إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية، بعد "عاصفة الصحراء" حتى نهاية عام 1991









مقدمة

6. السلوك السياسي الأمريكي، في منطقة الشرق الأوسط، بعد حرب الخليج

    انعكس الوضع السياسي لمنطقة الشرق الأوسط، بشدة، على السمات الأساسية للسياسة الأمريكية، وعلى تحديد الأهداف والمهام، التي شكلت جوهر "المشروع الأمريكي" لمنطقة الشرق الأوسط، في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وحرب الخليج؛ والذي اعتمد على عدة ركائز، تشكل الإطار الذي يسعى إليه، كنظام إقليمي، يمثل أحد المكونات الأساسية للنظام العالمي الجديد. ومن أبرز هذه الركائز:

أ. ترتيبات الأمن الإقليمي، بعد الحرب

    في شهادة إدوارد جيرجيان، مساعد وزير الخارجية الأمريكي، أمام اللجنة الفرعية لأوروبا والشرق الأوسط، في مجلس النواب الأمريكي، في 12 مارس 1992، تحديد لبعض معالم الفكر السياسي الأمريكي، في شأن أمن منطقة الشرق الأوسط، إذ قال: "إن مصلحتنا، هي في أمن واستقرار المنطقة. ويعتبر الخليج أحد أكثر مناطق العالم أهمية، من الناحية الإستراتيجية؛ ولكنه محفوف بالمخاطر. إن الولايات المتحدة، ترى ضرورة وضع ترتيبات أمنية جماعية، بين الدول الست، أعضاء مجلس التعاون الخليجي. وهي مصممة على تلبية حاجات الدفاع المشروع، لأصدقائنا في الخليج. في حين، ستحافظ على تفوق إسرائيل النوعي، على أية مجموعة محتملة، من الدول المعتدية. وتشمل احتياجات الدفاع مبيعات الأسلحة، وترتيبات ثنائية للأمن، تتضمن وجوداً أمريكياً قوياً في الخليج، وترتيبات استخدام قواعد وتخزين مسبق للأسلحة والمعدات".

    ومن الواضح، أن ترتيبات الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، قد شكلت أهمية محورية، في السياسة الأمريكية؛ لأنها استقرار المنطقة وحماية المصالح، وتفتح الطريق نحو التعاون المشترك بين دول المنطقة، بما فيها إسرائيل كحل مناسب لمعضلة الوجود الإسرائيلي في المنطقة. كما رأت السياسة الأمريكية هذه الترتيبات، مطلباً ملحّاً، وإجراءً وقائياً ضرورياً، لحماية مصادر الثروة ضد أي تهديد.

    ولقد التقت الاهتمامات الأمريكية مشاعر القلق، التي كانت سائدة في منطقة الخليج، والناجمة عن صدمة العدوان العراقي، مع استمرار وجود الخطر، سواء من خلال استمرار الوجود النظام العراقي، أو من خلال محاولات إيران فرض سيطرتها على المنطقة. وتمخض هذا الالتقاء بتوقيع اتفاقيات ثنائية، أمنية، دفاعية، بدءاً من 20 سبتمبر 1991، بين الولايات المتحدة الأمريكية وكلٍّ من الكويت والبحرين وقطر، فضلاً عن اتفاقيات أخرى مماثلة، مع كلٍّ من بريطانيا وفرنسا. وتكفل هذه الاتفاقيات لقوى الغرب إعادة ترتيب أوضاع الأمن الإقليمي ترتيباً، يضمن عدم تكرار ما حدث في أزمة الخليج.

    وقد تضمنت الاتفاقيات الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية، ترتيبات دفاعية محددة، اشتملت على تنظيم الوجود الأمريكي في المنطقة، في البحر والبر والجو. وإنشاء مركز قيادة متقدم، في البحرين، للقيادة المركزية الأمريكية، المسؤولة عن أمن منطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى ترتيب زيارات منتظمة للقوات البحرية، وحاملات الطائرات الأمريكية، وإجراء مناورات عسكرية مشتركة، وتوسيع نطاق التدريب العسكري، الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية إلى القوات العربية الخليجية، فضلاً عن إنشاء مستودعات طوارئ، لتخزين الأسلحة والمعدات الأمريكية، في المنطقة، مع إبرام صفقات جديدة للأسلحة الأمريكية، مع دول المنطقة، فاقت قِيمتها 13 مليار دولار.

    وهدفت الاتفاقيات الأمنية إلى تقنين الوجود العسكري الأمريكي الدائم، في منطقة الخليج، ليغدو أكثر ثباتاً وأكبر حجماً، وأقدر على الاضطلاع بعمليات حربية، مع توفير سرعة استعداد القوات للتدخل الفوري ضد أي تهديد، فضلاً عن حماية الأرواح والممتلكات الأمريكية، والحفاظ على تدفق النفط وحماية خطوط مواصلاته البحرية.

ب. تحقيق الاستقرار، وتسوية النزاعات في المنطقة

    كانت حرب الخليج نقطة تحوّل تاريخية، بالنسبة إلى المنطقة وبالنسبة إلى العلاقات الدولية، كذلك؛ بل وضعت حدّاً فاصلاً بين ما قبلها وما بعدها، أو كما وصفها جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكية، بأنها "قد سجلت نهاية عصر، وولادة عصر آخر مثير". ولعل من أبرز التداعيات، التي أحيتها أزمة الخليج، هي: قوة الدفع، التي ولدتها، لعملية السلام في الشرق الأوسط، بعد أن كانت قد وصلت إلى طريق مسدود، قبل غزو الكويت. وخلق اقتناع، دولي وأمريكي، بأن عدم وجود الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، هو المشكلة الأساسية في هذه المنطقة؛ وأن وجوده، هو الشرط الأساسي لحماية المصالح الحيوية، في هذه المنطقة المضطربة. ولكي يتحقق ذلك، كان لا بدّ من إرساء دعائم السلام والأمن، والقضاء على النزاعات الإقليمية، وتسوية الصراعات الموجودة في المنطقة، وعلى رأسها الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

ج. ضبط التسلح في المنطقة

    اهتمت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، بالتوازنات العسكرية بين دول المنطقة، كوسيلة ضرورية لتحقيق الاستقرار السياسي، وفقاً لمفهوم الأمن الأمريكي. وذلك من خلال ثلاثة محاور أساسية، هي:

(1)  منع انتشار أسلحة الدمار الشامل أو إنتاجها أو استخدامها.

(2)  ضبط مبيعات الأسلحة التقليدية الحديثة، والسيطرة عليها، عالمياً.

(3)  السيطرة على نقل التكنولوجيا المتقدمة.

    وهدفت هذه الإجراءات الرئيسية إلى تحقيق مستوى مُعين من موازين القوى، والمحافظة عليه. وذلك للحيلولة دون صعود قوى إقليمية جديدة؛ مع استثناء أصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية من القيود المفروضة على الأسلحة التقليدية. وهي تمثل، في الوقت نفسه، العناصر الأساسية، التي أرساها المشروع الأمريكي، في شأن النظام الإقليمي، الذي أيد السياسة الأمريكية.

    لقد انبثقت فكرة ضبط التسلح، في السياسة الأمريكية، من مبدأ الحدّ من عناصر التهديد في المنطقة، سواء بالتصادم المباشر بين دولها، أو بلجوء بعض الدول إلى تهديد المصالح الأمريكية. وفي الحالتين، فإن وجود إمكانات عسكرية كبيرة، لدى بعض الدول، يمكن أن يغري بتحولها إلى مصادر تهديد، قد تخل بالاستقرار، أو تصبح بؤرة لإشعال الصراعات، ودعم اتجاهات التعصب، الديني والأيديولوجي، والطموحات الذاتية لبعض القادة المحليين. مما قد يخلق تهديداً للأمن القومي الأمريكي، أو يعوق جهود الولايات المتحدة الأمريكية، ويعطل مسار سياستها في المنطقة.

    وبدأت محاولات ضبط التسلح في منطقة الشرق الأوسط، بعد أسابيع قليلة من انتهاء حرب الخليج، كجزء من المشروع الأمريكي في المنطقة، الذي انبثق، أساساً، من دروس حرب الخليج، وفي مقدمتها ضرورة وضع قواعد، للتحكم في تسليح دول الشرق الأوسط. إذ سارعت الولايات المتحدة الأمريكية، في مارس 1991، إلى فرض قيود على تصدير الأسلحة، الصاروخية والكيماوية والبيولوجية، إلى 48 دولة. وتبع ذلك إعلان مبادرة الرئيس بوش، لضبط التسلح في الشرق الأوسط، التي طرحت في 29 مايو 1991، بهدف التعامل مع أسلحة الدمار الشامل، وأنظمة صواريخ أرض/ أرض، والأسلحة التقليدية المسببة لعدم الاستقرار.

    ولكي يتحقق البُعد العالمي للقيود المفروضة، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية أعمال التنسيق مع الدول الأربع الكبرى الأخرى، المنتجة للسلاح، وهي بريطانيا وفرنسا وروسيا والصين. وعقدت عدة اجتماعات، بعضها على المستوى السياسي، وبعضها الآخر على مستوى الخبراء، بدءاً من يوليه 1991، بغرض بحث الضوابط الضرورية لمبيعات الأسلحة والمعدات، لدول الشرق الأوسط. وفي باريس، صدر أول بيان لهذه الدول، يقيد عمليات تصدير الأسلحة التقليدية إلى دول المنطقة.

    من ناحية أخرى، أولت السياسة الأمريكية آليات الحدّ من التسلح ووسائله، أهمية خاصة، اتضحت في مجموعة متكاملة من الإجراءات، التي تسعى إلى إنجاح هذه السياسة، في إطار المبادرة المطروحة، والتي تتضمن:

(1) محلياً:

(أ)    تنظيم تجارة السلاح الأمريكي وتوريد التكنولوجيا العسكرية، بفرض قيود وشروط صارمة على المبيعات الأمريكية من الأسلحة والمعدات، وتعديل القوانين المتعلقة ببرامج المبيعات التجارية؛ مع توظيف هذه القيود كوسيلة فاعلة من وسائل السياسة الخارجية.

(ب) فرض قيود جديدة، لتشديد الرقابة على تصدير التكنولوجيات، الداخلة في تصنيع الأسلحة، الكيماوية والبيولوجية والصاروخية.

(ج) التوسع في قائمة السلع العسكرية، التي يتطلب تصديرها أذناً خاصاً، والتي تشمل المواد المستخدمة في إنتاج الأسلحة والمعدات والآلات، التي قد تسهم في إنشاء مصانع، تنتج أسلحة الدمار الشامل.

(2) عالمياً

    بناء موقف متماسك بين مجموعة الدول المنتجة للسلاح، بغرض الحدّ من حركة تدفق السلاح إلى دول العالم الثالث بصفة عامة، والشرق الأوسط بصفة خاصة. وذلك من خلال:

(أ)    تحديد منظومات الأسلحة والمعدات، المُراد السيطرة عليها، ومنع انتشارها.

(ب) بناء أُطر مؤسسية، لأغراض تنسيق صادرات السلاح.

(ج) وضع نظام للعقوبات ضد الدول، التي لم تبدِ تجاوباً، حتى الآن، وتستمر في تصدير السلاح، مثل الصين.

(د)    العمل على خنق الصناعات العسكرية الوطنية، لدى دول المنطقة، بمنعها من الحصول على القدرات اللازمة لتطوير البدائل العسكرية، وحرمانها الحصول على المساعدات، التكنولوجية والفنية، التي تعتمد عليها هذه الصناعات.

د. إعادة البناء، والإصلاح الاقتصادي

    ليس ثمة شك في أن المهمة الاقتصادية الأساسية للسياسة الأمريكية، في العالم، وفي الشرق الأوسط، بعد حرب الخليج ـ كانت هي السعي إلى الحصول على أفضل النتائج الإيجابية، التي تساعد على دعم الاقتصاد الأمريكي، خاصة بعد ارتفاع معدلات هبوط النمو في الناتج القومي، والتي بلغت 0.5% في عام 1991. وكذلك تزايد معدلات البطالة، إلى أن وصلت، في العام نفسه، إلى 7.3 %، من إجمالي القوى العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية. وارتفع العجز في الميزانية الفيدرالية، ليصل إلى 352 مليار دولار، مع نهاية السنة المالية 1992. كما وصلت معدلات التضخم إلى نسبة 3 %، في عام 1991 وتتجه إلى التزايد في السنوات التالية كما هبطت الإنتاجية الأمريكية في كافة القطاعات بنسبة 0.3 %، في الوقت الذي ارتفعت فيه الإنتاجية اليابانية إلى 4.1 %، والألمانية إلى 1.7 %.

    وأكدت كل هذه المؤشرات وغيرها، فقدان الاقتصاد الأمريكي كثيراً من قدرته، التنافسية والحيوية، مقابل الصعود، النسبي والمتزايد، للبلدان الرأسمالية الأخرى. ومن ثَم، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بالتحرك، على الصعيد الدولي، من خلال استغلال عدة آليات أساسية في السياسة الأمريكية، من أجل دعم اقتصادها، والتي تتمثل في:

(1) التأكد على القوة العسكرية

    عمدت واشنطن إلى تأكيد قوتها العسكرية، كوسيلة لزيادة نفوذها السياسي. واستعادة جزء من ثقة المستهلكين بقدرة الاقتصاد الأمريكي. واضطلعت بتغذية هذه العملية، الرأسمالية الصناعية الحديثة، المتطورة ذات التكنولوجيا العالية، والباهظة النفقات، مما يتطلب أن تبقى سوق السلاح العالمية مفتوحة، أمام مبيعات السلاح الأمريكي.

(2) التركيز على تحرير التجارة الدولية

    سعت الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال اتفاقية "الجات"، والاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة، إلى تحرير تجارة الخدمات، التي تشكل 60 %، من إجمالي المعاملات الدولية الأمريكية. فعملت السياسة الأمريكية على فتح أسواق الدول النامية، أمام الصادرات الأمريكية من الخدمات، من دون النظر إلى ما يمكن أن يحدثه فتح الأسواق، من خسائر، قد تقضي على قطاعات برمّتها، في الدول النامية، خاصة أن الخدمات المستهدفة، تشمل قطاعات كثيرة، وحساسة، مثل المصارف والتأمين، والاتصالات، والمقاولات والتشييد، والخدمات المالية والمهنية، والنقل البحري والجوي والبري والسياحة؛ وكلها قطاعات اقتصادية مهمة، تحتاج إلى حماية قوية.

            أما منطقة الشرق الأوسط، على وجه التحديد، فهي تشكل منطقة شديدة الجاذبية للسياسة الاقتصادية الأمريكية؛ إذ تتوافر فيها الأسواق الملائمة لصادراتها، وتتزايد العروض أمام الاستثمارات الأمريكية، فضلاً عن توافر المواد الأولية، ولا سيما النفط. لذلك، تمحورت المصالح الأمريكية حول عدة أهداف رئيسية، منها:

(أ)    تشجيع الصادرات الأمريكية، في محاولة لتخفيف حدّة العجز من الميزان التجاري الأمريكي.

(ب) ضمان الحصول على الحاجات الأساسية من المنطقة، خاصة النفط، مع ضمان استمرار تدفقه، وبالأسعار والكميات الملائمَتين.

(ج) جذب الاستثمارات الأمريكية إلى المنطقة، مع اجتذاب جزء من الاستثمارات العربية إلى السوق الأمريكية.

(3) الدعم والمعونات، المالية والفنية

    أدخلت الإدارة الأمريكية، خلال عام 1991، عدة تعديلات على سياسة المساعدات الثنائية، الاقتصادية والأمنية، لجعلها مقتصرة على الدول الصديقة، ذات الصلة الوثيقة بالولايات المتحدة الأمريكية، مع إجراء تخفيض في تمويل المساعدات العسكرية، بنسبة 20.2 %، وزيادة المساعدات الاقتصادية بنسبة 2.7 %.

(4) إعفاء بعض بلدان الشرق الأوسط، من بعض ديونها الخارجية

    تشير الإحصائيات إلى أن الحكومة الأمريكية، ألغت ما قيمته 12.096 مليار دولار، من القروض المستحقة لها، لدى بعض الدول في الشرق الأوسط، ومنها مصر وغانا وكينيا ومدغشقر ومالاوي.

ثالثاً: تراجع دور الاتحاد السوفيتي، وتفككه خلال عام 1991

    غيّر الاتحاد السوفيتي، بمقتضى السياسة العالمية الجديدة لإدارة جورباتشوف، مواقفه تجاه الصراعات الإقليمية، في الشرق الأوسط. وكانت نتائج سياسات جورباتشوف وإجراءاته، لإنهاء الحرب الباردة، ذات تأثيرات مهمة في اتجاهات تسوية الصراعات، لم تقتصر على التأثيرات غير المباشرة، وإنما تعدّتها إلى التأثيرات المباشرة، التي ارتبطت بإعادة بناء مجمل علاقات الاتحاد السوفيتي بالشرق الأوسط، وفق ما أملته ضرورات إنهاء الحرب الباردة، والمنطلقات الجديدة للسياسة الخارجية السوفيتية تجاه الجنوب. واتضح ذلك من خلال تعاون الاتحاد السوفيتي مع الولايات المتحدة الأمريكية، إبّان حرب الخليج؛ إذ دل موقفه وسلوكه على تفكيره الجديد. وعكسا المفهوم الجديد للأمن السوفيتي. وبرهنا على ثبات سياسة إنهاء الحرب الباردة. كما جسّدا بداية التعاون الجديد بين خصوم الأمس.

    وتحددت معالم الإستراتيجية السوفيتية بما يلي:

1.   إستراتيجية دفاعية تهدف إلى مقاومة محاولات الولايات المتحدة غير المباشرة لإخراج السوفييت من المنطقة من جهة، ومواجهة التغلغل الأمريكي من جهة أخرى، وإرساء قاعدة توازن كل من المصالح الأمريكية والسوفيتية في الشرق الأوسط.

2.   التحرك على أساس القوة العظمى المسؤولة، في وضعها الجديد بعد البريسترويكا، التي تقف ـ على سبيل المثال ـ مع الكويت والمملكة العربية السعودية ضد العدوان العراقي. ومحاولة إيجاد طريق سلمي لتسوية أزمة الخليج وفقاً للشرعية الدولية دون تعريض البلدان والشعوب العربية للدمار. والتأكيد على نزع فتيل الصراعات المدمرة لسلام وأمن المنطقة بتسوية الصراعات المدمرة لسلام وأمن المنطقة بتسوية الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية على أساس الشرعية الدولية أيضاً.

3.   التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، على بناء نظام عالمي جديد، لا يعني التطابق التام في مواقف الطرفَين السياسية، في شأن قضايا العالم الثالث ومشاكله، بما فيه العالم العربي.

    وكانت حرب الخليج، فرصة طيبة، ليضع الاتحاد السوفيتي، مبادئ البريسترويكا محل الاختبار، في واقع الحياة السياسية الدولية، ولا سيما مبدأَيْ توازن المصالح، على حساب توازن القوى؛ ثم عالم واحد آمن، أو لا عالم، وهو المبدأ الذي يعبر عن وجود تحديات مشتركة، تواجه العالم بشرقه وغربه، شماله وجنوبه، ومنها الصراعات الإقليمية المتفجرة، التي يجب حلها بالوسائل السلمية، من طريق إعطاء الأمم المتحدة دوراً أكبر.

   هكذا، لم يقف الاتحاد السوفيتي إلى جانب العراق، أحد الأقطار العربية الصديقة له في المنطقة، والذي يحسب، تقليداً، في جانب السوفيت، عند حساب ميزان القوى الإستراتيجي، الأمريكي ـ السوفيتي، في منطقة الشرق الأوسط. ووجد الاتحاد السوفيتي، أن مصالحه تكمن في اتخاذ هذا الموقف الوسط، على حساب التحالف مع العراق، ضماناً لمصداقية موقفه الدولي، وللمساعدات الغربية، كذلك؛ وإنْ واصل جهوده السياسية، ليحظى بنفوذ سياسي جديد في الدول العربية، بقسمَيها، المؤيد والمعارض، للرئيس صدام حسين، على أساس أن نجاح تلك الجهود، سينقذ المنطقة من خسائر الحرب.

    وأظهرت حرب الخليج حقيقة مهمة، أمام الاتحاد السوفيتي، وهي ضرورة اللحاق بركب الثورة العلمية التكنولوجية المتطورة، لكون هذا اللحاق، هو شرط الأمن القومي، حتى بمفهومه الضيق، أي القوة العسكرية. ومصداق ذلك إلى شهادة ديمتري يازوف (Dmitri Yazov)، وزير الدفاع السوفيتي الأسبق، وأحد قادة انقلاب أغسطس 1991، بأن نظام الدفاع الجوي السوفيتي، كان عقيماً تماماً في مواجهة طائرات الحلفاء. ولا بدّ من مراجعة الدفاعات الجوية السوفيتية، في ضوء ما أظهرته الحرب، من نقاط ضعف في نُظُم الدفاع الجوي السوفيتي، التي استخدم العراق بعضاً منها. ومع استمرار هذه الفجوة التكنولوجية، وتأخر التحديث السوفيتي الشامل، فإنه لم يكن ثمة خيار، أمام الاتحاد السوفيتي، في مجال مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، سوى اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية؛ وهو ما يعني إبادة شاملة للبشرية.

    وانطلاقاً من تفكير جورباتشوف الجديد، وفي ذروة الاحتجاج السوفيتي العلني، فإن إدارة جورباتشوف، لم تتورط، ولم تكن لتتورط قط، في تهديد باستخدام القوة، لإيقاف ما عدّته القوى المحافظة، في المؤسسة العسكرية السوفيتية وخارجها، تدميراً للعراق، وليس تحريراً للكويت. وطويت على عَجَل صفحة الخلاف السوفيتي ـ الأمريكي. وعادت إدارة جورباتشوف إلى التسليم بالمبادرة الأمريكية. وواصلت إدارة بوش حرصها على المشاركة السوفيتية، في إدارة الأزمة.

    ولم تتمكن القوى المحافظة، على الرغم من معاهدة الصداقة والتعاون السوفيتية ـ العراقية، من أن تحمل جورباتشوف على أي خطوة في حرب الخليج، عدا الاضطلاع بدور رجل الإطفاء، وإقالة وزير الخارجية، شيفرنادزه، لقطع الطريق على احتمال تدخّل عسكري سوفيتي، تحت قيادة أمريكية، في الحرب ضد العراق. فخسر العراق رهانه على موقف سوفيتي، معارض للتدخل الأمريكي، ومؤيد لشعارات الغزو العراقي؛ وكان ذلك أفدح أخطاء حساباته، التي بقيت حبيسة الزمن الماضي للحرب الباردة.

    وبإيجاز، فإن العراق، عجز عن إدراك أن أولى أولويات الأمن القومي السوفيتي، في عهد جورباتشوف وما قبله، وهي تجنّب المواجهة السوفيتية ـ الأمريكية، إلاّ في حالة الدفاع عن الاتحاد السوفيتي نفسه. كما أخفق في حساب قوة الدوافع السوفيتية، الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، إلى الانسحاب من صراعات الجنوب ـ الجنوب، أو الغرب ـ الجنوب، على الرغم من التهديد الظاهري للسياسة السوفيتية، في منطقة الخليج، وفقاً لثوابت هذه السياسة، طوال عقود الحرب الباردة. وهكذا، كان منطقياً، أن يشارك الاتحاد السوفيتي في إصدار قرارات مجلس الأمن، ضد العراق، وأن يقف عاجزاً أمام ما رآه تجاوزاً لها.

    ومن الواضح، أن موقف الاتحاد السوفيتي من الصراعات الإقليمية، في منطقة الخليج، قد تحدد، كذلك، بالعوامل التي حكمت علاقاته بدول المنطقة، تلك العلاقات التي تطورت في زمن الحرب الباردة. إضافة إلى عوامل أخرى، اقتصادية وتاريخية، ظهرت، بوضوح، من خلال تطور العلاقات السوفيتية ـ الإيرانية.

1. الموقف السوفيتي الداخلي بعد الحرب

    كان الرأي العام السوفيتي، يرفض أن تقف بلاده، في خندق واحد، مع الولايات المتحدة الأمريكية، ضد بلد من بلدان العالم الثالث، يربطها به اتفاق تعاون. وبدأت تظهر ضغوط الشعوب المسلمة، في الجمهوريات السوفيتية الجنوبية، التي عارضت أن تضرب الولايات المتحدة الأمريكية دولة مسلمة، أيّاً كانت الأسباب. لذلك، اتّسم الأسلوب الإعلامي السوفيتي بالتحفظ والتردد في المواءمة بين وحدة العمل مع الغرب بعامة، والولايات المتحدة الأمريكية بخاصة، في إطار الأمم المتحدة، ضد احتلال بلد لبلد آخر، وبين الرأي العام السوفيتي، المناهض للحرب، والذي تدعمه المؤسسة العسكرية، التي استشعرت الخطر، حفاظاً على مكانتها وسمعة سلاحها، في المحيط العالمي. واكتفى الإعلام السوفيتي بالتركيز في الدور المحوري للأمم المتحدة في حل الأزمة، وضرورة التسوية السلمية، في إطار موافقة الاتحاد السوفيتي على قرارات مجلس الأمن، ممثلاً للشرعية الدولية.

    لقد تأثر الموقف السوفيتي الداخلي بسياسات إعادة البناء والمكاشفة، والتيارات السياسية، المطالبة بالإصلاح والديموقراطية، في إطار يهدف إلى إلغاء الدور المركزي للحكومة والحزب، لكونهما المسؤولَين عن تردي الأوضاع، في الأعوام الماضية. فصدر تشريع، يلغي الدور القيادي للحزب الشيوعي، مما يُعد ثورة في نظام الحكم والمجتمع السوفيتي برمّته. بينما صدرت تشريعات أخرى للاستثمارات الأجنبية، ومُنح القطاع الخاص، للمرة الأولى في الاتحاد السوفيتي، اهتماماً أكثر.

    ومع تزايد المطالبة بالديموقراطية والإصلاح الاقتصادي، بدأ ترجّح الجهاز الحاكم، بين الحفاظ على الصيغة التقليدية، المتمسكة بالسلطة المركزية القوية وسياسات التخطيط والدعم والتدخل ... إلخ، وبين تغليب روح سياسة الإصلاح الاقتصادي ومتطلباتها، مع رفع يد الحكومة، وتخفيف قبضتها على مركزية التخطيط والتنفيذ، والدعم وتحديد الأسعار، والقطاع العام وسوق العمل والبطالة ... إلخ.

    وبالتدريج، ومع تواصل الصراع، الفكري والسياسي، داخل الاتحاد السوفيتي، تسربت في أرجائه روح الفوضى وعدم الانضباط، في المستويات المختلفة، في الإدارة والإنتاج، فظهرت، للمرة الأولى، في الدولة والمجتمع، ظواهر غير مألوفة. أما في الجمهوريات، فقد بدأت الوحدات المختلفة بالتحلل من التزاماتها، فلم تسلم حصص الإنتاج، المخصصة للمناطق والجمهوريات الأخرى، مما أدى إلى نقص متزايد في المواد، الأولية والغذائية، في موسكو وليننجراد. ونجم عن تواصل التدهور في الأوضاع السياسية، وتفاقم المشكلات القومية، تضاعف العجز في الإنتاج، وتناقص المواد الغذائية؛ وقدر العجز الاقتصادي، عام 1991، بمبلغ 15 مليار دولار، على الرغم من المعونات والقروض الغربية، التي وصلت إلى مبلغ مماثل.

    وانعكس تدهور الأوضاع وتفاقمها، داخل الاتحاد السوفيتي، على مركز جورباتشوف ونفوذه وسلطاته. وللمرة الأولى، يتضح أن هناك خللاً في النفوذ والسلطة، لا بالنسبة إلى الجمهوريات الاتحادية فحسب، بل داخل الجهاز المركزي للحكومة في موسكو، كذلك. وبات واضحاً أن هناك تصادماً بين تيارات القوى الثلاثة، التي تتجاذب جهاز الحكم في العاصمة السوفيتية، وهي التيار المتشدد الراديكالي[4]، والتيار المنفتح الليبرالي، تيار الوسط المعتدل، الذي يقوده ويمثله جورباتشوف. ومن مظاهر هذا التصادم، الصراع الحادّ بين الرئيس جورباتشوف وبوريس يلتسن (Boris Nikolayvich Yeltsin)، رئيس جمهورية روسيا الاتحادية، الذي اقترح إقصاء الرئيس السوفيتي عن منصب الرئاسة.

    وبرزت مشكلة القوميات، داخل الاتحاد السوفيتي، كأحد المصادر الرئيسية للخلاف، بين التيارات السياسية السائدة فيه؛ والمعروف أن جمهوريات البلطيق، ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا، إضافة إلى جمهوريتَي جورجيا ومولدافيا، تموج بتيارات الانفصال عن الاتحاد السوفيتي، وعزّز ذلك الموقف السلبي لجورباتشوف، بعدم استخدام العنف في إحباط هذه الظاهرة. ومن جهة أخرى، أعد الرئيس السوفيتي مشروعه، إنشاء اتحاد جديد بين الجمهوريات السوفيتية، يكون أقرب إلى الاتحاد الكونفيدرالي، ويتخذ نمط اتفاق تكاملي، يُرسى على أسس توافقية. وبمقتضاه، تتفق الجمهوريات السوفيتية على قواعد مُحددة، لاستخدام وتوزيع المواد المشتركة، الداخلية والخارجية، وتوزيعها، بما في ذلك القمح والغلال والنفط وكافة مواد الطاقة الضرورية.

    وفي الوقت، الذي بدأ يُعد جورباتشوف فيه لمشروعه الجديد، بدأ يدعم إجراءات حازمة، لفرض القانون والنظام، تعرضت لمعارضة شديدة، من أنصار مؤيدي الديموقراطية والإصلاح. وفي هذا المناخ، الذي يجمع بين فرض إجراءات الانضباط، والتمهيد لمشروعات الإصلاح، عرض جورباتشوف مسودة هيكل الاتحاد الجديد، على مجلس السوفيت الأعلى، فحاز موافقته على المشروع، وعلى طرحه للاستفتاء، في 17 مارس 1991. وقد تضمن هذا الاتفاق إقرار عقد اتفاقية جديدة للاتحاد، وأن أي جمهورية من الجمهوريات السوفيتية، بما فيها جمهوريات البلطيق أو جورجيا، لها أن تقرر البقاء أو الانسحاب من الاتحاد الجديد. والشيء الجديد في هذا الاتحاد، هو تعديل اسم الاتحاد السوفيتي، ليصبح "اتحاد الجمهوريات السوفيتية"، مع حذف لفظ "الاشتراكية".

2. الانقلاب السوفيتي وتداعياته

    في 19 أغسطس 1991، وقبل يوم واحد من توقيع المعاهدة الاتحادية، فوجئ العالم بمحاولة الانقلاب الفاشلة على الرئيس جورباتشوف. إذ أعلن عزل الرئيس جورباتشوف، وتعيين نائبه، جينادي ياناييف(Gennady Yanayev)، رئيساً للدولة، وتشكيل لجنة الدولة لحالة الطوارئ، التي سيطر عليها الجيش وأجهزة الاستخبارات والأمن. وأشارت اللجنة في بيان لها إلى أنها تحمّل الرئيس جورباتشوف، وسياسته، تبعية الحالة التي وصلت إليها البلاد. وفرضت حالة الطوارئ في البلاد، لمدة ستة أشهر، في الوقت، الذي دعا فيه الرئيس الروسي، بوريس يلتسن، رئيس روسيا الاتحادية إلى المقاومة والعصيان المدني والإضراب العام.

    وبفشل الانقلاب، وعودة جورباتشوف إلى قمة السلطة، شهد المجتمع السوفيتي مجموعة متلاحقة من الأحداث الخطيرة، هيأت لها محاولة الانقلاب المناخ الملائم لتتطور وتتسارع. وفي مقدمة هذه الأحداث، استقالة جورباتشوف من رئاسة الحزب الشيوعي، في 24 من أغسطس 1991، ودعوته إلى إسقاط سلطة الحزب، في مختلف الجمهوريات. وعبّر الرئيس عن تلك الأحداث بقوله، إنها تعني "نعي الحركة الشيوعية، في جميع أنحاء العالم". أما الغرب، فَعَدّ هذه الأحداث، التي شهدها الحزب الشيوعي السوفيتي، خطوة جديدة نحو الإصلاح والتقارب. بينما أعلنت الصين، أنها تحترم إرادة الشعب السوفيتي، وتأمل أن تتطور العلاقات بين البلدَين؛ إلا أن بيان الخارجية الصينية، أكد استمرار الاشتراكية، كمنهاج للعمل، وعدم تأثرها بالتغيرات الخارجية، في الاتحاد السوفيتي. ومع هذه التداعيات، التي شهدها الحزب الشيوعي السوفيتي، برز التحدي الأشد خطراً، بين التحديات، التي تواجه الدولة السوفيتية واستمرارها، ككيان واحد. إذ أخذ العديد من الجمهوريات السوفيتية في إعلان استقلالها عن السلطة المركزية السوفيتية، لتشكل القضية الأولى، نظراً إلى ما طرحته من أسئلة، حول شكل الاتحاد السوفيتي الجديد، الذي يمكن أن يضم الجمهوريات السوفيتية. مما أثار مخاوف الغرب، خلال فترة الانقلاب، على الرغم من انخفاض درجة استعداد الأسلحة والصواريخ النووية، الموجهة نحو الولايات المتحدة الأمريكية، وحمله على المطالبة بضرورة مراقبة السلاح النووي السوفيتي، من خلال رقابة مركزية[5].

3. مواقف الدول، الخليجية والعربية، من الانقلاب

    على الرغم من خطر إطاحة جورباتشوف، وتأثيرها المباشر في مجريات الأحداث في المنطقة العربية، فإنها لم تشهد أي محاولة لتوحيد المواقف، أو التنسيق فيما بينها، على غرار ما شهده معظم مناطق العالم ودوله. لا، بل انقسم العالم العربي في موقفه إلى فريقَين، على تباين ردود الفعل داخل كل فريق. أولهما متحفظ، وهو غالبية الدول العربية. وثانيهما مؤيد لعملية إطاحة جورباتشوف، ويمثله العراق وليبيا والسودان، وبعض الأجنحة الفلسطينية. غير أن بعض دول الفريق الأول، تخطت حاجز التحفظ إلى اتخاذ بعض الخطوات العملية، المعبرة عن موقفها الحقيقي مثل المملكة العربية السعودية، التي أوقفت معونتها وقروضها الاقتصادية. إضافة إلى تأكيد عدد من الدول، مثل سورية وتونس، استمرار علاقات التعاون والصداقة، والنظر إلى التغييرات السوفيتية، على أنها مسألة داخلية. أما الفريق الثاني، فقد انطلق من دوافع متباينة، نسبياً، لتأكيد موقفه، بداية باختلال التوازن الدولي، الذي يتحمل جورباتشوف مسؤوليته؛ ومروراً بالفكر الأيديولوجي، كما هو الموقف، بالنسبة إلى ليبيا ونظرتها إلى أن ما حدث في موسكو، هو انتصار لفكرة الجماهيرية؛ وأخيراً، موقف الاتحاد السوفيتي، خلال أزمة غزو العراق الكويت، الذي ينظر إليه العراقيون على أنه موقف متخاذل وغير فعال، وأنه كان أحد الأسباب الجوهرية لحدوث الانقلاب.

4. الموقف السوفيتي، بعد الانقلاب

    خلال العامين السابقين على الانقلاب، انحسر الدور السوفيتي، المنافس للولايات المتحدة الأمريكية، على الساحة العالمية. وظهرت في البناء الداخلي للاتحاد السوفيتي، علامات الضعف الشديد، بل التمزق. ولكنه بقي محافظاً، حتى انقلاب أغسطس 1991، على حدوده، التي عرف بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. غير أن الأوضاع، أخذت في التغير تغيراً جذرياً، بعد فشل انقلاب الشيوعيين المحافظين، الذي أدى إلى ثلاث ظواهر:

أ.  نال ثلاث من جمهوريات الاتحاد السوفيتي، الخمس عشرة، استقلالها. وهي جمهوريات البلطيق: لاتفيا وأستونيا وليتوانيا.

ب. وقعت السلطة السوفيتية المركزية، تحت إرادة إقليمية، تمثلت، أساساً، في التيار، الذي تقوده جمهورية روسيا الاتحادية، ويتركز، في ظاهره وباطنه، على تقطيع أوصال الاتحاد السوفيتي.

ج. باتت الاتجاهات الاستقلالية، تعم سائر جمهوريات الاتحاد السوفيتي.

    وهكذا، اتخذ الاتحاد السوفيتي طريقه، خلال الأشهر الأخيرة من عام 1991، إلى التفكك.

5. تفكك الاتحاد السوفيتي

    انتهى الاتحاد السوفيتي مع نهاية عام 1991، على أثر استقالة جورباتشوف. ولكن شعوبه، لم تَزُل بزواله. فهو يمثل تجربة فريدة، إذ إنه قد يكون الدولة الوحيدة في العالم، التي لم تكن تنتسب إلى هوية شعب بعينه، ولا إلى موقع جغرافي محدد، أريد لها، أن تصبح نواة نظام اشتراكي، شيوعي[6].

    ويمكن القول، إن الوجود السياسي للاتحاد السوفيتي، قد انتهى، رسمياً، حينما اتفق رؤساء إحدى عشرة جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي (روسيا، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا، وأرمينيا، ومولدافيا، وأذريبجان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، وتركمنتسان، وكازاخستان، وقرقيزيا) ـ على إلغاء الاتحاد السوفيتي، وتكوين رابطة الدول المستقلة، في مؤتمر "الماآتا"[7]، المنعقد في 20 ديسمبر 1991. ففي هذا المؤتمر، وقع رؤساء الجمهوريات الإحدى عشرة، ثلاث اتفاقيات:

·   الاتفاقية الأولى، ألغوا، بموجبها، كيان الاتحاد السوفيتي، وأنشأوا رابطة الدول المستقلة.

·   الاتفاقية الثانية، أطلق عليها "إعلان الماآتا" واعترفوا، بمقتضاها، باستقلال الجمهوريات المؤسسة، في إطار حدودها الحالية.

·   والاتفاقية الثالثة، أنشأوا قيادة عسكرية مؤقتة، للقوات المسلحة في الدول الأعضاء، حتى نهاية عام 1991، ريثما يُتَّفَق على وضعها النهائي، على أن تكون القوات، التقليدية والنووية، تحت إمرة تلك القيادة.

    وبانهيار الاتحاد السوفيتي، هوى رمز الاشتراكية، وتداعت قلعتها الأمنع. بل أدى سقوطه إلى ثورة، تغيرت معها خريطة العالم، حتى أمسى الحدث الأبرز، في النصف الثاني من القرن العشرين. فبعد تجربة سبعين عاماً وتطبيق مفاهيم وأفكار سياسية، وُصفت بالاشتراكية، التي ارتبطت بالنظرية الماركسية وبالصراع مع الغرب، وقيادة الطبقة العاملة. انهار البناء السوفيتي، تحت وطأة أفكار الإصلاح، والابتعاد التدريجي عن الأفكار اللينينية، والسياسات التقليدية، التي انتُهِجت خلال تلك التجربة.

    وما حدث طوال عام 1991، وانتهى إلى اختفاء الصيغة الفيدرالية، لم يكن، في واقع الأمر، إلاّ استمراراً لاتجاه سابق، أصاب كافة تجارب التطبيق الاشتراكي، في بلدان أوروبا الشرقية، ودفع بها إلى التخلي التام عن تجربتها السابقة في الحكم، والمسارعة إلى التحول الرأسمالي، والتعددية السياسية.

    وقد أدى تفكك الاتحاد السوفيتي إلى التحلل من إلتزاماته الخارجية، والانتهاء إلى قبول العودة إلى صفوف الدول التابعة. والواقع، أن تفكك الاتحاد السوفيتي، تمخض بأربعة آثار رئيسية:

أ. تغيّر حاسم في الحقل، الثقافي والأيديولوجي، العالمي؛ إذ لم يكن الاتحاد السوفيتي تجسيداً لقوة عظمى فحسب، بل لأيديولوجية عالمية، كذلك، كانت قادرة، لحقبة طويلة، على مخاطبة جوانب معينة، من كل الأنظمة الثقافية الكبرى في العالم. واختفاء الاشتراكية، كتحدٍّ مباشر لهيمنة الثقافة السياسية الغربية، أحدث تغييراً حاسماً، في الحقل، الثقافي والأيديولوجي، على مستوى العالم.

ب. تبدّل جذري في علاقات القوة في العالم وتوزّعها. ولا يقتصر هذا القول على المعنى المباشر لانهيار الاتحاد السوفيتي، كقوة مقابلة للولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل يتضمن، كذلك، ظهور علاقات قوية، جديدة، بين المراكز الصناعية الرأسمالية المتقدمة نفسها، وبينها مجتمعة وبين العالم الثالث. كما ينطوي على بروز معضلات مؤسسية جديدة، في صدد تنظيم علاقات القوة، بين هذه المراكز، وبينها وبين الأطراف الأخرى، بل بين النظام الدولي والأنظمة الإقليمية المختلفة في العالم، كذلك.

ج. إعادة هيكلة الجغرافيا السياسية، لأوروبا الشرقية ووسط آسيا، اللتَين شهدتا شهدت نوعاً من الاستقرار، فرضته القوة العسكرية السوفيتية الضخمة، التي أحدثت نوعاً من التوازن العسكري، بين الاتحاد السوفيتي والغرب. وبمعنى آخر، فإن الاتحاد السوفيتي، مثّل قوة مركزية جاذبة، في أوروبا، ولا سيما شرقيها ووسطها وجنوبيها، لكونها البؤرة المتفجرة، لمستودع هائل من القوميات المتصارعة. ومع تفكك الاتحاد السوفيتي، انفتح الباب على مصراعيه، لتصاعد المسألة القومية، منذراً بتمزيق دول شرقي أوروبا ووسطها وجنوبيها؛ وهو ما أثبتته الأحداث، فيما بعد، ويوغوسلافيا خير مثال على ذلك.

د. الاهتمام الدولي بمصير الأسلحة النووية، بعد غياب السلطة المركزية السوفيتية، وبمن يملك حق السيطرة على عمل هذه الترسانة الهائلة من أسلحة الدمار الشامل؛ وازداد الاهتمام بها، لانتشارها في غير جمهورية سوفيتية. ومع استقلال تلك الجمهوريات، وبروز سلطات محلية فيها، أصبح هناك غير جهة، تملك إمكانات السيطرة والتأثير في حركة تلك الأسلحة وعملها. وتبدو أهمية القضية في ضوء الحقائق الخاصة بالترسانة النووية السوفيتية، التي تصل إلى 28 ألف رأس نووي، موزعة على الجمهوريات، التي كانت تشكل عصب الاتحاد السوفيتي، قبْل تفككه[8].

    وأثارت مسألة السيطرة على هذه الأسلحة، قلق الولايات المتحدة الأمريكية، ودول أوروبا، بدرجات مختلفة؛ إذ خشيت وقوع بعض هذه الأسلحة في أيدي جهات معادية للولايات المتحدة الأمريكية، أو خروج علماء في المجال النووي، إلى دول، تسعى واشنطن إلى الحؤول دون امتلاكها أسلحة الدمار الشامل.

6. الدول العربية وتفكك الاتحاد السوفيتي

    ما من شك في أن تفكك الاتحاد السوفيتي، كان له العديد من النتائج والانعكاسات الضخمة على الدول العربية. فغياب أحد قطبَي التوازن الدولي، وهو الحليف العالمي، الرئيسي، لبعض الدول العربية، على صراعها، الإقليمي والعالمي، ضد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ـ كان لا بدّ أن يؤثر في وضع العرب، على المستوى الدولي.

    إن سقوط القطب السوفيتي، أدى إلى انفراد القطب الأمريكي المنتصر بالإمساك بناصية التوازن الدولي، وتحوّل النسق الدولي إلى حالة من القطبية الأحادية. وترتب على ذلك عدة نتائج، كان لها تأثيرها في الدول العربية، منها، على سبيل المثال:

أ. انعدام هامش المناورة المستقلة أمام الدول العربية

    كان الاتحاد السوفيتي، في عصر التوازن الثنائي والحرب الباردة، يمثل أحد الخيارات أمام بعض الدول العربية، على الأقل، لتقليص مساحة الهيمنة الغربية. وفي هذا الإطار، حصل العرب على السلاح، ابتداءً من صفقة الأسلحة التشيكية، ومروراً بالتكنولوجيا المتقدمة. ومع غياب الاتحاد السوفيتي، واتجاه وريثه الروسي إلى التحالف الكامل مع الغرب، اضمحلت مساحة المناورة المستقلة أمام العرب. وانفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالساحة الدولية، وتسوية المنازعات الدولية.

ب. تدهور مكانة الدول العربية في النسق الدولي، وتراجع أهمية قضاياها

    أدى تفكك الحليف السوفيتي، وتلاشي هامش المناورة المستقلة، أمام العرب، وتزايد اعتمادهم على المجموعة الغربية ـ إلى تدهور مكانة الدول العربية في النسق الدولي، العالمي، من ناحية، وفي إطار منظومة العالم الثالث، من ناحية أخرى. فقلّت قدرتها على التأثير في المتغيرات الدولية.

ج. الهيمنة الأمريكية، والتحرش بالدول العربية التي كانت تسير في فلك الاتحاد السوفيتي

    إن انفراد دولة عظمى بالهيمنة على النسق الدولي، في مرحلة تاريخية معينة، ليس بظاهرة جديدة. ولكن الجديد في الهيمنة الأمريكية، الناشئة عن التفكك السوفيتي، والتحالف الأمريكي ـ الروسي، هو أنها اتّسمت بروح المنتصر النهائي على الغريم الأيديولوجي، والاعتقاد أنه قد آن الأوان للقضاء على كل بقايا مؤيدي هذا الغريم، في دول العالم الثالث.

    وفي هذا الإطار، كانت الحملة الأمريكية، لتدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية، وتحرش الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بليبيا. ومنع توريد السلاح إلى سورية، من خلال اعتراض البحرية الألمانية سفينة الشحن، التي تحمل إليها دبابات تشيكية، مع تجاهل تدفق الأسلحة من ألمانيا الشرقية (سابقاً) إلى إسرائيل.

    د. تحويل الأمم المتحدة إلى مؤسسة تابعة

    عُدَّت الأمم المتحدة، في عصر التوازن الدولي والحرب الباردة، إحدى القنوات المتاحة للدول الصغرى، للتعبير عن سياساتها الخارجية، والاستفادة من مواردها في أغراض التنمية. فاستعمال الاتحاد السوفيتي حق النقض (الفيتو)، في مجلس الأمن، وتأييد الدول الاشتراكية قضايا العالم الثالث، في الجمعية العامة، وفّرا لتلك الدول وسيلة دولية للقضاء على الاستعمار، والسعي إلى القضاء على الفصل العنصري، والتركيز في التنمية، في العالم الثالث. ومع تحول التوازن الدولي نحو الاختلال الشديد تحولت معادلة الأمم المتحدة، فأصبح من الميسور للولايات المتحدة أن تستصدر ما تشاء من القرارات، من مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. ومن ذلك إلغاء القرار الرقم (3379)، الصادر عن الجمعية العامة، عام 1974، والذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية، وهي سابقة في الأمم المتحدة. وكذلك، إصدار مجلس الأمن القرار الرقم (731)، الذي يطالب ليبيا بالإذعان لمطالب الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، بتسليم المتهمين الليبيين في حادث سقوط الطائرة الأمريكية، عام 1988، فوق لوكيربي؛ وذلك كتمهيد لإصدار قرارات أخرى مضادة لليبيا. ومع إصرار واشنطن على تنفيذ هذا القرار، فإنها لم تصر على تنفيذ القرار، الصادر في 6 يناير 1992، والداعي إلى إعادة إسرائيل المطرودين الفلسطينيين إلى أراضيهم.

    بيد أن وجود القطب السوفيتي في معادلة التوازن الدولي، لم يقتصر على التأثير الإيجابي؛ إذ إن الاتحاد السوفيتي، لم يكن دائم التأييد للقضايا العربية. وعلى سبيل المثال، فدعمه، السياسي والاقتصادي والعسكري، للعرب، كان له، دائماً، حدود، ولم يْرقَ أبداً إلى مستوى الدعم الأمريكي لإسرائيل. ناهيك الفجوة بين المفهوم السوفيتي للصراع العربي ـ الإسرائيلي، والمفهوم العربي له، وإيثار السوفيت منذ عام 1948، تسوية تفاوضية، عربية ـ إسرائيلية. زد على ذلك أن القدرات العسكرية العربية، المدعومة سوفيتياً، لم ترق إلى مستوى القدرات العسكرية الإسرائيلية، المدعومة أمريكياً. بل إن الاتحاد السوفيتي، عارض برنامج التصنيع الحربي المصري، خلال الستينيات، وأصر على إغلاق مصانع الطائرات المصرية، عام 1969، كشرط لاستمرار الدعم العسكري لمصر. إضافة إلى ذلك، فإن الاتحاد السوفيتي، بدأ، منذ عهد جورباتشوف يراجع سياساته إزاء القضية الفلسطينية، متحدثاً عن حلول وسط، عربية ـ إسرائيلية، مغلفاً ذلك بمفهوم "الاعتماد المتبادل".

    فضلاً عن ذلك، فإن التطورات السوفيتية تفتح الباب أمام نتيجتَين مهمتَين، بالنسبة إلى العرب، هما:

(1) تعاظم إمكانات التسوية السلمية للقضية الفلسطينية

    أدى الاستقطاب الدولي الثنائي إلى دخول القضايا العربية في دائرته. فما كان يوافق عليه الاتحاد السوفيتي، كانت الولايات المتحدة الأمريكية، تسارع إلى رفضه. وقد أدى ذلك إلى تجميد القضايا العربية. أمَا وقد اختفى التحدي السوفيتي للدور الأمريكي، وتحوّل الروس إلى التعاون مع الأمريكيين، فقد أصبح ممكناً الحديث عن حلول عملية للقضايا العربية.

(2) اختفاء التحدي السوفيتي، وإمكانية ظهور أقطاب دولية، موازية للقطب الأمريكي

    كان التحدي السوفيتي أحد العوامل الدافعة تماسك التكتل الأطلسي، وقبول اليابان الزعامة السياسية للمعسكر الغربي. ومع زوال هذا التحدي، وبروز أوروبا، كقوة اقتصادية موحدة، في منتصف التسعينيات، واستمرار القوة الصينية، وتفاقم الأزمات الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية ـ أمكن ظهور أقطاب دولية جديدة، توازن القطب الأمريكي، على الأقل في الميدان الاقتصادي.

    وآذنت هذه المتغيرات بخلاف أمريكي ـ ياباني، في شأن التجارة الدولية. وكذلك خلافات مماثلة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، حيث تطالب أوروبا بتنازلات في إجراءات الحماية التجارية.

7. أثر التفكك السوفيتي في التوازن الإقليمي

    أسفر تفكك الاتحاد السوفيتي عن عدة نتائج، أثرت في التوازن العربي مع دول الجوار الجغرافي، وبالتحديد مع إسرائيل وتركيا وإيران. ويمكن أن تتلخص في الآتي:

أ. التوازن العربي ـ الإسرائيلي

    اعتمد بعض الدول العربية على الاتحاد السوفيتي، كمصدر وحيد، أو رئيسي، أو أحد مصادر تسليحها. فغدا سلاحها سوفيتياً، حتى نهاية الثمانينيات، مثل سورية وليبيا والجزائر والعراق، والأردن أحياناً.

    وتأثرت إمداداتها، من السلاح السوفيتي بالتأثير الأمريكي في روسيا، والنفوذ الصهيوني المتصاعد. وفي المقابل، حصلت إسرائيل على جميع مطالبها، ذات التكنولوجية العالية، من الولايات المتحدة الأمريكية. وفي غيبة صناعة عسكرية عربية، متطورة، قادرة على توفير السلاح المتطور، داخل المنطقة العربية ـ تأثّر العديد من الدول العربية بهذا الوضع، مما أخلّ بالتوازن العسكري في المنطقة، في مصلحة إسرائيل، مع فقدان العرب مصدراً مهماً من مصادر التسليح.

ب. التوازن العربي مع إيران وتركيا

    سعت إيران، عقب حرب الخليج، إلى أداء دور إقليمي ناشط. فحاولت استقطاب الجمهوريات الإسلامية، في آسيا الوسطى والقوقاز. وكجزء من هذا السعي، اقترحت تكوين منطقة تعاون، للدول المطلة على بحر قزوين، تضم أذربيجان وروسيا وكازاخستان وتركمنستان وإيران، يكون مقرها طهران. وأسفرت الجهود الإيرانية عن بعض النتائج المهمة، فظهرت طهران كأنها القوة صاحبة النفوذ الأكبر في أرمينيا وأذربيجان، حيث استخدمت نفوذها المذهبي في أذربيجان؛ حيث استغلت مواردها الطبيعية وقدراتها التكنولوجية، فعقدت معها اتفاقية، في الأول من فبراير 1992، تنص على تصدير الغاز الطبيعي الإيراني إليها، ومساعدتها على بناء معمل لتكرير النفط. فضلاً عن الدور الإيراني في تسوية النزاع الأرميني ـ الأذربيجاني. كما أنشأت إيران علاقات تعاون مع روسيا الاتحادية وكازاخستان، حيث تعاقدت على العديد من صفقات السلاح الجديدة، بلغت قِيمتها مليار دولار، وشملت طائرات من نوع (Mig-29)، ودبابات (T-72).

    أما تركيا، فكان تحركها أكثر اتساعاً وشمولاً؛ إذ استندت إلى أصولها العرقية، المشتركة مع غالبية شعوب آسيا الوسطى والقوقاز. فضلاً عن تطلعاتها الذاتية إلى استعادة دورها القديم، في تلك المنطقة، خاصة بعد ظهورها كإحدى الدول الرابحة في أزمة الخليج. كما استندت تركيا، في تحركها في آسيا الوسطى، إلى دعم أمريكي قوي، لكونها عضواً في حلف شمال الأطلسي؛ والرغبة في إبعاد التأثير الإيراني عن الجمهوريات الإسلامية؛ أو للحيلولة دون أي تعاون عربي واسع النطاق مع تلك الجمهوريات.

    ناهيك أن جمهوريات آسيا الوسطى، رحبت بالتعاون مع تركيا، كنموذج علماني، ترضيه، ويمكن أن تقتدي به. ففي أثناء زيارة كريموف، رئيس أوزبكستان، إلى تركيا، أعلن أن بلاده، سوف تسير قدماً في الطريق التركي. كما قال نازاباييف، رئيس كازاخستان: "إننا نريد إقامة اقتصاد السوق الحرة. والنموذج الوحيد أمامنا، هو تركيا".

    وارتبطت تركيا، فعلاً، بعلاقات قوية ببعض جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز. فاتفقت، مثلاً، مع أذربيجان، على تدريب قواتها العسكرية، وفقاً للنظُم التركية، وعلى بناء مؤسساتها، وتصدير آلات الطباعة إليها بالحروف التركية.

    ومن الواضح، أن تفكك الاتحاد السوفيتي، ونشوء جمهوريات مستقلة، في آسيا الوسطى والقوقاز، أدّيا إلى مزيد من الاختلال في التوازن العربي مع دولتَي الجوار الجغرافي، تركيا وإيران، وفي مصلحتهما.




[1] توزعت المسؤوليات في إطار هذين الخطين أو هاتين الدائرتين والقلب، بحيث أصبح تشيني مسؤولاً عن الخليج، وأوروبا الغربية مسؤولة عن البحر المتوسط، وجيمس بيكر مسؤول عن منطقة الوسط أو القلب.

[2] مثل جمهورية كازاخستان وروسيا البيضاء وأوكرانيا.

[3] نشرت بعض تفاصيل هذه الوثيقة في جريدة الأهرام، العدد الصادر في 25 أبريل 1992.

[4] يؤيد هذا التيار التمسك بالأسس الاشتراكية ويفضل الحفاظ على دور قيادي ومؤثر للحزب، ويعبر عن هذا الاتجاه جماعة الاتحاد (سويوز) المكونة من 581 نائباً بمجلس السوفييت الأعلى أي أكثر من ربع عدد أعضائه.

[5] كان ذلك أحد الموضوعات الرئيسية في المحادثات التي جرت بين جون ميجور وكل من جورباتشوف وبوريس يلتسن خلال زيارة الأول لموسكو في الأول من سبتمبر 1991.

[6] كانت جمهوريات أستونيا ولاتفيا ولتوانيا قد استقلت في أغسطس 1991، كما رفضت جورجيا الانضمام إلى الرابطة. ثم انضمت جورجيا إليها في وقت لاحق.

[7] الماآتا: عاصمة جمهورية كازاخستان، وهي إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وتشتهر كازاخستان عالمياً بالمركز الفضائي ومركز التجارب النووية في "سيميبا لاتنسك".

[8] عدد الرؤوس النووية في روسيا بلغت 19 ألف، وفي أوكرانيا (4 آلاف)، وفي كازاخستان (1800)، وفي بيلوروسيا (1250)، والباقي موزع داخل باقي الجمهوريات.