إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / المواقف وردود الفعل، الدولية والإقليمية والعربية، خلال مرحلة "عاصفة الصحراء"









خطاب الرئيس محمد حسني مبارك

وثيقة

خطاب الرئيس محمد حسني مبارك

في اجتماع مشترك لمجلسَي الشعب والشورى

يوم الخميس، 24 يناير 1991

تناول فيه أحداث الخليج

منذ بداية الأزمة وحتى الغزو العراقي للكويت

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الإخوة والأخوات، أعضاء مجلسَي الشعب والشورى.

         ندرك جميعاً، تحت هذه القبة، في بيت الشعب، وتحت سماء مصر، من أقصاها إلى أقصاها، أننا نعايش، اليوم، ومنذ أكثر من ستة أشهر، أخطر أحداث التاريخ على الأرض العربية. وقد قررت دعوة حضراتكم إلى هذا الاجتماع التاريخي، إعمالاً لنص المادة 132 من الدستور، واحتراماً لأمانة المسؤولية الوطنية في بنائنا الديموقراطي، التي تفرض على من يحمل المسؤولية الأولى، بإرادة الشعب، أن يُطلع الجماهير وممثليها على كل الحقائق المحيطة بمسؤوليته، وفاء للقسم الدستوري، وأداء للأمانة. وبذلك، تتحقق المشاركة الشعبية في التعامل مع الأحداث، وخاصة إذا كنا نقف أمام منعطف تاريخي، له آثاره الضخمة، في الحاضر والمستقبل.

         لقد تضمن البيان، الذي ألقيته أمامكم، عند افتتاح الفصل التشريعي الجديد، في 15 ديسمبر الماضي، عرضاً لموقف مصر من احتلال القوات العراقية لدولة الكويت. كما تضمن البيان تسجيلاً للاستجابة المصرية لنداء المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، بإرسال قوات مصرية للدفاع عن القطرَين الشقيقَين اللذَين تربطنا بهما أوثق الروابط وأمتن العلاقات.

         وقد كان القرار، الخاص بإرسال وحدات مصرية للمشاركة في الدفاع عن هذَين البلدَين، وغيرهما من الدول العربية، في الخليج ـ قراراً حتمياً، لا شك فيه. وذلك في ضوء التزاماتنا التعاقدية القاطعة، التي نأخذها بكل جدية وصرامة؛ لأننا شعب يحترم القانون والشرعية، ويلتزم بالأحكام والمبادئ المرعية، ويصون كل ما أقره من مواثيق ومعاهدات.

         وتعلمون أن معاهدة الدفاع العربي المشترك، التي أقرها مجلس الجامعة العربية، في 13 أبريل 1950، قد نصت، في مادتها الثانية، على أن الدول المتعاقدة، تعتبر كل اعتداء مسلح، يقع على أية دولة أو أكثر منها، أو على قواتها ـ اعتداء عليها جميعاً. ولذلك، فإنها، عملاً بحق الدفاع الشرعي، الفردي والجماعي، عن كيانها، فإنها تلتزم بأن تبادر إلى معونة الدولة أو الدول المعتدى عليها، وبأن تتخذ، على الفور، منفردة ومجتمعة، جميع التدابير، وتستخدم جميع ما لديها من وسائل، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، لرد الاعتداء، لإعادة الأمن والسلام إلى نصابهما.

         وقد عُرضت المعاهدة المذكورة، على الهيئة التشريعية، القائمة آنذاك، بمجلسَيها. فأقرها مجلس النواب، في 11 يوليه 1951. ووافق عليها مجلس الشيوخ، في 16 يوليه 1951. وهكذا، أودعت مصر وثيقة التصديق عليها، لدى أمانة الجامعة العربية، في 22 نوفمبر 1952. وأصبحت المعاهدة المذكورة قانوناً واجب التطبيق، له قدسيته واحترامه، لدى السلطات العامة، وجميع أفراد الشعب.

         ولذلك، فإنني حين اتخذت قراري بإرسال هذه الوحدات العسكرية، لمعاونة هاتَين الدولتَين الشقيقتَين، في الدفاع عن النفس، في مواجهة التهديد بالعدوان عليهما؛ وحين أعلنت هذا القرار للمواطنين، في 18 أغسطس الماضي ـ كنت أُنفذ التزاماً قانونياً ثابتاً، واجب التطبيق والنفاذ، دون حاجة إلى إجراء إضافي، بعد أن قال ممثلو الشعب كلمتهم، وعبّروا عن إرادته وقراره. ثم إنني حرصت على شرح الأمر، من جميع جوانبه، في الخطاب الذي ألقيته بمناسبة افتتاح الدورة الجديدة لمجلس الشعب، في 15 ديسمبر الماضي، حتى تشتركوا، ومن خلالكم، يشترك كل مواطن على أرض مصر، في الإحاطة بالاعتبارات، التي جعلت إرسال تلك الوحدات أمراً ضرورياً، وحتمياً، في ضوء التزاماتنا القانونية القاطعة.

         وعندما صدرت مقررات مؤتمر القمة العربي، الذي انعقد في القاهرة، يوم 10 أغسطس، تضمنت هذه المقررات تأكيداً لالتزام الدول الأعضاء في الجامعة العربية، بقرارات مجلس الأمن الثلاثة، التي صدرت قبل انعقاد المؤتمر. وبذلك، حدث تزاوج وثيق، وتلاحم عضوي مقنن، بين الشرعية العربية والشرعية الدولية. وهو تزاوج، لا يقتصر على الجانب الشكلي، وحده، بل إنه يمتد إلى جوهر التزام الأمم والشعوب، بالنواميس والمبادئ الأساسية، التي تحكم العلاقات الدولية، حتى لا تتحول المعاملات بين الدول، إلى حالة من الفوضى، التي تسود فيها القوة الغاشمة، وتعلو على الحق المبين، وتصبح شريعة الغاب هي الحاكمة. فبئس هذا المصير.

         وإعمالاً لهذه الأحكام والمبادئ السامية، توجهت هذه الوحدات من قواتنا المسلحة، إلى مواقعها على الأرض العربية، مزودة بتأييد كل مصري غيور على وطنه وأُمته، صادق في التزامه بالعهد والميثاق، مدرك لخطورة التبعات والمضاعفات، التي لا بدّ أن تنجم عن احتلال بلد عربي شقيق، ومحاولة القضاء على كيانه، الدولي والوطني؛ وعن تهديد سائر الأقطار العربية الشقيقة، في منطقة الخليج، بعدوان سافر، على النحو الذي تعرضت له دولة الكويت. وإن كل مصري شريف، يتجه، ببصره وفؤاده، إلى رجالنا البواسل، الذين يؤدون واجبهم القومي، بكل شجاعة وإيمان، ويضطلعون برسالة كبرى، سوف تسجلها صحف التاريخ بأحرف من نور، ولو كره الحاقدون والمكابرون.

         فتَحية، من هذا المنبر، للأبطال. تحية لرجال، قطعوا العهد على أنفسهم، أن يكونوا في خدمة قضايا أُمتهم، بفداء الأرواح. تحية للأبناء، شامخة رؤوسهم إلى أعلى سماء. تحية لمن يحملون أعلام التحرير والكرامة والشموخ. تحية لمن نفاخر بهم على مر العصور والأجيال، دروعاً للشعب، حماة لمقدراته، رمزاً متوهجاً لكل ما نعيش من أجله، من قيم سامية ومبادىء جليلة. تحية أُقدمها إليهم، فرداً فرداً، بمختلف رتبهم وفِرقهم، باسم كل مواطن على أرض مصر، باسم كل الآباء والأمهات،  باسم الأبناء، باسم الإخوة والأخوات، الذين تتجه قلوبهم بالدعاء إلى الحق ـ تبارك وتعالى ـ أن ينجزوا رسالتهم على الوجه الأكمل، ويعودوا إلى وطنهم، آمنين.

         وإذا كنا نفاخر بأبنائنا الأبطال، الذين يظهرون الحق، ويزهقون الباطل، فجدير بنا أن نفاخر بأننا جميعاً، من نفس أرض مصر، الخالدة بترابها الوطني، المضيئة دائماً بحضارة شعب مصر العظيم، شعب مصر بكل أجياله وطوائفه، الذي أثبت، منذ الساعات الأولى للأحداث الخطيرة، أنه على أعلى وعي حضاري، في تحديد موقفه الواضح، القاطع، مستلهماً تراثه الإنساني، عبر آلاف السنين. فلم تخدعه كلمة باطل، مهما تغلفت ببريق كاذب. ولم تنل من فكره الصائب، شعارات جوفاء، أرادت أن تستخف بعقوله. ورفض، بإجماع تلقائي مشهود، رفض كل المبررات الزائفة لاجتياح مسلح، غير مشروع، من دولة عربية لأرض شعب عربي شقيق. بل إن الشعب، كل الشعب قد تعجَّل قيادته، ألا تنتظر يوماً أو بعض يوم، لكي تعلن رأي مصر في رفض العدوان، واتخاذ أسرع الإجراءات لإزالة آثاره. وما كنت بعيداً، ولو للحظة واحدة، عن إحساس كامل بنبض الشعب، في كل ما اتخذناه من قرارات، وما قمنا به من اتصالات، سواء قبل وقوع الغزو العراقي المسلح أو بعده، وحتى الآن.

         وكانت دواعي المسؤولية، والحرص على نجاح ما كنا نصبو إليه، تفرض علينا عدم الإعلان عن كثير من الإجراءات والاتصالات، حتى نهيئ الأجواء، التي تحقق الهدف، الأول والأخير، وهو إقرار السلام، وتجنّب الحرب. ولكن حاكم العراق، أصرّ، بعناد غريب، على دفع المنطقة نحو الكارثة الرهيبة. ويعلم الله كم حاولنا، بكل ما أوتينا من جهد، على المحيطين، العربي والدولي، أن نحمي من الكارثة وأهوالها، جيش العراق، وشعب العراق، وأرض العراق. بل أن نحمي من آثارها السلبية العنيفة، حاضرنا العربي، ومستقبل أُمتنا العربية، على المدى، القريب والبعيد على السواء. وقد آن الآوان، اليوم، أن أُقدم لحضراتكم، ولشعب مصر العظيم، بياناً موجزاً لما قمنا به، في هذا الصدد، في مراحل ثلاث:

  • المرحلة الأولى: قبْل الغزو العراقي للكويت، والذي تم في 2 أغسطس 1990.
  • المرحلة الثانية: من الغزو حتى صدور قرار مجلس الأمن، 678، في 29 نوفمبر 1990، بشرعية استخدام القوة الدولية، لتحقيق الانسحاب من الكويت، وعودة الحكم الشرعي، ما لم ينسحب العراق من الكويت، في موعد أقصاه الخامس عشر من يناير 1991.
  • المرحلة الثالثة: من صدور هذا القرار حتى يوم الخامس عشر من يناير 1991، الذي كان الحدّ الفاصل بين السلام والحرب، وحتى وقوفي أمامكم، الآن.

         تعلمون أن بوادر الأزمة، بدأت في يوليه 1990، في اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب، في تونس، بالمذكرة التي تقدم بها وزير خارجية العراق، باتهامات إلى الكويت، بأنها تتأمّر على العراق، وتسعى إلى الإضرار به. ثم أبلغتنا حكومة الكويت، بأن هناك حشوداً عراقية على حدود بلادها، وطلبت منّا التدخل لمعالجة الموقف.

         ولذلك، فقد اتصلت بالرئيس العراقي، صدام حسين، مساء 23 يوليه، وأبلغته برغبتي في لقائه، في بغداد، غداً. وتم لقاء منفرد. وأكرر، وتم لقاء منفرد، بيني وبينه، صباح يوم 24 يوليه. قال لي فيه، بالحرف الواحد (نص كلامه): "يا أبا علاء، إن حكام الكويت مذعورون، رغم أنني لا أنوي القيام بأي عمل عسكري. وأعتقد أنك تستطيع أن تنتهز الفرصة، وتطلب منهم ما تشاء، وأن تطرُق الحديد، وهو ساخن ـ أنا أرسلت له هذا في خطابي، أيضاً ـ لأنهم سوف يبادرون بالاستجابة  إلى طلباتكم، وسوف يتعاملون معها على نحو مختلف عن الأسلوب، الذي اتبعوه معكم في الماضي".

         ولم يكن همنا، في ذلك الوقت، أبداً، أن نطلب لأنفسنا شيئاً من حكومة الكويت أو غيرها؛ فلسنا نهازين للفرص. بل كان كل هدفي، أن أُطفئ النار، التي بدأت في الاشتعال، في العلاقات بين العراق والكويت، مهددة كل ما آمنّا به، ونقلناه إلى أبنائنا، حول التضامن العربي، ووحدة المصلحة والمصير، بين كافة الشعوب العربية.

          وقد فاتحت الرئيس صدام، بصراحة كاملة، بلا التواء، في أمر الحشود العسكرية. فقال لي، بكل وضوح (نص كلماته): "إذا كنت أريد غزو الكويت، فلست في حاجة إلى حشد قوات عراقية. وهدفي فقط، هو تخويفهم، والضغط عليهم، حتى يستجيبوا إلى مطالبنا".

          ولقد اقترحت عليه، أن نناقش كافة المسائل، المختلف عليها بين البلدَين، في مباحثات، تُجرى في جدة، ثم تستكمل في بغداد والكويت. ولقي هذا الاقتراح قبوله، بعد مناقشات طويلة، استمرت لمدة تقرب من ثلاث ساعات ـ لقاء منفرد ـ وذكر أنه يأمل في التوصل إلى تسوية مُرضية، من خلال هذه المحادثات. وسافرت إلى الكويت، في نفس اليوم، ومنها إلى السعودية. وأبلغت بذلك أمير الكويت، وخادم الحرمَين الشريفَين. اطمأنت جميع النفوس، خاصة أن خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز، تلقي تأكيداً مماثلاً من الرئيس صدام، أنه ليس هناك حرب، ولا اعتداء عسكري، وأنه لا ينوي، على الإطلاق، القيام بأي عمل عسكري ضد الكويت. واعترف بذلك لدول أخرى، منها الاتحاد السوفيتي وأمريكا، ودول أفريقية أخرى.

          وقد عنيت بتوجيه النصح للطرفَين، بأن يُبديا مرونة وسعة أفق، في التعامل مع الخلافات القائمة بينهما؛ لأن المهم، هو الحفاظ على وحدة الصف العربي وتماسكه، في وجه التحديات الهائلة، التي نواجهها جميعاً. وكان شعوري، أن الطرفَين، قد تقبَّلا تلك النصيحة، الخالصة لوجه الله والأمة.

          وتنفيذاً للاتفاق، وصل الوفدان، العراقي والكويتي، إلى جدة، يوم الثلاثاء، 31 يوليه. واقتصرت جلسة المباحثات الأولى، من الجانب العراقي، على تقديم عزة إبراهيم، نائب رئيس مجلس الثورة العراقي، عرضاً موجزاً للغاية، للمآخذ العراقية على تصرفات الجانب الكويتي ـ من وجهة نظره ـ ثم أظهر المسؤول العراقي عدم تحمسه لسماع وجهة نظر الكويت، في هذه الجلسة. واتفق على اجتماع ثانٍ، عُقد بعد ظهر يوم الأربعاء، أول أغسطس 1990 ـ أي قبل العدوان بيوم ـ دار فيه حديث موجز بين الوفدَين. احتج رئيس الوفد العراقي، بعدها، بأنه متعب، لا يستطيع أن يدخل في مزيد من التفاصيل. وبذلك، انتهى الاجتماع، على أن تستكمل المباحثات، في بغداد، ثم في الكويت، وفقاً للاتفاق المسبق. وغادر الوفد العراقي المملكة العربية السعودية، في المساء ـ ما يقرب من الساعة العاشرة مساءً. وبعد أربع ساعات، بالتحديد، وفي الساعة الثانية، من صباح الثاني من أغسطس ـ أي بعد منتصف الليل ـ بدأ الغزو العراقي المسلح.

          والمؤلم، أيها الإخوة والأخوات، أن الرئيس العراقي، اتخذ موقفاً غريباً، في الرسائل، الشفوية والخطية، التي تبادلناها، بعد الغزو. ولم أُعلن عنها، حتى اليوم. إذ إنه أنكر إنكاراً كاملاً، أنه وعدني بعدم غزو الكويت. وادَّعى أنه كان يقصد عدم اللجوء إلى القوة، إذا نجحت المباحثات الثنائية. وهذا تزييف صارخ للحقيقة. وليس أدل على بطلانه، من أنه ثبت للعالم أجمع، أن الغزو كان مدبّراً، وكان توقيته مرسوماً، بدليل أنه وقع بعد أربع ساعات، من انتهاء جلسة المباحثات الاستطلاعية، بجدة، التي كان مفروضاً، أن تتبعها جلسات أخرى، في بغداد، ثم الكويت.

          ولم نعرف، في التاريخ، القديم والحديث، أبداً، أن مباحثات، تجري بين بلدَين، لحل مشاكلهما، لتقتصر على جلسة واحدة أو جلستَين تمهيديتَين، ليقال، بعدها، إنها وصلت إلى طريق مسدود.

          وفي يوم الغزو، وبعد ساعات من وقوعه، وبالتحديد في الساعة الثالثة وعشرين دقيقة، بعد ظهر يوم 2 أغسطس 1990، اتصل بي الملك حسين، وطلب الحضور إلى الإسكندرية، فوراً، للقائي، بعد أن غادر القاهرة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، فوراً. ورحّبت بذلك، لعلنا نستطيع إنقاذ الموقف. ووصل، بالفعل، في الساعة السادسة مساء. وبعد حديث متصل معه، اقترحت ـ وكان اقتراحي أنا، ولم يخرج هذا الاقتراح من أي جهة أخرى ـ اقترحت عقد مؤتمر قمة عربي مصغر، في جدة، في غضون أيام قليلة، يحضره خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز، والرئيس صدام حسين، وبعض الرؤساء العرب الآخرين. وكان هدفي من عقد هذا المؤتمر ـ وهي مبادرة مني ـ الاتفاق على خطوات، يخرج بها العراق من المأزق، الذي وقع فيه، مع حفظ ماء وجْهه، على أساس أن يخبرنا الرئيس العراقي، دون علانية، أنه يوافق على بدء الانسحاب من الكويت، وعودة الشرعية إليها، قبْل أن أدعو إلى هذا المؤتمر، حتى يطمئن قلبي؛ لأني لو دعوت إلى مؤتمر، بدون هاتَين النقطتَين، لن يستجاب لهذه الدعوة.

          وقد اتصلت، أثناء وجود الملك حسين، وأمامه، وفي قصر رأس التين بالإسكندرية، اتصلت بالرئيس صدام حسين، وقلت له إنني اتفقت مع الملك على عقد قمة مصغرة، على أساس نقطتَين. سوف يطلعه الملك عليهما، عند زيارته لبغداد، في يوم الثالث من أغسطس ـ أي في اليوم التالي للغزو. وبعد انتهاء الحديث التليفوني، واصلت حديثي مع الملك، وقلت له: "إنني سوف أصدر بياناً هادئاً، يعبر عن موقف مصر، في طلب الانسحاب، وعودة الشرعية". فطلب مني الملك تأجيل البيان، حتى لا يكون صدوره سبباً في نسف جهوده، في بغداد، في اليوم التالي للغزو. كما طلب مني العمل على تأخير صدور أي بيان مماثل، من مجلس وزراء الخارجية للجامعة العربية، الذي كان مجتمعاً بالقاهرة، في نفس يوم الغزو. وأجريت، في حضور الملك، وأمامه، اتصالات مع عدد من وزراء الخارجية العرب، خلال اجتماعهم بالقاهرة، وطلبت منهم تأجيل بيانهم إلى الساعة السادسة، من مساء اليوم التالي ـ الثالث من أغسطس ـ لكي تتاح للملك حسين فرصة كاملة، لبذل الجهد، لإنقاذ الموقف.

          قبلت هذا، والتزمت به، على الرغم من علمي بأن مختلف طوائف الشعب المصري، تأخذ علينا، أننا لم نبادر بإعلان موقف مصر من هذا العدوان الصارخ. وأن هذا التأخير، لا يتفق مع دور مصر ومكانتها في العالم العربي، وفي العالم كله. وإن عضويتنا في مجلس التعاون العربي ـ وانتقالي أنا شخصياً، ومن أكثر من جهة ـ لا تعني أن نغض الطرف عن مثل هذا العدوان على دولة عربية وشعب عربي. ولكني تحملت، وصبرت.

          وفي الساعة العاشرة وعشرين دقيقة، من صباح اليوم التالي، الجمعة، الثالث من أغسطس، تحدثت مع الملك حسين، في عمّان، قبْل سفره إلى بغداد. وأوضحت له أهمية الإسراع بالحصول على موافقة الرئيس صدام، بصفة خاصة، على النقطتَين الأساسيتَين للاجتماع ـ وهما الانسحاب وعودة الشرعية. وتوجّه الملك حسين إلى بغداد، وقابل الرئيس صدام. وبعد عودته إلى عمّان، اتصل بي، في الساعة الرابعة والنصف، من مساء نفس اليوم، وأخبرني أن الجانب العراقي، قد وافق على حضور القمة المصغرة. واستبشرت خيراً. وسألت الملك عمّا إذا كان الرئيس صدام، قد وافق على التعهد بالانسحاب من الكويت، وعدم التعرض للحكومة الشرعية. ولدهشتي البالغة، أجاب الملك حسين، بأنه لم يبحث أية تفاصيل مع الرئيس صدام.

          وهكذا انهارت فكرة عقد المؤتمر، من أساسها. ولم أستطع أن أتقدم بدعوة إلى الرؤساء العرب، للاجتماع في جدة. فإذا كان حاكم العراق مصرّاً على عدم الانسحاب، وعلى ضم الكويت إلى العراق، فلماذا، إذاً، نجتمع؟ ـ وهذا كان رد كثير من الرؤساء. وهل تصور أنني اقترحت هذه القمة المصغرة، لكي نبارك الاحتلال؟

          ومع ذلك، ورغم عدم تحقيق الهدف، الذي عولنا عليه، من مهمة الملك حسين في بغداد، فإن البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية المصرية، بتعليمات مني، مساء الجمعة، 3 أغسطس، لم يتضمن أي إدانة للعراق؛ وإنما اكتفى بإبداء الأسف لما حدث، والمطالبة بالانسحاب، والشرعية، وتسوية الخلافات القائمة بين البلدَين، بالطرق الودية.

          كنا نريد، دائماً، أن نمد في حبال الأمل، نحو حل عربي، بعيداً عن أي تدخلات دولية. وكان المجتمع الدولي يتحرك، منذ اليوم الأول للعدوان، بسرعة وحسم، أسرع منّا، كعرب. فاجتمع مجلس الأمن، وأصدر قراراته الإجماعية، بالإدانة، والانسحاب الفوري، وعودة الحكم الشرعي، وفرض الحصار الاقتصادي. وتضاعفت خشيتي من فقْد الأمل تماماً في حل عربي. وكان شغلي الشاغل، هو تحذير الرئيس العراقي، من أن يفتح الأبواب، بموقفه المتصلب، أمام مزيد من تدخّل المجتمع الدولي، بأسلوب يمكن أن يتطور إلى ما هو أكثر من الحصار الاقتصادي.

          وفضّلت أن أجري اتصالاً مباشراً بالقيادة العراقية. فاستدعيت سفير العراق في القاهرة، يوم الإثنين، السادس من أغسطس، وأوفدته، على طائرة خاصة، برسالة عاجلة إلى الرئيس صدام حسين. طالبته فيها بإبداء المرونة، وقبول الانسحاب من الكويت، تمهيداً لعودة الشرعية إليها. وحذرته من أن المجتمع الدولي، غرباً وشرقاً، بدأ يتحرك ضد العراق. كما أن مجلس الأمن، أصدر، بالإجماع، قرارات إدانة، لم يسبق لها مثيل.

          وقلت له في رسالتي، بكل وضوح، إنه لا سبيل إلى إحداث انشقاق في المجتمع الدولي، بين الشرق والغرب. (لم يعد هناك شرق وغرب. كّنا، زمان، نعمل العملة، ونروح على الشرق، يقف معنا ضد الغرب. وقبل كده، مع الغرب ضد الشرق. أصبح لا شرق، ولا غرب؛ لأن الأوضاع الدولية، شهدت، في الأعوام الأخيرة، تغيرات جذرية في جوهر العلاقات بين القوى الكبرى، وتم الاتفاق بينها على بناء عالم جديد، خالٍ من الصراع والحروب. ولم تعد هناك دولة واحدة، تقبَل احتلال أرض الغير بالقوة العسكرية). وقلت في رسالتي هذه، إنني مستعد لأن أتعاون معه تعاوناً كاملاً، في أي إجراء، يحفظ ماء وجْهه، ونبعد الخطر عن الأُسرة العربية، حتى نبعد التدخل الدولي.

          وجاء الرد، أيها الإخوة والأخوات، من الرئيس صدام حسين، في عبارة واحدة، تقول: "إن الكويت هو جزء من العراق، وإنه لا مجال، على الإطلاق، للعدول عن القرار، الذي صدر بضمها إليه". فقد وصل إلى مصر، في اليوم التالي، الثلاثاء، 7 أغسطس، مبعوث من الرئيس العراقي، هو السيد عزة إبراهيم، نائب رئيس مجلس الثورة، وقابلته بالإسكندرية. وذكر لي أن الرئيس صدام، تلقى رسالتي، وأن العراق، يعتبر ضمه للكويت إجراء نهائياً، لا رجعة فيه، ولا تفاوض حوله، ولا تنازل بشأنه، لأنها جزء من التراب الوطني العراقي. وأمضيت معه وقتاً طويلاً، أوضحت له فيه، ضرورة إبقاء الباب مفتوحاً لتغيير الوضع الناجم عن الغزو، وعدم اعتبار أي إجراء، اتخذ، بعد الغزو، تصرفاً نهائياً، لا رجعة فيه. وحذرت من النتائج الوخيمة، التي لا بدّ أن تنجم عن اتخاذ هذا الموقف الجامد، غير المتبصر بعواقب الأمور. وقلت له: "أبلغ الرئيس صدام حسين، بكل وضوح، أنه إذا استمر هذا الموقف، فسوف يستحيل إصلاح الخلل الخطير، الذي نجم عن الاحتلال. وسوف يزداد الموقف سوءاً وتدهوراً، وسيقف العالم كله ضد هذا الغزو؛ لأنه يمثل سابقة خطيرة، تهدد كيان المجتمع الدولي.

          وفي 8 أغسطس، دعوت إلى عقد مؤتمر القمة العربي، بعد أن اتصل بي الرئيس حافظ الأسد، والرئيس الشاذلي بن جديد، والعقيد معمر القذافي، وطلبوا مني عقد المؤتمر، في أسرع وقت، أملاً في التوصل إلى حل عربي للأزمة. وحرصت على استدعاء السفير العراقي، للمرة الثانية، وطالبته بإبلاغ الرئيس صدام حسين، برجاء مني، أن يرسل وفداً مفوضاً، وعلى مستوى عال، إذا تعذر حضوره بنفسه لقمة القاهرة، حتى يمكن إخراج العراق من المأزق. وأبديت استعدادي للخروج بصيغة من المؤتمر، تدعو إلى الانسحاب من الكويت، وعودة الشرعية، دون المساس بكبرياء العراق، في قراره الشجاع. وقلت له، في رسالتي، إنني أناشده أن يكون الوفد العراقي مخولاً باتخاذ موقف مرن، كفيل بتحقيق انفراج في الأزمة، تمهيداً للتوصل إلى حل عربي.

          وبعد ظُهر يوم الخميس، 9 أغسطس، استقبلت رئيس الوفد العراقي، الذي لم تخرج كلماته عن جملة واحدة لا غير، هي أن الكويت جزء لا يتجزأ من العراق، ولا رجعة في ذلك، على الإطلاق، ولا عدول عنه، لأي سبب؛ وأن العراق يعتبر هذا قراراً وطنياً، لا يمكن طرحه للمناقشة، عربياً (قبل القمة العربية، اليوم السابق). وقال إنه يحضر المؤتمر لمناقشة الأوضاع العربية كليةً (وصاية). ولم يكن أمامي من تعليق على هذا الطرح، إلا أن أُبدي أسفي الشديد لاتخاذ العراق هذا الموقف، الذي لن يُتيح للقادة العرب حرية الحركة، ويضعهم أمام خيار واحد. ومع كل هذا، فإنني لم أفقد الأمل، وقمت بإجراء اتصالات عديدة مع الملوك والرؤساء الحاضرين في مؤتمر القمة، بهدف تخفيف حدّة التوتر، وتمهيد الأجواء للتوصل إلى تفهّم ودّي بين الطرفَين. وحاولت، بكل السبل، أن أتصدى لأي دعوة للانقسام والفُرّقة، وحرصت على أن يلقى الوفد العراقي كل تكريم، في الاستقبال والتعامل. وتحدثت إلى الحاضرين، جميعاً، موضحاً خطورة الموقف، شارحاً هدفنا من الوصول بالمؤتمر إلى قرار عربي، نبعد به الأزمة تماماً عن تطورات الموقف الدولي، إلى ما هو أخطر.

          وانعقد المؤتمر العربي، يوم الجمعة. وقد راعيت، في خطابي أمام المؤتمر، أن أحفظ للعراق كرامته، وأن أمهد لأي انفراج، يتيح للوفد العراقي مرونة في موقفه. ولم أُظهر انحيازاً لطرف، دون طرف آخر. وقلت في هذا الخطاب، إن هذا المؤتمر، لم يقصد به، ولن يكون ساحة لإحراج القطْر العراقي الشقيق، وتوجيه الاتهامات له، بصورة أو بأخرى. كما قلت ما نصه: "إننا، جميعاً، حريصون على العراق. وليس منّا من يقبَل التفريط في أي عنصر من هذه العناصر الأساسية، في البنيان العربي".

          ويعلم الله، أن هذا الحرص على العراق ومنجزاته وقيادته، كان هو السبب، الذي دفعنا جميعاً إلى التسابق، من أجل احتواء الأزمة. وقلت، أيضاً: "إن المظلة العربية، للخروج من المأزق، تمثل الخيار المأمون، والمضمون، الذي التزمنا، جميعاً، بقبوله، يوم وقّعنا ميثاق جامعة الدول العربية، ومعاهدة الدفاع المشترك. وإن الطريق ممهد، أمامنا، للتوصل إلي اتفاق. ولدينا من الصيغ ما يتيح لنا، أن نضع حدّاً للأزمة، خلال أيام معدودة".

          وعندما تقدم أحد الأعضاء باقتراح، بإرسال وفد عربي، من عدد من الرؤساء، إلى بغداد، للقاء الرئيس صدام حسين، أملاً في الوصول إلى المخرج، سألت الأعضاء الذين وردت أسماؤهم في الاقتراح، كأعضاء في الوفد، في جلسة المؤتمر، وكان من بينهم الملك حسين. وكان ردهم قاطعاً، جميعاً، بالرفض والإحجام. وصدر القرار. ولا أريد، في هذا المجال، أن أكشف حقائق كثيرة عن سلوك الوفد العراقي، والشتائم التي قالها، بعد المؤتمر، وتصرفات بعض الذين حاولوا إفشال المؤتمر. إنني لا أريد، اليوم، أن أُضاعف من مأساة  الانشقاق العربي؛ وكفانا ما وصلنا إليه.

أيها الإخوة والأخوات.

          إنني أعرض عليكم، وعلى الشعب، وكل الشعوب العربية، هذه التفصيلات، التي حاولت الإيجاز فيها، بقدر الإمكان. فهذه شهادة صدق، أمام التاريخ، حتى يتفهم كل من تضلله الادعاءات والأباطيل الكاذبة، الحقائق مجردة من الهوى والغرض. ففي كل اتصال لنا مع الرئيس العراقي، قبل الغزو وبعده، بل وبعد صدور قرارات القمة العربية، ثم اتصالاتنا المباشرة معه، بعد هذه القرارات، ونداءاتي المتكررة له، التي وصلت، في نهاية الأمر، إلى 26 نداء ـ في كل ذلك، لم يأتِ على لسانه، أو لسان رُسله، أو في رسائله المكتوبة إلينا، أي ذكر لقضية الشعب الفلسطيني. لم تجرِ كلمة واحدة على لسانه، أو في سطوره، أو على لسان مبعوثيه إلينا، عن قضية الشعب الفلسطيني، أو عن إسرائيل، أو عن حل كل مشكلات المنطقة العربية. كل هذه المزاعم، ظهرت فيما أسماه بمبادرة منه لحل المشكلات العربية. وهي، في ظاهرها وباطنها، مناورة لخداع الشعوب العربية، ولإثارة المشاعر وتسخيرها لخدمة احتلال أرض الكويت، وإزالة معالمها من الوجود.

          وكان الأمر كله مفاجئاً لنا، ولكل من حضر مؤتمر القمة، في بغداد، الذي انعقد في 29 مايو الماضي 1990. وكلكم تذكرون أن الرئيس صدام حسين، كان قد أهدى لأمير الكويت، وحاكم الكويت، أعلى وسام في الدولة، تكريماً له على الدور الإيجابي، الذي قام به الكويت، في مساندة العراق في حربه مع إيران، وعرفاناً بهذه الخدمة الجليلة. بل إنه قال، على مائدة العشاء، التي أقامها للملوك والرؤساء ـ وكانت جلسته إلى جواره ـ إنه أوصى أولاده، إذا ألمت بهم ملمة، أن يلجأوا إلى عمهم، أمير الكويت؛ فهو الأب والصديق.

          وأعود فأقول لكم، إنني، بعد قرارات مؤتمر القمة، التي رفضها حاكم العراق، لن أفقد الأمل في أن أُقدم له النصيحة الخالصة، التي تفيدنا، جميعاً، وتنقذ الشعب العراقي، وتحمي الجيش العراقي، وتبعد كارثة الحرب عن الأرض العربية كلها.

          وفي 19 أغسطس 1990، استدعيت السفير العراقي، مرة أخرى، وطلبت إليه، أن يبلغه برجائي ـ وكلها رجاءات ـ أن يعيد التفكير في حل، للخروج من هذا المأزق. وحذرت، بكل الصدق والإخلاص والأمانة، من أخطار الحرب. وشرحت له، بدل المرة مرات، أن كل قوى العالم، ترفض مبدأ الاحتلال بالقوة العسكرية، بعد وفاق العالم الجديد على بناء السلام. هناك نظام جديد في العالم. وقلت له، في رسالتي الشفوية، إن العراق لن يستطيع أبداً، أن يتحدى كل قوى العالم، وإنني مستعد للقيام بأي اتصالات أو مبادرات، يرى فيها العراق سبيلاً للخلاص من الوضع الخطير القائم، وحتى تحول دون حدوث أي عواقب وخيمة، لا نريدها، جميعاً.

          وجاءني الرد، مكتوباً، يوم 23 أغسطس. وفوجئت به يكرر، أنه يعتبر، أن عمل آل الصباح نمط من أعمال الحرب، بعد فشل الجهود السياسية، في جدة؛ وأنه قرر أن يعيد إلى العراق حقاً مغتصباً، ويصحح ما هو خاطئ ومنحرف ـ هذا الكلام كله، بعد الغزو ـ ويبعد الجرثومة القاتلة عن جسم العراق، وجسم الأمة، فكان الذي نحمد الله أنه قد حصل. ده كان نص كلامه. يعني أنه يحمد ربنا على اللي حصل. أبعد الجرثومة. فالمسألة بقت كويسة. هذه هي نص كلماته.

          أذكر، في رسالته، أنه وعدني بعدم استخدام القوة. ثم تناولني بالاتهام، بأنني واقع تحت ضغط سعودي ـ أمريكي؛ وهو يعلم أننا لا نقبَل ضغوطاً من أي دول كائنة في العالم أجمع، ونتعاون مع جميع دول العالم، من أقصاها إلى أقصاها، من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق. ومن الشمال إلى الجنوب، وعلاقاتنا طيبة، ونتعامل مع جميع دول العالم، دون استثناء. وذكر أنني اقترفت إثماً، تجاه الأمة العربية، ومبادئ الدين الإسلامي، التي لا يمكن أن تكون مع الباطل. وقد عادت الكويت عزيزة إلى أهلها الأعزاء، وقد غدت، هي وما يحيط بها، وما تفجر عنها من مواقف، راية عزّ لكل العرب ـ وجهة نظره.

           أصابتني الدهشة، أيها الإخوة، من هذه الرسالة، جالي ذهول، ساعات. أقرأ الرسائل مش قادر أُصدق إن ده شيء طبيعي. فإن الذي أعرفه أن صدام حسين، سعى إلى إقامة أحسن العلاقات مع أمريكا، ـ وعلى أيديه ـ وقد طلب منّا، في مناسبات سابقة، أن نتدخل لدى القيادة الأمريكية؛ وهذه كلمات حق، لكي نؤكد على لسانه أنه رجل سلام، وأنه لا يريد إحداث أدنى خلل في العلاقات العراقية ـ الأمريكية. كما صحح تصريحاته، التي كان قد قال فيها، إنه سوف يدمر إسرائيل ـ نفى أنه أعلن ذلك ـ وأكد أنه سيردّ على إسرائيل، إذا اعتدت على العراق، بل إنه قال لي؛ وهذا ما أُعلنه شهادة، أمام التاريخ، قال لي ما نصه: "ليس بين العراق وإسرائيل أي خلاف مباشر؛ كان في حديث بيني وبينه. وإنه لا موضع، على الإطلاق، لأن يعتدي على إسرائيل، لأنه لا مبرر لهذا الاعتداء ـ كلام الرئيس صدام حسين. والعراق يمكن فقط، أن يقدم العون للأردن، أو لمصر، إذا اعتدت إسرائيل على أي منهما، وإذا طلبا ذلك. فيما عدا ذلك، لا علاقة له بإسرائيل".

          وبالنسبة لأمريكا، فإنه يسجل على نفسه، في رسالته لي، أنه في لقائه مع السفيرة الأمريكية، في بغداد، لتأكيد حسن العلاقات مع أمريكا، أكد لها، أنه لن يعمل أبداً على زيادة سعر البترول. وتعلمون، حضراتكم، أنه سبق أن كلف أستاذة بإحدى الجامعات الأمريكية، بأن تنقل إلى القيادات الإسرائيلية، في تل أبيب، أنه لا يضمر لإسرائيل شراً، ولا يفكر في شن أي عدوان عليها.

          ماذا جرى، إذاً، لكي يتهمنا، بأننا واقعون تحت ضغط سعودي ـ أمريكي، وهو الساعي، دائماً، إلى علاقات طيبة مع أمريكا، وهو سعيد بأننا تدخّلنا لإزالة أي سوء فهْم بينه وبين البيت الأبيض الأمريكي؟ هذا هو خطأه الكبير في حسابات الموقف. فقد كان يتصور، أن تحسين علاقاته مع أمريكا، يعني أن تبارك الولايات المتحدة، بعد ذلك، احتلاله لدولة الكويت. أما إذا اتخذت مصر الموقف المبدئي، الذي يتفق مع الشرائع الدولية، فإن مصر تكون خاضعة لضغط أمريكي. وهل ضغطت علينا فرنسا، أيضاً؟ وهل ضغط علينا الإتحاد السوفيتي؟ وهل ضغطت علينا بريطانيا؟ وهل ضغطت علينا إيطاليا؟ وهل ضغطت علينا كل دول أوروبا بغربها وشرقها؟ وهل ضغطت علينا دول العالم الثالث، ودول العالم الإسلامي؟ وهل ضغطت علينا الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي اتخذت قراراً إجماعياً، بطلب الانسحاب العراقي، وعودة الحكم الشرعي؟ أين هو ضغط المملكة العربية السعودية؟

          لقد كان صدام حسين على أحسن العلاقات مع المملكة العربية السعودية. بل إنه طلب، فجأة، من خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبدالعزيز، في إحدى زياراته للعراق، توقيع معاهدة عدم اعتداء بين البلدَين. أنا ذُهلت لمّا سمعتها. وسألت الملك فهد: إيه الحكاية؟ قال لي: ده فاجأني بها. فاستغربت. ولما لقيت كده، قلت أمضي. وتساءل الملك فهد، حينئذٍ، عن الدواعي لعقد هذه المعاهدة، وخاصة أن اتفاق الدفاع المشترك، بين الدول العربية، يفي بالغرض. أما أن كل واحد، يعمل اتفاق عدم اعتداء بيننا وبين بعض. ده إحنا قاعدين مخونين بعض ـ كلنا. يعني في الحالة دي، لازم أمضي اتفاقية عدم اعتداء، مع كل اللي حوليه كلهم. و فيه عدم ثقة، إذاً. أو فيه شيء بيدبَّر. ومع ذلك فقد استجاب له. ووقع المعاهدة، وهو في غاية الاستغراب، وأثبتت الأحداث، بعد ذلك، أنه كان يسعى إلى خداع العاهل السعودي؛ في الوقت الذي يضمر فيه العدوان على الكويت، ثم يتقدم بقوات من الجيش العراقي، بعد احتلال الكويت إلى حدود السعودية، مما دعا السعودية أن تتيقظ لهذا الخطر الداهم، ممن التزم بعدم العدوان على الكويت. ولذلك، طلبت القوات، العربية والدولية، للمشاركة في حمايتها والدفاع عن أراضيها.

          ثم قال الرئيس صدام، في هذه الرسالة المكتوبة، لي، أيضاً، إن عودة الكويت إلى ما كانت عليه، معناه سقوط العراق في الهاوية؛ والعراق، الآن، ليس مكانه الهاوية. وإن الذي ينتظره، مثل ما هو شأنه مجد عال. وإنه يرفض كل الأحلام السوداء، التي تطالب بعودة الكويت إلى ما كانت عليه. ويقول لهذه الأحلام، بأن السماء أقرب إليها من هذا الحلم. وأن صاحب الحظ العظيم، هو الذي يشارك في مسار معركة الشرف والنصر، (ده مكتوب، مش بألّفه من عندي).

          ومع ذلك، أيها الإخوة والأخوات، ورغم هذه الإتهامات، فإنني لم أتردد، أيضاً، في أن أبذل له المزيد من النصح الخالص، والرجاء الصادق. وبعثت إليه برسالة أخرى، حملتها لسفير العراق، وأوضحت له فيها، أن القوات المصرية ـ  بعد ما أرسلت القوات على طول، حبيت أفهّمه، أن إحنا لانتأمّر على بعض ـ.