). 

ب. قد يتصل السؤال بحاضر، مثل قوله تعالى: ]وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً[ (سورة الإسراء: الآية 85). 

ج. قد يتصل السؤال بالمستقبل، مثل قوله تعالى: ]يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا[ (سورة النازعات: الآية 42).

وقد تنزل الآيات عقب السؤال مباشرة، وقد تتأخر عنه، لحكمة يعلمها الله. روي عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبد بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى أتيا المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله r ووصفوا لهم أمره، وبعض قوله، فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهنّ فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؟ فإنه كان لهم أمر عجيب؛ وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فأقبلا حتى قدما على قريش، فقالا: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فجاءوا رسول الله r فسألوه، فقال: أخبركم غداً بما سألتم عنه، ولم يستثن (أي لم يستثنِ بالمشيئة، فلم يقل: إن شاء الله). فانصرفوا، ومكث رسول الله r خمس عشرة ليلة لا يُحْدِث الله في ذلك إليه وحياً، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف (تحدثوا بالباطل) أهل مكة، وحتى أحزن رسول الله r مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلّم به أهل مكة؛ ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبة له على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطّواف، وقول الله r ]وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ[ (سورة الإسراء: الآية 85).

ومن خلال سورة الكهف، يرشد الله رسوله إلى أدب الاستثناء بالمشيئة، ]وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا[ (سورة الكهف: الآيتان 23، 24).

3. أسباب النزول، من دون حادثة أو سؤال

هناك بعض آيات القرآن، التي تنزل ابتداء، من غير سبب ظاهر، وهي تتحدث عن بعض الوقائع، مثال ذلك:

أ. الحديث عن الأحوال الماضية، مثل قصة أصحاب الفيل، وما جرى لهم في قوله تعالى: ]أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ[ (سورة الفيل: الآيات 1 ـ 5). ومثل قوله تعالى: ]وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور ٍ(5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ[ (سورة إبراهيم: الآيتان 5، 6)، ومثل قوله تعالى في قصة إبراهيم u ]وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ[ (سورة إبراهيم: الآيات 35 ـ 37).

ب. ومن القرآن الذي نزل ابتداء، ما يتحدث عن الوقائع المستقبلة، كالحديث عن يوم القيامة وأهوال ذلك اليوم، ومن ذلك قوله تعالى: ]إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإِِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ[ (سورة الزلزلة: الآيات 1 ـ 6). 

4. فوائد معرفة أسباب النزول

رأى بعض العلماء إنّ معرفة أسباب النزول، أمرٌ لا فائدة منه، وأنه لا يعدو أن يكون تاريخاً للنزول، أو جارياً مجرى التاريخ، بينما رأى آخرون أن لمعرفة أسباب النزول فوائد متعددة، أوجزوها في الآتي:

أ. بيان الحكمة التي دعت إلى تشريع حُكْمٍ من الأحكام

تُعين معرفة أسباب النزول، في تفهم حكمة الله تعالى، فيما شرعه بالتنزيل، وفي ذلك نفع للمؤمن وغير المؤمن. أمّا المؤمن فيزداد إيماناً على إيمانه، ويحرص كل الحرص على تنفيذ أحكام الله والعمل بكتابه، لِما يتجلى له من المصالح والمزايا، التي علقت بهذه الأحكام. وأمّا الكافر فتسوقه الحكم الباهرة إلى الإيمان، إن كان منصفاً، حين يعلم أنّ هذا التشريع الإسلامي قائم على رعاية مصالح الإنسان، لا على الاستبداد والتحكم والطغيان.

ب. الإعانة على فهم الآية

تُعين معرفة أسباب النزول، أيضاً، على فهم الآية (أو الآيات)، ودفع الإشكال عنها، قال الإمام القشيري: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز، وهو أمر تحصّل للصحابة بقرائن تحف بالقضايا. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب".

ومن أمثلة ذلك أن مروان بن الحكم بعث لابن عباس يسأله عن قول الله تعالى ]وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ[ (سورة آل عمران: الآية 187). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ]مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الآيَةِ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ تَلاَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ وَتَلاَ: (لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَأَلَهُمْ النَّبِيُّr ، عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا قَدْ سَأَلَهُمْ عَنْهُ، فَاسْتُحْمِدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 2940).

وإن كانت هذه الآية نزلت لهذا السبب، فلا يفهمن من ذلك أن مَنْ يُحب أن يحمد بما لم يفعل، هو بمنجاة من العذاب، لأن الذي يطلب الحمد لنفسه بما لم يفعله من أعمال إنما يفتح باباً للغش والتدليس

ج. دفع توهم الحصر

تدفع معرفة سبب النزول توهم الحصر، عما يفيد بظاهره الحصر: نحو قوله تعالى: ]قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ[ (سورة الأنعام: الآية 145). فإنّ الحصر في هذه الآية غير مقصود، لأنها نزلت بسبب أولئك الكفار، الذين أبوا إلاّ أن يحرّموا ما أحلّ الله، ويحلوا ما حرّم الله، عناداً منهم ومحادة لله ورسوله r، فنزلت الآية بهذا الحصر الصوري، مشادة لهم ومحادة من الله ورسوله r، لا قصداً إلى حقيقة الحصر.

د. تخصيص الحكم بالسبب

عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ـ وهي مسألة خلافية ـ فإن معرفة أسباب النزول، تخصص الحكم بالسبب، الذي نزلت الآيات من أجله. فمن ذلك ما جاء في آيات الظِّهار. عن عائشة رضي الله عنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علىّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله r وتقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي ظاهر مني، أللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات ]قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ[ (سورة المجادلة: الآية 1)، وزوجها هو أوس بن الصامت.

هـ. تعيين من نزل فيه القرآن

وهو معرفة الشخص (أو الأشخاص) الذي نزلت فيه الآية أو الآيات على التعيين، حتى لا يشتبه بغيره، فيُتهم البرىء، ويُبّرأ المريب. عن السدي قال: نزلت هذه الآية ]وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا[ (سورة الأحقاف: الآية 17)، في عبدالرحمن بن أبي بكر، قالها لأبويه، وكانا قد أسلما، وأبى هو أن يسلم، فكانا يأمرانه بالإسلام فيردّ عليهما ويكذبهما، ويقول فأين فلان وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش مِمَن قد مات، ثم أسلم فحسن إسلامه، فنزلت توبته في هذه الآية  ]وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا[ (سورة الأنعام: الآية 132).

ولكن ما ورد من الأحاديث عن عائشة، رضي الله عنها، ينفي ذلك. يروى أنّ مروان بن أبي الحكم، عامل معاوية على المدينة، دعا الناس إلى بيعة يزيد، فخالفه عبدالرحمن بن أبي بكر، فأراد أن يقتله، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه. فقال مروان هذا الذي قال الله فيه: ]وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ[ (سورة الأحقاف: الآية 17)، فقالت عائشة: " كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت إن أسمي الذي نزلت فيه لسميته ".

5. كيفية معرفة أسباب النزول

لا يُعرف سبب النزول إلاّ عن طريق النّقل الصحيح. روى الواحدي بسنده عن ابن عباس، عَنْ النَّبِيِّ، r قال: ]اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ[ (رواه الترمذي، الحديث الرقم 2875). لذلك، قال العلماء: لا يحل القول في أسباب النزول إلا بالرواية والسماع، ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها.

6. كيفية التعبير عن سبب النزول

يختلف المفسرون في التعبير عن سبب النزول، فتارة يصرّحون بلفظ السبب، فيقال: (سبب نزول الآية كذا)، وهذه العبارة نصّ في السببيّة لا تحتمل غيرها. وتارة لا يُصرّح بلفظ السبب، ولكن يؤتى بفاء داخلة على مادة نزول الآية عقب سرد حادثة، وهذه العبارة مثل العبارة الأولى في الدلالة على السببيّة. ومثاله، عن جابر قال: كانت اليهود تقول: " من أتى امرأة من دبرها (أي في قُبلها من ناحية الدُّبر) جاء الولد " فأنزل الله: ]نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[ (سورة البقرة: الآية 223). وفي بعض المواقف قد يُسأل الرسول، r عن أمر من الأمور، فيُوحى إليه ويجيب بما نزل عليه، ولا يكون التعبير بلفظ سبب النزول، ولا بتلك الفاء، ولكن يفهم السّبب من المقام، مثل ما روي عن ابن مسعود، قال: " كنت أمشي مع النبي،  بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب، فمرّ بنفر من اليهود فقال بعضهم: لو سألتموه، فقالوا: حدّثنا عن الروح، فقام ساعة ورفع رأسه، فعرفت أنه يوحى إليه حتى صعد الوحي، ثم قال: ]قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً[ (سورة الإسراء: الآية 85). وحُكْمٌ هذه أيضاً، حُكم ما هو نص في السببية. فلم يصرّح بلفظ السبب ولم يؤت بتلك " الفاء " ولا بذلك الجواب المبني على السؤال، بل يُقال: نزلت هذه الآية في كذا، وهذه العبارة ليست نصاً في السببية، بل تحتملها وتحتمل أمراً آخر، هو بيان ما تضمنته الآية من الأحكام، والقرائن وحدها، هي التي تُعيِّن أحد هذين الاحتمالين أو ترجحه.

وهكذا، يتضح أنه إذا وردت عبارتان في موضوع واحد: إحداهما نصّ في السببيّة لنزول آية أو آيات، والثانية ليست نصاً في السببيّة لنزول تلك الآية، أو الآيات، يؤخذ في السببيّة بما هو نصّ، وتُّحمل الأخرى على أنها بيان لمدلول الآية، لأن النص أقوى في الدلالة من المحتمل.

ويُتبين من ذلك، أن القرآن قد ينزل عاماً فيتخصص بالسبب، وقد ينزل خاصاً ثم يَعُم؛ وقد تتعدد الأسباب والنازل من القرآن واحد، وقد يتعدد النازل من القرآن والسبب واحد.

7. العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

إذا اتفق ما نزل من الآيات مع السبب في العموم، أو اتفق معه في الخُصوص، حُمِل العام على عمومه، والخاص على خصوصيته.

مثال ذلك قوله تعالى: ]وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ[ (سورة البقرة: الآية 222). فعَنْ أَنَسٍ: ]أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ r النَّبِيَّ r فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَقَالُوا مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلاَّ خَالَفَنَا فِيهِ فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَلاَ نُجَامِعُهُنَّ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ r حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا فَخَرَجَا فَاسْتَقْبَلَهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ r فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 455).

ومثال آخر، قوله تعالى: ]وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى[ (سورة الليل: الآيتان 17، 18)، فأنها نزلت في أبي بكر الصديق. فالأتقى هو أبو بكر الصديق، في قول جميع المفسرين.

أمّا إذا كان السبب خاصاً ونزلت الآية بصيغة العموم، فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مثال ذلك نزول آيات الظهار في أوس بن الصامت، ونزول آية الكلالة في جابر بن عبدالله، وغير ذلك. فإن العبرة والحكم يختص بنوع ذلك الشخص، فتعم ما يشبهه، والآية التي لها سبب معين، إن كانت أمراً أو نهياً، فهي تتناول ذلك الشخص وغيره ممن كان مثله.

وخير من صنّف في أسباب النزول من العلماء، الواحدي النيسابوري، وجلال الدين السّيوطي، في مصنفيهما" أسباب النزول "، حيث تناولا سور القرآن، سورة سورة، مع بيان ما ورد في سبب نزولها.