إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / منظمات وأحلاف وتكتلات / منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) North Atlantic Treaty Organization NATO




لورد اسماي
لورد جورج روبرتسون
لورد كارينجتون
مانليو بروزيو
مانفريد فورنر
ويلي كلاس
بول هنري سباك
جوزيف لانز
خافيير سولانا
ديرك ي ستيكر
علم الحلف

الهيكل التنظيمي المدني (1951)
الهيكل التنظيمي العسكري للحلف (1951)
تنظيم قيادة الحلفاء بأوروبا 1952
السكرتارية العامة للحلف
الأقسام المعاونة للسكرتير العام
تنظيم القوة خفيفة الحركة
الهيكل التنظيمي للحلف حتى 1990
الهيكل التنظيمي للحلف حتى 1992
هيئة أركان الحلف الدولية
أقسام هيئة الأركان الدولية
اللجان الرئيسية للمجلس
الهيكل التنظيمي العسكري 1992
هيئة الأركان العسكرية للحلف 1992
تنظيم التحالف بوسط أوروبا
الهيكل التنظيمي للحلف 1998
اللجان الرئيسية للحلف 1998
هيئة الأركان الدولية 1998
هيئة الأركان العسكرية 1998
أقسام هيئة الأركان الدولية (1998)
الهيكل العسكري للناتو (1998)
الهيكل العسكري للناتو بأوروبا (1998)
الهيكل العسكري للناتو بالأطلسي (1998)
مؤسسات التعاون والاستشارة
قوات التحالف في أوروبا (2000)
قوات التحالف في الأطلسي (2000)
قيادات مناطق عمل الحلف
قيادة التحالف في أوروبا
قيادة التحالف في الأطلسي
القوات التقليدية لحلف الناتو
القوة النووية لحلف الناتو

مناطق تهديد أمن الحلف
دول الناتو أبريل 1949
دول حلف وارسو 1955
قوات التحالف وسط أوروبا
قوات التحالف جنوب أوروبا
قوات التحالف شمال غرب أوروبا
قوات التحالف في الأطلسي



القسم العاشر

المبحث السابع

انعكاسات النظام الدولي والمشاكل الإقليمية في فترة التغيير والتوسيع

أولاً: الانعكاسات على السياسة العسكرية:

    مع انتهاء الحرب الباردة وما أدت إليه من تغير في البيئة الأمنية، سعى قادة الحلف إلى التكيف مع المتغيرات. وقد بدأ ذلك بقرار مجلس شمال الأطلسي في يونيه عام 1990، حيث رأي قادة الحلف أنه مع أن دور الحلف الرئيسي، وهو الدفاع الجماعي، لا يزال قائماً ومطلوباً، فإن التغيرات في البيئة الأمنية المحيطة، تقتضي تغيراً في المهام العسكرية، التي تواجه أعضاء الحلف، ويستوجب ذلك إدخال تغييرات على استراتيجية الحلف العسكرية. وتزامن مع ذلك قرار لجنة تخطيط الدفاع، بإجراء مراجعة شاملة للسياسة العسكرية للحلف من أجل وضع متغيرات البيئة الجديدة في الاعتبار.

    حدد إعلان لندن "London Declaration" الصادر في 6 يوليه عام 1990 المبادئ الاسترشادية بشأن سياسة وعقيدة الحلف العسكرية، وتشكلت مجموعة لمراجعة السياسة العسكرية للحلف، وبحلول نوفمبر عام 1991 أكملت المجموعة عملها، ومن ثم أصدر قادة الحلف إعلان روماRome Declaration في 7 ـ 8 نوفمبر عام 1991 حول السلام والتعاون، أكد على أن التحديات والمخاطر الأمنية التي أصبح الحلف يواجهها تختلف في طبيعتها عما كانت في الماضي.

    أقرت قمة الحلف في روما في نوفمبر عام 1991 سياسة عسكرية جديدة، تقوم على أربعة مبادئ:

1. استمرار الحلف في أداء الدور الدفاعي عبر الدفاع الجماعي.

2. أن الأعضاء الأوروبيين سوف يضطلعون بمزيد من المسؤوليات للدفاع عن أنفسهم، مع الحفاظ على وحدة أمن الأعضاء وكونه وحدة لا تتجزأ.

3. على الحلف أن يستحدث هيكل قوة يعتمد على قوات أكثر مرونة، وحرية في الحركة أكثر من الاعتماد على الدفاع المتقدم، مع الحفاظ على هيكل القوات الموحدة للاستمرار في أداء مهمة الدفاع الجماعي.

4. استمرار الاعتماد على كل من الأسلحة التقليدية والنووية، مع خفض حجم القوات والحد من الاعتماد على المكون النووي.

    هذه المبادئ تسلم بانتهاء خطر هجوم واسع النطاق من الشرق، وأن البيئة الأمنية الجديدة في أوروبا تضاعف فرص تحقيق الأهداف الرئيسية للحلف من تنمية الاستقرار والرفاهية في منطقة شمال الأطلسي، والإسهام في تطوير علاقات دولية يسودها السلام، فقد أقر الحلف مبدأ التعاون مع دول حلف وارسو (السابق) وذلك بإنشاء مجلس تعاون شمال الأطلسي الذي خرجت منه الشراكة من أجل السلام، وفتحت الأخيرة الطريق أمام انضمام عدد من دول حلف وارسو السابق إلى حلف الأطلسي.

    أكد بيان قمة الحلف في مدريد (8 ـ 9 يوليه 1997) على ضرورة مراجعة السياسة العسكرية للحلف، وإدخال التعديلات المطلوبة عليها حتى تتلاءم مع البيئة الأمنية الجديدة والتي ينتظر أن تتبلور عند الاحتفال بمرور خمسين عاماً على إنشاء الحلف عام 1999. ويشير ذلك إلى استمرار عملية التغير في البيئة الأمنية الأوروبية، وتفاعلاتها، التي أدت إلى متغيرات عديدة وجذرية على سياسة الحلف العسكرية.

ثانياً: الانعكاسات على هيكل القوة في الحلف:

    أدى إدخال تعديلات على عقيدة وسياسة الحلف العسكرية، إلى فرض إعادة بناء هيكل القوة في الحلف، ليتواءم معها:

·   تقررت السياسة العسكرية الجديدة على أساس تقدير تراجع خطر التهديد من الشرق، وهو ما يعنى عدم الحاجة إلى وجود حجم كبير من القوات، والأسلحة المخزونة، في أوروبا. كذلك لا حاجة إلى التأهب القتالي العالي والتدريبات الكثيرة، وبذلك يكون الأثر الأول على الهيكل، هو ضرورة خفض قوات الحلف في أوروبا، وتكلفتها.

·   استمرار أداء المهمة الأساسية وهي الدفاع الجماعي، يعنى ضرورة أن تكون القوة المخفضة ذات قدرات كافية لأداء هذه المهمة، أي تشكيل هيكل جديد لقوات الدفاع المشترك بتسلح مختلط من تقليدي ونووي، وهو الأثر الثاني للتغيرات.

·   لأن مصادر التهديد الجديدة ليست محددة من اتجاه معين، كما أنها قد تكون غير مجسمة في شكل هجوم عسكري، فقد كان ضرورياً إعداد القوات ليمكنها التدخل في الوقت المناسب من أي مكان تتمركز فيه إلى أي مكان، وفي أي وقت تقتضيه المصلحة المشتركة لدول التحالف، أي أن هذه القوة الصغيرة القوية التسليح تكون قادرة على العمل السريع (خفة حركة ومرونة عالية) وهو الأثر الثالث للتغيرات.

        انعكست تلك الآثار الثلاث، على الهيكل العسكري للحلف في تنظيمه ومهامه فيما يلي: (اُنظر شكل الهيكل التنظيمي للحلف 1998) و(شكل اللجان الرئيسية للحلف 1998) و(شكل هيئة الأركان الدولية للحلف) و(شكل هيئة الأركان العسكرية 1998) و(شكل أقسام هيئة الأركان الدولية 1998) و(شكل الهيكل العسكري للناتو 1998) و(شكل الهيكل العسكري الحالي بأوروبا 1998) و(شكل الهيكل العسكري للناتو بالأطلسي 1998)

1. خفض قوات الحلف في أوروبا:

    جاءت سياسة خفض قوات الحلف في أوروبا متمشية مع الأثر الأول للتغيرات في السياسة والعقيدة العسكرية الجديدة للحلف، وفي إطار تنفيذ اتفاق الحد من التسلح التقليدي التي وقعها الحلف مع الاتحاد السوفيتي (السابق) في باريس في 19 نوفمبر 1990، والتي حددت التخفيضات في خمسة مجالات هي: الدبابات، المركبات المدرعة المقاتلة، قطع المدفعية، الطائرات المقاتلة، الهليكوبتر الهجومية.

    أقدمت دول الحلف خلال الفترة من 1990 إلى 1996 على تخفيض إنفاقها الدفاعي بنسبة 22%، وتخفيض 52% من قواتها البرية المقاتلة، ونحو 45% من قوات الحلف في المنطقة المركزية، ونحو 10% من الوحدات البحرية المقاتلة، بما فيها حاملات الطائرات والمدمرات والفرقاطات، وخُفّضَ 25% من الطائرات المقاتلة والمخزونة في أوروبا، و54% من القوات الجوية في المنطقتين المركزية والشمالية، و 25% من القوات الجوية في أمريكا الشمالية.

كذلك أزيلت جميع القواعد البرية لإطلاق الصواريخ النووية من أوروبا، وسحبت جميع الأسلحة النووية للحلف من على متن سفن السطح، وتبقى فقط القنابل التي تحملها الطائرات وتمثل 20% من القوة النووية لعام 1990. خفضت الولايات المتحدة كذلك قوتها النووية الاستراتيجية وفقاً لسلسلة معاهدات ستارت. كما خفضت أعداد القوات المخزونة في ألمانيا (القوات المتقدمة) بنحو الثلثين، والطائرات بنسبة 70%، وتراجع عدد القوات الأمريكية في أوروبا من نحو 300 ألف جندي إلى نحو 100 ألف جندي.

    واستمرت قوى الدفع باتجاه مزيد من التخفيض في القوات، لاسيما في اتجاه روسيا، وتكررت المبادرات من جانب واحد، بإجراء تخفيض للقوات[1].

2. إعادة هيكلة القوات الأساسية للحلف:

    تمشياً مع السياسة العسكرية الجديدة للحلف، جرت عملية إعادة تنظيم القوات، على النحو الذي يمكنها من القيام بمهمة الدفاع الجماعي، ومواجهة المخاطر المحتملة. هدفت هذه التعديلات إلى زيادة مرونة القوات الأساسية والارتقاء بقدراتها على التعبئة السريعة واستيعاب التطور التكنولوجي في نظم التسلح.

لذلك نظمت القوات الأساسية، في ثلاث فئات:

أ. قوات الرد السريع الفوري:     Immediate and Rapid Reaction Forces (IRRF)

    تتكون من قوات برية وجوية وبحرية على درجة عالية من الاستعداد، ومعدّة للعمل السريع للتدخل في الأزمات والطوارئ المباغتة.

ب. قوات الدفاع الأساسية: Main Defense Forces (MDF)

وهي القوات النظامية الأساسية للحلف.

ج. القوات المعاونة، أو قوات التعزيز: Augmentation Forces (AF)

وهي قوات احتياطية، لها دور مهم في الإطار العام للهيكل الدفاعي للحلف، إلى جانب القوات النظامية.

    وفي يوليه 1994 عدّل هيكل القيادة المدمج للحلف، وخفضت أعداد القيادات الرئيسية إلى اثنتين بدلا من ثلاث، وهي القيادة المتحالفة لأوروبا Allied Command Europe ACE، والقيادة المتحالفة في الأطلسي Allied Command Atlantic ACLANT، وتم إلغاء القيادة المتحالفة للقنال Allied Command Channel ACCHN، وأسندت مهامها إلى القيادة المتحالفة لأوروبا. كما استحدث ثلاث قيادات فرعية، داخل القيادة المتحالفة لأوروبا تتولى المسؤولية عن مناطق الجنوب والوسط والشمال الغربي. ومع استمرار التغيرات في البيئة الأمنية، استمرت عملية إدخال التغيرات المطلوبة على هيكل القوة للحلف.

3. قوة العمل المشتركة المجمعة:

    يمثل مفهوم قوة العمل المشتركة المجمعة Combined Joint Task Force CJTF، المكون الثالث للتغير في هيكل القوة في الحلف، فلأن الحلف اتجه إلى تقليص قواته الأساسية المنوط بها القيام بأعباء الدفاع المشترك ضد تهديد محتمل من الشرق، بعد الإقرار بزوال هذا التهديد، فإن المشكلة التي واجهت الحلف هي أن البيئة الأمنية لمرحلة ما بعد زوال خطر الهجوم من الشرق أوجدت مصادر تهديد أخرى غير مجسمة في شكل مادي واضح، وتقع في الغالب خارج النطاق التقليدي لنشاط الحلف ـ  مثل أزمة الاحتلال العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990 ـ وهي مصادر تهديد تقتضي مواجهتها مرونة عالية في آليات القيادة والسيطرة، من أجل الرد السريع، والقيام كذلك بالمهام داخل المنطقة التقليدية لنشاط الحلف، إذا ما تطلب الأمر ذلك. لذلك شكلت قوة العمل المشتركة المجمعة، لتعطى لقوات الحلف، المرونة اللازمة التي تمكنها من سرعة التدخل في الأزمات والطوارئ، والقيام بعمليات حفظ السلام.

    لم يؤد تبنى هذا المفهوم، إلى استحداث هيكل جديد داخل الحلف، بل تم عبر تقسيمات جديدة، وتحديد للأدوار والمهام، بحيث جرت عملية تخصيص مزدوج للبعض داخل الهياكل القائمة. تتشكل هذه القوات، من الدول الأعضاء في الحلف، وأعضاء الشراكة من أجل السلام، كذلك يمكن أن تنضم إليها قوات دول أخرى، بحسب طبيعة المهمة المكلفة بها.

    نقل الحلف مفهومه للقوات المشتركة إلى منظمة اتحاد أوروبا الغربية إذ يمكن للأعضاء في المنظمة قيادة قوة العمل المشتركة المجمعة، والقيام بالمهام التي يقتضيها حفظ الأمن والاستقرار في أوروبا، إذا ما قرر الحلف عدم التحرك، أي إذا ما رفضت الولايات المتحدة التحرك على غرار ما حدث في البوسنة. وقد طرحت الولايات المتحدة هذا المفهوم في اجتماعات لجنة تخطيط الدفاع بالحلف، وأجازته قمة الحلف التي عقدت في بروكسل في يناير 1994.

ثالثاً: الانعكاسات على الإنفاق العسكري، ومبدأ تقاسم الأعباء:

    تحملت الولايات المتحدة معظم أعباء الدفاع في الحلف منذ إنشائه، لاعتبارات تتعلق بالحرص على منع الاجتياح السوفيتي الذي كان متوقعاً لغرب أوروبا، لاسيما في ظل تنامي القدرات العسكرية للاتحاد السوفيتي، ثم لحلف وارسو بعد إنشاؤه، وتردي الأوضاع الاقتصادية لدول غرب أوروبا.

    سقوط حلف وارسو، وتفكك الاتحاد السوفيتي، ونجاح دول أوروبا الغربية في تحقيق معدلات نمو عالية، إلى مطالبة الولايات المتحدة للدول الأوروبية أعضاء الحلف بزيادة نفقاتها العسكرية، وهي المطالبة التي ازدادت حدة مع زيادة العجز في الميزانية الفيدرالية، وميزان المدفوعات الأمريكي. رفضت الدول الأوروبية الاستجابة للمطلب الأمريكي، وظلت نسبة الإنفاق العسكري الأوروبي أقل من المتوسط العام للحلف، وأقل من النسبة المحددة وفق إجمالي الناتج المحلي. (أُنظر جدول أعباء الدفاع في حلف شمال الأطلسي (بليون دولار) (1992 ـ 1997)) و(جدول الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي)

    وهكذا يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة ظلت منذ إنشاء الحلف، تتحمل نسبة أكبر من تلك التي كان يفترض أن تتحملها وفق نسبة ناتجها المحلي الإجمالي إلى الناتج المحلي الإجمالي للدول أعضاء الحلف. وإذا كانت قد اضطرت إلى تحمل نسبة عالية في الخمسينيات، فشلت الولايات المتحدة في إقناع الدول الأعضاء الأخرى بزيادة إنفاقها العسكري. وشهدت قضية توزيع أعباء الدفاع خلافات شديدة، لاسيما مع تزايد عجز الميزانية الفيدرالية الأمريكية، وتزايد العجز في ميزان المدفوعات. اتجهت الولايات المتحدة إلى الضغط على الدول الأوروبية أعضاء الحلف، لزيادة إنفاقها الدفاعي، لذلك عمدت إلى الانفراد بقيادة الحلف، بما في ذلك منطقة جنوب أوروبا، ورفضت تسليم القيادة للأوروبيين، أو تقليص وجودها العسكري في القارة، كما عمدت إلى تطوير هياكل الحلف العسكرية، على النحو الذي لا يجعلها ملائمة تماما للأمن الأوروبي، مما يدفع الأعضاء الأوروبيين إلى زيادة الإنفاق من أجل تشكيل هياكل ملائمة للتعامل مع الأمن الأوروبي.

    في مواجهة الضغوط الأمريكية، وبعد ثبات العجز الأوروبي عن العمل العسكري المستقل في أزمة البوسنة، عاميّ 1992،1993، اتجهت الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف إلى زيادة فاعلية المنظمات الأوروبية وتنشيط دورها في الحفاظ على الأمن في أوروبا، ممثلة في اتحاد أوروبا الغربية، وهو ما شجعته الولايات المتحدة، على أساس أنه يدفع الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف إلى مزيد من الإنفاق على أمنها، وحرصت على أن يجرى ذلك في إطار التنسيق الكامل للحلف.

رابعاً: الحوار مع دول جنوب وشرق المتوسط:

    اتفقت الدول الأعضاء في الحلف، على أن بيئة ما بعد الحرب الباردة، قد أفرزت مصدرين لتهديد أمن الدول الأعضاء: الأول من الاتجاه الشرقي، والذي سعى الحلف إلى مواجهته عبر برامج التعاون المختلفة، وصولاً إلى فتح أبواب الحلف أمام كل الدول، نظرياً، وأمام عدد معين منها عمليا، إذ احتل ذلك الأولوية لدى كافة دول الحلف. أما الثاني فهو ـ حسب رؤية الحلف ـ من الجنوب أي البحر المتوسط والشرق الأوسط. ويتمثل التهديد، حسب رؤية دول الحلف، في الإرهاب، والجريمة المنظمة،  وتهريب السلاح، وانتشار أسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستية، وزيادة معدلات الهجرة من هذه المناطق إلى المجتمعات الأوروبية والأمريكية، الأمر الذي ترتب عليه مشاكل عديدة في تلك المجتمعات. إضافة إلى ذلك، فإن دول الحلف تراقب تطورات الأوضاع الداخلية، ومدى الاستقرار في عدد من البلدان العربية، وتسعى إلى التخطيط للعمل على مواجهة أية تطورات فيها، على النحو الذي يحفظ مصالحها الحيوية. هذا النوع من التهديدات، يأتي من خارج النطاق التقليدي لمسؤولية الحلف، إضافة إلى أنها تأتى من منطقة مغايرة ثقافياً وحضارياً، ومن ثم لم يكن مطروحا أن تحصل أي منها على عضوية الحلف، في الوقت الذي يحتاج فيه الحلف إلى ترتيبات، وقواعد، وتسهيلات، للعمل في مواجهة هذه التهديدات. لذلك بدت حاجة الحلف للاتفاق، مع عدد محدود من دول جنوب المتوسط والشرق الأوسط، بعد إقرار إنشاء "قوة العمل المشتركة المجمعة"، وهي بمثابة قوات انتشار سريع، للتدخل في مناطق الأزمات، التي تؤثر على أمن دول التحالف. كان من الضروري التوصل إلى صيغة محددة، مع عدد من الدول العربية، تتضمن الحصول على التسهيلات المطلوبة، لاسيما بعد أن كشفت حرب الخليج الثانية، عن أهمية هذا البعد، لتؤمن تسهيلات العمل لقوة المهام الخاصة، المكلفة بالتعامل مع التهديدات المحتملة، في جنوب المتوسط. إضافة إلى مراقبة ما تراه من امتلاك بعض دول المنطقة من الصواريخ التي يمكن أن تصل إلى أراضيها، واحتمالات امتلاك بعض دول المنطقة، لأنواع معينة من أسلحة الدمار الشامل. وكان الاهتمام الرئيسي بتلك المنطقة، والأخطار المحتملة من اتجاهها، من جانب دول الحلف المتوسطية، أي البرتغال، أسبانيا، إيطاليا، فرنسا، اليونان وتركيا.

طبيعة العلاقة المقترحة

    لم تكن منطقة جنوب المتوسط، والشرق الأوسط، تمثل أولوية لدى الحلف، ولكنها كانت تمثل أولوية لدى الدول المتوسطية في الحلف، والتي سبقت الحلف في التحرك، لصياغة علاقاتها مع دول الجوار الجنوبي، لتتجنب، أو تحد من تأثير أي مصادر تهديد لأمنها. بدأ اتحاد أوروبا الغربية الحوار مع ست دول جنوب البحر المتوسط، وبذلت الدول الأوروبية المتوسطية، جهوداً مضنية لإقناع دول الجوار الجنوبي، بنقل تجربة منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، وإقامة نموذج منها في الشرق الأوسط.

    وبعد الاتفاق المبدئي بين دول الحلف، على قضية التوسع شرقاً، عاد الحلف بضغوط من دوله المتوسطية، للاهتمام بمسألة العلاقة مع دول الجنوب، فأعلن الحلف مبادرته تجاه المتوسط، في أواخر عام 1994، وهى المبادرة التي تشير إلى الملاحظات التالية:

1. غياب الإجماع حول محتوى الحوار، والهدف الرئيسي من ورائه، فعلى حين طالبت الدول المتوسطية بتكثيف الحوار، وتخصيص موارد كافية للوصول إلى اتفاقات محددة، تلبى حجم المخاوف من التهديدات، التي ترى هذه الدول أن أمنها يتعرض له، من جنوب المتوسط والشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة، والدول غير المتوسطية، في الحلف، لم تكن مستعدة لتوجيه نفس القدر من الاهتمام، أو تخصيص الموارد الكافية، للتجاوب مع رؤية الشركاء المتوسطيين، كما أن واشنطن، رفضت كل ما من شأنه أن يؤثر، على مسيرة تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، والتي كانت تحظى بالأولوية لديها، على ما عداها من قضايا متوسطية وشرق أوسطية.

2. أن الاختلافات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، تضع قيودا عديدة على قدرة الحلف، في بناء علاقات تعاونية، مع دول جنوب المتوسط والشرق الأوسط، لاسيما في ظل الصورة السلبية للحلف، في العالم العربي.

3. ما تراه دول الحلف المتوسطية من مصادر تهديد لأمنها، من الجنوب، لا يتطلب مواجهته، الدخول في علاقات تعاون عسكري، بل مجرد تعاون أمني، ومساعدات اقتصادية، وتعاون في قضايا اقتصادية واجتماعية، على النحو الذي يمكن تحقيقه، من خلال حوار يرعاه الاتحاد الأوروبي وليس الحلف.

        نظراً لعدم تبلور الاتفاق داخل الحلف، حول ضرورة ومحتوى الحوار، مع دول جنوب المتوسط والشرق الأوسط، إضافة إلى الاختلاف في الرؤية، بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية المتوسطية، حول أولويات الحوار، بادرت أربع من الدول الأوروبية: أسبانيا، فرنسا، إيطاليا، والبرتغال، في 15 مايو 1995، بإنشاء وحدات عسكرية للتدخل، في مواجهة ما تراه يمثل تهديداً أمنياً لها، وتمثلت هذه القوات في:

أ. قوة الانتشار السريع الأوروبية European Rapid Operational Force

ب. القوة البحرية الأوروبية European Maritime Force

    وحُددت مهام هذه القوات، في الإعلان الذي أصدره الاجتماع الوزاري، لاتحاد أوروبا الغربية، في بتسبرج "Petersberg" في يونيه عام 1996، على الوجه التالي:

أ. القيام بالمهام الإنسانية، وإجلاء الرعايا، في حالات الأزمات والطوارئ.

ب. حفظ السلم والأمن الدوليين.

ج. إغاثة وإجلاء المدنيين.

د. المساعدة في حالات الكوارث الطبيعية.

هـ. تقديم العون الطبي المناسب.

و. ملاحقة تهريب المخدرات، والهجرة غير الشرعية.

    أثار إعلان تشكيل هذه القوات، تساؤلات عديدة، داخل دول جنوب المتوسط والشرق الأوسط، عن المسرح المستهدف لعمل هذه القوات. لذلك قام حلف شمال الأطلسي بالتجاوب مع مخاوف الأعضاء المتوسطيين، من خلال التحرك الجاد، من منظور خبرة حرب الخليج الثانية. وذلك بضرورة الدخول في حوارات على أساس ثنائي، مع عدد من دول جنوب المتوسط والشرق الأوسط، يمكن من خلالها التوصل إلى اتفاقات محددة، تضمن النجاح السريع، لعمل "قوة العمل المشتركة المجمعة"، التي أنشأها الحلف، إذا ما رأت دول الحلف، ما يستوجب عملها. لاسيما وأن هذه القوات، هي أقرب إلى قوات التدخل السريع، خارج المنطقة التقليدية لنشاط الحلف، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، وذلك من خلال التوصل إلى اتفاقات محددة، حول التدريبات العسكرية المشتركة، التي تتعرف من خلالها هذه القوات، على البنية العسكرية لدول المنطقة، وربما يجرى تكييفها، مع متطلبات عمل هذه القوات. إضافة إلى العمل على نشر التعليم العسكري الغربي، في جيوش المنطقة.

    قدم الحلف مبادرة لإجراء حوارات، على أساس ثنائي مع عدد من دول جنوب المتوسط والشرق الأوسط، هي: مصر، تونس، المغرب، موريتانيا، الأردن، إسرائيل. وذلك بهدف  "تعزيز الثقة والتعاون". وأوصى البيان الختامي لقمة الحلف، في مدريد، (8 ـ 9 يوليه 1997)، بضرورة تعزيز الحوار مع دول جنوب المتوسط، مشيرا إلى أن " المنطقة المتوسطية، تستحق اهتماماً كبيراً، لأن أوروبا كلها ترتبط بشكل وثيق، بأمن واستقرار منطقة المتوسط". وأوصت القمة بتشكيل "مجموعة التعاون المتوسطي"، تحت إشراف مجلس سفراء دول الحلف، بهدف توسيع وتعميق الحوار، مع دول الجنوب، وبحث الجوانب العملية، التي يمكن أن تشكل في المستقبل، قاعدة للتعاون مع دول الجوار الجنوبي".

    بدا واضحاً، أن الحوار الذي بدأه الحلف، مع دول جنوب المتوسط، والشرق الأوسط، (أسماه البعض بالشراكة بين الحلف وهذه الدول) يهدف بالأساس، إلى تهيئة المناخ أمام قوة العمل المشترك المجمعة، وأيضا وضع لبنة جديدة في صرح بناء شبكة من العلاقات، بين الدول العربية وإسرائيل.

    أصبحت أفكار "الشراكة" الخيار المفضل، من قبل الدول الغربية، لاسيما بعد أن تبين لها، صعوبة تنفيذ الأفكار الأخرى، التي جرى طرحها في مراحل سابقة، مثل إقامة منظمة للأمن والتعاون في الشرق الأوسط، على غرار نظيرتها في أوروبا، لتأمين العمل السريع، في منطقة جنوب المتوسط، والشرق الأوسط، بتوفير الأساس القانوني الرسمي للعمل، من ناحية، والتأقلم مع البيئة العسكرية التحتية، لدول المنطقة، من ناحية أخرى، وذلك من أجل ضمان النجاح، لقوات الانتشار السريع، التابعة للحلف، إذا ما رأت دول الحلف أن هناك ما يستدعى التدخل، في منطقة جنوب المتوسط.

    تطرح هذه الفكرة، العديد من التساؤلات، حول المدى الذي يمكن أن تشارك فيه الدول العربية، في إطار هذا الحوار. والمدى الذي يمكن أن يصل إليه هذا الحوار كذلك، وما قد يترتب عليه من اتفاقات، تسمح لقوة العمل المشتركة المجمعة، بالعمل في مواجهة ما تراه دول الحلف، أنه يهدد مصالحها، وهو العمل الذي قد يوجه، ضد أي دولة عربية، أو غير عربية، جنباً إلى جنب مع قوات دول أخرى منها.

خامساً: مشكلة كوسوفو وحلف الناتو:

    إقليم كوسوفو، أحد أقاليم البلقان، يقطنه أغلبية ذات أصل ألباني، الدولة المجاورة، وهي أغلبية مسلمة كذلك، منذ الفتح العثماني للمنطقة في القرن الرابع عشر الميلادي (1371م). وقد استولت صربيا ـ أحد أقاليم البلقان ـ ذات الأغلبية الأرثوذكسية، على مناطق من كوسوفو، وكذلك مناطق من كل من البوسنة ومقدونيا، وهما إقليمان بهما أغلبية مسلمة (البوسنة) أو نسبة المسلمين بها عالية (مقدونيا)، خلال فترة انحسار النفوذ العثماني (1912 ـ 1913) وأرغمت المسلمين في تلك المناطق، وكذلك المسيحيين الكاثوليك، على اعتناق الأرثوذكسية.

    قتل ولي العهد النمساوي، الأرشيدوق فرانسيس فرديناند وزوجته، بواسطة طالب صربي[2]، في مدينة سراييفو البوسنية، في 28 يونيه 1914. وعلى أثر ذلك وجهت النمسا إنذاراً إلى صربيا، في 23 يوليه 1914، للسماح ببعثة قضائية نمساوية الإشراف على التحقيق خلال 48 ساعة، ولما لم تستجب، أعلنت النمسا الحرب وهاجمت صربيا وغزتها في 28 يوليه 1914، لتبدأ أحداث الحرب العالمية الأولى.

    منحت القوات النمساوية الغازية، للأقليات المسلمة في البوسنة وكوسوفو، حكماً ذاتياً ثقافياً، وبانتهاء الحرب العالمية الأولى، نشأت الدولة اليوغسلافية، وضمت كل أقاليم البلقان (عدا ألبانيا) وتبددت أحلام تلك الأقاليم في حكم ذاتي، ونشأت حركات معارضة في معظمها، ومنها كوسوفو، ضد سيطرة الصرب على الدولة الجديدة التي أعلنت في ديسمبر 1918.

    أعادت الدولة اليوغسلافية، ذات السيطرة الصربية، التمييز بين مواطنيها، فأغلقت المدارس في كوسوفو، ومنعت إصدار جرائد بلغاتها الألبانية، وأتبعت سياسة استيطانية، لتغيير التركيبة الديموجرافية في المنطقة، بداية بمصادرة أراضي كبار الملاك في الإقليم وتوزيعها على الجنود الصرب المتطوعين، والذين التحقوا بالجيش في نوفمبر 1918.

    استمرت تلك الأوضاع هي السائدة في كل أقاليم دولة يوغسلافيا، مما أفقد الحكم الصربي شعبيته، بينما كان الحزب الشيوعي اليوغسلافي، تتسع شعبيته وتتزايد، خاصة مع إعلانه تضامنه مع حركة التحرر القومي الألباني (وكانت ممثلة بواسطة اللجنة الكوسوفية على الساحة السياسية) وكانت تدعو إلى ضم الإقليم الكوسوفي إلى ألبانيا. وبوصول الزعيم الشيوعي اليوغسلافي جوزيف بروز تيتوJosip Broz Tito إلى سكرتارية اللجنة المركزية، للحزب الشيوعي، في يوغسلافيا، عام 1937، بدأ في طرح توجه عام لإعادة بناء يوغسلافيا موحدة، يراعى فيها المساواة بين القوميات، إلا أن نشوب الحرب العالمية الثانية، أدى إلى تأجيل ذلك، إذ غزت القوات الألمانية يوغسلافيا التي قاومت بشدة، تحت قيادة تيتو.

    بانتهاء الحرب العالمية الثانية، عاود تيتو تجميع القوميات المختلفة في البلقان، تحت حكم فيدرالي تحت اسم الاتحاد اليوغسلافي، واعتبرت كوسوفو أحد أقاليمه، إلا أنه في نفس الوقت ضم كوسوفو وغيرها إلى صربيا، حتى يمكنه الحصول على تأييد الصرب لحكمه. وعارض ألبان الإقليم القرار، ولجأوا إلى المعارضة المسلحة. وخشي تيتو أن تتأثر علاقته بألبانيا، نتيجة لقراره بضم كوسوفو إلى صربيا، فمنحها حكماً ذاتياً[3].

    أدخل تيتو تعديلات عديدة على دستور الدول، لتخفيف المركزية بالأقاليم، ومنحها مسؤولية سياسية واقتصادية واجتماعية أكبر، وصلت إلى حد تسميتها بالجمهوريات، تضمهما دولة فيدرالية، وبذلك أصبحت كوسوفو جمهورية كاملة الأهلية، وكان ممثلها في المجلس الفيدرالي، يتولى الحكم لمدة عام، طبقاً لترتيبه، حسب نظام الحكم المعمول به (رئيس كل إقليم، يتولى رئاسة الدولة الاتحادية، لمدة عام). وهدأت المعارضة الألبانية في الإقليم.

    بموت تيتو، برزت الخلافات العرقية في منطقة البلقان، وتفجرت الاضطرابات العرقية وتصادم الصربيون والألبان في إقليم كوسوفو، عام 1989، وتحرك الصرب، في ظل الحكم الفيدرالي الضعيف، للاستيلاء على السلطة.

    ألغى الصرب الحكم الذاتي لإقليم كوسوفو (1989)، ورد الألبان بإعلانهم الاستقلال في 2 يوليه 1990. وكان الحزب الشيوعي اليوغسلافي قد تخلى عن السلطة في يناير 1990، وسمح بإنشاء أحزاب أخرى، وهو ما زاد من التناقضات في المنطقة، إذ فازت أحزاب غير شيوعية في بعض المناطق، في الاتحاد اليوغسلافي، وبدأ الصدام بين الجمهوريات التي وصل إلى الحكم فيها الجبهات المعارضة، وبين تلك التي بقت تحت سيطرة الشيوعيون، وطالبت الجمهوريات بتخفيف حدة المركزية واستبدال الفيدرالية، بالكونفدرالية، أو الانفصال عن الاتحاد، وهو ما اتجهت إليه كرواتيا وسلوفينيا فأعلنتا الاستقلال، في يوليه 1990، بينما رفضت صربيا (المهيمنة على الحكومة الفيدرالية) ذلك. وسارع البرلمان الفيدرالي بتخويل الحكومة حق استخدام الجيش لضمان وحدة يوغسلافيا، ودفعت الحكومة المركزية، الجيش الاتحادي، داخل أراضي سلوفينيا لإعادتها تحت السيطرة المركزية، مما دفع المجموعة الأوروبية، التي كانت تراقب الموقف، إلى المشاركة بالتدخل، وإبرام اتفاق لوقف القتال بين سلوفينيا والقوات الاتحادية. مرة أخرى دفع الصرب الجيش الاتحادي إلى كرواتيا حيث استطاع فرض سيطرة الصرب الكروات (12% من السكان) على الأغلبية الكرواتية. وتدخلت المجموعة الأوروبية بالوساطة مرة ثانية، ورفضتها صربيا، فاعترفت المجموعة الأوروبية باستقلال كل من سلوفينيا وكرواتيا.

    تدخلت الأمم المتحدة كذلك، وتمكنت بجهودها، من توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين صربيا وكرواتيا، وتقرر كذلك نشر قوات دولية لحفظ السلام. وبذلك نجحت الأمم المتحدة في تجميد الموقف دون حله.

    في فبراير 1992، أجرى البوسنيون استفتاءً للاستقلال عن يوغسلافيا، وصوت غالبية السكان لصالح الاستقلال، وعلى الفور أشتبك صرب البوسنة مع سكانها من الكروات والبوسنيين المسلمين وتدخل الجيش الاتحادي، ليمكن الأقلية الصربية من السيطرة على الجزء الأكبر من جمهورية البوسنة، وأعلن صرب البوسنة جمهورية مستقلة في ذلك الجزء من البلاد، في أبريل 1992.

    تدخلت المجموعة الأوروبية والأمم المتحدة، بالوساطة تارة، والتهديد بالعقوبات تارة، إلا أن الجيش الاتحادي خرق كل قرارات وقف إطلاق النار، من أجل الاستيلاء على مزيد من الأرض لتحقيق حلم صربيا الكبرى، وينقلب الصراع من صراع للاستقلال، إلى حرب عرقية ضارية ذات طابع ديني أحياناً، واستنكر العالم كله تلك المذابح البشعة، طيلة أربعة سنوات، حتى تدخلت الولايات المتحدة، وأجبرت الطرف الصربي، كارهاً، إلى التفاوض مع البوسنيين. وانتهت المفاوضات باتفاق دايتون للسلام، في 14 ديسمبر 1995 الذي قسم البوسنة بين الصرب (49%) والكروات والمسلمين (51%) يجمعهما دستور فيدرالي وعاصمة موحدة (سراييفو).

    كانت جمهورية الجبل الأسود، قد وافقت على البقاء في الاتحاد فتركوها الصرب، بينما كانت كوسوفو ومقدونيا تحاولان الحصول على استقلالهما، لذلك نقل الصربيون قواتهم إلى كوسوفو، مما دفع القيادات السياسية بإقليم كوسوفو، إلى المسارعة لتنبيه العالم وتحذيره، من خطورة الوضع في كوسوفو. ولم تكن كوسوفو مثل البوسنة، فالحرب إذا نشبت بها لن تكون محدودة، إذ كان هناك وجود قوي للألبان في كوسوفو، وكذلك مقدونيا والجبل الأسود المجاورتان، كما أن مجاورة الإقليم لألبانيا، يزيد من حدة الاشتباك ويوسع من نطاقه، وقد ينتقل إلى دول أخرى، لها أصول بالإقليم، مثل تركيا وبلغاريا، أو تؤثر الحرب في الإقليم على سكانها ومصالحها، مثل اليونان.

    هددت بعض الدول الأوروبية القريبة من مسرح العمليات (إيطاليا، بريطانيا، فرنسا) الصرب، من نقل الحرب إلى كوسوفو، وتمكنت من التوصل لاتفاقية صربية ألبانية باسم "أوسلو" في سبتمبر 1996، بينما كان الرئيس المنتخب في كوسوفو يقود معارضة سلمية. وأدى تباطؤ الصرب المتعمد، في تنفيذ الاتفاقية، إلى زيادة التوتر، واضطر رئيس الدولة الكوسوفية إلى التخلي عن تمسكه بالمعارضة السلمية، في الذكرى السنوية الأولى للاتفاقية، وتدخل جيش تحرير كوسوفو، الذي كان قد تكوّن في سرية تامة، ونفذ عدة عمليات محدودة شملت خطف وقتل الجنود اليوغسلاف، مما أدى بالجيش الاتحادي إلى تنفيذ عدة عمليات ضد سكان الإقليم، بدعوى تعقبهم لجيش تحرير كوسوفو. وبدأ أكبر حملة تصفية عرقية في أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين، وأجروا عمليات نزوح جماعي ضخمة لتفريغ الإقليم من السكان.

    كانت المنظمات الأوروبية الثلاث (الاتحاد الأوروبي، منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، حلف الناتو)، تراقب الوضع في كوسوفو عن كثب، لذلك قررت مجموعة الاتصال الدولية[4]، دعوة السلطات الاتحادية (الصربية)، وممثلي الأغلبية الألبانية في كوسوفو إلى التفاوض حول خطة سلام في الإقليم، في ضاحية رامبوييه "Rambouillet" قرب العاصمة الفرنسية باريس "Paris" (6 ـ 23 فبراير 1997).

    اعترض الطرفان (الصرب، والكوسوفيون) على خطة السلام، إذ لم تشر إلى إجراء استفتاء لتقرير مصير الإقليم، وهو ما أعترض عليه الكوسوفيون، كما إنها كانت تضع تنفيذ الاتفاق تحت إشراف قوة من الحلف، عدها الصربيون تدخلاً أجنبياً غير مقبولاً. ونتيجة لذلك توقفت المباحثات، ولم تسفر عن توقيع اتفاق بين الطرفين.

    انهار وقف إطلاق النار في كوسوفو، بعد فشل المفاوضات، وتصاعدت الاشتباكات بين القوات الصربية والمقاتلين الألبان. وعزز الصرب وجودهم في الإقليم الكوسوفي، بحشود عسكرية كبيرة، للسيطرة على أكبر رقعة من الإقليم، وأرغموا الآلاف من الألبان الكوسوفيون، على ترك منازلهم وقراهم، والهجرة إلى الأقاليم المجاورة. وشدد جيش التحرير الكوسوفي من عملياته ضد الجيش الاتحادي، والذي صب جام غضبه على القرى الألبانية الأصل، بينما واصل حلف الأطلسي تهديده، باستخدام القوة التي لم يكن يملك تفويضاً من الأمم المتحدة باستخدامها، إذ لم يعد الطرفان للتفاوض، وأعتبر التفاوض مجدداً في رامبوييه، فرصة أخيرة لتجنب الضربات العسكرية للحلف.

    رغم التحذير الجدي للحلف، فإن الرئيس اليوغسلافي استمر في حملة التصفية العرقية التي دفع الجيش الاتحادي للقيام بها. بينما اتجه سكرتير حلف الناتو خافيير سولانا إلى مقدونيا، للاتفاق على ترتيبات استخدام أراضيها كقاعدة لقوات الحلف[5].

سادساً: الحرب في البلقان:

    مساء 24 مارس 1999، بدأ حلف الأطلسي عملياته العسكرية، ضد يوغسلافيا، لإقناع الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش بالتوقيع على خطة السلام ذات شقين (اتفاق رامبوييه): الأول إقرار حكم ذاتي موسع لإقليم كوسوفو، والثاني دخول القوات التابعة لحلف الأطلسي إلى إقليم كوسوفو لضمان تنفيذ الاتفاق ومراقبة التطورات.

    كان التدخل العسكري، بقرار سياسي أمريكي، وتأييد من المملكة المتحدة، وكان وراء ذلك دوافع كامنة لاستخدام العمل العسكري المباشر، لتسوية المشكلة في كوسوفو، إذ كان الأمريكيون يتلهفون لتطيق المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف، والذي فرضوه على باقي الأعضاء بالحلف، وهو ما يحمل أكثر من معنى، لكل الأطراف:

1. إخطار الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف، بعدم جدوى معارضة الرؤية الأمريكية للمفهوم الاستراتيجي، فمن اختصاص الولايات المتحدة إعادة ترتيب العلاقات الأوروأطلسية.

2. إخطار الدول الأوروبية، الغير أعضاء بالحلف، بأن الأمن والاستقرار في القارة، يعتمد على العلاقات الجيدة مع الولايات المتحدة.

3. توجيه روسيا الاتحادية، إلى عدم جدوى معارضتها لتوسيع الحلف، أو مقاومة مهامه الجديدة، إذ يطبق المفهوم الجديد للحلف على أقرب حلفاءها وأشقائها السلافيين.

4. إعلام العالم، بأن الولايات المتحدة هي القطب العالمي الأوحد، بعد انتهاء الحرب الباردة، وأنه لا تجدي مقاومة ترتيباتها، أو الاعتراض على سياستها الخارجية.

    على الجانب الآخر، كان الأمريكيون يعتمدون على انتهاء الأعمال العسكرية بسرعة، ودون خسائر تذكر في الجانبين (حرب سريعة نظيفة حاسمة) توضح النموذج الأمريكي لحروب المستقبل ضد أي دولة تخرج عن الطاعة أو تعارض المشيئة الأمريكية الأطلسية. كان التقدير الأمريكي، والذي اقتنع به الحلف، أن الرئيس اليوغسلافي، قياساً على نموذج البوسنة، سيرضخ في الوقت الأخير، ويسلم بشروط الحلف، تجنباً للقصف الجوي، وهو ما يحقق الهدف السياسي، بالتلويح بالحل العسكري.

    اختلف الحلفاء في نظرتهم لحل الصراع في البلقان، من وجهة نظر أمنهم ومصلحتهم، امتداداً لخلافهم تجاه العقيدة العسكرية الجديدة للحلف ودوره المستقبلي. وقد انعكس الخلافان على قمة واشنطن الاحتفالية مايو 1999، (أُنظر ملحق الوثائق التي صدرت عن قمة الناتو الخمسين (الاحتفالية) بواشنطن في 24-25 أبريل 1999) حيث كان مرتباً لتعبر عن تضامن دول الحلف وانتصارهم على خصومهم (حلف وارسو والاتحاد السوفيتي) عبر خمسون عاماً، واندثار الخصوم وبقاء حلف الناتو. لذلك كانت تلك الخلافات، تنذر بإفساد الاحتفال، فبعد أن فشل وزراء الخارجية في صياغة البيان الختامي والاتفاق على ما جاء في جدول أعمالهم، وأصبح على رؤساء الدول والحكومات، التوصل إلى تفاهم محدد حول القضايا المختلفة عليها، وكانتا اثنتين، هي الأكثر أهمية، وتعقيداً: إقرار العقيدة العسكرية الجديدة للحلف، وحل قضية كوسوفو. وقد استطاع الرؤساء تخطي المناسبة دون تعكيرها، بإصدار بيان اتسمت صياغته بالعمومية ودون توضيح درجة الاتفاق من إجماع أو اتفاق أو خلاف.

    رغم أن الحملة الجوية للناتو، ضد يوغسلافيا، بدأت عقب فشل مفاوضات رامبوييه، لرفض اليوغسلاف اتفاق السلام الذي قدمته لها الولايات المتحدة، إلا أن مسؤولية الفشل وجهت إلى الدول الأوروبية، لعجزهم التوصل إلى اتفاق مثل اتفاق دايتون الذي توصلت إليه البوسنة والهرسك مع اليوغسلاف والذي كان برعاية الولايات المتحدة.

    كانت خطة الناتو العسكرية (الأمريكية الصبغة والتنفيذ) من ثلاث مراحل: الأولى كانت تستهدف تدمير القوات اليوغسلافية، المنتشرة في كوسوفو، وقواعد الدفاع الجوي، والاتصالات داخل صربيا والجبل الأسود. أما المرحلة الثانية، فقد تضمنت تنفيذ هجمات مركزة عنيفة ضد المواقع الصربية في كوسوفو وقواعد الدفاع الجوي الصربية في كوسوفو وصربيا. المرحلة الثالثة كانت مرتبطة برد فعل الصرب، ففي حالة موافقة الرئيس الصربي على خطة السلام، يرسل الحلف قوة للحفاظ على السلام (28 ـ 30 ألف جندي)، وتتوقف العمليات الجوية ضد يوغسلافيا. وإذا أصر الرئيس الصربي على موقفه المتشدد، وصعد الصراع مع الحلف إلى مستوى أعلى من المواجهة العسكرية المفتوحة، تبدأ المرحلة الثالثة من العمليات الجوية، والتي كان مخططاً أن تستهدف العمق الصربي نفسه. وقد تنفذت المراحل الثلاثة كما كان مخططاً، إذ قصفت أهداف المرحلتين الأوليتين لمدة 48 ساعة، ثم أعقبها أهداف المرحلة الثالثة، دون أن يبادر الرئيس الصربي للموافقة على مطالب الحلف (كما كان مقدراً).

لنجاح العمليات الجوية، ركز الأمريكيون على ثلاث أهداف عسكرية رئيسية:

1. إسكات وسائل الدفاع الجوي، لتأمين القوة الجوية المنفذة للضربة الجوية.

2. شل عناصر القيادة والسيطرة، ومراكز المواصلات والاتصالات، لإضعاف سيطرة القيادات السياسية والعسكرية للصرب، على القوات الاتحادية

3. تدمير القوة الرئيسية للصرب، المتمثلة في المدرعات وأي قوات صربية ذات فاعلية، داخل كوسوفو.

    لتنفيذ مهام وأهداف العمليات الجوية، حشد الناتو ثلاث وسائل قتالية، رئيسية، وحدد لكل وسيلة مهام وأهداف معينة، كانت تلك الوسائل، هي:

1. الصواريخ الباليستية أرض/ أرض أو جو/ أرض أو سطح/ أرض من نوع كروز ـ توماهوك "Toma Hawk - Cruise". وكانت أهدافها مراكز القيادة والسيطرة، ومواقع القيادة للدفاع الجوي.

2. قاذفات القنابل الثقيلة من طرازيّ ب52، ب2 "B - 52, B - 2"، وكذلك قوة القاذفات المقاتلة من أنواع ف 15، ف 16، ف 117 الشبح 15, F - 16, F - 117 Stealth" وكانت أهدافها المحددة قصف القوات الصربية، في كوسوفو، والأهداف الحيوية والمناطق المستهدفة داخل الصرب.

3. الطائرات من نوع أ ـ 10 "A - 10"، والطائرات قانصة الدبابات العمودية من نوع أباتشي "AH - 64 Apache"، وكانت أهدافها المحددة، تدمير الدبابات الصربية في كوسوفو[6].

    ورغم أن الحلف دعم تلك القوة، بعدة طائرات فرنسية وبريطانية (من نوعي ميراج 2000 "Mirage - 2000"، وتورنيدو "Tornado"، واستقدم عدة وحدات جوية أخرى، حتى وصل عدد الطائرات المشتركة في العمليات الجوية ألف طائرة، فقد تحمل الصرب القصف، بل ودفعوا قوات إضافية (حوالي 1000 جندي) وعدة وحدات خاصة (كوماندوز) ومدرعات وآليات مدرعة ومدفعية. وزاد الحلف من قواته، ومن عنف الحملة القمعية ضد الصرب، ورد الصربيون بتصعيد القمع ضد الإقليم، محاولين استئصال شأفة الألبان في كوسوفو. وأصبح واضحاً أن العمليات الجوية، غير قادرة على تحقيق نتائج حاسمة، وقد يرجع ذلك لأن الأمريكيون كانوا يرغبون في استسلام الصرب، دون خسائر جسيمة في قواتهم للإبقاء على التوازنات في المنطقة، وأنه لا بد من مشاركة القوات البرية، وإلا فإن قرار إنهاء الحرب، أو امتدادها، سيصبح في يد الغريم الكوسوفي.

    كان الصربيون، قد أعدوا قواتهم لحرب برية ضد قوات الناتو وأحاطوها بثلاث نطاقات من العوائق:

1. الخط الأول:

    يتألف من أعداد كبيرة من اللاجئين الألبان، يستغلهم الصربيون كدروع بشرية، بعد أن أجلوهم عن مناطقهم السكنية، وأقاموا في معسكرات حدودية في مقدونيا وألبانيا، أو داخل كوسوفو، مما يستحيل معه بدء هجوم بري بحجم كبير من مقدونيا وألبانيا مع وجود تلك المئات من الألوف من اللاجئين.

2. الخط الثاني:

    يتألف من نطاق حقول ألغام ممتدة وبعمق كبير، ومنتشرة في كل الأراضي الكوسوفية وعلى حدودها مع الدول الأخرى. وهي بلا شك ستعوق قوات الناتو البرية، أو تؤخر تقدمها لفترة طويلة[7].

3. الخط الثالث:

    مكون من شريط المدن والقرى، التي يقطنها الألبان، في الجنوب والوسط، والتي لم يتعرض لها الصرب ليمكن للقوات الصربية، الاستتار بها عند مواجهتها لقوات حلف الناتو، وكانت تمثل ثلث السكان الكوسوفيون من أصل ألباني فقط.

    وضح أن التدخل البري، سيعرض طرفين لخسائر جسيمة في الأرواح وهي قوات حلف الناتو، والألبان الكوسوفيين، إضافة لاحتياجه إلى حجم ضخم من القوات، تتعدى 200 ألف جندي، حتى يمكنهم هزيمة قوة من الصرب في كوسوفو حجمها 40 ألف جندي، و300 دبابة. كذلك كانت التعقيدات السياسية تحول دون التدخل البري، فقد كانت الأحوال الداخلية المعاصرة، في دول الحلف الرئيسية المشاركة في الحملة (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا) لا تحتمل فكرة تدخل بري، إذ كانت حكومات تلك الدول، يشارك فيها قوى سياسية، ذات ثقل سياسي، تعارض فكرة التدخل البري (حكومات ائتلافية).

    كانت العمليات القمعية العسكرية للصرب، تمثل كذلك مخاطرة محفوفة بالأخطار، إذ أنها تزيد من احتمالات اتخاذ الناتو قراراً بالتدخل العسكري برياً، مباشرة، رغم المحاذير والقيود، لوقف التعنت الصربي، ورفع المعاناة عن شعب بأسره. ويعني ذلك، ليس فقط احتمالات الهزيمة المؤكدة للقوات الصربية، بل كانت ستؤدي إلى تحقيق هدف رئيسي للحلف، بالإطاحة بنظام الحكم في الصرب. وفي تلك الحالة، فإن قوات الحلف البرية يمكنها التدخل ضد الصرب من خلال عدة محاور، تؤكد إمكانية تحقيق الهدف، وهي:

1. التقدم من محوري ألبانيا ومقدونيا مباشرة بالقوات المحشودة بهما، داخل صربيا.

2. عبور قوات أمريكية الأراضي السلوفاكية، قادمة من ألمانيا، إلى بلجراد مباشرة.

3. فتح جبهة جديدة، من اتجاه المجر، العضو الجديد في الحلف للتقدم في شمال صربيا، والتعاون مع الثوار من أصل مجري في إقليم فوفودينا "Vojvodina"، للتمرد على الحكومة في بلجراد.

4. الضغط على حكومة الجبل الأسود، لتعلن انفصالها عن الاتحاد اليوغسلافي.

سابعاً: الموقف الروسي من التدخل العسكري في كوسوفو:

    كان الموقف الروسي والصيني، الرافض لتلك العمليات العسكرية، يفرض قيوداً على حرية العمل العسكري، كان أهمها تحجيم الحلف، ومنعه من استخدام قوته الضخمة، أو أسلحته الأشد تأثيراً، بفاعلية، ضد الصرب، فقد كانت روسيا ترى في العمليات الجوية للحلف تهديداً لأمنها، لذلك اتخذت موقفاً رافضاً متشدداً، إلى حد التهديد بتصدير الأسلحة إلى الصرب، كما نشرت صواريخ باليستية، ذات رؤوس نووية، في روسيا البيضاء "Belarus". ويرتبط ذلك الموقف المتشدد للروس، بعدة اعتبارات:

1. محاولة الظهور كدولة عظمى ذات فاعلية، لتجنب محاولات الأمريكيون لتهميش الدور الروسي في السياسة الدولية.

2. ارتباط المصالح الوطنية الروسية، في منطقة البلقان، وتوطد العلاقات مع الصرب منذ عدة سنوات.

3. المبادئ الجديدة للسياسة الخارجية، والتي تحاول إيجاد دور أوروبي للدولة الروسية، لتجنب عزلتها، خاصة بعد اتجاه دول حلف وارسو سابقاً إلى الغرب.

    أدى الموقف الروسي إلى تقييد قدرة قوات الناتو، وهو ما لاحظته القيادة الصربية، فتحركت بحرية أكبر في كوسوفو، مطورة أعمالها القمعية، ممتلكة للمبادرة، مسببه إحباطاً للهدف السياسي للحلف، لعدم قدرته على وقف التطهير العرقي الواسع النطاق، الذي تمارسه القوات الصربية في كوسوفو.

ثامناً: التسوية، والعودة للمفاوضات:

    كلفت مجموعة الدول الصناعية، الغنية، المبعوث الروسي فيكتور تشيرنو ميردين، وممثل الاتحاد الأوروبي مارتي أهيتساري (الرئيس الفنلندي)، التباحث مع الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوشيفتش، وقد تمكنا من التوصل إلى اتفاق معه لوقف الهجمات الجوية للحلف على يوغسلافيا، ووضع أسس عامة للتسوية في إقليم كوسوفو.

    رفض الروس الاتفاق، بحجة أنه يتضمن شروطاً أطلسية الصبغة، تحقق للحلف الادعاء بالنصر وهزيمة الصرب، بل أنه يتدنى (أي الاتفاق) إلى مرتبة الاستسلام. وأستغل الروس تركيز الإعلام الغربي على اللقاءات العسكرية بين الحلف والصرب لتأكيد ما ذهب إليه، خاصة أن تلك اللقاءات كانت تدور في مباحثات تفصيلية لخطط الانسحاب من كوسوفو، التي ستنفذها القوات الصربية[8].

    كان الحلف يخطط للاحتفال بالانتصار واستسلام يوغسلافيا، دون الإشارة إلى روسيا الاتحادية. وخطط لدخول قوات الحلف إلى الإقليم، ووزعت القوات بالجنسيات، في قطاعات ومناطق جغرافية، دون الإشارة إلى الدور الروسي، أو تقبل مجرد فكرة إشراك الروس في برنامج الإشراف على تنفيذ الاتفاق. لذلك سعت روسيا إلى الضغط على الحكومة اليوغسلافية لوقف التوقيع على الاتفاق أو تنفيذه. ورداً على ما أعتبره الروس إهانة لهم واستهانة بقدراتهم السياسية والعسكرية، دعت إلى مفاوضات جديدة، سمتها المفاوضات الحقيقية، دون إملاء شروط استسلام على اليوغسلاف.

    زاد تعقيد الموقف، بالتدخل الصيني، الذي هدد باستخدام حق الاعتراض (VETO) في مجلس الأمن، ضد أي قرار يخص مشكلة كوسوفو، إن لم تؤخذ مطالبها بعين الاعتبار، والتي كانت تتمثل في سرعة تقديم نتائج التحقيق، في قصف السفارة الصينية في بلجراد، بواسطة طائرات الناتو. كما طالبت بوقف العمليات الجوية في الحال، قبل طرح أي مقترح في مجلس الأمن. كذلك كانت الصين تطالب، بألا يتضمن قرار مجلس الأمن تفويضاً غير محدداً، يعطي حلف الناتو، أو الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تحديداً، حق شن هجمات جوية، دون مراجعة المجلس، على غرار ما حدث في حرب الخليج الثانية.

    بدأت مرحلة جديدة من التفاوض، بين اليوغسلاف (يدعمهم الموقف الروسي ـ الصيني)، وبين حلف الأطلسي. وأدى الموقف المتشدد للروس، والتدخل الصيني، إلى تغيير خرائط الانسحاب وتعديلها، وتغيير كذلك في صيغة الاتفاق، والتصريحات المتبادلة. وقد تزامن مع المفاوضات، تحرك دبلوماسي مع موسكو وبكين. أسفرت المفاوضات عن الاتفاق على تزامن بدء الانسحاب للقوات اليوغسلافية، مع وقف غارات الحلف الجوية، وصدور قرار مجلس الأمن الرقم 1244، بتاريخ 10 يونيه 1999، والذي يصرح، بقبول يوغسلافيا المبادئ التي وضعتها "مجموعة الثمانية" في 6 مايو 1999، كأساس للتسوية السلمية للأزمة، والبدء في الانسحاب طبقاً للخطة، يتزامن معه نشر قوات أمن دولية، وقوات مدنية دولية، تحت إشراف الأمم المتحدة. كما أعطى القرار للناتو، سلطات وصلاحيات كبيرة للسيطرة على قوات الأمن الدولية.

تاسعاً: دخول القوات الروسية إلى كوسوفو:

    بمجرد صدور قرار مجلس الأمن، وبينما تستعد قوات الناتو لدخول الإقليم، طبقاً لخرائط الانتشار، باغت الروس الجميع، بإرسال قوة عسكرية ـ كانت ضمن القوات الروسية العاملة في البوسنة ـ لتعبر الحدود البوسنية / الصربية، وتعبر صربيا إلى بريشتينا، عاصمة كوسوفو، وتتمركز في شمال غرب العاصمة. وأصر الروس على المشاركة في أعمال حفظ السلام بالإقليم، كما أصروا كذلك على أن تبقى القوة الروسية مستقلة، وتعمل خارج قيادة حلف الناتو، وبذلك رد الروس اعتبارهم العسكري، بذلك العمل الذي تم بسرعة وإتقان شديدين، كما أكد ذلك العمل إصرار الروس على عدم إظهار الصرب كمنهزمين في المواجهة مع حلف الناتو.

نتائج عملية كوسوفو (ك 4):

    لم تحقق العمليات الجوية للناتو، رغم قوتها، أهدافها كاملة، كما أن الاتفاق الموقع مع الصرب، يفتح الطريق لمرحلة جديدة من التفاعلات، يصعب التكهن باتجاهاتها، أو نتائجها، مع الاضطراب الشديد في الموقف، والشلل الذي أصاب الدول الأوروبية ومنظماتها، بفعل السياسة الأمريكية المهيمنة على المجال الأمني الأوروبي، والتدخلات الروسية، التي تشعر بالمهانة من التهميش السياسي، والاستهانة بقوتها العسكرية.



[1] مثل قرار يلتسين في أعقاب التوقيع على الوثيقة التأسيسية مع حلف شمال الأطلنطي في باريس في 27 مايو 1997، بإزالة الأسلحة النووية الموجهة إلى أراضى الدول أعضاء حلف الأطلنطي.

[2] يدعى غافريلو برنسيب.

[3] كان تيتو مخطط لإقامة اتحاد فيدرالي مع ألبانيا وبلغاريا. وإن كان تخطيطه لم يصادفه التوفيق، إذ ساءت العلاقات مع ألبانيا بعد ذلك، وقطعت العلاقات الدبلوماسية معها.

[4] مؤلفة من الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية، وألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا.

[5] يتمركز في مقدونيا ألفي جندي من قوة التدخل السريع للحلف، مكلفين بحماية المراقبين الدوليين في كوسوفو إضافة إلى ألف آخرين من الجنود، أغلبهم أمريكيون، من قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة منذ 1994 خمس سنوات سابقة على أحداث كوسوفو.

[6] لم تستخدم الطائرات العمودية، رغم نشرها في ألبانيا، ورغم فاعليتها في تحجيم القوة المدرعة الصربية في كوسوفو والتي كان يعتمد عليها الصربيون اعتماداً رئيسياً لتنفيذ مخططاتهم للإبادة وتفريغ المدن من سكانها المسلمين.

[7] تشير التقديرات، إلى أن إزالة هذه الألغام، سوف يستغرق عامين على الأقل، في ظروف السلم.

[8] تضمنت ترتيبات الانسحاب، والطرق والدورب التي ستستخدم، وحجم القوات في كل رتل، والملابس التي سيرتديها الجنود الصرب خلال الانسحاب.