إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية، بعد "عاصفة الصحراء" حتى نهاية عام 1991









مقدمة

ثانياً: الكويت بعد حرب التحرير

    سكتت مدافع وصواريخ حرب الخليج. وانكسر الجيش العراقي في المعركة البرية، بعد مائة ساعة من نشوبها، من دون قتال يذكر، انكساراً مفاجئاً. وامتثل النظام العراقي، بعد إصرار عنيد على الرفض، مجمل قرارات مجلس الأمن، المنظمة لشروط التسوية السياسية لأزمة الخليج، والتي أصبحت تحدد ماهية ما أصطُلح على تسميته "الشرعية الدولية". وتحررت الكويت. ووقعت مساحات غير قليلة، من جنوبي العراق، تحت سيطرة قوات التحالف. ونشطت الحركة السياسية، في العواصم الأجنبية، ودول المنطقة، العربية وغير العربية، للتعامل مع نتائج ما يمكن تسميته بنهاية الفصل الأول من أزمة الخليج، والتي تجسدت في الهزيمة العسكرية للعراق، وعودة الشرعية إلى الكويت.

   كان الغزو العراقي للكويت كارثة كبرى. انعكست آثارها على تدمير الكويت، وأهم قطاعاتها الإنتاجية، القطاع النفطي، الذي كان، بموارده من حقول نفط وغاز ومصانع وموانئ، الهدف الأكبر للعدوان. وعانى هذا القطاع مشكلتَين. تمثلت أولاهما في إعادة الحياة إلى مرافقه الحيوية. وتجسدت الثانية في إطفاء الآبار المشتعلة، الذي اقتضى جهوداً جاهدة، أنجزته في وقت، يكاد يكون المعجزة؛ فحافظت على المورد الرئيسي للكويت، وأوقفت مصادر التدمير البيئي.

   وتحتَّم على حكومة الكويت، أن تتحرك في اتجاهَين متوازَيين. تجسّم الأول في إعادة بناء مؤسسات الدولة. وتجسد الثاني في بناء القواعد، الاجتماعية والنفسية، للمواطن الكويتي فضلاً عن انتهاجها سياسة، خارجية وداخلية ودفاعية، توائم مرحلة ما بعد الحرب.

1. السياسة الخارجية الكويتية، بعد انتهاء حرب التحرير، وإعادة الشرعية

    بدأت تباشير التحول في توجهات سياسة الكويت الخارجية، خلال فترة الاحتلال، في ظل قناعة بأن مسؤولية تلك السياسة عن الكارثة، ليست أقلّ من مسؤولية السياسة الدفاعية. وتحددت التوجهات، إبّان أشهر الاحتلال، طبقاً لموقف كل طرف خارجي من الغزو، بحسب ما يقدمه من دعم لإنهاء الاحتلال. لكن الأشهر التالية للتحرير، أثبتت أن تلك التوجهات، كانت، في بعض دوائرها، مؤقتة، ومرتبطة بظروف الغزو، وأن توجهات أخرى، تتشكل بعد التحرير. وتحول بعض الالتزامات الشفوية الكويتية، إلى التزامات مادية. ومضت قيادة الكويت في تنفيذ بعض التوجهات. بينما بدأت بتعديل توجهات أخرى.

    لقد تجسد هدف الكويت الرئيسي، وربما الأوحد، في بقاء الدولة، وأمنها القومي، ووحدة أراضيها، واستمرار حكومتها الشرعية الدستورية. وتبنت، منذ إلغاء معاهدة الحماية البريطانية، وقبل الاستقلال عام 1961، سياسة الحياد، معتمدة على الدبلوماسية الهادئة، في الاتصال مع القوى، الإقليمية والدولية. وأسهمت الثورة النفطية الوطنية الهائلة، والحرب الباردة، التي فرضتها هيكلية القطبية الثنائية ـ في تعزيز سياسة التوازن الخارجي للكويت، حتى انهيار المنظومة الشيوعية، في بداية التسعينيات. فمن جهة، حرصت الدول العظمى على بقاء الكويت منطقة محايدة "BUFFER ZONE" وسط مثلث القوى الخليجي وأضلاعه المتنافسة: إيران، والعراق، والمملكة العربية السعودية.

    ولم تتحول السياسة الخارجية الكويتية عن مسارها الحيادي، إلاّ بعد اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية، في مطلع الثمانينيات، بسبب مساندتها لجارتها العربية، العراق.

    ومنذ أزمة 2 أغسطس 1990، وحتى بعد مرحلة التحرير، تركزت السياسة الكويتية، في ثلاثة محددات رئيسية:

أ. سياسة خارجية، أحادية الهدف

    ألقت الكويت بكل برامجها وأولوياتها، في مصلحة هدف التحرير. وجندت ما أمكنها تجنيده، من أنواع الدعم، السياسي والعسكري والإعلامي، لتحقيق هذا الهدف.

ب. سياسة خارجية، مدفوعة نحو البحث عن الحماية العسكرية

    حرصت الحكومة الكويتية، وكذلك القوى السياسية الشعبية، خلال فترة الاحتلال، على استثمار كل ما يمكن استثماره في استرجاع الأرض المحتلة وتحريرها، صون أمنها الخارجي، فيما بعد، وإنْ على حساب بعض الثوابت، التي اهتمت الكويت بالاستناد إليها، قبْل وقوع كارثة الأزمة، بل قبِلت التنازل عن بعض صور الاستقلالية، في الرأي والموقف. ومن المؤكد، أن طبيعة الغزو وهول مفاجأته، واستحالة التخلص منه بجهود فردية ـ هي التي ولّدت هذا الاتجاه القسري، في السياسة الخارجية الكويتية، كضرورة ملحّة، لا بدّ منها.

ج. سياسة خارجية مكرهة

    أسهم عامل الضرورة الملحّة المذكورة آنفاً، في خلق حالة شبه عشوائية، عند صناع القرار الخارجي في الكويت، دفعتهم إلى ترتيب أوراق السياسة الخارجية ترتيباً متسرع النفوذ، متخطياً جميع الدوائر، الإقليمية والخليجية، إلى الدوائر العالمية مباشرة، ولا سيما الأمريكية منها كمظلة وحيدة، لتحقيق الأمن وحمايته من الأخطار المحيطة به، إقليمياً.

    لقد أدى الاندفاع المفاجئ، والسريع، في رسم السياسة الخارجية الكويتية، إلى تقديم تعهدات، بل تنازلات، لم تدرك الكويت أهميتها، وهي تحت تأثير مخدر الاحتلال. فتحولت إلى التزامات محرجة، فيما بعد. ولعل من أهم المستجدات وأشدها خطراً، في السياسة الخارجية الكويتية الجديدة ـ هو سعيها إلى تأسيس علاقات مباشرة، وصريحة، بعدد غير قليل من الدول، التي لا تفوقها قوة ونفوذاً وحجماً فحسب، بل هي في عداد القوى العالمية الكبرى. ومن الطبيعي، أن يترتب على مثل هذه العلاقات الخاصة، آثار عديدة، سياسية واقتصادية وإستراتيجية، يصعب تصورها، وفق معادلات متكافئة، في لعبة السياسة الدولية.

2. الاتفاقيات الدفاعية، بعد الحرب

    ومن النتائج المباشرة لآثار الغزو العراقي، والبيئة السياسية ـ الأمنية، التي وجدت الكويت نفسها محصورة فيها ـ مبادرة حكومتها إلى تنفيذ سلسلة من الترتيبات الدفاعية، في إطار ثلاثة محاور خارجية: خليجية، وعربية، ودولية. ويمكن فهْم توجه السياسة الخارجية الكويتية، في ضوء هذه الترتيبات، من خلال ثلاثة أبعاد: إستراتيجي وسياسي وعسكري.

أ. البُعد الإستراتيجي

    تمثل الاتفاقيات الدفاعية امتداداً لخط التحالف الدولي، الذي قاد حرب التحرير ضد العراق. وانطلقت نواته من مجلس التعاون، بقيادة المملكة العربية السعودية. وأكملت بُعده العربي، كلٌّ من مصر وسورية. في حين اضطلعت فيه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، بالمهمة العسكرية. أما روسيا والصين، فقد كفلتا نجاح المهمة السياسية، المتمثلة في إضفاء صبغة الشرعية الدولية على هذا التحالف، في إطار مجلس الأمن الدولي.

    كما أن استمرار هذا التحالف الدولي، في صورة ترتيبات أمنية إقليمية (مجلس التعاون الخليجي وإعلان دمشق)، أو اتفاقيات ثنائية مع القوى الكبرى ـ قد خلق قوة ردع أمنية، ضد أي عدوان على الكويت، في المدى المنظور.

ب. البُعد السياسي

    شكلت هذه الترتيبات قوة سياسية ضاغطة على النظام العراقي، للإذعان بشرعية قرارات مجلس الأمن الدولي، والجامعة العربية، ومجلس التعاون الخليجي، في ما يخص استقلال الكويت وإقرار حدودها الدولية، البرية والبحرية، مع العراق، طبقاً لقرار مجلس الأمن، الرقم 833، في 27 مايو 1993، وانتزاع الاعتراف الرسمي بذلك من العراق.

    كما اعتمدت الكويت على حلفائها الأقطاب، كورقة سياسية مهمة، في حل المشاكل العالقة بأذيال الغزو العراقي، مثل قضية الرهائن والمفقودين الكويتيين، في العراق؛ وقضية تعويضات الحرب، المستحقة لحكومة الكويت ومواطنيها؛ وإرجاع المسروقات الكويتية.

ج. البُعد العسكري

    تمثل البُعد العسكري في إعداد البنية الدفاعية للجيش الكويتي وتطويرها، وفق برنامج متكامل، يغطي جوانب التأهيل البشري لفنون الحرب والقتال، ويعيد تسليحه بنُظُم حربية متطورة، وبخاصة وسائل الإنذار المبكر، والتكنولوجيا الحديثة ،القادرة على مقاومة التفوق الكمي لأي تهديد عسكري. ومن شأن هذه الترتيبات، بالتعاون مع دول مجلس التعاون الخليجي، أن تخلق نظاماً أمنياً إقليمياً، قادراً على مواجهة النزاعات المحدودة في منطقة الخليج.

    وتجسد البُعد العسكري للترتيبات الدفاعية، في الاتفاقيات الثنائية مع الدول الكبرى، التي تحقق للكويت الدعم، التقني والسياسي، والتدخل العسكري المباشر، لمساندتها على مواجهة التهديدات. بيد أنها لم تخلُ آثاراً سلبية، انعكست على اقتصاديات الكويت وسياستها الخارجية؛ فهي، مثلاً، تتحمل عبئاً مالياً كبيراً، منذ عام 1991، وعلى مدى عشر سنوات، على الأقل، هي المدة الزمنية لتلك الاتفاقيات. إضافة إلى ثمن صفقات السلاح التي ترتكز عليها كافة مذكرات التفاهم العسكري، مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وروسيا. زد على ذلك، تكفّل الكويت بمعظم مصاريف الاستشارات، وتمركز بعض الوحدات الأمريكية، والتدريب والمناورات الحربية المشتركة.

    فضلاً عن النفقات العسكرية، ربطت الترتيبات الثنائية الكويت بعقود، تجارية واستثمارية، ضخمة. ففي تقرير للمصرف الأمريكي للاستيراد والتصدير، أن الكويت أبرمت عدة عقود تجارية مع الشركات الأمريكية، بلغت قِيمتها ملياري دولار، عقب توقيع الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية، في 19 سبتمبر 1991. كذلك، تلا الاتفاقية الدفاعية، الكويتية ـ البريطانية، في 11 فبراير 1992، توقيع صفقة دبابات تشالنجر ـ 2 (CHALENGER–2)، قِيمتها 500 مليون جنيه إسترليني، إضافة إلى صفقات تجارية، بعيدة عن شؤون الدفاع، هي أقرب إلى المجاملة السياسية.

    وبالمِثل، طلبت الكويت من روسيا، وفقاً لاتفاقية الدفاع معها، في 8 أكتوبر 1993، إلى تقدم الكويت بطلب فرقاطات روسية، وسرباً من مقاتلات (Mig-31)، وصواريخ (SS-200)، المضادة لصاروخ سكود. وفي المقابل، عبّر السفير الفرنسي إلى الكويت، في إشارة واضحة إلى ترابط الجانب الاقتصادي والتقارب الدفاعي، عن استيائه بأن دولته لم تحظَ بمثل هذه الامتيازات العسكرية، كما أن حصتها في السوق الكويتية، تُعَدّ ضئيلة (لا تزيد على 6%).

    ربما لم تستدع حاجة الكويت عقد تلك الصفقات، على أهميتها؛ وإنما أبرمتها، مجاملة، لدواعٍ سياسية صرف. فعلى سبيل المثال، حينما بدأت التقارير الإستراتيجية، تقلّل من أهمية نظام الباتريوت الأمريكي، وبعد ما بدأ الكونجرس الأمريكي بالتحقيق في موضوع دقة هذا السلاح وفاعليته، أثناء حرب الخليج. بادرت الكويت إلى عقد صفقة، بقيمة 200 مليون دولار، لشراء صواريخ باتريوت.

3. الالتزامات المالية وتأثيرها في الاقتصاد الكويتي، بعد الحرب

    خصصت الكويت، وفاء بالتزاماتها المادية، ميزانية ضخمة، للمدة المتبقية من العقد الأخير للقرن العشرين، بلغت 3.5 مليار دينار كويتي (ما يعادل 11.5 مليار دولار)؛ وعرضت الحكومة الكويتية لانتقادات حادة من قِبل مجلس الأمة، الذي لم يقرها، إلاّ بصعوبة شديدة، وبأغلبية ضئيلة.

    وزاد الطين بلة، أن الوضع الاقتصادي في الكويت، أصبح يعاني معضلات جمة؛ إذ تراجعت احتياطيات الدولة (التي تشكل 10% من عوائد النفط) من 100 مليار دولار، لتراوح بين 25 و40 ملياراً، بعد ما دفعت الكويت 60% من ثروتها المستقبلية، ثمناً لاستعادة أراضيها، كنفقات لحرب التحرير[9]. كما قدرت خسارة الكويت، من جراء الاحتلال، وطبقاً للدراسات التي أجرتها الكويت نفسها، بنحو 90 مليار دولار. ما دفعها، أول مرة في تاريخها، إلى اقتراض 11 مليار دولار، منها خمسة مليارات ونصف المليار من الدول الصناعية، طبقاً لتصريح محافظ المصرف المركزي الكويتي.

    ولا شك أن الالتزامات المالية الضخمة، قد أثرت في قوة الدبلوماسية، التي اشتهرت بها طوال العقود الثلاثة الماضية، فتقلصت قوّتها بانكماش مساعداتها الخارجية، ولا سيما تلك التي كانت تقدمها إلى بعض الدول الفقيرة. فضلاً عن إسهام الالتزامات المالية في ازدياد درجة الانكشاف الاقتصادي الكويتي للغرب، وما قد يستدرجه من التبعية السياسية.

    لقد أتاح عدم الاستقرار، وحاجة بعض الدول النفطية في الخليج، خاصة الكويت، إلى الحماية الأجنبية ـ الفرصة للولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها الغربيين، كي يستغلوا الوضع الحالي في الحفاظ على سعر منخفض للنفط الخام، وإعلان ضريبة الطاقة على الدول المنتجة، وليس على تلك المستهلكة!

    كذلك، أدى تطبيق نظام "الأوفست"، وهو إعادة استثمار نِسب من الصفقات التسليحية، في بعض دول الخليج، ومنها الكويت ـ إلى تعزيز نفوذ الشركات الغربية في المنطقة، والسماح لها بالدخول، كشريك، في الأسواق المحلية. ومن شأنه أن يفوت على الكويت فرصة استغلال أسواق ومشروعات استثمارية جديدة، في مناطق حيوية من العالم، كدول شرقي آسيا، وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وأسفر مجمل هذه الضغوط عن ازدياد اعتماد الكويت على الدول الغربية، وهو ما قد يسبب لها متاعب سياسية، إذا استمرت الأمور وفق هذا المسار.

4. علاقات الكويت الخارجية، بعد التحرير

أ. التعاون مع دول مجلس التعاون الخليجي

    عادت الكويت، بعد الحرب، لتمارس دورها الطبيعي، في إطار مجلس التعاون، الذي أتاح لها فرصة التحرك، بحُرية أكثر، في مواجهة العديد من القضايا، وتجاه الدول التي أيدته، بل أباحها، وبمرونة أكثر، عقد اتفاقيات أمنية خارجية.

    ولا شك أن وجود الكويت ضمن المجلس، يزيد من مركزها التفاوضي، في مواجهة الأطراف الأخرى. بل إن هناك مصالح حقيقية، خاصة على المستوى الأمني، تدفع في اتجاه اندماج كويتي ـ خليجي، لا يعوقه إلا نقاط، تتعلق بتطور النظام السياسي، في الكويت، في اتجاه الديموقراطية.

ب. سياسة الكويت العربية، بعد الحرب

    أكدت التصريحات الكويتية الرسمية، بعد انتهاء الاحتلال، أن الكويت، ترسم سياستها العربية على أساس واضح، هو: "الدول التي وقفت معنا، سنقف معها. وسيكون لنا معها تعامل، يختلف عن تعاملنا مع الدول، التي أيدت الاحتلال. لكن، ستظل علاقاتنا مع الشعب العراقي، كما كانت دائماً. وإن من ساهم معنا في تحرير الكويت، سيكون لنا معه دور، بمقدار هذه المساهمة".

    وهكذا، كان موقف العرب من الغزو، هو أساس موقف الكويت منهم. واستطراداً، فإن علاقاتها الحسنة، ستقتصر على مصر وسورية ودول الخليج. ولن تغفر لدول عربية مساعدتها العراق على احتلال الكويت.

    أصبح مبدأ الثواب والعقاب، هو الذي يحكم علاقات الكويت العربية، في السنوات التالية للتحرير، وذلك باتبـاع أساليب المنح والمنع اتباعاً دقيقاً، يراعي مستوى التأييد، ومستوى الضرر، على ما يثير من المشاكل.

ج. الموقف الكويتي من العراق، بعد الحرب

    أمسى الشك والتوجس والقطيعة، هي التي تحكم سياسة الكويت تجاه العراق، بعد الحرب. وحرصت دوائـر الخارجية الكويتية على الإعلان والتأكيد، أنه لا مجال لعودة العلاقات بالعراق، ما دام نظامه الحالي في الحكم. ورأت القيادة الكويتية أن النظام العراقي الحالي، ما برح يمثل خطراً على الكويت؛ إذ إن صدام حسين قادر على تمزيق الاتفاقيات، بالسرعة نفسها، التي وقعها بها، من قبْل. كما أن هناك موقفاً خليجياً موحداً، يشمل الكويت، تجاه العراق، يتمثل في ضرورة التزامه بكافة قرارات مجلس الأمن الدولي، في شأن أزمة الخليج.

د. العلاقات الكويتية ـ الأمريكية، بعد التحرير

    احتلت الولايات المتحدة الأمريكية الموقع الرئيسي، في خريطة تحالفات الكويت الخارجية، التي اعتمـدت عليهـا كل الاعتمـاد، لاقتناعها التام بأن تحررها، إنما كان بفضل القوة الأمريكية؛ وما الأدوار الأخرى إلاّ عوامل مساعدة. وانعكس ذلك في قبول الكويت كافة المطالب الأمريكية، المتعلقة بمهام ما بعد التحرير؛ وفي حصول الشركات الأمريكية على النصيب الأوفر من عقود إعادة الإعمار وإزالة الألغام، وإطفاء الحرائق؛ وفي حصة الكويت من نفقات عملية "عاصفة الصحراء". وهو ما أدى إلى تذمر الدول، التي أسهمت بأدوار مختلفة في الحرب، سواء العربية منها والأوروبية.

    وعلى مستوى آخر، فإنه لدى إثارة موضوع الترتيبات الأمنية، بعد التحرير، كان من المتصور، طبقاً للتصريحات الأمريكية نفسها، أن مصر وسورية، ستشاركان بقوة برية، بينما تشارك الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا مشاركة مختلفة. وطبقاً لـ "إعلان دمشق"، وافقت الكويت على ترتيبات، اتُّفق عليها عربياً. إلاّ أنها عدلت سياستها، فيما بعد، في شأن الترتيبات الأمنية، على أساس قبول الوجود البري، الأمريكي والبريطاني فقط.

    وطاولت التفاعلات الكويتية ـ الأمريكية، الحياة السياسية في الكويت. ولم تقتصر على القيادة السياسية، بل تعدّتها إلى قوى المعارضة، التي اعتقدت أن الضغط الأمريكي، يمكنه أن يسهم في تشكيل النظام السياسي، حتى إن بعض قادة المعارضة، اجتمعوا مع السفير الأمريكي لدى الكويت، في 2 يونيه 1991، لمناقشة أوضاع النظام معه. كما تدخلت الإدارة الأمريكية في تشكيل تفاعلات الكويت الداخلية، بمطالب مختلفة استجابتْها الحكومة الكويتية، محتفظة بحُرية تحديد مدى تلك الاستجابة وتوقيتها. وواقع الأمر، أن الكويت، بعد الحرب، أصبحت أكثر اندماجاً في الدول الغربية.

5. سياسة الكويت الداخلية، والتجمعات السياسية الكويتية، بعد التحرير

    أدت أشهر الاحتلال إلى تغييرات واسعة، في خريطة القوى السياسية، تجسدت، بعد التحرير، في تفاعلات حادّة، على غير مستوى، شملت ركنَي معادلة الحكم في الكويت: "الأُسرة الحاكمة، والقوى السياسية، والعلاقة بينهما".

6. أوضاع الأُسرة الحاكمة

    تعرضت أسرة الصباح، منذ أغسطس 1990، لأقسى تجربة في تاريخ حكم الكويت. فوُجَّهت إليها الانتقادات الحادّة، بسبب ما سمي "المسؤولية عن الكارثة". وهي انتقادات تبنّاها بعض القوى. وتحولت إلى مطالب محددة، منها:

أ.  تشكيل لجنة لمحاسبة المقصرين، والمسؤولين عن الغزو. ولكن، اطُّرِح هذا الطلب، لما قد يؤدي إليه، من إفساد علاقة الحكم بالقوى السياسية.

ب. تعيين الوزراء طبقاً لمعايير الكفاءة. وعدم احتكار أُسرة الصباح المناصب السياسية المهمة في الدولة، ومما أدى إلى تقليل عدد أفرادها في الوزارة.

ج. فصل ولاية العهد عن رئاسة الوزارة. وهو ما لم تأمل المعارضة تنفيذه، في المدى المنظور.

    كما برز بعض الخلافات، داخل الأُسرة نفسها، خاصة بين فرعَيها، الجابر والسالم، في كيفية التعامل مع المتغيرات الجديدة؛ وعكست وزارة 20 أبريل 1991، سيطرة جناح السالم، لينتهي التوازن المعهود بين الفرعَين، في الوزارات السابقة. بيد أن هذه الخلافات، لم تؤدِّ إلى مواجهة بينهما؛ إذ الوزارة، التي تمثل حكومة أزمة، قد تشكلت بتراضيهما.

7. التجمعات السياسية الكويتية (مرحلة ما بعد الحرب)

    شهد المجتمع الكويتي، عقب تحرير الكويت، ظاهرة انبثاق التجمعات السياسية العلنية، التي اتخذت أسماء محددة، واندفعت تعبر عن نفسها بأساليب، أقرب ما تكون إلى أساليب الأحزاب غير الرسمية.

    وتحددت، على الخريطة السياسية، سبعة تجمعات أساسية[10]:

أ.  الحركة الدستورية الإسلامية، التي تمثل الهيكل الجديد للإخوان المسلمين. وأعلنت نفسها في 30 مارس 1991.

ب. التجمع الدستوري، وتسيطر عليه غرفة التجارة والصناعة، ذات النفوذ المؤثر.

ج. المنبر الديموقراطي، ويضم التجمع الوطني والتجمع الديموقراطي، السابقين. وهو أول تجمّع يظهر بعد الحرب مباشرة، إذ أعلن برنامجه في 2 مارس 1991.

د.  التجمع الإسلامي (السلفيون)، وكان قد برز، قبْل الاحتلال، كتيار منافس للإخوان المسلمين.

هـ. الائتلاف الإسلامي الوطني، وهو ائتلاف شيعي، ويُعد تجمعاً نفعياً، أكثر منه تياراً سياسياً.

و. تكتل النواب[11]، وهو تجمّع يضم نواب مجلس عام 1985، الذي حُلَّ في أغسطس 1986. ثم بدأ نشاطه السياسي، مرة أخرى، عام 1989. وهم لا يمثلون تياراً.

ز. المستقلون، هم مجموعة شخصيات فاعلة، لا يضمهم تيار أو أفكار محددة.

    وفي نهاية أبريل 1991، كانت التجمعات السياسية، قد استقرت أسماؤها الرسمية. وأعرب "بيان القوى السياسية الشعبية"، عن احتجاجها على التشكيل الوزاري الجديد، الصادر في 21 أبريل 1991، والذي ضم العناصر المسؤولة عمّا حل بالكويت، في 2 أغسطس 1990، على المستوى العسكري، ممثلة في وزيرَي الدفاع والداخلية.

    ومع منتصف ديسمبر 1991، أجمعت القوى السياسية، على تشكيل "اللجنة الدائمة لقيادة العمل الشعبي"، التي تبنّت المبادئ الواردة في بيان "رؤية مستقبلية لبناء الكويت"، الصادر داخل الكويت المحررة، في 31 مارس 1991، في ظل الأحكام العرفية، وهي: المشاركة الشعبية، وتوفير الممارسات الدستورية، إصلاح الإدارة التنفيذية؛ استقلال السلطة القضائية؛ الهوية الوطنية، وتنمية القوى البشرية؛ الأمل أن تنجز وحدة خليجية. كما أقرت اللجنة البيان المتعلق بالتشكيل الوزاري الجديد.

    ويُعَدّ التطور الأساسي، في خريطة الكويت السياسية، بعد التحرير، هو تحوّل قواها إلى العمل من خلال هياكل سياسية، بعد أن كانت تعمل، قبل الغزو، في إطار هياكل، اجتماعية واقتصادية وثقافية. ويعني ذلك أن التعددية، أصبحت واقعاً حقيقياً، في الكويت؛ وإنْ كانت تلك القوى، تعتقد أن الوقت غير ملائم لإعلان نفسها، كأحزاب سياسية، على الرغم من أن الدستور، لا يمنع ذلك؛ إذ إن كلمة الحزبية، تثير هواجس مختلفة، في الكويت. وهكذا، فإن معركة التحول إلى أحزاب قد تصبح إحدى ملامح المستقبل السياسي، في الكويت.

8. تغيّر واقع القوى السياسية، بعد الحرب

    أصبحت القوى السياسية الكويتية، بعد الحرب، أكثر تعقيداً مما كانت عليه من قبْل. ويتمثل ذلك في:

أ.  تغيّر أوزان القوة للقيادات الكويتية المختلفة، وفقاً لموقف كل منها، خلال الغزو، وممارساتها خلال الاحتلال. وهو ما يتجسم في وضع الإخوان المسلمين، الذين أصبحوا القوة الرئيسية، المعترف بها، على الساحة في الكويت.

ب. تجسيدها واقعاً انتقالياً، لم تتبلور فيه التيارات تبلوراً تاماً؛ إذ إن لبعضها تصورات وأفكاراً محددة. بينما لا يُعَدّ بعضها الآخر، تيارات. إضافة إلى جماعات نفعية، تعبّر عن مصالح قوى معيّنة.

ج. التحالفات بين القوى المختلفة، أصبحت أكثر عمقاً، بعد التحرير، حتى إن مطالبها المشتركة، أمست شبه موحدة.

    والخلاصة، أن التجمعات السياسية الكويتية، اتسمت، بعد الحرب، بتعددية، بدأت تمر بمرحلة انتقالية، من أجْل بلورة دور نهائي لكل منها على الخريطة السياسية، خلال مرحلة التفاعلات الثابتة، ومع انتهاء الضغوط، التي سببتها الحرب.

9. العلاقة بين نظام الحكم والقوى السياسية

    تركزت العلاقات الداخلية، في المرحلة التالية للتحرير، في أمور إجرائية، تتعلق بتوقيت الانتخابات وشكل الحكومة وسواهما، وكلها تمثل خلافات حادّة. فمطالب المعارضة، لا تتطرق إلى تغيير الدستور، إنما تتعلق بتطبيقه. وتشير المعارضة إلى أن تحركاتها، ليست ضد أُسرة الصباح، لكنها تحركات ذات أهداف دستورية.

    وتفجرت الأزمات، بين السلطة والمعارضة، منذ اليوم الأول لتحرير الكويت، وعقب إعلان الأحكام العرفية، في 26 فبراير 1991. لم تلجأ المعارضة إلى الحوار. ولكنها لجأت إلى الضغط بعقد مؤتمرات شعبية، في ظل أزمة ثقة حادّة بين الجانبَين، إلى أن استقالت الحكومة، في 20 مارس 1991.

    وبدأ ولي العهد مشاورات مكثفة، لإشراك كافة الفعاليات في الوزارة، إلا أن القوى علقت مشاركتها على إعلان موعد محدد للانتخابات، في حين كانت السلطة ترفض أية شروط مسبقة، ووصل الحوار منذ البداية إلى طريق مسدود في ظل تمسك كل طرف بموقفه وعدم استعداده للتفاوض حوله أو التراجع عنه.

    أما السلطة، فتقدمت بما عَدّته حلولاً وسطاً. ولكن، من دون أن تمر تلك الحلول من خلال التفاوض أو الحوار. وهو ما تضمنه خطاب الأمير، في 8 أبريل 1991، في شأن تحديد موعد الانتخابات، وتشكيل الوزارة الجديدة، في 20 أبريل 1991، التي كانت المعارضة، قد تقدمت بمطالب محددة في شأنها. واستمر التفاعل بين الطرفَين، من دون حوار مكثف، إنما في ظل التزام كلٍّ منهما بمضمون أسلوب المساومة. فالسلطة تقدم، في قراراتها، ما تعده حلولاً وسطاً، ممكنة. والمعارضة تنتهج نهجاً وسطاً، يعتمد على التصعيد المتدرج، المحسوب، في ما يبدو أنه أسلوب جديد للتعامل السياسي في الكويت، قوامه منطق المفاوضة نفسه، مع التخلي، نسبياً، عن شكله التقليدي، المتمثل في اللقاء المباشر والحوار. وهو أسلوب يؤدي إلى توتر شديد في العلاقات بين الطرفَين.

    ومن ناحية أخرى، نشط التفاعل السياسي، فعقدت، مثلاً، المؤتمرات الشعبية، في الداخل والخارج. كما لجأت المعارضة إلى التظاهر ضد السلطة، مرتَين، بعد التحرير، على نطاق ضيق، ومن دون استفزاز.

10. السياسة الدفاعية الكويتية، بعد الحرب

    ستأثرت السياسة الدفاعية، بعد الحرب، باهتمام الأجهزة القومية كافة؛ إذ إن بناء إستراتيجية عسكرية جديدة، أصبح أمراً مُلحّاً، خاصة بعد أن أثبتت الأحداث لقادة الكويت، أن ركائز سياستها القومية السابقة، لم تكن كافية لمنع الاحتلال العراقي لأراضيها. لقد أصبح هاجس الأمن، بعد التحرير، يمثّل عقدة في سياسات الكويت بعامة. وارتكزت سياساتها الدفاعية، في هذه المرحلة، على الأُسُس التالية:

أ. تكوين قوة دفاعية ذاتية؛ ربما لا تكون كافية لردع التهديدات، في ظل عدم التوازن بين الكويت والدول المجاورة؛ لكنها كافية لإنزال قدر من الخسائر بقوات الطرف المضادّ، يجعل عملية التهديد غير سهلة. وقد أدركت قيادة الكويت، أن الترتيبات الأمنية الحالية، وخبرة الحرب، يمكنهما أن يردعا أي تهديد، في المدى المنظور. لكن ذلك، لا يمنع من بناء قوات مسلحة قوية ذاتياً، كماً وكيفاً.

ب. رفع مستوى التنسيق العسكري، مع دول مجلس التعاون الخليجي، لبناء نظام أمن خليجي مشترك، يستند إلى قوة رادعة؛ مع توحيد الهياكل العسكرية، وبناء قوة ردع مشتركة.

ج. الاستمرار في إقرار الترتيبات الأمنية الدولية، التي تشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، طبقاً لاتفاقيات ثنائية، لمدة عشر سنوات.




[1] كانت أولى النتائج التي برزت بعد العصيان الذي اتخذ لنفسه وجهاً شيعياً في جنوب العراق، هو ظهور حكومة مؤقتة شيعية الهوية مقرها في طهران، ويتصدر حقوقها (محمد باقر الحكيم). كما كانت هناك صيحة خليجية من أنه إذا نجح الشيعة في الجنوب واستولوا على بغداد، أو إذا أقاموا دولة لهم في جنوب العراق وحده، فإن المد الشيعي من هناك سوف يصل إلى الكويت، وإلى البحرين، ويندفع ثم يندفع إلى مناطق أخرى بالخليج، وهناك تكون الكارثة.

[2] انتهت الحرب العراقية ـ الإيرانية عام 1988، أي قبل حرب الخليج الثانية بنحو عامين.

[3] من المعروف أن ديفيد كاي` قام بالاتصال بواشنطن وأبلغها بالمعلومات التي أمسك بها في يديه، وقد اعتذرت الأمم المتحدة في اليوم التالي قائلة أن رئيس بعثتها (ديفيد كاي) تعدى اختصاصاته بالاتصال مباشرة بالخارجية الأمريكية في حين كان يتحتم عليه أن يقصر اتصاله على الأمم المتحدة في نيويورك. ولم يغير اعتذار الأمم المتحدة من الحقيقة في شئ.

[4] يضم الحزب الماركسي الكردستاني نحو 2000 ـ 4000 رجل نظامي، ونحو 5000 ـ 10000 رجل غير نظامي.

[5] قوة عراقية شيعية في المنفى قوامها 5000 ـ 7000 رجل بقيادة محمد باقر الحكيم.

[6] تصل مساحة هذه المنطقة نحو 6000 ميل مربع.

[7] قامت إيران بإرسال 12 مقاتلة F-4) ، (F-5 لمهاجمة معسكر اسراف الذي يضم مجاهدي خلق وهي حركة معارضة ماركسية إيرانية على بعد 60 كيلومتر شمال شرقي بغداد، وقامت الطائرات بالهجوم على ست موجات وألقت قنابل عنقودية وصواريخ حارقة، وردت العراق بهجوم بقوة عشرة مقاتلات، لأول مرة منذ حرب الخليج، كما استخدمت المدفعية والطائرات العمودية المسلحة، وسقطت طائرة (F-4) إيرانية بنيران وسائل الدفاع الجوي العراقية.

[8] كان يتوفر لدى الولايات المتحدة الأمريكية، 18 سفينة في الخليج، وحاملة الطائرات (اندبندنس) وعلى متنها 60 طائرة قتال، منها 24 طائرة (F-14 A) (F-18A). كما شملت القوة البحرية على: ثلاثة طرادات، وثلاث فرقاطات، وسفينة إبرار، وثلاث سفن معاونة، وسفينة قيادة، ومدمرتان، إضافة إلى مدمرتين، وفرقاطة، وسفينة معاونة، في البحر الأحمر.

[9] جاء ذلك في تصريح لرئيس اللجنة المالية في مجلس الأمة الكويتي "النائب إسماعيل الشطي".

[10] بالإضافة إلى هذه التجميعات السبع، توجد الجمعية الثقافية والاجتماعية وتعبر عن الشيعة، ولكنها لا تمارس أي نشاط حيث أقدمت السلطة السياسية في الكويت على حل مجلس إدارتها.

[11] التكتل النيابي: يعد أسبق التجمعات السياسية في مجال العمل السياسي حيث أنه بدأ نشاطه منذ عام 1989 بعد العريضة الشعبية التي تقدم بها أمير دولة الكويت مطالباً بإعادة الحياة الدستورية.