إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية، بعد "عاصفة الصحراء" حتى نهاية عام 1991









مقدمة

المبحث الأول

حرب الخليج، وبناء نظام عالمي جديد

في إطار تصاعد الدور الأمريكي، وتفكك الاتحاد السوفيتي

    بدأت الولايات المتحدة الأمريكية، بعد انتهاء حرب الخليج، بالتحرك في اتجاه أكثر طموحاً، ليس هو تحرير الكويت، وتدمير العراق، هذه المرة، ولكن لتعيد ترتيب المنطقة وفق مصالحها. وكان واضحاً لها، أن الصراع العربي ـ الإسرائيلي هو مصدر القلاقل، التي عرقلت خططها النفطية طوال القرن العشرين.

    وهكذا، حددت الأولويات التالية:

  • خريطة سياسية جديدة للمنطقة، تضع في حسبانها أهمية مواطن النفط والثروة، في منطقة الشرق الأوسط.
  • تسوية نهائية للصراع العربي ـ الإسرائيلي، الذي يمثل العقبة الرئيسية، وبؤرة القلاقل.
  • أن يكون القرن الحادي والعشرون بداية قرن، تنفرد فيه واشنطن بالدور العالمي.

    كانت إحدى النتائج المهمة لحرب الخليج، أن أصبح للولايات المتحدة الأمريكية حق أو سلطة رسم خريطة جديدة للمنطقة. وكان ذلك ضرورة حيوية، بالنسبة إليها، ولو بتطويع عوامل الجغرافيا والتاريخ، كما حدث في سوابق أخرى، عرفتها خرائط الدنيا. وكانت أبرز ملامح هذه الخريطة، تسير في الخطوط التالية:

1. الخط الأول

    يفرض نوعاً من الفصل بين سواحل الخليج، حيث النفط، وبين العمق العربي وراءه، في وديان الهلال الخصيب ووادي النيل. أي إبعاد الثروة عن مواقع الكثافة السكانية العربية، خاصة أن منطقة الخليج، يضمها، بالفعل، في إطار تنظيم شبه إقليمي، هو مجلس التعاون الخليجي. ويُشجع على ذلك تزايد دول مجموعة الخليج التصاقاً بعضها ببعض، تحت قيادة المملكة العربية السعودية، التي أصبحت موقنة بعد تجربة العراق في الكويت، أن أمنها، ليس له غير ضمان واحد، هو القوة العسكرية الذاتية، أولاً، ثم الاستعانة بالقوى الخارجية، إذا كان التهديد أكبر من طاقة دول المجلس.

    اضطلع برسم الخط الأول وتخطيطه ريتشارد تشيني، وزير الدفاع الأمريكي، الذي تولى إعداد هذا الجانب من الخريطة الجديدة، من طريق اتفاقيات عسكرية للأمن، بدأت بالكويت.

2. الخط الثاني

    يعتمد فكرة، ظهرت في أوروبا الغربية، وتقضي بنوع من التعاون الجديد، بين دول شمال البحر الأبيض المتوسط وجنوبه، وينضم إليها بعض دول من شرقه. وميزة هذه الفكرة، أنها تلفت عن خصوصية القومية العربية، وتوجهها نحو اتجاه آخر، يستطيع أن يدور حول شواطئ الحضارات القديمة. وتدخل في إطار هذا التعاون الجديد، دول مثل سورية وإسرائيل ولبنان والأردن، في الشرق؛ ومصر وتونس والجزائر والمغرب وليبيا، في الجنوب، إلى جانب دول غربي أوروبا وتركيا.

    ومن خلال هذا الخط، يمكن أن يتحقق عدة أهداف، منها:

أ.  ضبط التفاعلات في شرق البحر الأبيض المتوسط وجنوبه، واستيعاب أزماته. وهذا في حد ذاته، يرضي أوروبا، ويمنحها الإحساس بشيء من الوجود في منطقة، تُعَدّ، بالنسبة إليها، منطقة جوار، جغرافي وتاريخي. كما أن مثل هذا الترتيب، كفيل بأن يريح أوروبا الغربية من همّ يؤرقها، وهو تدفّق موجات الهجرة إليها، من السواحل الجنوبية.

ب. إمكان دخول إسرائيل وسط المحيط، الذي تعيش فيه، واندماجها فيه، مطمئنة بهوية نصف شرق أوسطية ونصف أوروبية. ثم إنها في وسط هذا المحيط، تستطيع أن تشارك في مجتمع، اقتصادي وثقافي، يزيل عنها وحشة الغربة، التي حصرتها عقوداً متصلة.

ج. تحجيم دور الجامعة العربية، وذوبانها في إطار هذه الخريطة الجديدة.

    وهكذا، فإنه برسم خط على الخريطة، حول سواحل الخليج، وخط آخر، حول سواحل البحر الأبيض المتوسط، وظلل بينهما، تصبح منطقة القلب، في العالم العربي، مفتوحة، ليس لإعادة الرسم فقط، ولكن لإعادة التشكيل، كذلك[1].

3. الخط الثالث

    يستند إلى نشوء نظام عالمي جديد، تنفرد فيه الولايات المتحدة الأمريكية، كقوة عظمى، تستطيع أن تتدخل في رسم السياسة العالمية، وتحقق مصالحها من خلاله، سواء باستخدام الدبلوماسية أو القوة العسكرية، إذا لزم الأمر، خاصة إن الساحة العالمية، بعد حرب الخليج، أصبحت مهيأة لذلك.

    وكان لأزمة الخليج وحربه، أثرهما في النظام العالمي الجديد، ثم في السياسة الأمريكية، بعد الحرب، وفي تفكك الاتحاد السوفيتي ونتائجه.

أولاً: حرب الخليج والنظام العالمي الجديد

    لعل الفارق الأساسي، بين أزمة الخليج وغيرها من أزمات الشرق الأوسط، أنها الأولى، التي تثور في ظرف، يتشكل فيه نظام عالمي جديد، لم تستقر كل معالمه بعد. وقد ظهر بعض العوامل، التي ساعدت على تشكيل هذا النظام. منها تدهور المكانة النسبية للاتحاد السوفيتي على قمة النظام الدولي، وتفككه بعد ذلك؛ وصعود قوى جديدة، تتمثل في اليابان في شرقي آسيا، وألمانيا في وسط أوروبا؛ وانتهاء الحرب الباردة. ومنها، كذلك، الأولوية التي أصبحت القوى الكبرى توليها التنافس الاقتصادي، ليكون بديلاً من الصراع الأيديولوجي، الذي ساد في ظل نظام القطبية الثنائية. ويستتبع الاهتمام بالتقدم في تطبيق التكنولوجيات الراقية، في مجالات الإنتاج والخدمات، السعي إلى تسوية المشاكل الإقليمية، التي يمكن أن تفتح باب إلى صراع مسلح بين القوى الكبرى. كذلك، يقتضي الاتفاق على عدد من القواعد الأساسية، لإدارة العلاقات الدولية، بما يحقق الاستقرار الضروري للنجاح في تحقيق نمو اقتصادي مطّرد، في دول الشمال، ومد آثاره إلى مناطق مختارة في الجنوب، خصوصاً في شرقي آسيا، وبعض دول أمريكا اللاتينية.

    لقد قيل إن التصالح بين الشرق والغرب، اقتضاه "النظام العالمي الجديد"، بمعنى أنه هو الذي حكم قواعد الانتقال من عصر المواجهة إلى عصر التعاون وأرساها. كما قيل إن هذا النظام كفيل بضمان نشر هذا المنهج، ليشمل العالم كله، وبأن يصبح مرجعاً في معالجة النزاعات بين الشمال والجنوب، وليس تلك فقط التي حكمت الحرب الباردة بين الشرق والغرب.

    وربما كانت أزمة الخليج، هي أول دليل على أن مثل هذا التعميم للنظام العالمي الجديد، قد وفر الأهلية لمعالجة مشاكل الجنوب، وليس مشاكل العلاقة فقط بين الشرق والغرب، بل مهد للتدخل من أجْل حظر اللجوء إلى الحرب، ولتحاشي العنف بصفة عامة، بل استغلاله مبرراً، أحياناً، كمظلة من قِبل الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، من أجْل شن الحرب، في بعض مناطق من العالم، بحجة تحقيق الأمن العالمي.

    وقد لاحت في الأفق عدة أسئلة، منها:

1.   كيف تبرَّر الحرب، باسم النظام العالمي الجديد، وقد كان تجنُّبها، هو الدافع، أساساً، إلى نشوئه؟

2.   إلى أي حدٍّ، كان الحديث عن النظام العالمي الجديد، مبرراً لانهيار الكتلة الشرقية، داخل إطار "نظام ما"، بدلاً من أن يكون، بالفعل، الأساس، القانوني والمؤسسي، لنظام المستقبل؟

3.   هل هناك معنى واحد، ومحدَّد لمصطلح "النظام العالمي الجديد"، أم أن معاني شتى، تختلف باختلاف موقع المتحدث على خريطة السياسة الدولية؟

    وكان ميخائيل جورباتشوف (Mikhail Gorbachev)، رئيس الاتحاد السوفيتي الأسبق، قد برر "البروسترويكا" من منطلق أنها إيذان بنظام عالمي جديد. واستطراداً، فهو أول من تحدث عن إحلال التعاون محل المواجهة، بين الشرق والغرب. وأول من تحدث عن أننا، في صدد عالم، أصبح فيه "للاعتماد المتبادل، والتداخل والتكامل" بين الدول جميعاً، أولوية على المواجهة بينها. وهكذا، يمكن أن يُطرح سؤال جديد: ما مصلحة الغرب، في أن يتبنى هذا النظام العالمي الجديد؟ لقد كان للرأسمالية العالمية أزماتها المزمنة. ولكنها لم تكن على وجه اليقين في صدد أزمات، تعرضها للانهيار، شأن تلك التي عصفت بالكتلة الشرقية. ومن هذه الوجهة، كان هناك المبرر القائل، بأن من مصلحة الغرب، أن تنهار الكتلة الشرقية داخل إطار "نظام ما"، حتى لا يترتب على انهيارها مضاعفات، يتحمل الغرب عواقبها. وبعبارة أدق، أن يُحتَكَم إلى نظام، تُحتَوَى، بمقتضاه دول الكتلة الشرقية داخل إطار "ضوابط"، تحُول دون انتشار عدوى الفوضى، المصاحبة لانهيارها، إلى الغرب.

    وبهذا المعنى، فإن النظام العالمي الجديد، ليس بنظام، ولا هو بمبادئ؛ ولكنه يتعلق بموازين قوى دولية معينة، وبظروف وملابسات تاريخية معينة. كان هناك ضرورة موضوعية لنشوئه، في إطار تغيّر النظام العالمي، من ثنائي القطبية، إلى عالم آخر، تنفرد فيه الولايات المتحدة الأمريكية "بالقطب الأحادي"، وتسيطر عليه. والحقيقية أن أزمة الخليج، كانت أحد الأسباب الرئيسية، الكامنة وراء طرح فكرة النظام العالمي الجديد.

    لقد اتُّهم صدام حسين، بأنه كان الصورة السيئة، في النظام القديم؛ إذ إنه تطوع، بعد سقوط الشاه، للنهوض بدور "حامي" النفط و"شرطي" المنطقة في مصلحة الغرب، على الرغم من وصفه نفسه بأنه قائد، تحكمه أيديولوجية "قومية"، "بعثية". فلقد قال الغرب عنه، إنه قد صور الحرب، التي خاضها ضد إيران، على أنه أراد بها صد ثورة الخميني، ورد الأيديولوجية الإيرانية الثورية، التي كانت تهدف إلى ضرب مصالح الغرب النفطية في المنطقة، ومن ثم ضمان استمرار تدفق النفط الخليجي إليه، من دون انقطاع أو عقبات. وقد قيل إن صدام حسين، قد رأى أنه لم "يكافأ" المكافأة، الموائمة لتضحيات شعبه، خلال حرب دامت ثماني سنوات، في نزاع، كان الغرب المستفيد الأكبر منه، بل اعترف بأنه مدين لصدام بموقفه، بدليل ما قدمه من دعم للجيش العراقي، وبدليل إمداده بصور الأقمار الصناعية، عن تحركات القوات الإيرانية، التي تلقتها بغداد من البنتاجون.

    واعتقد صدام حسين، أنه قد ورث مركز شرطي الخليج من شاه إيران، وأن واشنطن، تراه مؤهلاً للنهوض بهذا الدور. وأياً كانت الملابسات المحددة، التي فجرت الأزمة، فإن المؤكد أنها قد أسفرت عن إشكالية ذات دلالات، تتجاوز الظروف العارضة، وحدها، إلى أُسُس النظام العالمي الجديد نفسه، الذي ينطلق من أن كل دولة، ذات مقعد في الأمم المتحدة، هي صاحبة سيادة مطلقة، ولا يجوز لدولة أخرى، أن تنال منها، على أي نحو، فضلاً عن ابتلاعها وإزالتها من الخريطة؛ أياً كانت الدعاوى والمبررات. لقد عَدّ المجتمع الدولي عملية التهام الكويت تمثل عدواناً، لا من منطلق تمسك كافة دوله، غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، بفكرة النظام العالمي الجديد فقط، ولكن لأسباب كثيرة أخرى، كذلك. إذ باتت تسوية النزاعات في هذا العصر من طريق قوة السلاح، غير جائزة، فهو ينادي بضرورة تسويتها بالوسائل السلمية.

   وواقع الأمر، أن الولايات المتحدة الأمريكية، استطاعت أن تستعين بالنظام العالمي الجديد من أجل تبرير سلوك، أسفر، في النهاية، عن هيمنتها، بوجودها وقرارها، على منطقة النفط، بينما استطاعت أن تصور صدام حسين متمرداً على ذلك النظام وخارجاً عليه.

   بدت واشنطن مهيمنة على النظام العالمي الجديد، إذ أصبحت في مركز، يمكنها من إلزام الأقطاب المنافسة لها بامتثال بتصوراتها ومخططاتها المستقبلية. بل امتثلت الدول الأوروبية، بما فيها فرنسا، قرار الحرب، وهو قرار أمريكي، في الأساس. كما حاول جورباتشوف أن يتقدم بمبادرات، حتى بعد نشوب الحرب، وقبل اكتسابها صفة الحرب البرية، التي كان من المتوقع أن تتسبب بخسائر بشرية كبيرة. واستجاب النظام العراقي مبادرات جورباتشوف. ولكن واشنطن، رأت أن استجابته غير مُرضية. وقررت شن الحرب البرية. كانت تلك إشارة واشنطن إلى موسكو، أن السوفييت يملكون حق المبادرة، وسوف تنظر إلى مبادراتهم بما تستحقه من جدية، ومن منطلق أنها حسنة النية؛ ولكنها في النهاية، هي التي تقرر.

    وهكذا أبرزت الحرب الولايات المتحدة الأمريكية، قطب وحيداً، فرض على "أقطاب الشمال" جميعاً، التسليم بقيادته، ولقّن متمردي الجنوب درساً لن ينسوه. فتحقق لها التفرد بقِمة النظام العالمي الجديد.

   ومن الواضح، أن حرب الخليج، كانت امتحاناً لما يسمى "النظام العالمي الجديد"، وأنه كان السبب، أو أحد الأسباب الرئيسية، لقرار واشنطن إرسال قواتها إلى المملكة العربية السعودية. ففي خطاب الرئيس بوش، أمام الكونجرس، في 11 سبتمبر 1990، أعلن بدء عصر جديد، تملأه آمال الحرية والسلام لكل الشعوب. وأكد أن هذا العصر الجديد، لن تكتب له الحياة، إذا فشل العالم في مقاومة العدوان. كما حدد أربعة أهداف للسياسة الأمريكية، في معالجتها لأزمة الخليج، وهي الانسحاب غير المشروط، وإعادة الحكومة الشرعية، وتأمين منطقة الخليج واستقرارها، وحماية الرعايا الأمريكيين. وأكد أن أزمة الخليج، تقدم فرصة نادرة، للتحرك نحو فترة تاريخية من التعاون. وأضاف هدفاً خامساً، أن نظاماً عالمياً جديداً، يمكن أن يتحقق، نظام يخلو من رعب التهديد، نظام أقوى في تحقيق العدل، وأكثر أمناً وسلاماً".

    وبعد الحرب مباشرة، قال الرئيس بوش للكونجرس: "إن الأمل في تحقيق سلام دائم، كان بعيد المنال، من قبل. أما الآن، فإننا نشاهد موقفاً عالمياً جديداً". كما ذكر أن النظام العالمي الجديد، لا يعني التفريط في السيادة الوطنية للولايات المتحدة الأمريكية، أو مصالحها الإستراتيجية. وأنه يقصد بهذا المعنى، العمل، بالتعاون مع الدول الأخرى، لردع العدوان، وتحقيق الاستقرار والرفاهية والسلام.

    كما حدد عدة مبادئ، تحكم العلاقات بين الدول. وهي: حل المشاكل بالوسائل السلمية؛ الوقوف ضد العدوان، في أي مكان من العالم؛ خفض التسليح في العالم؛ تحقيق العدالة للجميع. ووصف حرب الخليج بأنها أول اختبار عملي للنظام العالمي الجديد.

   قبل انتهاء الحرب الباردة، كان يهيمن على الساحة الدولية قوّتان عظمَيَان. وكانت الصراعات الإقليمية، تدار بالوكالة، بمعنى أن كل طرف من طرفي أي صراع إقليمي، كان ينتمي إلى إحدى القوّتَين العظمَيَين. أما أزمة الخليج، فحدثت في وقت، لم تكن فيه على القِمة، إلاّ قوة عظمى واحدة، هي الولايات المتحدة الأمريكية، التي أمكنها أن تؤدي دوراً حيوياً في تجميع عدد كبير من دول العالم، لمواجهة المعتدي.

   هكذا، وضعت حرب الخليج الولايات المتحدة الأمريكية، في مكان الريادة من النظام العالمي الجديد. وعزّز ذلك تفكك الاتحاد السوفيتي، في نهاية عام 1991. إذ أكد الرئيس بوش؛ أن العلاقات الجديدة بموسكو، هي التي خلقت إمكانية نشوء النظام العالمي الجديد. كذلك، كان التعاون الجيد مع موسكو، أمراً حيوياً، لاستخدام قوى التحالف مجلس الأمن. كما أن الضعف، الذي كان ينتاب الاتحاد السوفيتي، إبّان أزمة الخليج، كان عاملاً حاسماً في إمكانية تكوين التحالف المضاد لصدام حسين؛ فالموقف الاقتصادي الصعب الذي كان تعانيه موسكو، هو الذي فرض تعاونها مع الغرب على هذه الأزمة.

    لقد أخذت الولايات المتحدة الأمريكية القيادة، في الخليج. ولكن قدرتها على العمل، اعتمدت على التعاون مع ثلاث مجموعات من الدول: دول تحملت المخاطرة والمسؤولية، في اتخاذ عمل ضد العراق. ودول غير راغبة، أو غير قادرة على عمل مباشر، يراه الكثير من دول العالم أمراً حتمياً، لتأمين تنفيذ قرارات مجلس الأمن (وتُعَدّ الصين والاتحاد السوفيتي، أهم دول هذه المجموعة). ثم هناك الدول العربية، التي انقسمت، بدورها، إلى قسمين، كذلك: "قسم شارك في العمل ضد العراق، وقسم لم يشارك، ولم يتعاون".

    أثارت أزمة الخليج ردود فعل في معظم الدول الأوروبية. وظهر أن المجتمع الأوروبي، كان يربط بين هذه الأزمة والمشكلة الفلسطينية. ولم يفسد عليه هذا الربط، إلا الرفض البريطاني، على الرغم من أن أغلبية مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي، صوتت في مصلحة الربط. وحتى بداية التسعينيات، كانت الدول الأوروبية، تنظر إلى الشرق الأوسط بمناظير مختلفة؛ ولكن في أزمة الخليج، كانت عوامل تقاربها أكثر تأثيراً من عوامل تفارقها.

   ويبدو أن شكل النظام الجديد، قد أسفرت حرب الخليج، بعد أن نجحت منظومة التحالف في ردع العدوان العراقي على الكويت. وبمتابعة الأزمات والأحداث، التي دارت بعد الحرب، يتضح أن المعسكر الغربي، أصبح له الدور الرئيسي في التعامل مع الصراعات الدولية، ومواجهة العدوان في أي مكان، مع استخدام الأمم المتحدة، كمظلة، للتصرف إزاء مثل هذه الأحداث.

تطورات السياسة الدولية، خلال عام 1991

يمكن أن تلخص أهم تطورات السياسة الدولية، خلال عام 1991، في أربعة اتجاهات:

1. الاتجاه الأول

    إعادة هيكلة الجغرافيا السياسية، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. ولا شك أن وراثته، كانت أهم مظاهر عملية إعادة هيكلة الجغرافيا السياسية، لهذا الامتداد الأوروبي ـ الآسيوي الرحب؛ إذ أدى التفكك إلى انفصال جغرافي ـ سياسي وحضاري، بين أوروبا وآسيا، ما استدعى إعادة ربط أقاليم الاتحاد السوفيتي وجمهورياته، بهياكل ونظم إقليمية بديلة.

2. الاتجاه الثاني

    تفكك يوجوسلافيا، المنبثق من إعادة هيكلة الجغرافيا السياسية. لقد اعتمدت وحدة يوغسلافيا على إحدى نتائج التوازنات الدولية، خاصة بين الاتحاد السوفيتي والغرب عامة. وباختفاء الاتحاد السوفيتي، اضمحلت هذه التوازنات، واختفت الوظيفة اللاحمة لقوة مركزية كبرى، مما أسفر عنه إعادة ترتيب واسعة النطاق، للجغرافيا السياسية في المناطق "الرخوة"، بين الاتحاد السوفيتي السابق والكتلة الإستراتيجية الأوروبية. وكان تفكك يوجوسلافيا، هو أحد نماذج عملية إعادة الترتيب الجغرافي لهذه المنطقة الرخوة.

3. الاتجاه الثالث

    إعادة صياغة الرابطة الثلاثية، بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية واليابان. وانتظمت هذه الرابطة في صورة تحالف ثلاثي، بين مراكز القوة الثلاثية، المؤثرة في السياسة الدولية، لكونها العالم الحر، تحت تأثير أوضاع الحرب الباردة. ومال هذا التحالف إلى الصيغة الحضارية، إضافة إلى الصيغة الإستراتيجية، التي كانت موجودة من قبل. وأطلق عليه مصطلح "القوى الغربية"، على الرغم من أن اليابان، جغرافياً، ليست بلداً غربياً. وفي نهاية الحرب الباردة، وحيال تصاعد المنافسات التجارية، وسعي تلك المراكز إلى البحث عن تعبيرات، حضارية وثقافية، جديدة، بدأت هذه القوى تنطلق نحو بناء تكتلات اقتصادية متنافسة. ويمكن القول، إن هذا التحالف الثلاثي، بدأ يتخذ، مع نهاية عام 1991، ثلاث مظاهر رئيسية. هي: صعود الدور السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، الاتجاه نحو الوحدة الأوروبية، النمو البطيء للقوة العسكرية اليابانية.

4. الاتجاه الرابع

    تأثير التحولات في النظام العالمي الجديد، وتفكك الاتحاد السوفيتي، في منظمة الأمم المتحدة ودورها في معالجة الأزمات العالمية.

ثانياً: تصاعد الدور الأمريكي، بعد حرب الخليج

    عُدَّت أزمة الخليج، هي "التجربة النموذج"، التي أكدت خطر هذا النوع من الأزمات، المؤدية إلى إحداث اضطرابات واسعة، على مستوى العالم كله. وعلى الرغم من أنها كانت أول اختبار حقيقي، وعنيف، يواجهه الوضع العالمي الوليد، إلاّ أن الولايات المتحدة الأمريكية نجحت في اجتيازه بكفاءة، في إطار تعبئة دولية، لم يسبق لها مثيل، من أجل القضاء على العدوان العراقي ضد الكويت، ولتحرير أراضيها. وأحدث هذا النجاح الكبير قوى دفع هائلة، في المجتمع الأمريكي، خلصته من عقده السابقة، وشجعت قيادته على المضي في ممارسة دورها القيادي، وتحويله إلى سمة أساسية من سمات سياستها الخارجية، وعنصر له دوره الأساسي في وضع قواعد جديدة للسياسة الأمريكية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، التي تحتل مكانة عالية، ومتقدمة، في هذه السياسة. وإذ أصبح البعد الاقتصادي، هو أهم العناصر الحاكمة في تشكيل النظام العالمي الجديد وفي السيطرة عليه، فقد احتل قِمة أولويات السياسة الأمريكية، لإيمانها بأن القوة القومية، لا بدّ أن تعتمد، أساساً، على قوة اقتصاد الدولة ومرونته. وتزايد الاهتمام الأمريكي مع ازدياد التدهور، الذي يعانيه الاقتصاد الأمريكي، في الداخل، والتحدي القوي، في الخارج، المتمثل في النمو المطّرد للقوى الاقتصادية النامية، والفاعلة في الاقتصاد الدولي، كاليابان وألمانيا.

1. الولايات المتحدة الأمريكية، وتفكك الاتحاد السوفيتي

    الاتحاد السوفيتي، الذي خرج من الحرب العالمية الثانية، كقوة عظمى، تتحدى الولايات المتحدة ـ كان عاجزاً، منذ البداية، عن المنافسة، نتيجة للميراث الإمبراطوري ومشاكله، التي استمرت نحو ثلاثمائة عام. فالعبء الإمبراطوري ظل هو؛ والحلم السوفيتي، انتهى إلى تحكم مجموعة بيروقراطيات، مثل: بيروقراطية الحزب، وبيروقراطية الحكم، وبيروقراطية الجيش، وبيروقراطية جهاز الاستخبارات (K.G.B). وكان سباق التسلح، هو الوسيلة، التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية، لاستنزاف الاتحاد السوفيتي، على مدى ثلاثين سنة، من بداية رئاسة كيندي، عام 1961، إلى بداية رئاسة بوش، عام 1989. وهكذا، انهارت دولة عظمى، على الرغم من أنها تملك عدة آلاف من الرؤوس النووية، كافية لتدمير العالم ست مرات.

    وبسقوط الاتحاد السوفيتي، واضمحلال الأيديولوجية الشيوعية، تخلصت الولايات المتحدة الأمريكية من أهم تحدٍّ، واجه نظامها العالمي؛ وما عليها غير تنظيف الجيوب، والانفراد بقِمة دولية خالصه لها. ودخل العالم عصراً جديداً، تلاشت فيه احتمالات وقوع حرب عالمية جديدة، كحقيقة مؤكدة. وبدأت الولايات المتحدة تدخل تعديلات جوهرية على سياستها الخارجية؛ أهدافها ووسائلها ومهامها بحيث تتواءم مع التغيرات العالمية، بعد أن أصبح دورها الأول، كما حددته سياستها القومية، هو "قيادة العالم، والتصدي للتحديات السياسية الجديدة، في مناطق عديدة من العالم".

    لقد أدت التغيرات الإستراتيجية إلى أخطار وتهديدات، متفاوتة النوع والحجم، وناجمة عن فراغات القوة، والاضطرابات الإقليمية، ومسفرة عن أوضاع أمنية معقدة، ومشكلات إستراتيجية، تتعلق بوسائل التعامل مع هذه الأخطار الخفية، التي تَعُدّها الولايات المتحدة الأمريكية، مهددة لأمنها ومصالحها. وهكذا، تغيرت المفاهيم الأمريكية، المتعلقة بتحديد نوع الخطر ومصادره ومناطقه، بعد أن أصبحت الأزمات الإقليمية، والاضطرابات المحلية، هي محور التهديد الرئيسي، في السياسة الأمريكية.

   وعلى الرغم من تخلص واشنطن من التحدي الأساسي لها، فإن القِمة، لم تكن خالصة لها إلاّ أن التغيرات الجذرية، التي تركت آثارها في العالم أجمع، كانت أكثر تأثيراً في الولايات المتحدة الأمريكية، بما فرضته من انعكاسات عميقة على سياستها الخارجية، وما خلفته من تحديات جديدة، تواجه الفكر السياسي الإستراتيجي والأمن القومي، الأمريكيَّين.

   ولعل الولايات المتحدة الأمريكية، كانت أول من يدرك، أن الخلاص من تحدي الاتحاد السوفيتي للنظام الأمريكي، فصل من قصة عصر، وليس العصر كله؛ وأسباب ذلك كثيرة، منها، على سبيل المثال:

أ. أن الولايات المتحدة الأمريكية، استنزفت نفسها بسباق التسلح، كما استنزفت الاتحاد السوفيتي. إذ كانت مواردها أكثر، فاستطاعت أن تتحمل أكثر؛ بيد أن لكل طاقة حداً، مهما اتسعت.

ب. أن المجتمع الأمريكي، بطلباته المتزايدة، مع استنزاف جزء كبير من موارده، أنفق أكثر مما أنتج، أي أنه استدان ليستهلك، وراوح حجم دينه للعالم الخارجي، بين 4 و5 تريليونات دولار، وهو ما يوازي مجمل الإنتاج الأمريكي، لسنة كاملة، مقدماً.

ج. إن الشعب الأمريكي، واجه أزمات، اجتماعية وفكرية، شديدة. بينها أزمة القِيم، وضمنها قِيمة المنفعة، وهي واحدة من القِيم التي ساعدت هذا المجتمع على اندفاعاته الفوارة الأولى.

    واللافت أنه خلال عام 1991، وكلما واجهت الرئيس الأمريكي جورج بوش، بعض التحديات الحقيقية، وهي "المشاكل الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ العسكرية"، بادر إلى الهرب منها، متذرعاً بمطاردة العراق، سواء بدعوى مساعدة الأكراد فيه، أو بدعوى استكمال تجريده من السلاح النووي. بل إنه حينما يتحدث عن المشاكل الأمريكية الداخلية، خاصة ما يتعلق بالتراجع الاقتصادي، كان يبدأ حديثه باستثارة روح ما أسماه "نصر الخليج".

2. محددات السياسة الأمريكية، في منطقة الشرق الأوسط، بعد حرب الخليج

    اعتمدت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، بعد حرب الخليج، على مجموعة متنوعة من المحددات، يمكن حصرها في ثلاثة أطر عامة، هي: "متطلبات الأمن القومي الأمريكي، ومتطلبات إنشاء نظام عالمي جديد، والمؤثرات الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط"، إضافة إلى بعض النتائج الأساسية، التي ترتبت على الحرب، ومنها، على سبيل المثال:

أ.  أن الحرب أثبتت مدى الحاجة إلى وضع نظام شامل، لضبط التسلح في المنطقة، على أن يكون نظاماً دولياً، تشارك فيه، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، الدول الكبرى الأخرى، ولا سيما تلك التي تعَد مصدراً أساسياً للسلاح إلى دول المنطقة.

ب. أن تجربة الحرب، أثبتت مدى الحاجة إلى تضافر جهود العمل العسكري، جنباً إلى جنب، مع العمل، النفسي والدعائي، المدروس جيداً.

ج. ضرورة العمل، على وضع ترتيبات أمنية شاملة في المنطقة، لضمان تحقيق الاستقرار، ويكون الدور الأمريكي فيه هو الأساسي.

    ولتقييم الحصيلة الأخيرة لهذه النتائج، كما ذكرها برادوس، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، في وحدة بحوث الكونجرس الأمريكي، فإن الانتصار الخارجي، الذي حققه الرئيس بوش قد يتعرض لبعض التآكل، خاصة أن الرأي العام الأمريكي نَسِيّ. ولذلك، سارع الرئيس بوش، فور انتهاء الحرب، إلى جعْل هذا الانتصار العسكري حقيقة بعيدة المدى، سواء في ذهن المواطن الأمريكي العادي، أو على الأرض في منطقة الشرق الأوسط نفسها، وهو ما كان يعني اندفاعاً أمريكياً نحو تسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولكن وفق شروط معينة، ليس من بينها فرض الضغوط على إسرائيل.

    ولم تقتصر هذه النتائج على الجوانب السياسية فحسب، بل تخطتها إلى جوانب أخرى، فنية وعسكرية محض، ذات أهمية كبيرة، منها:

(1)  تطوير أسطول النقل العسكري الإستراتيجي الأمريكي.

(2)  تطوير بعض نُظُم التسليح، مثل صواريخ الباتريوت، من أجْل مواجهة الهجمات الصاروخية.

(3)  وضع نظام شامل للدفاع عن الدولة، ككل، في مواجهة الهجمات الصاروخية.

    ومن هنا، أخذت فكرة الدفاع الإستراتيجي دعماً معنوياً هائلاً؛ لأنها الوحيدة، التي تؤدي مثل هذا الغرض الدفاعي الضروري، والحيوي".

3. متطلبات الأمن القومي الأمريكي

    تمثل متطلبات الأمن القومي لأي دولة، الإطار الأساسي، الذي يحكم توجهات سياستها الخارجية، التي ُتسخر، أساساً، لخدمة الأهداف القومية. وفي الإطار العام لهذا السياق، بادرت الإدارة الأمريكية إلى إدخال تغييرات حادة على سياستها الخارجية وإستراتيجيتها الأمنية، لتتوائما مع مفاهيم العصر الجديد، عصر "القطبية الأحادية" و"الدبلوماسية العالمية"، فاستطاعت أن تبلور مفاهيم جديدة، تمخضت بعالم أكثر تحرراً من العنف والإرهاب، وأشد رغبة في تحقيق السلام والعدل، وأقوى دعماً للديموقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، وأكثر تأكيداً للحرية السياسية.

    إضافة إلى هذه المعالم، التي عكستها التغيرات الجديدة، استخلصت الرؤية الأمريكية عدة حقائق أساسية، من خلال الأحداث، اتخذت منها مرشداً لتوجيه مسارها وتحديد أهدافها. وهذه الحقائق هي:

أ. أكد التعاون الدولي، غير المسبوق، إبان أزمة الخليج، أن هناك عالماً جديداً، بدأ يأخذ طريقه، وفقاً لمفاهيم جديدة وأنواع مختلفة من القضايا الأمنية.

ب. أكدت القضايا الأمنية، أن الأمن القومي، يمكن أن يتأثر، بشدة، بإيجاد الحلول الملائمة للمشاكل، العالمية والإقليمية، من أجْل تحقيق الاستقرار السياسي.

ج. ثبت أن دعم النظام الاقتصادي، هو أفضل الوسائل لتقوية الاستقرار السياسي ودفع التنمية، بالاستفادة من الفرص المترتبة على انتهاء الحرب الباردة؛ والنجاح في أزمة الخليج، ومواجهة التحديات الناجمة عن ازدياد القوة الاقتصادية للشركاء الرئيسيين في التجارة العالمية، والخلل في العلاقات، السياسية والأمنية.

    وفي مجال مواجهة التحديات والتهديدات، من أجْل تحقيق متطلبات الأمن القومي الأمريكي، فقد حددت الوثائق الأمريكية العديد منها:

أ.    الصراعات، السياسية والاقتصادية الإقليمية، التي يمكن أن تتحول إلى مصادمات دامية، تهدد استقرار بعض الدول ونموها الديموقراطي.

ب. الأنظمة المعادية للغرب، والقادة السياسيون، المشبعون بروح المغامرة، والمتطلعون إلى مناطق الضعف المجاورة، التي يمكن استغلالها في مصلحتهم، بفرضهم عليها نفوذهم، السياسي والاقتصادي، أو محاولة الإضرار بالحاجات الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، مثل محاولة قطع إمدادات النفط أو التعرض لها.

ج. استمرار سباق التسلح، في بعض المناطق ذات الخطر، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط، وتأثيره السلبي في الاستقرار الإقليمي، وإمكان تحوّله إلى أداة لإشعال الصراعات الإقليمية المسلحة.

د.  احتمالات انتشار أسلحة الدمار الشامل، في المناطق ذات الخطر، وصعوبة التصدي لهذا الاتجاه بكفاءة، خاصة بعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتي، وانتشار قدراته النووية الهائلة، في بعض جمهورياته المستقلة[2].

هـ. استمرار التهديد بالإرهاب الدولي، الموجه ضد الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أنه يمثل القوة الوحيدة، التي يملكها بعض الجماعات المناهضة لها.

    وترى السياسة الأمريكية، أن من أهم أسباب انتشار هذه الأخطار والتحديات، هي عملية سباق التسلح، التي تسود العالم. ولذلك، فإن إحدى الوسائل الرئيسية، للحدّ من تأثير هذه التهديدات، وتجنّب خطرها، هي فرض الضوابط الصارمة على التسلح، في مناطق الخطر، المنتشرة في أنحاء العالم، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط.

4. متطلبات التعامل مع النظام العالمي الجديد

    في ظل المفاهيم الجديدة حول أنواع التهديد ومناطق الخطر، التي تهدد المصالح الأمريكية، في إطار الأزمات الإقليمية والاضطرابات المحلية، ومع تعدد التحديات العالمية، التي أمست تواجه الولايات المتحدة الأمريكية، فقد رأت أن البديل الوحيد المطروح أمامها هو الحفاظ على قيادتها العالم، بما تملكه من قوة عالمية فاعلة، بكل أبعادها، السياسية والاقتصادية والعسكرية. فأصبحت عملية قيادة العالم، هي المسؤولية الأمريكية الأولى، والمحور الذي تدور حوله سياسة واشنطن الخارجية. وهو ما دفعها إلى محاولة كسب أقصى الفوائد الممكنة، من نجاحاتها ومكاسبها، السياسية والعسكرية، بتحركات دبلوماسية نابعة من اقتناع صانعي القرار الأمريكي، بأن خريطة العالم السياسية، ستصبح خاضعة، إلى حدٍّ كبير، لقدرات الولايات المتحدة الأمريكية وقرارات إدارتها، ومن ثَم، يمكنها السيطرة على القوى المنافسة، وإخضاعها للهيمنة الأمريكية.

    هكذا، تحولت نظرية القوة إلى فكرة الهيمنة العالمية، التي عكستها، بوضوح، وثيقة البنتاجون السرية، التي كشفت عنها جريدة "نيويورك تايمز"[3]، والتي تنص على أنه "يتعين المحافظة على الدور المهيمن للولايات المتحدة، بالإبقاء على القدرات العسكرية على أعلى مستوى، بما في ذلك قدرة الردع النووي".

    لقد أدى تزايد اعتماد الولايات المتحدة الأمريكية على فكرة الهيمنة، ومنطق القوة، وإظهار مقدرتها العسكرية، إلى إلقاء أعباء كثيرة على الإستراتيجية العسكرية الأمريكية، ضاعفت من قِيمة دورها في تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية. وفي هذا الإطار، حدد رئيس وحدة سياسة الأمن المستقبلي، في كلية الحرب الأمريكية، عناصر المواجهة الأمريكية بما يلي:

·   استمرار العمل بسياسة الردع النووي.

·   إحياء العمل بسياسة الأمن الجماعي وتكثيفه.

·   مواجهة الإرهاب المضاد للمصالح الأمريكية، والاستعداد الجدي لهذه المواجهة.

·   تأكيد العمل بسياسة ضبط التسلح في العالم، وفق عمل جماعي، تقوده واشنطن.

·   أهمية دعم التغييرات، الديموقراطية والاقتصادية، الجارية في بلدان أوروبا الشرقية (سابقاً).

·   المواجهة الاقتصادية الضخمة، تتطلب أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية، هي القوة العظمى، ومحور النظام العالمي الجديد؛ وهو نمط تأثر، بشدة، بأزمة الخليج، التي تُعَدّ حقلاً واسعاً للتجارب الأمريكية.

    وفي خصوص الجزئية الأخيرة من عناصر المواجهة الأمريكية، وهي العامل الاقتصادي، فقد بات من الواضح، بعد حرب الخليج، أنه أبرز الدعائم التي يُبنى عليها النظام الدولي، إذ احتل قِمة الأولويات الأساسية في السياسة الأمريكية، في الداخل والخارج. وأكد الرئيس بوش هذه الأولوية، في خطابه أمام الكونجرس، في 28 يناير 1992، بقوله: "إن مفتاح مستقبلنا، هو ضمان زعامة الولايات المتحدة للعالم، في المجال الاقتصادي، وذلك بعد الانتصار في الحرب الباردة، وإنهاء الإمبريالية الشيوعية".

    وأمسى واضحاً، أن نمو القوة الاقتصادية للأطراف الأخرى، الفاعلة في النظام الاقتصادي الدولي، ولا سيما تزايد الإنتاجية، اليابانية والألمانية ـ أصبح يهدد الاقتصاد الأمريكي، بما يحدثه من خلل في التوازن الاقتصادي العالمي، مما جعل إصلاح هذا الخلل في قمة الأهداف الأمريكية، وتطلب مواصلة السياسة الأمريكية الخارجية، الرامية إلى توسيع نطاق اقتصاديات السوق العالمية ودعمها، واستحداث أسواق تجارية جديدة، مع تقوية التعاون مع الدول الصناعية الكبرى، ومع المؤسسات المالية الدولية.

    كما شكلت قضية فرض القيود على نقل التكنولوجيا، وعدم انتشار المحظور منها في بعض المناطق، مثل منطقة الشرق الأوسط ـ أحد التحديات الرئيسية، التي واجهت الإستراتيجية الأمريكية. فبادرت إلى تحسين وسائل السيطرة على التكنولوجيات، المستخدمة في مجال تطوير الأسلحة، النووية والكيماوية والبيولوجية، وصواريخها.

    كذلك، كانت قضية السيطرة على التسلح، أحد المكونات المهمة لسياسة إستراتيجية أمريكية متوازنة، من أجْل إزالة العواقب المدمرة للتوتر العالمي، وتخفيض أسبابه الأساسية؛ على أن يبقى الهدف "تعظيم أمن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها"، وتقوية الاستقرار الدولي، من خلال التوصل إلى اتفاقيات، تحققه. وعلى هذا الأساس أَوْلَت السياسة الأمريكية السيطرة على التسلح عناية متزايدة، على المستويَين، العالمي والإقليمي، لكونها القضية الأكثر إلحاحاً؛ إذ إن انتشار الأسلحة، النووية والكيماوية والبيولوجية وصواريخها، تحمل أخطاراً عالمية مدمرة.

5. المؤثرات الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط

    مثلت أزمة الخليج نقطة التحول الأساسية، في السياسة الأمريكية، بما فرضته من أحداث، وما خلفته من تداعيات ومتغيرات وتفاعلات، انعكست آثارها على العالم كله، ومنطقة الشرق الأوسط انعكاساً مباشراً. فقد كان الغزو العراقي للكويت، تحدياً سافراً للمصالح الأمريكية في المنطقة. وفرض أوضاعاً، رأت فيها الولايات المتحدة الأمريكية، تهديداً مباشراً لأمنها القومي ومصالحها الحيوية.

    لقد أكدت أزمة الخليج مدى الإضرار بالمصالح الجوهرية لدول العالم، الناجم عن أزمات إقليمية، يمكن أن تحدث في مناطق ذات أهمية إستراتيجية؛ وإمكانية تحول قوة إقليمية، تمتلك أسلحة حديثة، ولها طموحات سياسية، إلى قوة مدمرة ومصدر للتهديد، في عصر، يتطلع فيه العالم إلى مزيد من التعاون المتبادل. وأضافت حرب الخليج العديد من المهام، للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ويتعلق معظمها بترتيبات الأمن؛ وحماية الموارد الإستراتيجية؛ ودرء الأخطار التي يمكن أن تهدد كثيراً من الأهداف الحيوية في المنطقة، والحدّ من عمليات الإمداد بالأسلحة التقليدية، وكبح انتشار أسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستية؛ وتشجيع عملية السلام، من خلال تحقيق المصالحة بين إسرائيل والدول العربية والشعب الفلسطيني، مع استمرار الالتزام الأمريكي بأمن إسرائيل وبقائها.

    وترتب على هذه المهام الجديدة للسياسة الأمريكية، بعد حرب الخليج، تحديد ثلاثة محاور رئيسية لنشاطها، ترتبط بها، وتؤثر فيها. وهي:

أ. إرساء نظام أمن مستقر في منطقة الخليج بصفة خاصة، ومنطقة الشرق الأوسط بصفة عامة.

ب. العمل على إنهاء الصراعات والمنازعات الإقليمية وحلها، سلماً.

ج. إعادة تكييف اقتصاديات المنطقة.

    ويؤكد اهتمام السياسة الأمريكية بهذه المحاور، المركز المتقدم، الذي يحتله الشرق الأوسط في تلك السياسة، ليس لاحتوائه على مصالح حيوية فقط، ولكن لتزايد احتمالات تعرض هذه المصالح لأخطار عديدة، معظمها غير واضح، ولا مؤكد. وهو ما دفع بقضية الأمن إلى مقدمة الاهتمامات الأمريكية، مع التركيز في الاستفادة من الظروف المثالية، التي ولدتها حرب الخليج، في محاولة حسم قضية أمن الشرق الأوسط والخليج، بعد أن ظلت معضلة صعبة، حار فيها الفكر، السياسي والإستراتيجي، الأمريكي.

    وقد لخص ريتشارد هاس، المساعد الخاص للرئيس بوش، لشؤون الشرق الأدنى وجنوبي آسيا، وعضو مجلس الأمن القومي الأمريكي ـ وجهة النظر الأمريكية في معضلة الأمن في الشرق الأوسط، قائلاً: "إن هذا الجزء من العالم، لنا فيه مصالح دائمة، تواجه تهديدات دائمة، أيضاً. لذلك، فهناك دور رئيسي للولايات المتحدة الأمريكية، يجب أن تلعبه. لقد وضعت هذه المنطقة معضلات محيرة، أمام السياسة الخارجية الأمريكية، منذ نصف قرن. فهذا الجزء من العالم، لنا فيه حلفاء، قد يكونون أقوياء، اقتصادياً، لكنهم ضعفاء عسكرياً. وهم يواجهون أخطاراً جمة. ولنا فيه مصالح شديدة الأهمية، خاصة ما يتعلق بالنفط، غير أن قدرتنا على حمايتها، لم تكن أبداً كما نريد. لذلك، كان هناك، على الدوام، هوة بين أهمية هذا الجزء من العالم، وقدرتنا على حمايته. ومن حقائق الحياة، أن هذه الهوة ما زالت قائمة، ولا أرى وسيلة لردمها، إلاّ بالجهود المنسقة".

    واهتمت السياسة الأمريكية بضرورة الاعتماد على فاعلية الوجود السياسي والعسكري، الأمريكي، لفرض الاستقرار، والمشاركة في حفظ التوازنات الإقليمية، ومنع وقوع الأخطار غير المؤكدة، والكامنة، في أشكال مختلفة، في المنطقة. ومنها استمرار العراق كمصدر للتهديد؛ ودعم إيران المجموعات الراديكالية المتطرفة؛ فضلاً عن مشكلات الصراع العربي ـ الإسرائيلي؛ ثم مشكلة الأسلحة المتدفقة إلى المنطقة، وسعي بعض دولها إلى الحصول على أسلحة الدمار الشامل. وحددت هذه السياسة مناطق الخطر المحتملة في العالم، التي يمكن أن تشكل تهديداً للمصالح الحيوية الأمريكية، في شبه الجزيرة العربية، ومنطقة الشرق الأوسط.

    كما حدد البنتاجون الأهداف الإستراتيجية العسكرية الأمريكية، في منطقة الخليج. وتعني، في مجملها، الحفاظ على أمن هذه المنطقة، من خلال الوجود العسكري فيها، سواء بالإقامة المسبقة بها، أو سرعة نقل القوات إليها، من أجْل ردع أي محاولة لتهديدها، من الداخل أو الخارج، وحماية المصالح الأمريكية والرعايا الأمريكيين؛ إضافة إلى منع أي تحالف للقوى والنظُم الفوضوية، من السيطرة على الخليج.

    والمهام الأساسية للسياسة الأمريكية في المنطقة، التي أعلنت عقب حرب الخليج، هي العمل على إحلال السلام، وحل المنازعات الإقليمية، سلماً، ومنع تفاقمها وتحولها إلى صراعات مسلحة. وتمثل هذه المنازعات أحد ملامح الخريطة السياسية للشرق الأوسط، وسبباً أساسياً للإضرار بأوضاع الأمن والاستقرار. بينما يمثل موضوعُ تحقيق الاستقرار السياسي، المُحددَ الرئيسي للسياسة الأمريكية في هذه المنطقة. ولذلك، فإن السعي إلى تحقيق السلام، وحل المشكلات المترتبة على الصراع العربي ـ الإسرائيلي، هو أحد المعالم البارزة للنشاط السياسي الأمريكي، سواء من خلال الجهود الدبلوماسية، أو بدفع عملية السلام، والعمل على توفير الأمن الإقليمي، الذي تمثل في قضايا رئيسية، هي "المياه ـ الإصلاح الاقتصادي ـ السيطرة على التسلح ـ البيئة ـ اللاجئون".

    واستطراداً، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، سعت، بعد حرب الخليج، إلى تحقيق توازن عسكري بين دول المنطقة، تحكمه سياسة محددة لضبط التسلح؛ إضافة إلى الاحتفاظ بوجود عسكري أمريكي دائم في المنطقة، تبيحه اتفاقيات أمنية، تُبرم مع بعض دول منطقة الخليج؛ فضلاً عن استخدام المساعدات، الاقتصادية والأمنية، كوسيلة أساسية من وسائل السياسة الأمريكية، بما يؤدي إلى الإسهام في تحقيق أهدافها وأولوياتها.




[1] توزعت المسؤوليات في إطار هذين الخطين أو هاتين الدائرتين والقلب، بحيث أصبح تشيني مسؤولاً عن الخليج، وأوروبا الغربية مسؤولة عن البحر المتوسط، وجيمس بيكر مسؤول عن منطقة الوسط أو القلب.

[2] مثل جمهورية كازاخستان وروسيا البيضاء وأوكرانيا.

[3] نشرت بعض تفاصيل هذه الوثيقة في جريدة الأهرام، العدد الصادر في 25 أبريل 1992.

[4] يؤيد هذا التيار التمسك بالأسس الاشتراكية ويفضل الحفاظ على دور قيادي ومؤثر للحزب، ويعبر عن هذا الاتجاه جماعة الاتحاد (سويوز) المكونة من 581 نائباً بمجلس السوفييت الأعلى أي أكثر من ربع عدد أعضائه.

[5] كان ذلك أحد الموضوعات الرئيسية في المحادثات التي جرت بين جون ميجور وكل من جورباتشوف وبوريس يلتسن خلال زيارة الأول لموسكو في الأول من سبتمبر 1991.

[6] كانت جمهوريات أستونيا ولاتفيا ولتوانيا قد استقلت في أغسطس 1991، كما رفضت جورجيا الانضمام إلى الرابطة. ثم انضمت جورجيا إليها في وقت لاحق.

[7] الماآتا: عاصمة جمهورية كازاخستان، وهي إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وتشتهر كازاخستان عالمياً بالمركز الفضائي ومركز التجارب النووية في "سيميبا لاتنسك".

[8] عدد الرؤوس النووية في روسيا بلغت 19 ألف، وفي أوكرانيا (4 آلاف)، وفي كازاخستان (1800)، وفي بيلوروسيا (1250)، والباقي موزع داخل باقي الجمهوريات.