إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات جغرافية وظواهر طبيعية / الموسوعة الجغرافية المصغرة









القسم الأول: الجغرافيا الطبيعية

6. المضايق والقنوات

المضيق عبارة عن ممر بحري يصل بين مسطحين مائيين ويفصل جزئين من اليابس أو أكثر عن بعضهما. وقد يقل عرض المضيق ليصل إلى بضعة مئات من الأمتار مثل المضايق التركية بالقرب من استنبول. وقد يتسع عرضه ليصل إلى 32 كيلومتراً أو أكثر مثل مضيق دوفر بين بريطانيا وفرنسا، ومضيق بهرنج بين روسيا والولايات المتحدة، وتنطبق القواعد الخاصة بالمياه الإقليمية والدولية على المضايق، فإذا كان عرض المضيق أكثر من ستة أميال (حوالي 10 كيلومترات) تصبح نصف هذه المسافة موزعة على جانبيه مياهاً إقليمية، والشـقة المائية في وسطه تصبح مياهاً دولية، أمّا لو كان عرض المضيق ثلاثة أميال (حوالي خمسة كيلومترات) فإنه يصبح مياهاً إقليمية صرفه، ويصبح للدول المحيطة به حق السيطرة عليه ويحدد نصيب كل منها من المضيق بخط يمر في وسطه.

وتؤدي المضايق إلى تقصير المسافات بين الدول. وقد كانت معظم المضايق في وقت ما مراكز كبيرة لمرور التجارة العالمية، مع أنها قد لا تؤدي هذه الوظيفة في الوقت الحاضر، ومثال ذلك، لا يمر بمضيق ماجلان ومضيق بهرنج سوى عدد قليل من السفن. وعلى سبيل المثال كان لمضيق مجلان أهمية كبيرة لمرور التجارة العالمية قبل شق قناة بنما سنة 1914،  (انظر خريطة مضيق ماجلان). إلاّ أن أهميته تضاءلت بعد هذه السنة بسبب إنشاء قناة بنما. وعلى الرغم من ذلك مازالت إنجلترا تحتل جزيرة فوكلاند المشرفة عليه، وبسببها دارت الحرب بين إنجلترا والأرجنتين سنة 1982. في حين مازالت مضايق الدانمارك، وجبل طارق، وباب المندب، وهرمز، ودوفر، وملقا محتفظة بأهميتها التجارية الكبيرة. ونظراً للأهمية التجارية والبحرية والإستراتيجية لبعض المضايق فإن القوى العالمية تبذل ما في وسعها لتحول دون وقوع هذه المضايق كلياً أو جزئياً تحت سيطرة دولة معادية، وبالتالي تعمل على بقاء الطرق البحرية مفتوحة ومؤمنة لسفنها. ومن أفضل الأمثلة على ذلك سيطرة بريطانيا على مضيق جبل طارق، وفوكلاند، وملقا، وباب المندب، نظراً لأهميتها الإستراتيجية لتأمين مرور السفن البريطانية. وقد انتهت سيطرة إنجلترا على مضايق العالم لكنها ما زالت تحتل مضيق جبل طارق. ويوضح (جدول أهم المضايق في العالم) و(خريطة المضايق والقنوات في العالم) أهم المضايق في العالم.

أ. مضيق جبل طارق

يصل مضيق جبل طارق بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، ويفصل بين جنوب أسبانيا وشمال غرب إفريقيا، ويصل عرضه في أضيق نقطة إلى 13.8 كم ويدل هذا على وجود ممر من المياه الدولية بوسط المضيق. وتقع صخرة جبل طارق على الجانب الأسباني من الناحية الشرقية لمدخل المضيق وبذلك فهي تُسهل عملية التحكم فيه. ويلاحظ أن أقصى الطرف الجنوبي لأسبانيا الممثل في منطقة طرفه ذات موقع أفضل من صخرة جبل طارق من جهة التحكم في المضيق، لكن يعيبها عدم وجود مرفأ طبيعي بها علاوة على صعوبة الدفاع عنها بعكس صخرة جبل طارق. ويقع جبل طارق الحصين في شبه جزيرة طولها 5 كيلو مترات، وعرضها 1.5 كم، ولا تزيد مساحة شبه الجزيرة عن 6.5 كم2، ويجاورها من الغرب خليج مائي كما توضح (خريطة مضيق جبل طارق). وترتفع صخرة جبل طارق ارتفاعاً حاداً عن جميع الجهات التي تحيط بها، ويبلغ منسوبها نحو 389 متراً فوق مستوى البحر فيما عدا جهة الغرب باتجاه الخليج، ويبعد طرفها الجنوبي (رأس أوروبا) عن أقرب نقطة على ساحل أفريقيا مسافة 25 كيلومتراً. وفي الغرب يقع ميناء له مرفأ عميق تصل مساحته إلى 2 كم2. أمّا المدينة فتقع شرق الميناء، والكل محصن طبيعياً. ويبلغ طول المضيق 58 كيلو متراً، وعرضه 12.5 كم. وأعمق جزء في مجراه الملاحي يبلغ نحو 935 متراً، وأقل عمق فيه 320 متراً. ولمضيق جبل طارق أهمية كبيرة بالنسبة للدول الأوروبية، خاصة تلك التي ليست لها مواني على البحر المتوسط، مثل إنجلترا، وذلك لتأمين الطرق الموصلة إلى مصالحها في الشرق. وعندما كانت إنجلترا مسيطرة على قناة السويس كان باستطاعتها حبس دول البحر المتوسط بإغلاق القناة ومضيق جبل طارق. ويتسم مضيق جبل طارق بكثافة حركة مرور الملاحة فيه. إذ تمر به نحو 150 سفينة يومياً عدا القوارب الصغيرة والغواصات. كما يمر عبره 5% من تجارة البترول العالمية، إذ تُشكل ناقلات البترول ثلث السفن التي تعبر المضيق بما يعادل نحو 73 ألف ناقلة في السنة. وتعبره يومياً معديتان بين طنجة ومدن الساحل الأوروبي.

وتفكر إسبانيا والمغرب في إنشاء جسر فوقه أو نفق تحته. وتفضل المغرب إنشاء جسر معلق على المضيق. لكن تحبذ أسبانيا فكرة الجسر الثابت على المضيق. وتم الاتفاق سنة 1982 على إنشاء نفق تحت المضيق تمر فيه السكك الحديدية للربط بين أوروبا وأفريقية. هذا على الرغم من الصعوبات التي تكتنف ذلك لعدم انتظام عمق المضيق. وتم إنشاء خط أنابيب تحت المضيق لنقل الغاز الطبيعي من الجزائر إلى فرنسا مروراً بالمغرب. ويلاحظ أن منطقة مضيق جبل طارق ليس لها أهمية اقتصادية ذاتية على الإطلاق، كما أنها ليست ميناء تجارياً كبيراً. وإنما اكتسبت شهرتها من موقعها الجغرافي. وقد تضاءلت الأهمية العسكرية لجبل طارق نتيجة للتطور الذي طرأ على أسلحة الحرب، ولكن المضيق مازال محتفظاً بكل أهميته البحرية التجارية. علاوة على أنه يُعد محطة لتموين السفن بالوقود والمياه والغذاء.

ونظراً لأهمية هذا المضيق، فقد سعت القوى البحرية للسيطرة عليه، منذ عهد الفينيقيين سنة 1100 قبل الميلاد، والإغريق 700 قبل الميلاد، والقرطاجيون 600 قبل الميلاد، والرومان 200 قبل الميلاد. وعبره طارق بن زياد سنة 711 ميلادية، وهو مسمى باسمه. وقد استولت عليه إنجلترا في 21 يوليو 1704 ميلادية. وفكرت ألمانيا في الاستيلاء على صخرة جبل طارق في نهاية الحرب العالمية الأولى. ولم تكف أسبانيا إطلاقاً عن مطالبة إنجلترا بالجلاء عن جبل طارق لأنه بالقانون الطبيعي جزء من بلادها. وقد سلكت أسبانيا مسالك مختلفة لتحقيق هدفها. فلجأت أولاً إلى القوة سبيلاً لاسترجاع جبل طارق، لكنها فشلت في ذلك. لذا أغلقت أسبانيا باب العنف في محاولة استرجاع المنطقة منذ منتصف القرن الثامن عشر. وبعد ذلك عرضت أسبانيا على إنجلترا أن تتخلى لها عن سبتة ومليلة على الساحل المراكشي، أو جزيرة سانت دمنجو أو بورتوريكو أو جزر الباهاما أو منطقة ماثالكفير في سبيل أن تجلو عن هذه المنطقة، ولكن إنجلترا رفضت هذا العرض. وتحاول أسبانيا سلمياً في الوقت الحاضر استرجاع المنطقة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يمكن للقوى المتحكمة في سبتة ومليلة أن تهدد مضيق جبل طارق لقرب المسافة بينهما.

ويتبع القسم الجنوبي من المضيق المملكة المغربية. وقد دار صراع بين إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، وأسبانيا بخصوص السيطرة على هذا الساحل المراكشي. وقد عملت إنجلترا على استبعاد النفوذ الألماني كلية منه أملاً في أن تسيطر هي عليه. ولما لم تنجح خطتها في ذلك ودت أن تراه تحت سيطرة دولة صديقة لها مثل فرنسا، أو أن يصبح ملكاً لأسبانيا. وقد وقعت المغرب تحت الاستعمار الفرنسي باستثناء الساحل الشمالي الذي خضع للسيادة الأسبانية وتحولت طنجة إلى مدينة محايدة بوضعها تحت السيادة الدولية. وظل هذا الوضع سارياً حتى سنة 1956 عندما استقلت المغرب وضمت إليها طنجة والساحل، الذي كانت تحتله أسبانيا عدا مدينتي سبته ومليلة الخاضعتين لأسبانيا.

ولم تحدث أي مشكلة بخصوص الملاحة في المضيق إلى الوقت الحاضر. وليس هناك شك في أن الدوافع السياسية للسيطرة على شواطئ المضيق ترجع إلى الرغبة في إبقائه مفتوحاً وقت الحرب، أو مفتوحاً لسفن دول معينة ومحرماً على غيرها. وقد أعلنت لجنة تصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة سنة 1964 ضرورة تطبيق مبدأ حق تقرير المصير في جبل طارق بناء على طلب أهل المنطقة نفسها. وأوصت اللجنة بإجراء مفاوضات ثنائية بين أسبانيا وإنجلترا لحل النزاع. وإذا استردت أسبانيا جبل طارق من إنجلترا، وظلت مسيطرة على سبتة على الشاطئ المغربي فإن المياه الإقليمية الأسبانية ستصل إلى 12 ميلاً بحرياً[1]، وبذلك سوف تشغل كل المدخل الشرقي للمضيق. وتساند الجماعة الأوربية بقاء أسبانيا في مدينتي سبتة ومليلة المغربيتين ليظل شاطئا المضيق تحت السيطرة الأوربية، إنجلترا في الشمال، وأسبانيا في الجنوب. خاصة بعد الصحوة الإسلامية في دول شمال أفريقية خشية سيطرة المسلمين على شاطئه الجنوبي.

ب. المضايق التركية

يتصل البحر الأسود مع البحر المتوسط بواسطة مضيقي البسفور والدردنيل ويتميز المضيقان بضيقهما. ويبلغ طول الدردنيل 58 كيلو متراً، وأدنى عرض له 868 متر، ويراوح عمقه بين 50 ـ 90 متراً. أمّا البسفور فهو أقصر طولاً وأضيق عرضاً من الدردنيل إذ يصل طوله إلى 27 كيلو متراً، وأدنى عرض له 640 متراً، ويصل عمقه إلى 70 متراً، كما توضح (خريطة المضايق التركية). وتقع مدينة استنبول على جانبي مضيق البسفور. وأنشأت تركيا جسراً على هذا المضيق سنة 1973. وبدأت في إنشاء الجسر الثاني سنة 1986 لمواجهة زيادة حركة النقل المحلية والدولية عليه.

والملاحة في مضيق البسفور خطرة لسرعة التيارات المائية فيه من جهة، ولكثرة الثنايا الحادة بشواطئه من جهة أخرى. لذا تتكرر وقوع الحوادث الملاحية فيه، وليس من شك في أن المضيقين يقعان كلية ضمن حدود المياه الإقليمية التركية. وتمر تجارة دول البحر الأسود بما فيها روسيا عبر المضيقين ومن هنا جاءت أهميتهما الحيوية لهذه الدول. وكثيراً ما تعرقلت الملاحة في هذين المضيقين، لذا كانت الضمانات والاتفاقات الدولية هي السبيل لبقائهما مفتوحين أمام التجارة العالمية. ويصل بحر مرمرة الذي يبلغ طوله 200 كم بين المضيقين.

وقد أتيح لتركيا السيطرة على جانبي هذا المجرى المائي الحيوي عندما احتلت القسطنطينية (استانبول) سنة 1453م. وقد عملت تركيا على إغلاق هذا المجرى المائي، بعد أن سيطرت عليه لمدة ثلاثة قرون، أمام كل السفن فيما عدا السفن التركية والمبحرة في خدمة تركيا. وقد انتهت تلك الفترة، التي أغلقت فيها المضيقين بإعلان اتفاق كوتشك كينارجى Kutchuk Kainardjy  سنة 1774. وقد استطاعت روسيا في تلك السنة أن تسيطر على الساحل الشمالي للبحر الأسود، وبذلك تمكنت من أن تكسر الاحتكار التركي لهذا البحر. وقد كانت السفن الروسية، قبل تلك المعاهدة، تبحر في البحر الأسود رغماً عن السيادة التركية، ولكن المعاهدة ضمنت لها حق الملاحة فيه والمرور في مضيقي البسفور والدردنيل إلى البحر المتوسط. وقد كان هذا الامتياز، الذي حصلت عليه روسيا مقصوراً على السفن الصغيرة، وحتى هذه السفن كان عليها أن تخضع لأية أوامر تصدرها الحكومة التركية. وكانت السلطات التركية تقوم في بعض الأحيان بإيقاف السفن وتفتيشها حتى تمنع روسيا من الحصول على السلع الإستراتيجية، التي قد تفيدها في أي صراع ينشب في المستقبل. ولم يكن في استطاعة السفن الروسية الهرب من هذه الإجراءات نظراً لضيق البسفور ولوجود مدفعية ساحلية على شاطئيه. ولم تحل سنة 1800 حتى كان هذا الامتياز المحدود المشروط قد حصلت عليه أيضا القوى التجارية الهامة. وقد استفادت كافة الدول الراغبة في الاستفادة من ذلك الامتياز المحدود المشروط.

ويتضح مما سبق أن تركيا قد اعترفت بحق مرور السفن التجارية الأجنبية في المضايق، ولكن هذا الحق لم يمتد ليشمل السفن الحربية. وقد قام تحالف قصير الأمد بين روسيا وتركيا في سنة 1798م، قضى بأن سمحت الثانية للسفن الحربية التابعة للأولى بالمرور في مضيق البسفور. كما أن تركيا حرمت البحر الأسود على سفن الدول الأخرى، وسرعان ما انتهى التحالف بإشعال الحرب بين تركيا وروسيا. وبدأت الدول الغربية خاصة إنجلترا منذ ذلك التحالف تتوجس خيفة من السماح للسفن الحربية الروسية بحرية المرور في المضايق إلى البحر المتوسط. وتم عقد اتفاق دولي سنة 1841 قضى بفتح المضايق أمام كل السفن التجارية، وغلقها أمام السفن الحربية فيما عدا التركية منها. وعلى الرغم من ذلك، فقد بذلت تركيا كل ما في وسعها لجعل الملاحة التجارية عبر المضايق عبئاً لا يطاق أمام السفن الأجنبية، ويرجع ذلك إلى أن تركيا كانت تصر على اجتياز السفن للمضايق خلال ساعات النهار، وأن تحصل سلفاً على إذن كتابي بذلك، وأن يعطى هذا الأذن لحراس القلاع الحربية على جانبي المجرى الملاحي وإلاّ أطلقت النار على السفن.

وظل حال المضايق على هذا المنوال حتى الحرب العالمية الأولى. وقد اتضحت أهمية المضايق في الحرب العالمية الأولى عندما فشلت إنجلترا في تمرير حملة جاليوبولى عبرها لمساعدة الروس. وكانت هذه المضايق سبباً من أسباب دخول الجبهة الروسية في هذه الحرب. فعندما قامت النمسا بضم مقاطعتي الصرب والبوسنة لتمكين حليفتها ألمانيا من السيطرة على منطقة البلقان، وبالتالي الوصول إلى هذه المضايق، أسرعت روسيا بحشد قواتها في يوليه 1914 على طول حدود النمسا وألمانيا، نظراً لتخوفها من إغلاق المضايق أمامها ومنعها من المرور إلى البحر المتوسط. ونتيجة لذلك أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا في أغسطس 1914، ثم على حليفتها فرنسا في اليوم التالي مباشرة. وسرعان ما دخلت إنجلترا الحرب إلى جانب روسيا وفرنسا. وكانت روسيا قد حشدت أسطولها في البحر الأسود فتوجهت البحرية الألمانية عبر المضايق ودمرته. وحاصرت تركيا روسيا ومنعتها من المرور في المضايق، وفشلت إنجلترا في تمرير حملة لنجدة روسيا لأن تركيا منعتها من المرور عبر المضايق، مما أدى إلى انهيار الجبهة الروسية أمام الألمان. وكانت إنجلترا قد اتفقت سراً مع فرنسا وروسيا خلال الحرب العالمية الأولى على أن تسيطر الأخيرة على المضايق التركية وتتحكم فيها. لكن ضاع هذا الهدف بسبب انسحاب روسيا من الحرب لقيام الثورة الشيوعية في أكتوبر سنة 1917.

وتنبه الإنجليز إلى المزايا التجارية والإستراتيجية، التي تتمتع بها تركيا نتيجة لتحكمها في المضايق. وقد أصر المنتصرون في الحرب العالمية الأولى على فتح المضايق أمام كافة السفن، وعلى عدم تحصينها مرة ثانية. وقضت معاهدة سيفر بضرورة نزع سلاح المضايق وبحر مرمرة والجزر الواقعة في مدخلهما من جهة الجنوب. وقد تم تنظيم وضع المضايق مرة ثانية في معاهدة لوزان سنة 1923. ونصت هذه المعاهدة على حرية المرور الكاملة لكل السفن التجارية بغض النظر عن جنسيتها. ولكنها من جهة أخرى وضعت قيوداً على مرور السفن الحربية إلى البحر الأسود باعتباره بحراً مقفلاً. إذ لا يمكن تبرير دخول السفن الحربية الأجنبية إليه دون أن يكون لها غرض عدواني ضد الدول الواقعة على شواطئه.

وتعكس معاهدة لوزان التفكير الحر، بعد الحرب العالمية الأولى، بالإصرار على أكبر قدر من حرية الملاحة في المضايق. وقد كان من السهل في ذلك الوقت المطالبة بحرية الملاحة التجارية والحربية في المضايق، ذلك لأن الاتحاد السوفيتي (السابق) لم يكن يملك وقتها إلا أسطولاً صغيراً. ولم تكن هناك حاجة لتحصين المضايق، لأنه لم يكن في استطاعته أن يهدد بالتوسع جنوباً صوب البحر المتوسط كما فعل قياصرة روسيا. ولكن الموقف تغير في الثلاثينيات من هذا القرن، لأن الاتحاد السوفيتي (السابق) أصبح دولة صناعية ذات أسطول يمكنه من أن يحاول تنفيذ سياسة قياصرة روسيا، بالتوسع جنوباً صوب المياه الدفيئة، بهدف منع دخول السفن الحربية الأجنبية إلى البحر الأسود. وكذلك كانت إنجلترا تود منع دخول السفن السوفيتية الحربية إلى البحر المتوسط حتى لا تهدد مصالحها التجارية فيه.

وحينما ظهرت إيطاليا سنة 1935 قوة بحرية تهدد النفوذ البريطاني في شرق البحر المتوسط، رأت إنجلترا أن مصلحتها تتفق مع كل من تركيا واتحاد السوفيت (السابق) في تعديل معاهدة لوزان، وبذلك تم توقيع اتفاقية مونترو سنة 1936 لتنظيم الملاحة في المضايق التركية. ومازالت هذه الاتفاقية سارية المفعول حتى الوقت الحاضر. وتعطى هذه الاتفاقية لتركيا الحقوق الكاملة لممارسة سيادتها على المضايق، وإدارتها وإعادة تحصينها وتقييد مرور السفن الحربية، التي لا تتبع دول البحر الأسود تقييداً أشد، إذ حرمت المضايق على مرور أي سفينة حربية تتجاوز حمولتها 15 ألف طن، ولا يسمح بوجود أكثر من تسع سفن حربية بالممر في وقت واحد، وألاّ تزيد حمولتها مجتمعة عن 15 ألف طن. واستثنت من ذلك السفينة الواحدة التي تزيد حمولتها عن 15 ألف طن. لكن يمنع مرور حاملات الطائرات، ويسمح للغواصات بالمرور في المضايق شريطة أن تكون ظاهرة على السطح، وعلى أن تقصد الترسانات للصيانة. ولتركيا الحق في منع مرور السفن الحربية بالكامل في المضايق، إذا كان مرورها يهدد أمن الدولة التركية.

وصارت لتركيا أهمية إستراتيجية خطيرة في إستراتيجية الكتلة الغربية ضد الكتلة الشرقية. فيمكن لها أن تسمح لأساطيل الكتلة الغربية بالمرور إلى البحر الأسود لتدمير المنطقة الصناعية الرئيسية في قلب دول اتحاد السوفيت (السابق). وهي تمثل صمام أمان للقوى الغربية ضد الزحف الروسي جنوباً إلى الشرق الأوسط وطرق الملاحة الدولية هناك، ومن ثم تنظر الولايات المتحدة إلى تركيا على أنها قاعدة عسكرية هامة في سلسلة الحلقة النارية، التي تعتمد عليها لمواجهة الكتلة الروسية. والسفن العابرة من البحر الأسود إلى بحر إيجة مجبرة على المرور في ممررات مائية تركية لمسافة 320 كم. وهذه الميزة الكبيرة دفعت حلف الأطلسي إلى أن يضم إلى صفوفه دولة بهذا الموقع الإستراتيجي الخطير الحاكم لحركة الكتلة الروسية، إذ تمثل المضايق التركية المخرج الوحيد للسفن الروسية من البحر الأسود المغلق. وفي المتوسط، تمر في المضايق سفينة حربية روسية كل 36 ساعة. بينما تمر عبرها 20 سفينة تجارية روسية يومياً. وتمثل السفن التجارية الروسية 40% من الحمولة المارة في المضيقين.

وقد طالب اتحاد السوفيت (السابق) أكثر من مرة بتعديل معاهدة مونترو بأن تشترك دول البحر الأسود جميعاً في الإشراف على الملاحة في المضايق. ويتضمن هذا المطلب تدويل الممرات المائية الإقليمية للدول الصغيرة، لضمان بقائها مفتوحة أمام السفن الروسية التجارية والحربية في وقت السلم والحرب على حد سواء. وكان السوفيت يؤيدون مطالب بلغاريا، التي كانت ضمن دول حلف وارسو السابق، في الحصول على جزء من تركيا ليصبح لها حق الإشراف على مضيقي البسفور والدردنيل. إلاّ أن الكتلة الغربية وتركيا رفضت هذا المطلب.

وتعبر السفن التجارية المضايق بلا قيود عدا الشروط الصحية. ولا تتقاضى تركيا رسوماً للعبور، وتعبر المضايق التركية 28 ألف سفينة سنوياً أغلبها سفن تجارية. ولو حدث صراع مسلح بين تركيا واليونان بخصوص قبرص فستتأثر الملاحة في المضيقين.

ج. مضايق الدانمارك

تتشابه مضايق الدانمارك في أهميتها التجارية والسياسية مع المضايق التركية. وهي تصل بين أكبر محيط تجارى في العالم ـ الأطلسي الشمالي ـ وبين بحر البلطيق وهو بحر داخلي ذو أهمية كبيرة. وتختلف المضايق الدانماركية عن نظيرتها التركية في أنها أكثر تعقيداً، وهي تتألف على الأقل من ثلاثة ممرات، كما توضح (خريطة مضايق الدنمارك).

(1) المضيق الكبير: وينحصر بين جزيرتي فن وزيلاند. ويتميز بأنه أكثر اتساعاً وعمقاً عن سابقه، ومن ثم فهو أكثر منه استخداماً في الملاحة.

(2) المضيق الصغير: ينحصر هذا المضيق بين شبه جزيرة جتلاند وجزيرة فن. وتصعب الملاحة في هذا المضيق لضيقه وكثرة ثناياه، ومن ثم لا تستخدمه السفن كثيراً.

(3) مضيق السوند ـ كاتيجات

ويقع بين جزيرة زيلاند الدانماركية من ناحية، والساحل السويدي من ناحية أخرى. وهذا هو أكثر المضايق الثلاثة أهمية، وأنشطها من حيث الحركة الملاحية. وقد ظلت الدانمارك تسيطر على الأراضي الموجودة على جانبي هذا المضيق حتى منتصف القرن السابع عشر. بمعنى أن الدانمارك كانت الدولة الوحيدة، التي تتحكم في جميع شواطئ المضايق الثلاثة السابقة. ولكن عندما استقلت السويد عن الدانمارك سنة 1865م، أصبحت تسيطر على الساحل الشرقي لمضيق السوند.

ويتميز مضيق السوند بأنه أكثر المضايق الثلاثة ضيقاً، إذ يقل عرضه عن خمسة كيلو مترات. ويدل هذا على أنه يدخل كلية ضمن المياه الإقليمية. وأعلن ملك الدانمارك السيادة عليه. وبدأ منذ القرن الخامس عشر يجمع رسوماً على المرور في المضايق التي كان يمتلكها. وحتى عندما استقلت السويد عن الدانمارك ظلت الأخيرة وحدها تمارس فرض رسوم المرور وجمعها على السفن المارة في المضايق. وتوالت الاحتجاجات على التدخل في حرية الملاحة بمضيق السوند، لكن لم تُتخذ إجراءات فعالة ضد ذلك إلاّ في القرن التاسع عشر، عندما ازداد حجم التجارة بين بحري الشمال والبلطيق.

وفي مؤتمر كوبنهاجن في سنة 1857م، تقررت حرية الملاحة في مضيق السوند، وأزيلت جميع العقبات والرسوم والقيود التي كانت مفروضة على الملاحة به. وطلب المجتمعون من الدول، التي تستخدم سفنها المضيق، أن تدفع مبلغاً إجمالياً للدنمرك تعويضاً عن فقدانها الرسوم، التي كانت تحصلها من السفن المارة بالمضيق.

د. مضيق باب المندب

وهو يعد المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، ويربط بينه و بين المحيط الهندي، وتقع اليمن على ساحله الشرقي وجيبوتي على ساحله الغربي. ويبلغ عرضه نحو 26 كيلو متراً، ويراوح عمقه بين 100 ـ 200 متر، ومن ثم ليس هناك قيود على حجم السفن التي تعبره في الاتجاهين. وتقسمه جزيرة بريم اليمنية إلى ممرين هما:

(1)  الممر الشرقي: ويقع بين جزيرة بريم والساحل اليمنى، لذا فهو يقع بكامله داخل المياه الإقليمية اليمنية، ويبلغ طول هذا الممر نحو خمسة كيلو مترات، وعرضه 2.8 كيلومتر، وهو المفضل للملاحة لخلوه من الشعاب المرجانية. ويسمى هذا الممر باسم باب الاسكندر.

(2)  الممر الغربي: يعرف بممر أميون (بريم): وينحصر هذا الممر بين جزيرة بريم شرقاً والساحل المرجاني، وعلى الرغم من ذلك تجتازه معظم السفن نظراً لاتساعه عن الممر الأول. وتبلغ مساحة جزيرة بريم نحو 8 كيلو مترات مربعة، ومنسوبها 65 متراً فوق مستوى البحر، ولذا أنشأت اليمن عليها فناراً لإرشاد السفن.

وليس هناك إحصاء لعدد السفن التي تعبر مضيق باب المندب، لكن هذا العدد يساوى السفن العابرة لقناة السويس. وباستثناء السفن القاصدة لموانئ البحر الأحمر، يمكن القول بأن مضيق باب المندب تعبره حوالي 20 ألف سفينة سنوياً، وبعد غلق قناة السويس (1967 ـ 1975) تدهورت حركة مرور السفن عبر مضيق باب المندب. وبإعادة فتحها وتعميقها ازدهرت الملاحة في مضيق باب المندب من جديد. وللولايات المتحدة تسهيلات عسكرية بالقرب من المضيق. وقد أغلقته مصر واليمن أمام سفن إسرائيل في حرب 10 رمضان 1394هـ/ 6 أكتوبر 1973، كما توضح (خريطة مضيق باب المندب).

هـ. مضيق هرمز

يقع مضيق هرمز في المدخل الجنوبي للخليج العربي ويصل بينه وبين المحيط الهندي، وتحده إيران من الشمال، وعُمان من الجنوب. ويبلغ طوله نحو 158 كيلو متراً، ويتميز المضيق بالاتساع. إذ يصل أضيق جزء فيه إلى 39 كيلو متراً ويقع بين جزيرتي لاراك الإيرانية وجزيرة قوين العُمانية. ويراوح عمق المياه فيه بين 76 ـ 213 متر. ويتناقص العمق بالاتجاه نحو الساحل الإيراني، وعلى الرغم من ذلك، فالعمق كاف لمرور ناقلة بترول بكامل حمولتها بغاطس يصل إلى 30 متراً. وتجدر الإشارة إلى أن المياه الإقليمية لكل من إيران وعُمان تبلـغ 12 ميلاً بحرياً ( 22.2 كيلومتراً)، ومن ثم فالمضيق به شقة كافية من المياه الدولية، كما توضح (خريطة مضيق هرمز).

وتُعد سلطنة عُمان المسؤولة عن تأمين الملاحة في المضيق، ويرجع ذلك إلى أن السفن تسلك مساراً بين جزيرتي قوين الصغيرة ومسندم، ويقع هذا المسار بكامله ضمن المياه الإقليمية العُمانية.

ويتدفق البترول عبر المضيق من الشمال إلى الجنوب إلى كل دول العالم خاصة إلى غرب أوروبا، واليابان، والولايات المتحدة الأمريكية. بينما تتدفق السلع المصنعة والمواد الغذائية والأسلحة عبر المضيق من الجنوب إلى الشمال، لذا يعبر المضيق أكثر من 70 سفينة يومياً.

وتجدر الإشارة إلى أن أي اضطراب سياسي في منطقة الخليج يؤثر على الملاحة عبر المضيق، مثال ذلك، قيام الثورة في إيران سنة 1979، والحرب العراق ـ الإيرانية (1980 ـ 1988)، وحرب الخليج سنة 1990. لذا أنشئت خطوط أنابيب لنقل البترول إلى سواحل تركيا على البحر المتوسط تفادياً للمرور بالمضيق، كما أن هناك أفكاراً أخرى بإنشاء خطوط أنابيب لنقل البترول والغاز الطبيعي إلى سواحل كل من البحر المتوسط، والبحر الأحمر، والبحر العربي، والمحيط الهندي، تفادياً للمرور في المضيق وقت الأزمات.

 



[1]  الميل البحري = 1.852 كيلومتر.