إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / الجوانب الاقتصادية للأزمة العراقية ـ الكويتية (1980 ـ 1990)









ثالثاً: أوضاع العراق الاقتصادية، بعد انتهاء الحرب على إيران

ثالثاً: أوضاع العراق الاقتصادية، بعد انتهاء الحرب على إيران

    لا شك أن التبعات الاقتصادية الحقيقية للحروب، تبدأ بالتهافت بعد آخر طلقة نار. فبعد انتهاء الحرب بين العراق وإيران، في 20 أغسطس 1988، كشفت خسائر العراق الاقتصادية عن وجهها الحقيقي، إذ قُدّرت بـ 452 مليار دينار، أي ما يعادل 10 أضعاف معدل الناتج المحلي الإجمالي، أثناء فترة الحرب. وليس من المبالغة القول إن العراق قد بدأ فترة ما بعد الحرب، باقتصاد مدمَّر، وشعب فقير.

    فعندما دخل اتفاق وقف إطلاق النار، بين العراق وإيران، حيّز التنفيذ، في 20 أغسطس 1988، استقبل العراق عهده الجديد بمنشآت تصدير نفطية مدمرة، أو مغلقة، أو محاصرة، وصناعاته، الأساسية والثقيلة، مخربة، أو تستلزم الصيانة والإصلاح، والبنية الأساسية (التحتية) متضررة جداً. كما أن شريحة كبيرة من قوة العمل، ما زالت تحت الخدمة العسكرية. إضافة إلى ترهّل نموه الصناعي، وركود قطاعه الزراعي، ولا سيما أن العمالة الزراعية، قد سُحبت للخدمة في القوات المسلحة، أو هي هاجرت إلى المدن. فضلاً عن الأعداد الكبيرة من العمالة، الوافدة خلال الحرب، أصبحت تشكل عبئاً على الاقتصاد. كما تزايد الاعتماد على استيراد المواد الغذائية. وتوقفت، فعلاً، عملية التخطيط، واستعصت السيطرة على معدلات التضخم. كما تعمقت تبعية الاقتصاد لقطاع النفط. وقد أخفقت الخصخصة في تحقيق أهدافها، مستويات استيراد منخفضة، إضافة إلى خدمة الدين الخارجي، الذي أخذ يستهلك نسبة عظمى من إيرادات البلد، من العملات الأجنبية.

    ولمواجهة هذه الصعوبات، تصاعدت الحاجة إلى اعتماد اقتصاد البلاد برمّته على قطاع النفط. ففي عام 1986، انهارت أسواق النفط، فهبطت الإيرادات إلى أدنى مستوى، إذ بلغت 6.9 بلايين دولار. وبعد قرار "الأوبك" استقرار إنتاج البلدان الأعضاء، ازدادت إيرادات العراق إلى 11.4 مليار دولار، ثم انخفضت إلى 11 مليار دولار، عام 1988، ثم ارتفعت، ثانية، إلى 14.5 مليار دولار، عام 1989 أي ما يعادل 55% من الإيرادات المتحققة لعام 1980. إزاء هذا التذبذب في إيرادات هذا المصدر الحيوي، وجب على الحكومة موازنة المطالب الملحّة العديدة، التي شملت الحاجة إلى مستوردات أكثر، وخدمة الديون الخارجية، والإنفاق على إعادة التعمير والتنمية، وتمويل وظائف الحكومة الاعتيادية، واعتماد برنامج طموح للتصنيع العسكري. وخلال ذلك، تطلّب الأمر من الحكومة مكافحة معدلات التضخم العالية، غير الطبيعية.

1. موازنة الحكومة العراقية وأولوياتها، إزاء قطاع النفط

    تبرز إحدى أهم الخصائص الهيكلية، لاقتصاديات البلدان المعتمدة على النفط، كالاقتصاد العراقي، في الافتقار إلى التماثلية بين الدخل القومي والناتج القومي. وجذور المشكلة تكمن في أن قطاع النفط، يولد ما بين 50% و66% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين يستوعب 2 ـ 3% من عدد المشتغلين بالاقتصاد الوطني. ونظراً إلى أن القطاعات السلعية، الصناعية، الزراعية، تسهم بـ 20% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن الإنفاق المحلي، لأي جزء من الدخل المتولد من النفط، يؤدي إلى ممارسة ضغوط تصاعدية على الأسعار. فما دام الإنفاق التمويني الحكومي، يستلزم وقتاً طويلاً، ريثما تظهر نتائجه في الاقتصاد، فإن الوسيلة الوحيدة، المتاحة لمتخذ القرار، ستكون زيادة المستوردات إلى حين زيادة الناتج القومي من السلع والخدمات.

    ففي غياب هذه السياسة التنموية، أو إخفاقها في زيادة الناتج القومي، سيتجه البلد إلى الاعتماد المتزايد على المستوردات. كما ستقلّ الممارسة الاقتصادية، لتقتصر على آلية تصدير النفط، مقابل الاستيراد. ومن الممكن إحراز تقدم في المستوى المعيشي للسكان، لكن هذه الزيادة ستصبح رهينة القوى التي تشكل الطلب العالمي على النفط، أو القوى المتحكمة في أسعار النفط، وهذه القوى بعيدة عن سيطرة البلدان المنتجة للنفط. وازدادت هذه المشكلة، سواءاً بالنسبة إلى العراق، عبْر سلسلة قرارات حزب "البعث" الحاكم، في فترة السبعينيات، حينما ركز في الاستثمار في القطاع النفطي، وعمَّقت ظاهرة الاقتصاد القائم على النفط. وكان يمكن النظام إيجاد الحلول، لو كانت إيرادات الحكومة غير مكبلة بمطالب استثنائية، كالحرب، أو خدمة الديون الخارجية، التي قلصت بحدّة الأموال المتاحة، والإيرادات للإنفاق المحلي. وازدادت المشكلة تدهوراً، عندما ترافقت هذه المطالب الاستثنائية، المفروضة على الاقتصاد، مع تداعي المورد الوحيد للعملات الأجنبية. وهو ما حدث، تقريباً، للعراق، مما أدى إلى ارتفاع التضخم إلى معدلات، خارج السيطرة.

    وخلال سنوات الحرب على إيران، ازداد التضخم في العراق سوءاً، فسجل معدلات متطايرة، بلغت 95%، عام 1980، و369%، عام 1988. ونشأت هذه الزيادة الحادّة في التضخم، من خلال الزيادة الكبيرة في الإنفاق الحكومي، الذي لم يصاحبه زيادة موازية في الإنتاج المحلي أو الصادرات. وعقب انفجار الأسعار، في السبعينيات، سارعت الحكومة إلى إنفاقها، فتزايد الدخل القابل للتصرف، في الوقت الذي لم يكن الاقتصاد في وضع يمكنه من توسيع الإنتاج.

    لقد غيرت الحرب العراقية ـ الإيرانية كافة معالم الاقتصاد العراقي. وأدى تدمير أصوله المادية، كالبنية الأساسية، المزارع والمصانع، منشآت تصدير النفط، الموانئ، الطرق وغيرها، إلى تراجع الإنتاج المحلي، الذي استفحل تدهوره، بعد تفاقم مشكلة عجز الأيدي العاملة، الناجمة عن التعبئة العسكرية، أو زيادة أعداد القوات المسلحة. وزاد هذه المشكلة تعقيداً، انسحاب الأيدي العاملة الأجنبية، من بعض مواقع البناء، أو الإنتاج الصناعي.

    وأسفر التراجع الفعلي للاستيراد، بعد عام 1982، ليس إلى حرمان الاقتصاد المدني من السلع الاستهلاكية فقط، وإنما إلى تقلص تجهيز مدخلات الإنتاج، قطع الغيار والسلع الرأسمالية مما جعل من الصعب إيقاف، أو كبح تدهور الإنتاج المحلي. إضافة إلى ذلك، فإن استنزاف الحكومة لاحتياطياتها من العملات الأجنبية، وتراجع الإيرادات النفطية، جعلاها مضطرة إلى تلمّس موارد تمويل محلية. وقد واجهت مساعي الحكومة صعوبات، تمثلت في تميّز العراق، تقليدياً، بضآلة الضرائب، خلال وقت الحرب، إضافة إلى غياب مؤسسات التمويل الخاصة، أو الافتقار إلى الأسواق المالية المفتوحة، نتيجة سيطرة الدولة على المصارف أو مؤسسات التمويل، مما أدى إلى قصورها عن تنمية الموارد المالية الخاصة، الكامنة، واستخدامها أو الاستفادة منها.

    فعند أخذ هذه الواردات في الحسبان، ولأجل تمويل مجهودها الحربي، على الرغم من تراجع إيراداتها، اضطرت الحكومة إلى الاقتراض المطرد من النظام المصرفي نجم عنه عجز بالميزانية.

2. نشوء مشكلة المديونية الخارجية للعراق

    يُعَدّ العراق من البلدان القليلة النامية، التي تمكنت من تدبير أمرها، بعيداً عن الاعتماد على القروض الأجنبية. وتجلى الاستثناء الوحيد في عدد من القروض، التي منحه إياها الاتحاد السوفيتي وفرنسا. ومع استمرار الحرب على إيران، اضطر العراق إلى الاقتراض لتمويل آلة حربه. وقد تهيأت له ثلاثة مصادر رئيسية:

أ. القروض التي منحتها دول الخليج العربية، خصوصاً المملكة العربية السعودية والكويت، مباشرة بعد اندلاع الحرب. وقد عدّت الحكومة العراقية هذه القروض، البالغة 40 مليار دولار، مساعدات لإعانتها على حربها ضد إيران.

ب. القروض الممنوحة من حكومات ومؤسسات ومصارف غربية، والمقدَّرة بـ 35 مليار دولار.

ج. القروض المقدمة من الاتحاد السوفيتي وبلدان أوروبا الشرقية، والبالغة 11 مليار دولار.

    وتجدر الإشارة إلى أن التزامات العراق لخدمة الدَّين الخارجي، قد قاربت 8 مليارات دولار، عام 1990، وشكلت نسبة قدرها 55% من الإيرادات النفطية، عام 1989. وقد اعترف العراق بأن ديونه الخارجية، قد بلغت 42.1 مليار دولار، كما أن عليه أن يدفع خدمة الدين، المقدَّرة بـ 75.1 مليار دولار، للسنوات 1991 ـ 1995، أي بمعدل سنوي، قدره 15 مليار دولار، مما يفوق الإيرادات النفطية، لعام 1988، بما يعادل نصف مليار دولار. لقد كانت الأزمة الاقتصادية بهذا العمق، قبل قرار الحكومة اجتياح الكويت واحتلالها، عام 1990.

3. الصناعات العسكرية العراقية، واستخدام الموارد النادرة

    التضخم، التسريح الجزئي من الجيش، البطالة، تزايد المديونية الخارجية، تراجع إيرادات النفط، تأكل قيمة العملة، تردد القطاع الخاص، أو عدم استجابته لتوجيهات الحكومة، النقص الحاد في الموارد المتاحة لإعادة البناء والإعمار، ركود الإنتاج، تدهور المستوى المعيشي، وحالة الفقر العامة، كل أولئك، كان جزءاً من الأعباء التي أجهدت الاقتصاد العراقي، في فترة ما بعد الحرب على إيران.

    وعلى الرغم من نجاح الحكومة في بناء صناعة وطنية عسكرية، إلاّ أنها دأبت في استيراد كميات ملحوظة من السلع الأولية، والسلع الوسيطة والرأسمالية، وقطع الغيار، والمكونات الرئيسية للصناعات العسكرية، والتكنولوجيا، من مصادر عديدة في الغرب. لقد استهدفت الحكومة، من خلال محاولاتها، بناء صناعة محلية عسكرية، تحقق ما يلي:

أ. تجاوز الرقابة أو ممارسات التدخل، المفروضة من قبل مصدِّري الأسلحة.

ب. تفادي نتائج احتمال المقاطعة، أو الحظر على استيراد الأسلحة.

ج. التحرر من الضغوط السياسية المحتملة، لحكومات البلدان المصدرة للأسلحة.

د. ضمان سرية احتياجات البلاد، من التجهيزات أو المتطلبات العسكرية.

    وعلى الرغم من انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية، في 20 أغسطس 1988، فإن النظام لم يُغير أو يخفف من إصراره على الاستثمار في الصناعة العسكرية، كما أن شحّ الموارد، لم يُقنع الحكومة بالإبطاء في هذه الاستثمارات ـ فدمجت مؤسسة التصنيع العسكري في وزارة الصناعة، تحت كيان واحد، وأطلقت عليه: وزارة التصنيع العسكري والصناعة، مما يؤكد الأهمية التي علقتها الحكومة على هذا الكيان، في فترة ما بعد الحرب، لتكامل كافة المشروعات الصناعية تحت إدارة موحدة.

    ولّد تراجع الناتج المحلي الإجمالي، عام 1989، بنسبة 9% عمّا كان عليه في العام السابق صدمة للحكومة، كما دفعها إلى تبنّي إجراءات التقشف، في القطاع العام. فقررت تقليص الإنفاق الحكومي، بنسبة 7%، عام 1990ـ المقارنة بالعام السابق، إضافة إلى مطالبة النظام الإدارات الحكومية تخفيض حجم العاملين فيها، بنسبة 50%. وقد شكل انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، عام 1989، ضربة قاسية للحكومة، نظراً إلى أن إيرادات النفط، خلال ذلك العام، قد ارتفعت إلى 14.5 مليار دولار، بزيادة نسبتها 31.8% على العام الماضي، البالغة 11 مليار دولار. لكن هذه الإجراءات، لم تكن فاعلة، نظراً إلى أن أزمة الاقتصاد، أصبحت حالة شرطية، أو هيكلية، وليست ظاهرة وقتية، كما أنها تتطلب إجراءات عنيفة أو قاسية. فمثل هذه الإجراءات القاسية يتطلب زيادة الدخل النفطي، لمقابلة الحاجات الملحّة للاقتصاد. إن الحاجة إلى زيادة الإيرادات النفطية، قادت النظام إلى المواجَهة النفطية مع الكويت، التي شكلت، بدورها، مدخلاً لاجتياح الكويت، في أغسطس 1990.