إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية، بعد "عاصفة الصحراء" حتى نهاية عام 1991









مقدمة

المبحث الثاني

بروز دور بعض القوى الإقليمية، في مرحلة ما بعد الحرب

(إيران ـ تركيا)

    أسفرت أزمة الخليج عن فراغ، أمني وإستراتيجي، في الوطن العربي، أغرى دول الجوار، غير العربية، مثل إيران وتركيا، بأدوار أكبر، في الترتيبات والتوازنات الإقليمية الجديدة.

أولاً: بروز الدور الإيراني

    في يناير 1991، شرح الرئيس الإيراني، رفسنجاني، موقف بلاده من أزمة الخليج، التي فجرها الاحتلال العراقي للكويت، فقال: "إننا لن نسفك دماءنا، لكي تحقق الولايات المتحدة الأمريكية النصر. كما أننا لن نسفك دماءنا، لكي يبقى العراقيون في الكويت؛ ففي هذه الحالة، سيصبح الخليج الفارسي، غداً، الخليج العربي. أليس هذا هو الانتحار بعينه؟".

    لئن كان الموقف المحايد، الذي اتخذته إيران من أزمة الخليج وحربه ذات قيمة كبيرة، بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، فإن نفعه لطهران كان أكثر. إذ حققت مأربها، حينما أعلن العراق، في 15 أغسطس 1990، تخلّيه عن المطالبة بالسيادة على ممر شط العرب المائي، رغبة منه في كسب إيران إلى جانبه، وهي إحدى القضايا، التي كانت قد حالت دون تحقيق السلام بينهما، بعد أكثر من سنتَين من وقف إطلاق النار[1]. ومن جهة أخرى، فإن دور الحياد، الذي أدته إيران بمهارة، سمح لها بأن تكون مركزاً للمفاوضات المكثفة، قبْل حرب الخليج وأثناءها، مما قضى على عزلتها في المنطقة. وإلى جانب هذه المكاسب السياسية، حققت إيران مكاسب أخرى، على الصعيدَين، العسكري والاقتصادي.

    فمن الناحية العسكرية، أصبحت إيران القوة العسكرية الأولى في الخليج، بعد انهيار القوة العراقية. وغدت مرشحة لملء فراغ القوة، في المنطقة. كما تدعم سلاح الجو الإيراني بالطائرات العراقية، التي لجأت إلى القواعد الجوية الإيرانية، خلال فترة الحرب، والتي بدا من تصريحات المسؤولين الإيرانيين، أنهم قرروا الاحتفاظ بها. وهي تضم نحو 114 طائرة قتال[2]، تُعَدّ أفضل ما كانت تشمله ترسانة الجو العراقية.

    وخلال الأشهر الثلاثة الأولى، التي عقبت حرب الخليج، أظهرت إيران عزمها على أداء دور مهم وناشط، في مستقبل منطقة الخليج. فقد شرعت في تنفيذ برنامج شامل، لإعادة بناء قواتها الجوية، يتضمن إعادة تأهيل ما بقي في حوزة سلاح الجو الإيراني، من طائرات مقاتلة، أمريكية الصنع، كانت قد حصلت عليها، عهد الشاه.

   أما على الصعيد الاقتصادي، فتكاد إيران تكون الدولة الخليجية، الوحيدة التي استفادت من الأزمة، بسبب ارتفاع أسعار النفط الخام، خلال الأشهر الخمسة الأولى، إلى معدلات ازدادت، أحياناً، على 40 دولاراً. ويُقدر الدخل الإضافي، الذي حققته إيران من عائداتها النفطية، خلال الأزمة، بما يفوق سبعة مليارات دولار.

    وأعلن غلام رضا أغازادة، وزير النفط الإيراني، عزم بلاده إعادة بناء صناعتها النفطية، وتطوير عمليات الاستكشاف والإنتاج، مؤكداً أن إيران، سترفع إنتاجها النفطي من 3.5 ملايين برميل إلى خمسة ملايين برميل، يومياً، بحلول عام 1993. وقد جاء "مؤتمر النفط والغاز"، الذي عقد أواخر مايو 1991، في مدينة أصفهان الإيرانية، مؤشراً إلى القوة الإيرانية المتصاعدة. فقد وجهت إيران الدعوة إلى أكثر من 350 شخصية رسمية من المهتمين بقطاع النفط، على المستوى الوزاري، ومستوى رؤساء الشركات النفطية العالمية، لحضور هذا المؤتمر، الذي تبنته وزارة الخارجية الإيرانية. وحرصت خلاله على استقطاب الاهتمام العالمي بإيران، وإبراز الانفتاح الإيراني على الدول العربية الخليجية، خاصة المملكة العربية السعودية، التي كانت قد أعادت علاقاتها الدبلوماسية بإيران، في 21 مارس 1991.

    ولإيران موقف واضح إزاء العراق، أعلنته بعد الحرب. قوامه رفضها تقسيمه، أو تكوين دولة مستقلة للأكراد فيه، ودفاعها عن سيادة أراضيه، وتأييدها الخيار الديموقراطي فيه. وحملت التطورات إيران، على إعادة صياغة مفهومها للأمن الإقليمي، الذي يحقق طموحاتها، أن تكون الدولة الإقليمية الكبرى المهيمنة، خصوصاً مع تجدد الخطر والتهديد. فإذا كان العراق، العدو التقليدي لطموحات الهيمنة الإيرانية في الخليج، قد تلاشت، أو على الأقل تراجعت أخطاره، في الأجل القريب، وربما في المتوسط، فإن الوجود العسكري الأمريكي، والطريقة التي أدارت بها الولايات المتحدة الأمريكية الحرب ضد العراق، والأسلحة التي استخدمتها، وآثارها التدميرية ـ كلها مستجدات، ضاعفت الأخطار، التي تتهدد الأمن القومي الإيراني، والطموحات الإقليمية الإيرانية. ومن ثَم، كان لا بدّ أن تنعكس على الوعي الأمني الإيراني، والمفهوم الإيراني للأمن الإقليمي.

    كانت الدروس، المستفادة من حرب الخليج، صارخة، وشديدة الوضوح، وبالغة الثراء، بالنسبة إلى إيران؛ إذ أوضحت أهمية الاحترافية العسكرية، والكفاءة، وفائدة نشر نُظُم الأسلحة الحديثة، وهشاشة البنى التحتية، الباهظة النفقات، وانكشافها أمام الضربات الجوية الدقيقة.

    كان لحرب الخليج، بما احتوته من استعراض للقوة الأمريكية، والتكنولوجيا المتقدمة، أثرها في إحباط شعور إيران بأهميتها، كأكبر دولة إقليمية في المنطقة، فأدت، من وجهة النظر الإيرانية، إلى تشويه النظام الطبيعي للعلاقات الإقليمية. ولذلك، وجدت نفسها معنية بالرد على هذه التطورات.

    وعبّرت إيران عن إدراكها خطر هذه المستجدات، من خلال إعلانها:

1.  رفض أي تغيير في الحدود السياسية، بين الدول الخليجية، خصوصاً إذا اقتضى إعادة ترتيب المنطقة، على نحو ينال من الأهمية الإستراتيجية لإيران، أو يقوي، على حسابها، المركز النسبي لتركيا.

2.  حرصت إيران على وحدة التراب الوطني العراقي، من منظور أن العراق، يُعد عمقاً إستراتيجياً لها، والحفاظ على وحدته ضمانة أساسية، من ضمانات التكامل، الإقليمي والقومي الإيراني نفسه، كما أنه يحفظ حداً أدنى من العلاقة به، أو على الأقل تحييده.

3.  ضرورة الحفاظ على التوازن الإستراتيجي، التركي ـ الإيراني، انطلاقاً من مشكلة الأقلية الكردية الإيرانية، التي تجسد الخلفية، التي ينبع منها هذا التصور الإيراني.

4.  رفض الوجود الأجنبي في الخليج، الذي شكلته الولايات المتحدة الأمريكية، لطرد العراق من الكويت، والذي قبلته، على مضض. وفور انتهاء حرب الخليج، أكدت مجدداً وجوب خروج القوات الأجنبية من المنطقة، وأن أمن الخليج، هو مسؤولية الدول المطلة عليه. وعبّر عن هذا الرأي الرئيس الإيراني، رفسنجاني، خلال زيارته تركيا، في أوائل مايو 1991، حين وجّه النقد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، قائلاً: "إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية، تريد فرض نظامها الأمني الخاص، على شعوب المنطقة، فلا أعتقد أن أي بلد، سيقبل بهذا. لقد كنا ضد القوات الأجنبية في المنطقة، حين بدأت أزمة الخليج. وما زلنا ضد وجودها".

5.  وسعت إيران مفهوم الوجود الأجنبي، ليشمل الوجود العربي، كذلك. فرفضت "إعلان دمشق"، وأصرت على إسقاطه، وفاقاً لرؤيتها إلى فارسية الخليج، وسعيها إلى تأكيد أهميتها السياسية في المنطقة.

6.  تأكيد أن صيغة التعاون، الأمني والسياسي والاقتصادي، الشامل، بين دول منطقة الخليج، هي الأنسب للحفاظ على الأمن الإقليمي، والإطار الأمثل لتنظيم العلاقات الإيرانية ـ الخليجية، وتأمين المنطقة، في المستقبل، ضد أي أحداث، على شاكلة العدوان العراقي على الكويت.

    وبلورت إيران مشروعاً شاملاً، بديلاً من "إعلان دمشق"، والاتفاقيات الثنائية بين دول الخليج والولايات المتحدة الأمريكية. وقدمته إلى الدول الخليجية. وهو يتضمن:

·   إنشاء مجلس خليجي لشؤون الأمن، يضم جميع الدول الخليجية. ويتولى مناقشة القضايا الأمنية والشؤون الإستراتيجية، وفقاً لمصالح الدول الأعضاء.

·   تقسيم مسؤولية الأمن بين الدول الأعضاء، المطلة على الخليج، على أن يكون بينها تنسيق مباشر، ومستمر.

·   إنشاء مراكز للاستطلاع والمراقبة، في نقاط محددة من الخليج لرصد تحركات القوى غير الخليجية وأنشطتها. وإذا وجدت دولة من الدول الأعضاء خطراً على مصالحها، نتيجة هذه التحركات، فعلى بقية الأعضاء الإسهام في إزالته.

    وتقدمت إيران بنص لتوقيع اتفاقيات عدم اعتداء، ثنائية أو جماعية، مع دول مجلس التعاون الخليجي. وفي هذا الإطار، أعلن حسن حبيبي، نائب الرئيس الإيراني، أن "قدرات إيران في المنطقة، أبرزت أنه لا يمكن إلغاء نفوذها. وأن الوجود الإيراني، لا غنى عنه، من أجل تحقيق الأمن في الخليج".

    كما أكد علي أكبر ولايتي، وزير الخارجية الإيراني، حين لقائه وزراء خارجية دول مجلس التعاون، في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ـ أن "أحد الأسباب، التي تجعل إيران تؤكد على التعاون مع دول حوض الخليج الفارسي، هو أهمية الارتباط بين دول المنطقة، والذي سيؤدي، بدوره، إلى إضعاف دور الوجود الأجنبي في المنطقة".

7.   تطوير القوة العسكرية الإيرانية، تحقيقاً لرؤية إيران إلى الأمن الإقليمي في الخليج. ولا يقتصر التطوير على القدرات العسكرية التقليدية، وإنما يتخطاها إلى الأسلحة غير التقليدية، أي أسلحة الدمار الشامل، ولا سيما تلك النووية والكيماوية والبيولوجية، ووسائل حملها، من الصواريخ الباليستية.

    وعلى الرغم من الاتهامات، الأمريكية والإسرائيلية، الموجهة إلى إيران، بالسعي إلى امتلاك تكنولوجيا وقدرات تصنيع أسلحة نووية، وصواريخ بعيدة المدى، قادرة على الوصول إلى إسرائيل ـ فليس هناك ما يؤكد أو ينفي، جدية السعي الإيراني، بالنسبة إلى الأسلحة النووية خاصة. ومع ذلك، فإن أغلب الدراسات، التي ترجح هذا السعي، ترتكز على استنتاجات، مستمدة من نيات إيرانية، في هذا الخصوص، ضمن إطار الأهداف السياسية العليا لإيران، على المستويَين، الإقليمي والعالمي، وضمن إطار التهديدات، التي واجهتها، وتلك المحتملة، في السنوات القادمة.

    وترى إيران، أن امتلاكها أسلحة الدمار الشامل، سيؤدي إلى حماية النفس، أمام محاولات الضغط النووي، من جانب القوى الأخرى، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل، ثم العراق، بعد إلغاء الحظر الدولي المفروض عليه، وعودته، مجدداً، إلى المنافسة في الزعامة الإقليمية.

1. موقف إيران من الاتفاقية الأمنية الكويتية ـ الأمريكية

    اعترضت إيران، بشدة، على اتفاقية التعاون الأمني، بين الكويت والولايات المتحدة الأمريكية، التي أبرمت إبّان زيارة وزير الدفاع الكويتي إلى واشنطن، في 19 سبتمبر 1991، والتي تنص، طبقاً لما جاء في المصادر الكويتية، على:

أ.  تمركز عدة آلاف من القوات الأمريكية، على الأراضي الكويتية، تدعمهم قوة بحرية، في مياه الخليج.

ب. وجود قاعدة، تحتوي على معدات ثقيلة أمريكية.

ج. حصول الولايات المتحدة على تسهيلات، في الأراضي الكويتية.

د.  وأخيراً، تنفيذ مناورات وتدريبات مشتركة، بين الجانبين.

    وأكد أعضاء المجلس الأعلى للأمن القومي، في إيران، "أن توقيع الاتفاق الأمني، يتعلق بخطة أمريكية، تخلق صيغة تشريعية، للتدخلات الأمريكية في شؤون المنطقة". أما الخارجية الإيرانية، فاستدعت السفير الكويتي، للإعراب عن احتجاجها على الاتفاقية الأمنية. وأعلن وزير الخارجية الإيراني، أثناء لقائه أمير الكويت، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في منتصف سبتمبر 1991 ـ أن الوجود الأجنبي، لا يضمن الأمن في المنطقة. وأن أمن الخليج، لا يضمنه سوى دوله. ووصفت إذاعة طهران الاتفاقية بأنها خطة أمريكية، لإضفاء الشرعية على تدخلات مقبِلة في المنطقة. وأضافت "أن حرب الخليج، أظهرت أن تدخّل القوى الأجنبية أنقذ الكويت من الاحتلال العراقي؛ لكن التدمير، يذكرنا بحقيقة أخرى، مفادها أن الأمن، يجب أن يتأسس على التفاهم الإقليمي، وينجم عن التعاون المخلص بين دول المنطقة".

2. موقف إيران من التطورات الداخلية في العراق

    كان لإيران موقف واضح من مستقبل العراق، بعد الحرب. أعربت فيه عن رفضها تكوين دولة مستقلة للأكراد، في شمالي العراق. كما رفضت المخطط الأمريكي لتقسيمه، احتراساً من تأثير التقسيم في تركيبها الاجتماعي الأمني، نظراً إلى وجود أقليات، عربية وتركية وكردية، داخل إيران. كذلك اعترضت على المشروع التركي، الذي عبّر عنه الرئيس تورجوت أوزال، والذي يقضي بإنشاء كونفيدرالية في العراق، من ثلاثة شعوب، عرب وأتراك وأكراد، تضمنها تركيا وسورية وإيران، لوجود أقليات كردية فيها.

    وأرسلت إيران مبعوثاً رسمياً إلى تركيا، لتحذيرها من مغبة أي توسع إقليمي، على حساب وحدة العراق الإقليمية. وحذر الرئيس الإيراني من مغبة إقامة جيوب كردية، في شمالي العراق، على الحدود المتاخمة لبلاده. وطالب بسحب القوات، الأمريكية والتركية، من الشمال العراقي. وأكدت إيران تحفّظها من إنشاء مناطق آمنة للأكراد فيه، وعَبّرت عن معارضتها وجود قوة الانتشار السريع، التي شكلها الحلفاء مع تركيا، من أجْل ما سمي حماية أكراد العراق. كما انتقدت دخول القوات والطائرات التركية إلى أراضي شمالي العراق وأجوائه، لمهاجمة قوات حزب العمال الكردستاني.

    وخلال زيارة الرئيس الإيراني، رفسنجاني، إلى تركيا في أبريل 1991، أعلن أن إيران وسورية وتركيا، ستتبنى إستراتيجية مشتركة، تجاه القضية الكردية. ودعا إلى اضطلاع تركيا وإيران بدور حاسم، في إيجاد حل نهائي لمشكلة الأكراد العراقيين.

ثانياً: بروز الدور التركي

    يبدو أن تركيا، رأت في أزمة الخليج مخرجاً ملائماً، لإعادة توظيف موقعها الإستراتيجي توظيفاً مزدوجاً، من طريق إعادة تفعيل دورها في النظام الغربي، الذي لا يزال يمثل هدفاً إستراتيجياً للسياسة التركية، من خلال النهوض بدور إقليمي ناشط، تجاه المنطقة العربية، ومنطقة الخليج بخاصة، والتي أصبحت محوراً لتفاعلات حيوية، وكثيفة؛ وذلك عوضاً عن الدور التركي، خلال المواجهة بين القوّتَين العظمَيَين، إبّان الحرب الباردة. كما سعت تركيا إلى توظيف هذا الدور، من أجل تحقيق مكاسب، سياسية واقتصادية.

    ويستمد الموقف التركي أهميته من عوامل شتى، أهمها:

·   كون تركيا، هي الدولة الوحيدة، المرتبطة، عضوياً، بالتحالف الغربي.

·   فاعلية تركيا في العقوبات الاقتصادية، والعمليات العسكرية ضد العراق، نظراً إلى موقعها الجيوبولتيكي المهم، المتاخم العراق.

·   كون تركيا دولة إسلامية، وذات صلة وثيقة بدول الخليج.

1. التحركات التركية فترة ما بعد الحرب

    تنوعت تحركات تركيا، في سبيل خلق دور مميز لها، في منطقة الشرق الأوسط، ركيزته الأساسية، هي رغبتها في أن تكون القوة الاقتصادية العظمى، في هذه المنطقة. وذلك من خلال تحركات، سياسية واقتصادية وعسكرية وإعلامية، ازدادت كثافتها في الأشهر التالية للحرب مباشرة. ويمكن تحديد أهداف هذه التحركات بما يلي:

أ.  أن تكون تركيا القوة الاقتصادية الكبرى، في منطقة الشرق الأوسط، في إطار سوق مشتركة، تجمع الدول العربية، إضافة إلى منظمة التعاون الاقتصادي (ECO)، بين إيران وتركيا وباكستان.

ب. أن تكون أحد أضلاع المربع الإقليمي، الذي يحقق الاستقرار والتوازن الإستراتيجي، في المنطقة. ويضم إلى جانبها مصر وإيران وإسرائيل.

ج. أن تؤدي دوراً فاعلاً، في الربط بين المنطقة والعالم الغربي، بكونها جسراً بينهما، وبحكم عضويتها المزدوجة، في حلف شمال الأطلسي ومنظمة الدول الإسلامية، مع ازدواج انتماءاتها الحضارية.

2. التوجهات التركية، بعد الأزمة

   كانت أزمة الخليج وما بعدها فرصة تركيا المثلى لتحقيق أكبر فائدة ممكنة، لخدمة أهدافها، على المسرحَين، الدولي والإقليمي، وذلك من طريق:

·    زيادة قدراتها العسكرية، وتحديث قواتها المسلحة.

·    تحسين الاقتصاد التركي وتطويره.

·    رفع مستوى العلاقات بالسوق العربية المشتركة.

أ. في المجال العسكري

    حصلت تركيا على مساعدات ضخمة، من الولايات المتحدة الأمريكية، تمثلت في:

(1)  اعتمادات مالية، تصل قِيمتها إلى مليار دولار، من مصرف الاستيراد والتصدير الحكومي، لتمويل إنتاج مشترك لمائتَي طائرة عمودية.

(2)  على 80 طائرة حربية، من نوع “F - 16 - C”.

(3)  موافقة أولية من واشنطن على تمويل خطة تركية، كانت قد فرضتها، منذ سنتَين، لتحديث الجيش التركي وأسلحته الحربية، بنفقة إجمالية، تقدر بأربعة مليارات دولار.

ب. في المجال الاقتصادي

    رسمت تركيا، بعد حرب الخليج، إستراتيجية اقتصادية، تعتمد على عدة محاور، في إطار تنمية علاقاتها بالدول العربية عامة، والخليجية، خاصة، شملت المجالات التالية:

(1)  تطوير بيئة زراعية، لإنتاج الغذاء، النباتي والحيواني، وتصديـره إلى الأقطـار العربيـة، التي لا تتزايد حاجاتها إليه فقط، بل تنخفض مساحاته الزراعية فيها. ويُعد مشروع شرق الأناضول، عنصراً مهماً في هذه الخطة.

(2)  خطة للمياه، سواء في الري، من خلال شبكة سدود، تزيد على 20 سداً، أبرزها سد أتاتورك، الذي تسبب بقطع مياه نهر الفرات، عن العراق وسورية، طوال يناير 1991؛ أو نقْل المياه إلى ما يسمى مشروع أنابيب السلام التركي، من خلال سير المياه في قنوات، لتزويد شبه الجزيرة العربية بها.

(3)  تخطيط صناعي، عماده الصناعات الحربية، لتزويد الأسواق العربية بالأسلحة.

    وبدأت هذه الخطط تؤتي ثمارها، في إطار التوجه العربي لتركيا في منطقة الشرق الأوسط عامة، بعد أن كانت الدول العربية تصطدم بالسياسة التركية في الماضي.

    وأوضح تورجوت أوزال، في حديث له عن المجال الاقتصادي، أنه "لا بدّ أن يحل التعاون محل الصراع. وتركيا، من جانبها، على استعداد للقيام بدور فعال، في تسهيل حركة البضائع والرأسمال والخدمات والناس". وأضاف: "نحن مستعدون، أيضاً، لتنفيذ كل المشاريع، التي تعيد بناء المنطقة اقتصادياً، مثل مشاريع تنمية الموارد المائية".

    كما دعا أوزال إلى إنشاء صندوق تمويل، تشارك فيه الدول العربية النفطية، والدول الغربية، التي يمكن أن تُسهم بتوفير التقنية الحديثة. بينما تسهم تركيا بتقديم المشورة والخبرة الهندسية. ومن الواضح، أن نظرة تركيا إلى منطقة الخليج، تنطلق من أن الدول الخليجية، هي ذات فائض مالي، يمكن استخدامه في مشروعات مشتركة، تتيح لتركيا التوسع اقتصادياً، في مقابل الدور التركي في الترتيبات الأمنية للمنطقة وحفظ التوازن فيها.

    سعت تركيا، بعد الحرب، إلى أداء دور اقتصادي رئيسي، بما يمكنها من الوجود بقوة، في المعادلات الإستراتيجية للمنطقة، من خلال نسيج عضوي حقيقي؛ وذلك بتأدية دور رئيسي في أكبر المجالات حساسية في سياسة المنطقة، وهي تلك المتعلقة بالنفط والماء والغذاء. وكان أهم المشروعات التركية وأكثرها طموحاً، المشروع الذي عرف باسم "أنابيب السلام"، والمتعلق ببناء خطَّي أنابيب، من تركيا إلى سورية والأردن والبلدان الخليجية (المملكة العربية السعودية ـ الكويت ـ قطَر ـ الإمارات)، مروراً بالضفة الغربية المحتلة. وقد طرحه الرئيس أوزال، أول مرة، عام 1987. ثم عادت أنقرة، بعد انتهاء حرب الخليج، إلى تأكيد هذه الفكرة، وطرحها بإلحاح، على أساس أن تركيا هي الدولة الوحيدة، في الشرق الأوسط، التي تمتلك فائضاً من المياه، يمكن تصديره إلى الدول الأخرى. ودأبت تركيا على الترويج للمشروع، على أساس أنه سيمكن منطقة الخليج العربي من الحصول على المياه، بنفقة أقلّ من تلك المترتبة على تحلية مياه البحر. إضافة إلى القول، إنه سيكون أحد العوامل المساعدة على استقرار المنطقة، لأنه سيكون هناك مصلحة مشتركة، بين جميع الأطراف، من أجل الحفاظ على الاستقرار، وسيؤدي إلى تخفيف عوامل التوتر القادمة، في المنطقة، والمتعلقة بالصراع حول المياه.

    لقد هدفت تركيا من هذا المشروع، إلى أن تتحول إلى دولة إقليمية رئيسية، في منطقة الشرق الأوسط، من خلال التحكم في إمدادات المياه، لكونها دولة المنبع. إضافة إلى المكاسب الاقتصادية الضخمة، التي ستعود عليها، في حالة تنفيذه. كما سيجعلها قادرة على أداء دور توازني مؤثر، بين العرب وإسرائيل. هذه الإستراتيجية، خططت لها تركيا، من أجل توظيف علاقاتها بالغرب، ومن خلال دعم علاقاتها الاقتصادية بدول الخليج العربي، بما يسهل لاقتصادها عملية الانطلاق.

    ولم تحقق جولة وزير الدولة التركي، آشين شلبي، في مايو 1991، في منطقة الخليج، التي صحبه فيها وفد كبير من رجال الأعمال، وشملت أكثر من دولة خليجية، من بينها الكويت وقطَر والإمارات، أية نجاحات تُذكر، في ضوء الأعباء الضخمة، التي أرهقت دول الخليج، نتيجة نفقات الحرب. ومن ثم، فالطموحات الاقتصادية التركية، لم تجد لها منفذاً عاجلاً في الخليج، خلال الأشهر الأولى، التي تلت الحرب.

ج. في المجال الأمني

    كانت تركيا في مقدمة الدول، التي جرى الحديث عن إمكانية اضطلاعها بدور بارز، بعد الحرب، في إنشاء بِنية أمنية، في الخليج العربي والشرق الأوسط. وأشار بعض التقديرات الأولية، إلى أن تركيا، ستكون القاعدة الصلبة، في الترتيبات العسكرية في المنطقة، نظراً إلى الاهتمام الأمريكي، غير المعلن، بتحويلها إلى القوة الإقليمية الأولى في المنطقة، لمواجهة العراق وإيران، بعد الحرب.

    كان التصور التركي لمسألة الأمن في الخليج، يتلخص في الآتي:

(1)  أمن منطقة الخليج، يخص دولها، وحدها. ومن حقها اتخاذ التدابير والترتيبات، التي تراها ملائمة لتحقيق الأمن والاستقرار والسلام فيها.

(2)  الترتيبات الأمنية يمكن أن تتخذ شكلاً دفاعياً ثنائياً مع دول المنطقة، بعيداً عن أي ترتيبات أمنية جماعية.

(3)  أمن الشرق الأوسط، يتطلب إشراك الدول المجاورة للعراق، في ترتيبات الأمن المستقبلية في المنطقة، وهي تركيا وإيران وسورية ومصر. كما يتطلب حل كافة مشكلاتها السياسية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ومشكلة لبنان، والتفاهم حول نزع السلاح في المنطقة.

(4)  ضرورة توسيع نطاق التعاون الاقتصادي بين دول المنطقة، مثل تنفيذ المشروعات المشتركة، وإلغاء القيود التجارية، وتدعيم الاتجاه الهادف إلى تحقيق التعامل الاقتصادي.

(5)  سيادة الديموقراطية، ديموقراطية الخطوة خطوة، وليس المستوى الأعلى منها، المطبق في الغرب.

    يمكن هذا التصور أن يمهد لتركيا الدخول الاقتصادي إلى الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، يزيل أي مخاوف أو شكوك عربية خليجية، في احتمالات ممارسة قدر من الهيمنة أو التأثير التركيَّين في شؤون المنطقة.

3. بروز المطامع التركية في شمالي العراق (كركوك والموصل)

    عقب حرب الخليج، ومع الانتفاضة الكردية في شمالي العراق، بدأ يظهر ما أطلقت عليه تركيا، "خريطة أوزال"، التي نصت على كونفيدرالية عراقية، تضم ثلاث قوميات (العرب والأتراك والأكراد)، موزعة في ثلاث مناطق متساوية الحقوق: الأولى كردية (السليمانية وأربيل)؛ والثانية تركية (كركوك والموصل)، وتكون مفتوحة على الحدود التركية، وترعى مصالح التركمان؛ والثالثة عربية، تضم ما يتبقى من أراضي العراق. ولكن هذا المشروع، لم يلقَ قبولاً، إقليمياً ودولياً، فتخلّت عنه تركيا.

    وفي إطار هذه التطلعات الجديدة، تندرج "قضية الموصل وكركوك"، حيث توجد أقلية تركمانية، تشكل مع الأكراد أكثرية في المنطقة. وحتى تفتح تركيا مدخلاً لها إلى هذه القضية، اندفعت في تأييد التحالف الدولي ضد العراق. ووافقت على أن تتمركز في قاعدة إنجرليك الجوية التركية، قوات أمريكية وبريطانية، تحمل اسم "قوات المطرقة"، مخصصة لحماية أكراد العراق، ومنطقة الحظر الجوي في الشمال العراقي. وثمة دعامتان، بنَت عليهما تركيا مطالبتها بضم منطقة الموصل إليها:

أ.  وجود الأقلية التركمانية في المنطقة؛ ففي إحصاء، أوردته مصادر عراقية، أن عدد الأتراك في الموصل، عقب الحرب العالمية الأولى، قدِّر بنحو 147 ألفاً[3].

ب. ثراء المنطقة بالنفط. وكانت بريطانيا قد سبقت القوى العالمية الأخرى، إلى التطلع نحو استثمار النفط العراقي. فحصلت على وعد من الصدر الأعظم العثماني، في 28 يونيه 1914، بالسماح لها بالبحث عن آبار للنفط، في الموصل وبغداد. وأسست، لهذا الغرض، "شركة النفط التركية". بيد أن نشوب الحرب العالمية الأولى، أوقف تنفيذ المشروع.

    وكان مؤتمر لوزان، قد انتهى إلى عقد معاهدة سلام مع تركيا، في 24 يوليه 1923، نصت مادتها الثالثة على أن الحدود، بين تركيا والعراق، تحدد باتفاق ودّي، يعقد بين تركيا وبريطانيا العظمى، خلال تسعة أشهر[4].

    وأغلقت معاهدة أنقرة، في 5 يونيه 1926، ملف الحدود، بين العراق وتركيا، بما قضى على أي مطمع تركي في أرض عراقية. بيد أن حرب الخليج، كانت فرصة ملائمة لتعبّر تركيا عن مطمعها الإقليمي في منطقة الموصل النفطية. ومن ثم، بدأت تمهد لهذا المطلب، بالحديث عن الأقلية التركمانية، في منطقة الموصل؛ ومطاردة المتمردين الأكراد الأتراك، أعضاء حزب العمال الكردستاني، داخل الأراضي العراقية؛ وتخصيص منطقة أمن عازلة، في شمالي العراق.

    على أثر حرب الخليج، أخذت النية التركية تتكشف. إذ دعا الرئيس أوزال، رئيس تركيا، رئيس أركان القوات المسلحة التركية، إلى اجتماع، عُقد قبل بدء القصف الجوي الدولي للعراق، في 15 يناير 1991. وهو ما كشف عنه الصحفي التركي، توفان كورينتش، في جريدة "حريت"، في 6 يوليه 1994. وفي هذا الاجتماع، طرح أوزال على دوجان جوريش، رئيس الأركان التركي، فكرة اجتياح القوات التركية شمالي العراق، حتى الموصل وكركوك، حالما تطأ قوات التحالف الدولي الأرضي العراقية. وردّ رئيس الأركان، أن ذلك خطأ كبير جداً، لأننا لا نستطيع أن نخرج بسهولة من الشمال العراقي، إضافة إلى أن الدعم اللوجستي للجيش، لا يمكن ضمانه، لأكثر من أسبوعَين. فرأى رئيس الحكومة، أن هذا الاجتياح، سيكون مغامرة. وسيهدد أمن تركيا.

    بعد هذا اللقاء، أحجم أوزال عن فكرة طرح المشروع على مجلس الأمن القومي التركي، الذي يتكون من رئيس الجمهورية وكلٍّ من رئيس الحكومة، وقادة القوات المسلحة، وبعض الوزراء الأساسيين. ولكنه، لم يقلع عن الحديث، من وقت إلى آخر، عن مشروعه، الذي يراه حلاً للقضية الكردية، ويضع أكراد شمال العراق، وحزب العمال الكردستاني، تحت الإشراف التركي، إضافة إلى الثروة النفطية، التي ستحوزها تركيا، في منطقة الموصل.

    ويروي مسعود يلماظ، الذي تولى رئاسة الوزراء التركية، فيما بعد، وزعيم حزب "الوطن الأم"، أن الرئيس أوزال، بعد نشوب أزمة الخليج، سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية (هيوستن)، لإجراء جراحة في إحدى مستشفياتها، حيث خلا إلى يلماظ، لعدة ساعات، أفشى، خلالها، له سراً مذهلاً، هو أنه تفاهم مع الرئيس الأمريكي، بوش، حول موضوع الموصل وكركوك. وكانت المعلومات، التي تسربت من لقاء أوزال ـ بوش، آنذاك، تتعلق بخطة حول شمالي العراق. ورفض يلماظ الإفصاح عن ذلك السر، بالقول، "إن الكشف عنه، يشكل خطراً كبيراً على علاقات تركيا الخارجية"[5].

    كان تورجوت أوزال، هو البادئ بالدعوة إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات (عربية وتركية وكردية). بل وشجع أكراد العراق على تأسيس الدويلة الكردية، في شمالي العراق. ودفع هذا التوجه كثيراً من السياسيين الأتراك، إلى التخوف من انعكاس تأسيس الدولة الكردية في الشمال العراقي، على الوضع داخل تركيا. كان أوزال يهدف من وراء هذا التقسيم، إلى ضم شمالي العراق (الكردي والتركماني) إلى تركيا، ما يجعلها دولة عظمى في المنطقة، غنية بالنفط والطاقة البشرية، ويحل، في الوقت نفسه، مشكلة أكراد تركيا. وهذا ما يفسر الحشد التركي على حدود العراق، في الأشهر الأولى من أزمة الخليج، على الرغم من أن أنقرة، لم تشترك بقواتها مع قوات التحالف الدولي، في تحرير الكويت. إلا أنها حشدت حوالي مائة ألف جندي، تمهيداً لاحتلال شمالي العراق، حتى الموصل وكركوك، إذا ما سنحت الفرصة الملائمة لذلك.

    وترجمت تركيا هذا التوجه، بعد انتهاء الحرب، بتنفيذ العديد من العمليات العسكرية، في شمالي العراق، تركزت في شهرَي أغسطس وأكتوبر 1991. فعمدت القوات التركية، في 5 أغسطس 1991، إلى غارات جوية شاملة، على قواعد الأكراد، في شمالي العراق، استمرت لعدة أيام. واستهدفت، حسب البيان التركي، قواعد تابعة لثوار "حزب العمال الكردستاني"، الذي يطالب بحكم ذاتي للأكراد، في جنوبي شرقي تركيا. ومهدت الحكومة التركية لهجومها بعدد من الاتهامات لعناصر الحزب الكردي. وجاءت العملية التركية وسط انشغال العالم الغربي بجولات بيكر، والقبول السوري المشروط للتفاوض مع إسرائيل، في مؤتمر السلام، وبحث موضوع الأمن والاستقرار، في منطقة الشرق الأوسط. واحتلت تركيا منطقة تبلغ خمسة كيلومترات من شمالي العراق، ضمن المنطقة الحدودية العازلة بين البلدَين[6]. ومع إدانة العديد من الدول لهذا العدوان، أعلن رئيس الوزراء التركي، مسعود يلماظ، النية التركية في الانسحاب السريع من شمالي العراق بعد تطهير جيوب المتمردين.

    وفي 13 أكتوبر 1991، تجدد الهجوم التركي على قواعد المقاتلين، التابعين لحزب العمال الكردستاني. واحتجت بغداد، لدى أنقرة، على تلك العمليات العسكرية المستمرة، عبْر الحدود. وحذرت من عواقبها الوخيمة. وطالبت بتوقف هذه الانتهاكات، حفاظاً على علاقات حسن الجوار. وردّت أنقرة على التحذير العراقي، بالقول إن السلطات العراقية، لا تسيطر على منطقة الحدود. وإن الأكراد العراقيين، يساعدون حزب العمال الكردستاني[7] وقد نفت الجبهة الكردستانية، التي تضم الأحزاب الكردية الرئيسية في العراق، وفي مقدمتها الحزب الديموقراطي الكردستاني، الذي يرأسه مسعود بارزاني؛ والاتحاد الوطني الكردستاني، ويرأسه جلال طلباني ـ أن تكون قد ساعدت لحزب العمال الكردستاني التركي. كما نظمت عدة مظاهرات، في زاخو، احتجاجاً على الغارات التركية. وطالبت القوات المتحالفة، في شمالي العراق، والمتمركزة في تركيا، بأن تكف أنقرة عن هجماتها المتتالية، على الأراضي العراقية.

    أسفرت الغارات التركية المتواصلة، على شمالي العراق، إلى إنشاء حزام دائم، استقرت فيه قوات عسكرية تركية، وهو ما قد يؤدي إلى توسيع نطاق هذا الحزام، في عمق الأراضي العراقية.

4. تركيا والتحرك نحو دور قيادي، في الشرق الأوسط، بعد انتهاء حرب الخليج

    في إطار نشاط تركيا، بعد انتهاء حرب الخليج، لإرساء دعائم دورها في منطقة الشرق الأوسط، بادر الرئيس التركي، تورجوت أوزال، إلى دعوة كافة الأطراف المعنيين بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، إلى عقد مؤتمر سلام، في الشرق الأوسط، تستضيفه تركيا. إذ قال، في كلمة، ألقاها أمام أحد المعاهد البحثية، في واشنطن، في 25 مارس 1991: "إن حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي، لن يؤدي فقط إلى حل المشاكل الأخرى العديدة، القائمة في المنطقة؛ وإنما سيساعد على التخفيف من مشاعر العداء للغرب، بين الجماهير العربية، التي ترى أن الغرب، يطبق معايير مزدوجة في تعامله مع قضايا الشرق الأوسط".

    وتأتي هذه الدعوة في إطار التفكير التركي، أن الدول، التي اشتركت في التحالف ضد العراق، أثناء حرب الخليج، يمكنها أداء دور بارز، في المساعي الرامية إلى حل النزاع بين العرب وإسرائيل، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية (الشريك الأكبر في التحالف)، نظراً إلى علاقاتها خاصة بكافة الأطراف.

    وواكب الدعوة التركية، تأكيد العديد من المقترحات، التي طرحها الرئيس التركي، عقب انتهاء الحرب مباشرة، من ضرورة وضع ترتيبات شاملة للشرق الأوسط، في المجالات الأمنية والاقتصادية، واستعداد تركيا لدور ناشط وبنَّاء، خاصة في ما يتعلق بتنمية العلاقات التجارية، والتعاون الاقتصادي، وإنشاء البِنية التحتية، والإسهام في مشروعات التنمية المختلفة. ويأتي ذلك في ظل القناعة التركية بأهمية التوسع، في مجال التعاون الاقتصادي، لمرحلة ما بعد حرب الخليج، إضافة إلى الاعتماد المتبادل بين دول المنطقة، والدعوة إلى إنشاء صندوق، أو مصرف للتنمية الاقتصادية، لتشجيع التعاون الاقتصادي، على نطاق واسع.

    ويبدو أن الخطوة الأولى والمهمة، في مجال هذا التعاون، كان الاجتماع، الذي اقترحت تركيا عقده في إستنابول، في نوفمبر 1991، لمناقشة الموارد المائية في المنطقة، وبحث مصادر المياه، وعلى رأسها مشروع السلام التركي[8]. فوجِّهت الدعوة إلى عدد كبير من الدول، الأفريقية والآسيوية، ودول أوروبا الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي، وكندا[9].

 



[1] ارتبط القبول العراقي بالشروط الإيرانية، بخطاب سياسي ذي مضمون جديد يغلب عليه توجه إسلامي، ومناشدة غير مباشرة لإيران لعدم المشاركة في الحملة الدولية المناهضة للعراق. ويمكن القول أن عملية التسوية التي تمت وفقاً للشروط الإيرانية، إلى جانب علنية الطابع الإسلامي على الخطاب العراقي، ساهمت في تحييد إيران وعدم حماسها لمشاركة الجهود الأمريكية والدولية المناهضة للعراق.

[2] اختلفت المصادر في تحديد عدد الطائرات العراقية التي هربت إلى إيران، فبعضها ذكر إنها 135 طائرة، بينما ذكر البعض الآخر إنها 147 طائرة. والأرجح إنها 135 طائرة.

[3] ذكر المندوب التركي في مؤتمر لوزان للسلام عام (1923)، كما ورد في محاضر المؤتمر، أن أتراك الموصل بلغوا 153 ألفاً.

[4] قرر مجلس عصبة الأمم في 16 ديسمبر 1925، بالإجماع أن يسير خط الحدود طبقاً لـ خط بروكسيل (وهي تعني خط حدود مؤقت) الذي أقر الحالة القائمة (status quo) ، ومن ثم بقيت ولاية الموصل كلها جزءاً أصيلاً من العراق. ووقعت تركيا وبريطانيا والعراق يوم 5 يونيه 1926 في أنقرة، معاهدة تضمنت:

· تثبيت الحدود بشكل نهائي كما أقرها مجلس عصبة الأمم المتحدة، وعلى أساس خط بروكسيل، مع تعديل طفيف تضمن تنازل العراق عن طريق وبضعة كيلومترات مربعة وشكلت الدول الثلاث لجنة حدود مشتركة لترسيم الحدود، انتهت من ترسيمها في الأسبوع الأخير من سبتمبر 1927 بطول 352 كيلومتراً.

· تتعهد الحكومة العراقية بالتنازل عن 10 في المائة من عائداتها من شركة النفط لمصلحة تركيا، وذلك طوال مدة 25 عاماً.

[5] ذكرت مجلة نقطة (التركية) عن خطة بين أنقرة وواشنطن حول شمالي العراق، وكانت قد سألت في 15 سبتمبر 1990 ـ السفير الأمريكي في أنقرة عن حقيقة ما يشاع عن اتفاق سري تركي ـ أمريكي لإعطاء تركيا الموصل وكركوك. ولكن السفير نفى في إجابته هذه المعلومات، لكنه قال: إن واشنطن ضد كردستان مستقلة.

[6] حدثت بعض ردود أفعال عالمية ضد هذا الاختراق: ففي ألمانيا نددت الحكومة الألمانية على لسان المستشار الألماني هيلموت كول بهذا الاختراق، الذي اعتبره عدوان تركي على الأراضي العراقية، كما نددت، كذلك، الخارجية السوفيتية بالمسلك التركي. أما الدوائر الغربية فقد التزمت الصمت.

[7] عبر الرئيس التركي سليمان ديمريل في الأول من مايو 1995 ـ والذي تولى بعد وفاة تورجوت أوزال في 17 أبريل 1993 ـ عن أفكاره، في أثر انتهاء (عملية فولاذ 95، وهي عملية عسكرية ضخمة وعميقة تمت خلال الفترة من 31 مارس إلى الأول من مايو 1993) التي غزا بها الجيش التركي شمالي العراق بالقول `أنه يرى ضرورة تعديل الحدود العراقية ـ التركية لأسباب أمنية`. وأكد أن الموصل ما زالت تابعة لتركيا.

[8] من المعروف أن هذا المؤتمر قد تأجل عقده بسبب رفض بعض الدول العربية حضور المؤتمر نتيجة لتوجيه الدعوة لإسرائيل، حيث تأجل إلى أبريل 1992.

[9] يثير موضوع المياه خلافات حادة بين تركيا من جانب وكل من العراق وسورية من جانب آخر، وهذا ما دعا بعض المصادر التركية المسؤولة عن إمكانية إثارة مشاكل في المستقبل حول تقسيم مياه الفرات، وصدر تحذير في هذا الشأن في 25 سبتمبر 1991 على لسان رئيس أركان الجيش التركي (دوجان جوريش)، وهي وسيلة للضغط على سورية والعراق لوضعهما إلى قبول التعاون مع تركيا وفقاً لشروطها بدلاً من المخاطرة بالدخول في مواجهة معها.