إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات جغرافية وظواهر طبيعية / أقاليم وظواهر جغرافية / قناة السويس




القناة عند الإسماعيلية
بنيامين دزرائيلي
رحيل القوات البريطانية
قناة السويس
قناة السويس بالقمر الصناعي
قاعدة تمثال دي لسبس


قناة السويس



الفصل الثاني

جمعية دراسات قناة السويس ونشاطها بمصر[9]

          في عام 1846م، أسس أتباع سان سيمون (جمعية لدراسات قناة السويس)، وهي جمعية مدنية تشكلت من بعض أتباع سان سيمون، والمهندسين البريطانيين، والنمساويين، والألمانيين. ومقرها باريس ورأس مالها 150 ألف فرنك فرنسي، على أن تُحل من تلقاء نفسها بعد الانتهاء من الدراسات والبحوث اللازمة، وتؤسس جمعية جديدة لتنفيذ المشروع.

          وأيدت الحكومة الفرنسية والنمساوية الجمعية، أما الحكومة الإنجليزية فقد ظهر من تصرفاتها أنها تعارض تأسيس الجمعية والمشروع أساساً.

شكلت الجمعية ثلاث مجموعات:

          المجموعة الإنجليزية: ويشرف عليها المهندس استفنسون (Robert Stephenson)[10]، وتختص بدراسة ميناء السويس ومعرفة مدى صلاحيته لاستقبال السفن المتجهة إليه بعد شق القناة، إلاّ أن المجموعة لم تحضر إلى مصر، ولم تهتم بالمشروع، وحولت اهتمامها إلى مشروع خط السكك الحديدية.

          والمجموعة النمساوية: ويشرف عليها المهندس لويجي نجريللي (Luigi Negrelli)[11]، وتختص بدراسة ساحل البحر المتوسط، ومعرفة إمكانيات إنشاء ميناء على مدخل القناة على البحر المتوسط. وقد وصلت هذه المجموعة إلى مصر في 20 مارس 1847م. وأنجزت مهمتها في شهر يوليو 1847م، واقترحت إنشاء بروزين عند مدخل القناة الشمالي يمتدان من الشاطئ حتى العمق المناسب. ونظراً لأن الظروف ساءت في أوروبا بسبب الثورات، فلم تتمكن من تقديم نتائج دراساتها إلى جمعية الدراسات حتى عام 1855م.

          والمجموعة الفرنسية: ويشرف عليها المهندس بولان تالابو (Paulin Talabot)، وتختص بدراسة برزخ السويس، وقد أوفدت هذه المجموعة بعثة إلى مصر تضم عدداً من الفنيين، وطلب منهم تالابو أن يتعاونوا مع لينان، وقد وصلت البعثة إلى القاهرة في 17 سبتمبر 1847م، ورحب بها محمد علي، والي مصر، وقدم لها العون لمساعدتها في إنجاز مهمتها على الرغم من أته كان يعتقد أن مشروع القناة لن يخرج إلى حيز الوجود في ذلك الوقت.

          استطاعت هذه البعثة أن تهدم الاعتقاد الخاطئ باختلاف مستوى البحرين الأبيض والأحمر. بناءً على نتائج دراسات البعثة نشر تالابو تقريراً في أواخر عام 1847م، تضمن ما توصلت إليه البعثة الفرنسية والمجموعة النمساوية من نتائج، ودراسة وافية للظروف الطبيعية والجيولوجية لمنطقة برزخ السويس، والمشروعات التي يمكن تنفيذها لتحقيق الاتصال بين البحرَيْن الأبيض المتوسط والأحمر. وأرفق بتقريره خريطة للوجه البحري وبرزخ السويس، بمقياس رسم 1/225.000، أوضح عليها مشروع قناة مباشرة، وأخرى غير مباشرة، كما أوضح عليها مشروع لخط سكك حديدية بين الإسكندرية والسويس.

          وكان لتقرير تالابو أثر كبير في تقدم بحوث "مشروع" القناة، فقد أثبت تساوي البحرين الأحمر والمتوسط، فحطم الخرافة القديمة، ودفع مشروع القناة إلى الأمام في ما بعد على أساس سليم، لكن الاضطرابات والثورات، التي سادت أوروبا تسببت في إيقاف نشاط جمعية دراسات قناة السويس.

          ثم استمرت عمليات مراجعة مقاييس جمعية الدراسات حتى عام 1853م، حين قرر (لينان) القيام بعمل قياس آخر، وتم تأكده من دقة الأعمال التي أُجريت، وكان سبب إجرائه لتلك القياسات، مقال نشر للمهندس فافيه (Favier)[12] شكك في صحة نتائج جمعية دراسات قناة السويس. ولقد أثبتت أبحاث لينان الأخيرة عدم وجود فارق يذكر بين مقايسه ومقياس المهندس الفرنسي بوردالو (Bourdaloue) عضو المجموعة الفرنسية لجمعية دراسات قناة السويس.

          وكان تالابو، دائماً، يفضل شق قناة غير مباشرة تصل الإسكندرية على البحر الأبيض بالسويس على البحر الأحمر، وتعبر النيل جنوب الدلتا مباشرة، وكان سبب تفضيله ذلك يرجع إلى: صعوبة إيجاد منفذ للقناة وإنشاء ميناء عند طرفها الشمالي، بسبب عدم توافر العمق المناسب، كما أن تنفيذ القناة المباشرة يستلزم شق برزخ السويس ورفع الملايين من الأمتار المكعبة من الأتربة.

          أما في القناة غير المباشرة والتي تعتمد على ميناء الإسكندرية، فسيكون هذا الميناء أقرب إلى أوروبا، وسوف تحصل مصر على مزايا تجارية وسياسية من وراء شق قناة غير مباشرة، تخترق الدلتا، وتربط الإسكندرية بالقاهرة بحركة التجارة بين الشرق والغرب، وأصبح يعتقد أن مستقبل مصر مرهون بالاتجاه الذي سوف تأخذه القناة.

          ولكن مشروع تالابو كان يواجهه عدة صعوبات، منها ضرورة إقامة قناطر عند رأس الدلتا للاستفادة منها في توفير المستوى المناسب من الماء في القناة، وصعوبة أخري وهي طريقة عبور القناة الملاحية لنهر النيل من دون اختلاط مياه القناة المالحة بمياه النيل العذبة. بالإضافة إلى اختراق القناة الملاحة لقنوات الري في الدلتا وما تسببه من ارتباك لنظام الري فيها، وبالتالي خسارة للثروة الزراعية، وكذلك مرور السفن التجارية والحربية لمختلف الدول في الدلتا ذات الكثافة السكانية وما تسببه من متاعب سياسية لمصر.

هذه الصعوبات وغيرها زادت من ترجيح مشروع "القناة البحرية المستقيمة".

مشروع "بارو"

          وإلى جانب مشروع تالابو كان هناك مشروع بارو (Barrault) وهو أحد أعضاء "جمعية دراسات قناة السويس"، لتوصيل البحريين عن طريق قناة غير مباشر، تبدأ من الإسكندرية، وتسير بجوار الساحل الشمالي للدلتا على البحر المتوسط على طول خليج أبي قير وشمال بحيرة أدكو، ثم تعبر فرع رشيد، وتخترق بحيرة البرلس محاذية لساحل البحر، ثم تعبر فرع دمياط، وبحيرة المنزلة، وتتجه جنوباً لتصل بحيرة التمساح، ومنها تنتهي عند السويس. وكان هذا المشروع يواجه نفس الصعوبات التي يواجهها مشروع تالابو.

مشروع نجريللى

          وضع نجريللى، وهو مهندس نمساوي، من ضمن أعضاء جمعية دراسات قناة السويس، مشروعه علي أساس إمكان حفر قناة مستقيمة تصل البحر الأبيض بالبحر الأحمر بطريق مباشر، مؤيداً أفكار لينان، مقتنعاً بتساوي مستوى البحرين. ويُعد نجريللي، فيما ذهب إليه، أول من أشار إلى الحل الصحيح لمشكلة توصيل البحرين. لم يبلغ نجريللي زملائه في جمعية دراسات قناة السويس بنتائج أبحاثه، إلاّ في عام 1855م. ومن أهم النتائج التي توصل إليها المهندسون النمساويون، في عام 1847، تحت إشراف نجريللي، هي أن حركة الرواسب في الخليج البيلوزي ضئيلة بحيث تجعله صالح لرسو السفن، ولا خطر منها على الميناء المزمع إنشائه على الطرف الشمالي للقناة المباشرة، ولا على حركة السفن عند مدخل القناة على البحر المتوسط، وهي العقبة الوحيدة التي كان لا يزال يؤمن بها أنصار المشروعات غير المباشرة، ويستندون إلى هذه المخاوف في تفضيل مشروعات القناة الغير المباشرة على مشروع القناة المباشرة.

          والقناة الغير مباشرة في مشروع لوبير أو تالابو أو بارو يبلغ طولها حوالي 400 كيلو متر، بينمـا القنـاة المباشـرة يبلغ طولهـا 140 كيلومتر، وتخترق القناة المباشرة منطقة صحراوية، ولا تحتاج لأهوسة، وليس لها أثار سيئة مثل القناة غير المباشرة التي تخترق الدلتا بزراعتها ونظامها المائي.

علاقة فردناند ماري دو لسيبس والسان سيمونيين بالقناة

          اختلفت الآراء في تقدير جهود دي لسبس التي بذلها من أجل تنفيذ مشروع قناة السويس وانقسمت إلى فريقين:

          الفريق الأول: وهم أنصار (فردناند ماري دو لسيبس)، ويعدونه صاحب الفضل في إخراج المشروع إلى حيز الوجود، وأنه الشخص الوحيد المؤهل الذي أخرج المشروع من حالة الجمود التي أصابته بسبب موقف الدول الأوربية وتعارض مصالحها، واستطاع أن يقنع جميع الأطراف، ويهدئ من حدة المعارضة، ويؤثر في الرأي العام والحكومات والملوك والأفراد والأمراء ورجال الدولة، وكانت لديه القدرة على التنقل بين عواصم الدول المعنية بالمشروع.

          أما الفريق الآخر: فلا يرى لفردناند ماري دو لسيبس أي فضل في تنفيذ المشروع، إذ يرونه شخصاً دخيلاً على المشروع، ولا علاقة له به والفضل الوحيد له هو حصوله على امتياز حفر القناة، وفي رأيهم أن الإعجاب بفردناند ماري دو لسيبس وجهوده، لا يجب ألاّ يغفل الجانب العملي، والجهود الفنية، والهندسية، التي بذلها الكثيرون غيره ممن اهتموا بموضوع قناة السويس، مثل لينان دي بلفون ولويجى نجريللي، والسان سيمونيين.

نشأت فردناند ماري دي لسبس

          ولد فرديناند دي لسبس في فرساي في 19 نوفمبر سنة 1805. وكانت أسرة دي لسبس ممن يتوارثون وظائف السلك السياسي الفرنسي في بلاد الشرق، وكانت هذه الوظائف جاسوسية، وأهم اختصاصات الذين تُناط بهم تلك الوظائف رسم الخطوط الاستعمارية، والسهر على تنفيذها بالدس وإثارة الفتن وبمختلف الأساليب وبدأت هذه الأسرة تظهر في عالم الوجود في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، ويقال أن مؤسسها نزح من اسكتلندا إلى فرنسا في القرن الخامس عشر حينما ضمت إنجلترا إليها بلاد اسكتلندا واشتغلت عائلة لسبس في بداية الأمر بصنع الأسلحة وبيعها للنبلاء، ثم تركوا هذه الصناعة وزاولوا أعمال الموثقين ومحرري العقود في البلد الذي أقاموا فيه واسمه بايون(Bayonne) ، حتى صار بيير دي لسبس في بداية القرن الثامن عشر كبير الموثقين، وسكرتير الخزينة في مدينة بايون ولم تكفهم هذه الوظائف، وهم أسرة اشتهرت بالطمع وجنون الاغتناء، فاشتغل عدد منهم بالملاحة وأعمال القرصنة، يسطون على السفن التي تصادفهم في البحار وينهبون ويسفكون الدماء ثم يعودون إلي بلدتهم بايون ليلبثوا وقت قصيراً، يرجعون بعده إلى القرصنة. ويرجع بعض كتاب فرنسا أعمال القرصنة هذه، لما امتاز به دي لسبس من المغامرة، وحدة الذكاء. وقد أنجب بيير دي لسبس غلاماً اسمه دومينيك (Dominique )، شاء أن يترك أعمال القرصنة التي اشتهر بها ذووه، ويرتفع بأسرته إلى مستوى آخر فعمل في وظائف السلك السياسي، وبرز فيها حتى أصبح سفيراً لفرنسا في هولندا، ثم وزيراً لها في بروكسل في عام 1752، وكان لدومينيك هذا أخ يقال له مارثان (Martin) وهو الجد المباشر لفرديناند دي لسبس، إلتحق هو الأخر بالسلك السياسي مستعيناً بنفوذ شقيقه وقضى حياته في هذه الوظائف خارج فرنسا وأنجب مارثان ولدين أحدهما هو بارتليجي دي لسبس، وكانت له في وظائف السلك القنصلي الفرنسي مغامرات منقطعة النظير، والأخر هو ماثيو دي لسبس والد فرديناند، وقد قضى حياته في بلاد أفريقية وأسيوية تقع على شواطئ البحار.

          وكان ماثيو دي لسبس سليل القراصنة، في مقدمة من وضعوا نواة الاستعمار الفرنسي في بلاد أفريقيا الشمالية، فعمل عيناً لفرنسا على مراكش، ونيطت به مهمة أخرى في طرابلس وليبيا، ثم ما لبث بونابرت أن عينه قومسيراً عاماً لفرنسا في مصر، وجلت جيوش فرنسا عن الأراضي المصرية في سنة 1801، ولكن بقي ماثيو يؤدي وظيفة القنصل الفرنسي ثم وقف ماثيو دي لسبس في صف الحركة القومية التي تزعمها محمد على الكبير ضد الإنجليز وضمن ذالك القنصل لفرنسا صداقة محمد على، وبسبب العلاقة الوطيدة التي نشأت بين ماثيو دي لسبس ومحمد على وجد ولده فرديناند طريقه إلى بيت محمد على. وقامت بينه وبين سعيد باشا صداقة كانت نعمة لفرنسا وللاستعمار الغربي بأسره ونقمه على مصر وبلاد الشرق بأجمعها.

          وكان لفرديناند دي لسبس أخ يسمى جول (Jules) اشتغل في خدمة السلك القنصلي واستطاع بدهائه أن يتسلط على (باى) تونس حتى عينه وكيلاً لمصالحه في باريس وأخوه الأكبر واسمه تيو دور اشتغل مديراً لقسم من أقسام وزارة الخارجية الفرنسية، ثم وزيراً مفوضاً وترك السلك السياسي مكتفياً بمقعد في مجلس الشيوخ، ولما تصدى أخوه فرديناند لمشروع قناة السويس وضع نفوذه تحت تصرفه، وامتازت تلك الأسرة بالتضامن العجيب بين آحادها. وإذا كان والد فرديناند دي لسبس لم ينحدر من أصل فرنسي فإن أمه لم تكن فرنسية، ولم تجر في عروقها قطرة من دماء فرنسا، فهي السيدة كاترين دي جريفينيه (Catherine de Griveynée) الأسبانية، وأبوها من أصل فلمنكي، وقد تجنس بالجنسية الأسبانية، واشتغل بالتجارة واقتنى منها ثروة واسعة أعزت ماثيو دي لسبس بزواج ابنته. فلقد كان أن فرديناند دي لسبس كان مزيجاً من دماء مختلفة[13].

ظهور فردناند ماري دي ليسبس علي مسرح مشروع قناة السويس

          لم تكن فكرة القناة جديدة على دليسبس، بل يرجع ذلك إلي قبل نحو 20 عاماً مضى أوائل عام 1832م، عندما عين دي ليسبس نائباً للقنصل الفرنسي في الإسكندرية، سافر من تونس إلي مصر على ظهر سفينة كانت قادمة من مارسيليا. وفي طريقها من تونس إلى الإسكندرية، توفي أحد ركاب هذه السفينة نظراً لانتشار وباء الكوليرا في فرنسا، فتم حجز ركاب السفينة بالحجر الصحي بالإسكندرية لمدة شهر، وفي هذا الوقت حاول ميمو (Mimaut) قنصل فرنسا العام في مصر تخفيف حالة الضيق عند دي لسبس من كثرة الانتظار في الحجر الصحي، فأرسل له بعض الكتب كان من ضمن هذه الكتب التقرير الذي وضعه المهندس الفرنسي لوبير أيام الحملة الفرنسية على مصر والخاص بمشروع القناة بين البحر الأحمر والبحر الأبيض، وكان هذا التقرير سبباً في إثارة انتباه دي لسبس بمشروع القناة. ومنذ ذلك الحين لم ينقطع تفكيره في ذلك المشروع خصوصاً وأنه عندما حضر إلى مصر كان المهندس لينان مهتماً بمشروع توصيل البحريين وأطلع لينان دي لسبس على هذه المشروعات. وفي الإسكندرية استطاع فردينان دي لسبس أن يكسب الكثير من الأصدقاء، فقد كان محدثاً لبقاً، وراقصاً بارعاً، وفارساً ماهراً. وقد تجلى نشاط دي لسبس عندما انتشر وباء الطاعون في نوفمبر 1834، فكون لجنة صحية تحت إشرافه وبذل جهده للعناية بالمرضى ومساعدتهم، فازدادت مكانته في نفوس الناس، ونال وسام جوقة الشرف من الحكومة الفرنسية، عام 1836م.

          وعندما جاء القس أنفانتان، زعيم السان سيمونيين، إلى مصر عام 1833م اتصل بدي لسبس بصفته الوظيفية نائباً القنصل الفرنسي، لتسهيل إقامتهم بمصر، كان أنفانتان يطلعه على أبحاثهم التي قاموا بها خلال فترة وجودهم بمصر من عام 1833م إلي عام 1836م، ومن ثم ازدادت معلومات دي لسبس عن مشروع القناة. وعندما نقل دي لسبس من مصر عام 1838 إلى لاهاي لم يَعُدّ يتابع المشروع حيث ركز على عمله في السلك الدبلوماسي.

          وبعد أن أعفي دي لسبس من منصبه عام 1849م، بدأ يوطد علاقاته مع جمعية دراسات قناة السويس، وحاول أن يعرض المشروع على عباس باشا، والي مصر[14]، إلاّ أنه لم يفلح ثم حاول أن يعرض المشروع على الباب العالي إلا أن المشروع لم يقبل. وإزاء ذلك تخلى دي لسبس مؤقتاً عن تحريك المشروع متحيناً لفرصة جديدة. وبعد وفاة عباس باشا وتولى سعيد باشا الولاية على مصر، اتصل به دي ليسبس، مهنئاً، ثم التقاه في نوفمبر 1854 وعرض عليه فكرة المشروع، وقد عاونت جمعية دراسات قناة السويس، دي ليسبس بالاتصال بالإمبراطور نابليون الثالث[15] لإقناعه بمشروعهم، وقد شجعهم الإمبراطور وطالبهم الإسراع بتكوين هيئة لتنفيذ المشروع وإعداد خطة لتنظيم الشركة العالمية التي ستقوم بتنفيذه. أعدت الجمعية هذا التنظيم، ووافق عليه الإمبراطور وأرسلت نسخة من التقرير إلي دي لسبس. كما رفع نجريللى في 20 مارس 1855 نسخة من هذا التنظيم إلي وزارة الخارجية النمساوية وكذا البارون (دي بروك) الذي صار وزيراً للمالية، راجيا أن تظل النمسا متمسكة بالأسس التي قامت عليها جمعية الدراسات والتي يقوم عليها كذلك هذا التنظيم. وكان تنظيم مجلس الإدارة الذي وضعته جمعية الدراسات هو لمجلس إدارة شركة عالمية لقناة السويس يتكون من الدول الكبرى الثلاث ـ إنجلترا وفرنسا والنمسا ـ إلى جانب مصر، ووزعت المناصب بين الدول الثلاث بحيث لم يكن لأي دولة من تلك الدول إمتياز على غيرها، ولم تكن مصر ممثلة في هذا المجلس على قدم المساواة مع الدول الأوربية الثلاث، وعهد التنظيم إلى (دي لسبس) بمنصب المدير العام.

          كانت الشكوك تساور أعضاء جمعية دراسات قناة السويس من انشقاق دي لسبس عنهم ومحاولة الإنفراد بالمشروع لنفسه. وقد تحقق ذلك عندما وجدوا خطاباتهم المرسلة إليه لا تحظى برد، وقد كشف دي لسبس عمّا بداخل نفسه في إحدى رسائله إلى والدة زوجته مدام دي لامال (Mme de lamalle) فقال لها في 22 يناير 1855: "إنني أعترف بأن ما أطمح إليه هو أن أنسج وحدي خيوط هذا المشروع، وبالاختصار، لا أرغب في أن أقبل شرطاً من أحد، بل غرضي أن أُملي على غيري شروطي جميعاً".

          وفي أواخر فبراير 1855م، أفصح دي لسبس عن حقيقة نواياه، عندما أبلغ أخاه تيودور رأيه في جمعية دراسات قناة السويس بقوله إنها أصبحت في ذمة التاريخ، وأنكر وجود أي صلة بينه وبين أحد من أعضائها، مستنكراً تقديم الجمعية لمشروع تنظيم "مجلس إدارة الشركة العالمية لقناة السويس" إلى الإمبراطور نابليون الثالث من دون إخطار دي لسبس به قبل تقديمه أو استشارته.

          وتأكد ذلك عندما أبلغ دي لسبس البارون دي روك، في 4 مايو 1855، رغبة الوالي في اختياره هو والمهندس النمساوي نجريللي وحدهما من بين أعضاء جمعية الدراسات ضمن الأعضاء المؤسسين في الشركة الجديدة عندما يتم تكوينها، وعمل دي لسبس على الوقيعة بين جمعية الدراسات وكبار الشخصيات في فرنسا لإضعاف مركز الجمعية. وقد تحقق ذلك عندما بذل دي لسبس كل جهده بالقاهرة لإتمام المشروع كمجد شخصي له.




[1] والي مصر ( من عام 1805م إلى عام 1848م)، ولد محمد علي باشا ابن إبراهيم أغا عام 1769م، من سلالة ألبانية، ببلدة قوله، وله أبناء هم ( إبراهيم وطوسون وسعيد)، وخدم بالجيش، ونظراً لتميزه ترقى، وبمساعدة المصريين، أصبح محمد على نائب السلطان العثماني، ثم عين والي على مصر، وخلال ولايته كان له إصلاحات كثيرة، في التعليم والزراعة والصناعة والترع والقناطر والمواني والجيش والبحرية، وأباد المماليك في الحادثة الشهيرة في مذبحة القلعة، وتوفى بالإسكندرية في 2 أغسطس 1849م، وهو مؤسسة أسرة محمد علي التي ظلت تحكم مصر حتى يوليو 1952م.

[2] وكان متخصصاً في أعمال التعدين والمناجم.

[3] برنو ضابط أركان حرب.

[4] وهو مهندس طرق وكباري وكان موظف بفرنسا.

[5] ألكسي بيتيه من المتخصصين في الزراعة.

[6] وهو مهندس معماري ومات بالطاعون وهو يشرف علي إقامة مزرعة شبرا.

[7] وهي جمع كلمة ( هاويس ) عندما يصل الممر أو القناة أو المجري المائي والذي تستخدمه السفن للتنقل بين بحرين يختلف مستوي المياه بهما ينشأ في هذا الممر أو القناة أو المجري مكان اسمه الهويس ليتعادل فيه مستوي المياه لتتمكن السفن من التنقل داخل هذا المجري مثلما يحدث في قناة بنما.

[8] لينان دي بلفون ( Linant de Belleponds ) وهو ضابط بحري وكبير مهندسي الطرق والكباري في مصر.

[9] جمعية دراسات قناة السويس ( Soc D`sEtudes Du Canal De Suez).

[10] روبرت استفنوس ( Robert Stephenson ) وهو مهندس إنجليزي، اشترك في جمعية دراسات قناة السويس، ووجه إليه اللوم لاشتراكه مع المهندسين النمساويين والفرنسيين في دراسة مشروع القناة، لأن بريطانيا كانت لا تريد أن ينفذ المشروع لأسباب سياسية، ثم صار بعد ذلك بسنوات قليلة هو المهندس المشرف علي عملية إنشاء الخط الحديدي بين الإسكندرية والقاهرة، في عهد عباس باشا

[11] لويجي نجريللى ( Luigi Negrelli) ، وهو مهندس نمساوي، وينحدر من أب من التيرول النمسوي وأم ألمانية، وبعد أن أتم دراسته الهندسية، عمل منذ فبراير 1818م في إدارة المنشآت العامة بالتيرول وأصبح موضع تقدير رؤسائه نظراً لكفاءته، وعهدوا إليه بكثير من الأعمال المائية وإنشاء الطرق، ثم عمل مفتشاً لمنشآت الطرق والأعمال المائية، ثم أصبح الرئيس العام لجميع المنشآت العامة في زيورخ، وزار فرنسا وإنجلترا وبلجيكا، وعمل عام 1840م مستشاراً عاماً لشركة سكك حديد الإمبراطور فرديناند في فينا. وفي عام 1843م تعرف عليه ( القس أنفانتان) عن طريق مهندس ألماني من المهتمين بمشروع توصيل البحريين بقناة مائية ويدعى هذا المهندس ( دوفور فيرونس Dufour Feronce). وهو أول من أشار إلى الحل الصحيح لمشكلة توصيل البحر الأحمر بالبجر الأبيض وتساوي مستواهما.

[12] فافيه وهو المفتش العام للطرق والكباري في فرنسا، وكان أحد الذين شاركو مع المهندس ( لوبير ) في أعمال القياس في برزخ السويس أيام الحملة الفرنسية.

[13] عباس باشا وهو ابن طوسون بن محمد علي باشا والي مصر، ولد في عام 1813م، في جدة ونشأ في القاهرة، وتولى حكم مصر في 10 نوفمبر 1848م، بعد وفاة إبراهيم باشا، واستمر في حكم مصر الفترة من 1848مإلى 1854م،وخلال فترة حكمه عاش بمعزل عن الناس حياة بذخ، وسادت الفوضى وفسد النظام وأغلقت المدارس، وقتل في قصره ببنها في 13 يوليو 1854م.

[14] عباس باشا وهو ابن طوسون بن محمد علي باشا والي مصر، ولد في عام 1813م، في جدة ونشأ في القاهرة، وتولى حكم مصر في 10 نوفمبر 1848م، بعد وفاة إبراهيم باشا، واستمر في حكم مصر الفترة من ( 1848م إلي 1854م)، وخلال فترة حكمه عاش بمعزل عن الناس حياة رغد وبذخ، وسادت الفوضى وفسد النظام وأغلقت المدارس، وقتل في قصره ببنها في 13 يوليو 1854م.

[15] نابليون الثالث إمبراطور فرنسا ( 1852 ـ 1870م)، الإمبراطورية الثانية، وهو ابن لويس بونابرت ملك هولندا، وأخو نابليون الأول، وقد ولد في باريس عام 1808م، وتوفى في 1873م، بعد ثلاث سنوات من سقوط إمبراطوريته.