إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية، بعد "عاصفة الصحراء" حتى نهاية عام 1991









وثيقة

وثيقة

كلمة وزير خارجية الأردن، الدكتور كامل أبو جابر

في مؤتمر مدريد للسلام

في 31 أكتوبر 1991[1]

    إنه لمن دواعي غبطتي وسروري، أن أستهل كلمتي بتوجيه الشكر إلى حكومتَي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، على رعايتهما المشتركة لهذا المؤتمر التاريخي. وإننا إذ نثمن جهودهما، التي حملتنا إلى هذا المؤتمر، فإننا نوّد أن نؤكد، أن هذه المناسبة، تمثل، بالنسبة إلينا، نقطة تحوّل نهائية، من انزلاق نحو كارثة حتمية، لشعوبنا، وللمنطقة، وربما للعالم بأسْره، إلى عصر جديد يشاد فيه، بشكل لائق، سلام حقيقي وأمل وحياة. وإن أطراف هذا النزاع المزمن، والمأسوي، كافة، يتطلعون إلى دعمكما المستمر في مساعدة الفرقاء على تحقيق السلام العادل، الذي تستحقه شعوب الشرق الأوسط، وتحتاج إليه.

   كما نحيّي صاحب الجلالة، الملك خوان كارلوس، حامي حمى الديموقراطية الأسبانية، ورئيس وزرائه، السيد فيليبي جونزاليس، وحكومة أسبانيا وشعبها، لاستضافتهم المؤتمر في مدريد. ونشكرهم على ضيافتهم الكريمة، واستقبالهم الحارّ.

   إنها، حقاً، لحظة تاريخية. الحلم فيها كبير. والقضايا المتصلة بها في غاية الأهمية. وفي خطابه، الموجه إلى المؤتمر الوطني الأردني، في الثاني عشر من الشهر الجاري، حدد جلالة الملك الحسين جوهر هذا التحدّي، عندما تحدث عن آفاق السلام الحقيقي، وما تنطوي عليه من معانٍ، في شأن مستقبل أبناء سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ الأب الكبير للعرب واليهود.

   وتجدر الإشارة إلى أن أسبانيا، تسعى إلى تكريم العرب واليهود، في عام 1992، وذلك في إطار ذكرى الأندلس والسيفارد. فقد ساهم كلاهما في بناء حضارة غنية، تعتبر مفخرة، لا لأسبانيا فحسب، بل للإنسانية جمعاء؛ إذ كانت ثمارها لكل أبناء البشر.

   إنه ليس بالمستحيل، أن يبشر هذا المؤتمر بفجر حقبة جديدة، من شأنها الإسهام المشترك في تحقيق ذلك، أصبحت، مرة أخرى، في متناول اليد. ولا بدّ لكل فرد، أن يتذكر ما جاء في كتاب الله الكريم: ]يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[ w.

   وإذا كان لهذا المؤتمر، أن يحقق شيئاً، فليكن ذلك وضع نهاية لاعتقاد إسرائيل، أن موقفها، هو الأسلم والأصح، الأمر الذي جعلها تعيش بقوانين وأحكام خاصة بها، حتى الآن. وإضافة إلى ذلك، فإن هذا المؤتمر، هو بمثابة اختبار لصدقية القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، وحقوق الإنسان.

أيها السيدات والسادة.

    إن الأردن، يشارك في هذا المؤتمر، بكل نية حسنة. إن رؤيتنا، التي نحملها، لا تتوقف عند وضع حدّ نهاية لحال الحرب، أو التوصل إلى هدنة أخرى، بل تتعدى ذلك إلى سلام دائم، وعادل، وشامل ... فمنذ بداية القرن، لم تعرف منطقتنا هذه سوى العنف وعدم الاستقرار. وقد حان الوقت لكي تنعم بالسلام.

   إن المطلوب، ليس النظر بالبصر فقط، بل التمعن بالبصيرة، كي نمكّن أنفسنا من أن نرى المستقبل جيداً، ونقوّم النتائج المترتبة على غياب السلام. فقد عاشت شعوب هذه المنطقة، أطول مما يجب، أسيرة أحقادها التاريخية وشكوكها وتنافرها.

   ومن هنا، فإننا نسجل، للرئيس بوش، تقديرنا لمساعيه الحميدة، ولما لقيت هذه المساعي من دعم، من لدن الرئيس جورباتشوف، آملين في استمرار اهتمامهما ودعمهما الشخصي، بل إننا نأمل أن ترتفع وتيرة هذا الاهتمام، وهذا الدعم، خلال عملية المفاوضات.

   إننا نحضر هذا المؤتمر، مستندين إلى موقف معنوي قوي، مدعوم بسجل حافل بالاعتدال، والرؤية الحكيمة، منذ نشوء دولتنا، في العصر الحديث.

   ويمثل النزاع المأساوي، الذي نحن في صدده، أقدم موضوع، تضمّنه جدول أعمال هيئة الأمم المتحدة، والذي على رغم ما يبدو عليه، وكأنه ذو طابع إقليمي، فان أبعاده الدولية كثيرة، وجلية. وعلى خلفية أزمة الخليج، بشكل خاص، يقف هذا النزاع، ليضع على المحك، وبشكل صارم، لا صدقية هيئة الأمم المتحدة فحسب، بل صدقية الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن. وعقب حرب الخليج بالذات، أخذ الرئيس بوش على عاتقه مهمة العمل الجادّ، من أجْل حلّ المشكلة. ونودّ، في الحين ذاته، التعبير عن تقديرنا لمشاركة الاتحاد السوفيتي في هذا الجهد، وتقديرنا لدعم المجموعة الأوروبية. وإنه لمن دواعي سرورنا، أن يجد جهدنا في هذا المؤتمر، قواعده في الشرعية الدولية، الممثلة بقرارَي مجلس الأمن (242) و(338)، واللذين ينصان على مبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة، ومبادلة الأرض بالسلام.

   صحيح أن معظم العرب، رفضوا، عام 1947، التفكير في التسوية من منطلق غضبهم وشعورهم بالظلم والعقوق. لكن صحيح، أيضاً، أنه كان في المنطقة عرب آخرون، كانوا راغبين في التوصل إلى سلام.

   ومنذ الثلاثينات والأربعينات، بل حتى يومنا هذا، تركت الساحة للمتطرفين.

   وفي خضم صراعات الأفكار والرؤى والجيوش، التي تعاقبت منذ ذلك الوقت، لم يعد للمنطق، بل لم يعد للإنسانية ذاتها، في الغالب، مكان داخل حدود الخيارات.

   وتدهورت الحال، ليصل الجميع إلى درك المجتمعات البدائية، حيث حلّ استخدام القوة الغاشمة محل النهج المتحضر، لقد حلت القوة محل الحق. إن المملكة الأردنية الهاشمية، التي لي الشرف في تمثيلها، كانت، منذ بداية النزاع، إلى جانب كل مسعى، استهدف حلّه بالطرق السلمية. وقد ساهم جلالة الحسين في صوغ قرار مجلس الأمن الدولي، الرقم (242)، الذي يشكل أساساً لهذا المؤتمر.

أيها السيدات والسادة.

    وفي هذا اليوم، نقف أمام الفرصة التاريخية لتحقيق السلام، في أرض، لم تذق طعمه، منذ أمد بعيد. علينا أن نتذكر أن المتطرفين والرافضين، الذين يتحدثون بالعبارات المطلقة، لا يزالون في مواقعهم، يتربصون، ويترقبون، ويطلقون الشعارات المعتادة، والتهديدات المسمومة.

   وبقدر ما يمثل السلام في ذاته، من خير، باعتباره قيمة متأصلة، فهو، في الحين ذاته، معركة ضد المنظرين، الذي يقتاتون على الأضغان القديمة. ويرى البعض، أنه قد لا يكون هناك موجب لتسوية الوضع، ويفضل تركه للأجيال القادمة. أما أصحاب الرؤى، فإنهم ينظرون إلى الأمر، بمنظار مغاير. وانطلاقاً من نظرتهم، التي تفرضها الضرورة، من أهمية عاجلة للتوصل إلى تسوية، في هذه الآونة بالذات من تاريخ العالم، وما تعكسه من أوجُه اعتماد الدول والشعوب، بعضها على البعض الآخر ـ قال جلالة الملك الحسين: "إذاً، فالأمر يعنينا، حاضراً ومستقبلاً، لأنه يتصل بوجودنا وبقائنا، وبدونه نتعرض ـ لا قدّر الله ـ لمخاطر، يعلم الله، وحده، حجمها ومداها".

   ومن هنا، تتضح أهمية التركيز على تجاوز الحاضر، من أجْل البحث عن المستقبل. إن استمرار البقاء، ضمن الأطُر الجامدة لأيديولوجيات دعاة الأحكام المطلقة، يعني سد المنافذ على التخلص من أغلال الكراهية.

   إننا نقدر ما تضمنه خطاب الرئيس بوش، الموجَّه إلى الكونجرس الأمريكي، في السادس من شهر مارس من عام 1991، ونحترمه حيث قال: "إنني آمل، أن تنطلق قوى السلام من بين أهوال الحرب. لقد علّمنا العصر الحديث، أن الجغرافية، لا يمكنها أن تكفل الأمن؛ وأن الأمن لا يتأتى عن القوة العسكرية، وحدها … وفي هذا الوقت، لا بدّ للأطراف كافة، أن يكونوا على بيّنة من أن تحقيق السلام في الشرق الأوسط، يتطلب التوصل إلى حلّ وسط".

   لا يجوز للسلام، بل لا يمكنه، أن يعكس صورة التوازن العسكري، القائم بين أطراف النزاع، الآن، بل لا بدّ أن يعكس الأمل في مستقبل أفضل، من شأنه أن يضع نهاية، وعلى نحو قاطع، للعيش في خضم مآسي الصراعات؛ وأن يحملنا إلى عالم جديد، يتبدد فيه الظلام والمآسي وكتل الضباب، التي تحوط حياتنا. وكما قال أينشتاين: "إنّ السلام، لا يمكن المحافظة عليه بالقوة، بل بالتفاهم". وهكـذا، فلا يكون السلام سلاماً، إذا تحقق بأي ثمن. ينبغي أن يكون السلام مشرّفاً، كي نتمكن، والأجيال القادمة، من العيش في ظله. إننا نتطلع إلى سلام دائم، ينبثق عن هذه المفاوضات. فالسلام الدائم، هو الذي يتحقق نتيجة تفاهم متبادل بين الأطراف المتنازعين، شريطة ألاّ يترتب على ذلك أية تضحية بالحقوق، أو انحراف عن مبادئ القانون الدولي.

   ويقوم الموقف الأردني على فرضية بسيطة، وواضحة، وهي أن الموقف الأخلاقي العادل أكثر صلابة من القوة الغاشمة. وعلى رغم إدراك العالم، والإسرائيليين أنفسهم، لبراءتنا مما ارتُكب ضدهم من جرائم، فإن غضبهم المفعم بالسخط، لا ينم عن حس عدالة متوازية. وقد شاءت الأقدار، أن يكون نصيبنا، في الأردن، أن نعايش التطرف، ونعاني منه، ونحتوي قواه الجامحة. فقد تسبب النازيون، وآخرون، في إطلاق مشاعر الصهيونية الجريحة، ليدفع الفلسطينيون والأردنيون ثمنها، في النتيجة.

   إن الله، وحده، هو الذي يعلم كم هو الثمن، الذي ما زلنا نقدمه، في مقابل خطايا الآخرين. لقد كُتب على وطننا وتراثنا وشعبنا، بل حتى على أرواحنا، وعلى كل ما هو عزيز ومقدس لدينا، كُتب علينا، أن نعيش السلب والتحريف، والاضطرار إلى التكيّف مع وقائع جديدة، وحقائق مصطنعة، ملفقة، خلقت على الأرض، بقسوة وشراسة.

   وهكذا، وصل الأمر بنا إلى الحدّ، الذي لا نكتفي منه بالسؤال عمّا ينبغي لنا القيام به فحسب، بل الترحيب بالجهد الحالي. ويصبح الأمر أكثر إيلاماً، عندما نمعن في العالم العربي، بشكل عام، وفي الأردن، بشكل خاص، في التأمل في واقعنا. ففي الأردن، وخلال أربعة عقود، وجدنا أنفسنا مضطرين، في ثلاث أزمات، إلى إيواء موجات كبيرة من المهاجرين المعدمين الحائرين، ممن أجبروا على ترك ديارهم أو أوطانهم وبيوتهم.

   إننا ندرك تماماً، أن التسوية، عن طريق المفاوضات، لا تمثل، بطبيعة الأمور، ذروة العدالة. ومع ذلك، ومن خلال معالجتنا الأردنية التقليدية، التي تتميز بالمنطق والاعتدال، وعلى هدى ما لدينا من رؤى مستقبلية ـ فقد جعلنا من الوفاق والتوازن، حجر الأساس لمنهجنا السياسي، وذلك منذ عام 1967. وعلى حدّ تعبير جلالة الملك الحسين: "إن السلام ضروري لنا، من أجْل أن نعيش حياة طبيعية… لقد جعلنا من السلام رمزاً لحياة أفضل، للأجيال القادمة ... لقد أصبح السلام هدفاً قومياً".

   ولهذا السبب، فإن لصيغة الأرض في مقابل السلام، وقعاً حقيقياً، ذا مدلولات أعمق مما يحمله أي مبدأ أو شعار آخر. فصدى طبول الحرب، يتردد في قلب المنطقة ووجدانها. ألمْ يحن الوقت، إذاً، ونحن نقف على أبواب القرن الحادي والعشرين، كي يخيم السلام على ربوعها؟

أيها السيدات والسادة.

    إن الأردن، يدخل هذه العملية، من موقع الاقتدار المعنوي، ومن منطلق ثقته التامة، بأن في وسع العقلاء التوصل إلى حلول معقولة؛ وبأن العدل، لا بدّ أن يسود، بالنتيجة؛ وبأن الصلح، هو، حقاً، سيد الأحكام؛ وأن منطق السلام، يفرض تسوية الخلافات، لا النزوع إلى الحرب. وخلاف ذلك، فإننا قد نصبح، في الحقيقة، أصحاب بُعد واحد، مجردين من الجوهر والروح، تدفعنا الغرائز البدائية لشريعة الغاب التي تقودنا، بدورها، إلى الهلاك.

   علينا أن ننبذ حال الخوف، وأن نبتعد عن شبحه، وندرك أن الدول، شأنها شأن أبناء البشر، يمكن أن تقدم على الانتحار، نتيجة خوفها من الحياة. إن مزيداً من الأرض، لا يعني مزيداً من الأمن. فالاحتلال يتعارض مع كل مبدأ قانوني. والشكل الذي أخذه الاحتلال، في الأراضي العربية، يتنافى مع أحكام ميثاق الأمم المتحدة، واتفاق جنيف الرابع. وعليه، فإننا نقول، إن مصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، يخالفان أحكام القانون الدولي مخالفة صريحة.

   إن العدالة، التي يسعى الأردن إلى تحقيقها، تتطلب اللجوء إلى القانون، القانون الذي ينظم تصرفات البشر، ويمنحهم الحرية، كي يعيشوا أحراراً في عالم مستقر منظم، يقوم على المؤسسات. ويمكن أن يكفل عملية توزيع الأعمال والموارد. وبذلك، أيضاً، يمكن أن تؤمن القدرة على البقاء والاستمرار، في ظل من الحرية والأمن. إن تكنولوجيا الحرب، قد تجاوزت إمكاناتنا لتقدير ما تحمله، في ثناياها، من أخطار ودمار. وإلاّ، كيف لنا أن نفسر مواصلتنا التفكير في أممنا، بلغة القذائف الصاروخية، والأسلحة، النووية والبيولوجية والكيماوية؟ لا بدّ لمهمتنا، أن تتجاوز القضايا، التي تتعلق بمجرد البقاء، فتتجه نحو البحث عن مستقبل جديد.

   لهذا السبب بالذات، ناشد جلالة الملك الحسين، من خلال خطابه أمام المؤتمر الوطني، في تاريخ الثاني عشر من أكتوبر من عام 1991، ناشد المجتمع الدولي، طالباً مساعدته ودعمه لعملية السلام، حيث قال: "إن قضيتنا، ليست بيننا وبين إسرائيل فقط، بل بين العالم وإسرائيل، أيضاً. إنها بين سيادة القانون الدولي والتمرّد عليه. فالعالم كله، لا يوافق على ما تقوله القيادة الإسرائيلية، لأنه مخالف للشرعية الدولية، بل إن نسبة متزايدة من الشعب الإسرائيلي، تقترب من الموقف العالمي". وبعد ما أشار جلالته إلى التوجه العالمي نحو متطلبات السلام، قال: إن العرب، وبقية شعوب العالم، يلتقون في رغباتهم، ومصالحهم المتبادلة، من أجْل الوصول إلى حلّ سلمي.

   هذه هي القاعدة الأولى للموقف الأردني: البحث عن سلام، يؤيده العالم العربي بأكمله، بل المجتمع الدولي بأسْره، والفلسطينيون بصورة خاصة. إن لدى الفلسطينيين، ولدينا، قضية عادلـة، لا بدّ من حلها بعدالة وإنصاف.

   أما القاعدة الثانية التي انطلقنا منها في مشاركتنا في عملية السلام، فتقوم على توقّعنا، أننا لن نواجه حالاً من التفاوت والمقاييس المزدوجة.

   وتشمل القاعدة الثالثة، أن قضيتنا، وقضية إخواننا الفلسطينيين، قضيتان مترابطتان، بحكم أواصر التاريخ والتراث والدين واللغة والديموجرافيا والجغرافيا، مثلما هما متشابكتان بالمعاناة الإنسانية والأماني القوية. فقد قال جلالة الحسين، في كلمته المشار إليها آنفاً: "إننا نفضّل، أن يكون هناك وفد فلسطيني مستقل، برغم عدم اعتراضنا على توفير مظلة لإخواننا الفلسطينيين، انطلاقاً من إدراكنا، أن الأردنيين والفلسطينيين محاصرون؛ وهما الفريقان المتأثران مباشرة، وبشكل سلبي، من استمرار الأمر الواقع، الناجم عن استمرار النزاع العربي ـ الإسرائيلي".

   رابعاً، إن السلام، الذي ننشد، لا بدّ أن يتحقق على أساس قرارَي مجلس الأمن (242) و(338)، وهدف ذلك، هو التوصل إلى سلام حقيقي. ولا بدّ لنا من تأكيد فهْمنا للقرار (242)، أنه ينبثق من مبدأ عدم جواز احتلال أراضي الغير، بالحرب، ومبادلة الأرض بالسلام. فالمداولات التي سبقت اتخاذ القرار، والتي ساهم الأردن في وضعها، كانت مبنية على هذا الأساس. وموقفنا هذا، يستند، بشكل حازم، إلى قرارات هيئة الأمم المتحدة، والقانون الدولي. وبطبيعة الحال، فإننا على بيّنة تامة، من أن قيام دولة إسرائيل نفسها، إنما جاء نتيجة لقرار الأمم المتحدة، الرقم (181)، في التاسع والعشرين من شهر نوفمبر من عام 1947. وعلى أساس هذه القرارات، وطبقاً للمبادئ العامة للقانون الدولي، يطالب الأردن بانسحاب القوات الإسرائيلية الكامل، من كل الأراضي، الأردنية والفلسطينية والسورية واللبنانية، المحتلة.

   إنّ الأبعاد الثلاثة للموقف الأردني، وهي البُعد الأردني، والبُعد الفلسطيني، والبُعد الإقليمي، تستند جميعها إلى القانون الدولي. فالقرار (242)، هو وثيقة دولية نافذة، تم الاتفاق عليها، بالإجماع، من المجتمع الدولي. وهي، بذلك، ملزمة لجميع أعضاء الأمم المتحدة، بموجب أحكام المادة 25، من ميثاق الأمم المتحدة. والسيادة العربية، يجب أن تعود إلى القدس العربية. وفي إطار الحديث عن السلام، لا بدّ من أن تمثل القدس، بالنسبة إلى من يدينون بالأديان التوحيدية الكبيرة الثلاثة، جوهر السلام ومعناه. فإرادة الله ـ تعالى ـ هي التي شاءت أن تكون لهذه المدينة التاريخية تلك الأهمية الكبيرة، لدى أتباع هذه الديانات.

   إن المستوطنات غير شرعية، فينبغي إزالتها، لا توسيعها والإضافة إليها. مثلما ينبغي حل قضية اللاجئين الفلسطينيين المشردين، بموجب قرارات الأمم المتحدة، ذات العلاقة. ويجب أن يسمح للفلسطينيين بممارسة حقهم في تقرير المصير، في وطن أجدادهم. ويمثل تحقيق هذه المطالب اختباراً لصدقية قرارات الأمم المتحدة. ودعوني أتحدث بوضوح، إن الأردن، لم يكن أبداً فلسطين، ولن يكون كذلك. إن الانسحاب من لبنان، وتطبيق قرار مجلس الأمن 424، هو، أيضاً، مطلب ضروري لتحقيق سلام إقليمي.

   خامساً، السلام الذي ننشد نتيجة المفاوضات هو سلام دائم وعادل وشامل. إنه السلام، الذي ينبغي أن يركز على عدد من القضايا الإقليمية، مثل الحدّ من التسلّح، والأمن الإقليمي، والمياه، والبيئة، ومصير اللاجئين والمشردين الفلسطينيين، وتحقيق التوازن الاقتصادي بين شعوب المنطقة، من خلال برامج تنمية مشتركة. لا بدّ أن يستهدف السلام تحقيق الأمن للجميع، كي يشعروا، في أعماق قلوبهم ونفوسهم، بأنهم بمنأى عن التهديد والأخطار، ما دام السلام، الذي يوفر ذلك، يرتكز على العدالة والشرف.

    سادساً، ويقوم موقفنا، كذلك، على ما لدينا من رؤيا، تجاه مستقبل أفضل، من شأنه أن يضع نهاية لما هو قائم حالياً، من مرارة وإحباط. وعلى حدّ تعبير جلالة الملك الحسين، من أجْل أن يمكننا من تحويل هذه المعطيات إلى إيجابيات، تنقلنا من حال المزاج المكتئب، النابض بجرح النكبات، إلى حال المواجهة، وما رافقها، لما يزيد عن أربعة عقود، من معاناة وقلق وآلام، وما طبع حياتنا، الفردية والجماعية، خلالها، من مواقف وعواطف ونمط تفكير ـ إلى حال السلام، وما يعد به، من أمن واستقرار وفرص نماء وازدهار، على صعيد الفرد والمجتمع، سواء بسوء؛ ومن حال اللاحرب واللاسلم، وما يرافقهما، من استمرار الواقع، وازدياد شروره الأكيدة، إلى حال الاطمئنان وراحة البال، التي تزدهر فيها مواهب الشباب وآمالهم.

   إننا ننشد سلاماً حقيقياً، لا يضطر معه الرجال والنساء والأطفال، إلى البقاء، خوفاً، وراء الحصون. إننا نسعى إلى تحقيق سلام مشرّف، من شأنه تمكين شعوبنا من هدم أسوار الخوف والكراهية، مثلما فعل الناس بجدار برلين. ونرغب في أن تحيا شعوبنا فجراً ندياً، وأن تستمتع بدفء يوم جديد، بدل استمرار معاناتها تحت قسوة ظلمة الليل الطويل، الذي شاءت الظروف، أن يكون هو نصيبها، حتى الآن.

أيها السيدات والسادة.

    إن الأمل يحدونا بأن يقدر العالم موقفنا، ويمنحه الدعم والتأييد؛ وهو الموقف المستند إلى تجربتنا السلمية الليبرالية، في مجالات التنمية، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإلى تجربة، تستحق الدعم، في مسيرتها التقليدية المتصلة، نحو بناء الديموقراطية والمؤسسات، وصولاً إلى التعددية السياسية.

   إن الاختبار الذي نواجه، ذو طبيعة محلية وعالمية، في آن، حيث إن أزمتنا الاقتصادية الراهنـة، ما زالت تتفاقم، وقد وجدنا أنفسنا مضطرين إلى استيعاب موجة المهجرين الثالثة، الناجمة عن أزمة الخليج. إن هذا الاختبار، في الحقيقة، هو تحدٍّ للسلام.

   إن أملنا كبير في أن يتجه مؤتمر السلام هذا، نحو إيجاد حل لكل هذه المشكلات، ذات الأهمية البالغة، حل من شأنه أن يوصلنا، ليس فقط إلى انسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك القدس العربية، بل أيضاً إلى رسم الحدود الإسرائيلية، بشكل دائم. وأخيراً، إلى سلام حقيقي.

   لقد أقدمنا على هذه الخطوة الشجاعة، التي تلزمنا انتهاج أسلوب تفكير خلاق، نأمل معه، أن يحمل إلى منطقتنا الاستقرار والرخاء. إن أطراف النزاع، من كلا الجانبَين، يعانون من كثرة ذكرياتهم، في شأن ما مس تراثنا الحضاري، من جروح. وعلينا أن نحاول، بشكل ما، تحقيق التغيير المطلوب.

   لا يمكننا، بعد الآن، مواصلة العيش في شرنقتَين متناقضتَين، في إطار رقعتنا الصغيرة من الأرض، ذات الموارد المحدودة. وهناك الكثير من التزمت العقائدي، الذي يقف حجر عثرة أمام حياة راشدة، ومعقولة. ولا بدّ أن نوضح لأولئك الذين يواصلون التفكير بلغة المطلق، بأن للتاريخ امتداداً زمنياً، لا حدود له. أما البشر، فانهم ليسوا خالدين. وإن جروح حضارتنا، ليست هي الوحيدة، التي تتطلب الشفاء، فهناك، أيضاً جروح الأرض، التي نشأت عن زحف الجيوش، وعن قرع طبول الحرب. فالأرض هي أيضاً، في حاجة إلى المعالجة والترميم. هناك حدود لممارسة القوة. ولعل الوقت، قد حان، ليس فقط لمعالجة الآلام، الذهنية والنفسية، بل أيضاً، لردم الخنادق المحفورة عميقاً في الأرض. وهذا، بلا ريب، يتطلب منا الصبر والمثابرة، مثلما يتطلب حكمة أعمق بكثير من مجرّد الذكاء.

   ولعله من المناسب، أيها السيدات والسادة، أن أختتم كلمتي بقوله ـ تعالى ـ في القرآن الكريم: ]وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[ w  .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته



[1] ترجمة عربية، غير رسمية، عن الإنجليزية، لكلمة وزير الخارجية الأردني، الدكتور كامل أبو جابر، أمام مؤتمر السلام للشرق الأوسط.