إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1978، (الليطاني)





حملة الليطاني

لبنان



المبحث الأول

المبحث الأول

الخلفية، الجيوبوليتكية والتاريخية، عن لبنان

أولاً: الموقع

يقع لبنان في الطرف الغربي لقارة آسيا. ويحده من الغرب البحر المتوسط، ومن الشمال والشرق سورية، بحدود طولها 375 كم، بينما تحده إسرائيل من جهة الجنوب، بحدود تبلغ 79 كم. ويتخذ شكل المستطيل تقريباً، وتبلغ مساحته 10400 كم2، وينقسم إلى أربع مناطق: السهل الساحلي ـ جبال لبنان الغربية ـ منطقة سهل البقاع ـ جبال لبنان الشرقية.(اُنظر خريطة لبنان).

1. منطقة السهل الساحلي

يبلغ عرض السهل الساحلي في لبنان نحو كيلومترين، ويقلّ عن ذلك في بعض الأماكن الضيقة. وهو سهل صخري في مجموعه، ومع ذلك، يتميز بأن المدن الكبرى والرئيسية في لبنان، مثل طرابلس، وبيروت، وصـيدا، وصور، تقع داخل هذا السهل. كما تكثر فيه الأنهار، التي تنبع من قمم سلسلة جبال لبنان الغربية، فتروي الأرض الساحلية، ويُستغل بعضها في توليد الكهرباء.

2. منطقة جبال لبنان الغربية

تتكون سلسلة الجبال الغربية من ثلاثة أقسام: سلسلة جبال عكار في الشمال، وسلسلة جبال لبنان الوسطى، وسلسلة هضاب جبل عامل في الجنوب. ويصل ارتفاع منطقة أكروم وعكار إلى نحو 1240م. وتخترق مجموعة الجبال أودية عميقة، مثل وادي قاديشا ووادي الليطاني.

3. منطقة سهل البقاع

منخفض واسع بين سلسلتَي جبال لبنان، الغربية والشرقية. ويعَدّ امتداداً طبيعياً لغور الأردن، ويراوح عرض السهل بين 15 و25 كم، بطول 120 كم، ويصل ارتفاعه عن سطح البحر إلى 900 مترٍ. وينقسم السهل إلى قسمين: سهل البقاع الشمالي (الهرمل)، ويجري فيه نهر العاصي، في اتجاه سورية، وسهل البقاع الجنوبي، ويجري فيه نهر الليطاني.

4. منطقة جبال لبنان الشرقية

تمتد على طول الحدود مع سورية، ولمسافة 130 كم. ويصل معدل ارتفاعها إلى 2200م، وهي ذات ميول حادة من الغرب، وميول سهلة من الشرق. وتتكون السلسلة الجبلية الشرقية من ثلاثة أقسام جبلية كبيرة، وهي: الجبل الشرقي في الشمال، وأعلى قممه هي طلعة موسى، بارتفاع 2669م، وجبل الشيخ (حَرَمون) في الجنوب، وارتفاع أعلى قممه 2814 م، والجبل الغربي، بارتفاع نحو 1000 م. ويفصل بين الجبل الجنوبي وجبل الشيخ منخفض الزبداني، الذي يمر به نهر بَرَدَى، وطريق بيروت ـ دمشق الدولي.

وأُطلق على لبنان، منذ زمن بعيد "قصر الماء"، وذلك لغزارة الأمطار، وكثرة العيون والينابيع والأنهار، خاصة في سلسلة جبال لبنان الغربية، التي تصب جميعها في البحر المتوسط، عدا نهر العاصي، الذي يصب في سورية، ونهر الحاصباني، الذي يصب في بحيرة طبرية في إسرائيل. وأهم الأنهار الداخلية:

أ. نهر الليطاني

وهو أغزر أنهار لبنان وأطولها (160 كم). ينبع من نبع العلَّيق جنوب بعلبك، يخترق البقاع من الشمال إلى الجنوب، ويجتاز جبل عامل ويصب في البحر المتوسط شمال مدينة صور حيث يعرف بالقاسميّة، ومن روافده: البردوني، وشتوره، وقبّ الياس، وعنجر. ويوجد عليه سد القرعون، الذي يُستغل في الري، وتوليد الطاقة.

ب. نهر العاصي

يبلغ طوله 40 كم داخل لبنان، ينبع من مغارة الراهب قرب الهرمل، ومن اللبوة شمال غرب بعلبك، ويجتاز البقاع الشمالي، ويصب في بحيرة قطينة قرب حمص ثم يخترق الرستن وحماة وسهول الغاب والعشارنة، ويجري في واد ضيق سحيق حتى جسر الشغور، وينتهي عند السويدية في سورية، ويُستغل في توليد الكهرباء.

ج. نهر الحاصباني

ويبلغ طوله في لبنان 121 كم، وينبع قرب حاصبيّا وينتهي في بحيرة الحولة بإسرائيل. وهو أحد روافد نهر الأردن.

أمّا الأنهار الغربية، فقصيرة وسريعة الجريان، تقلّ فيها المياه صيفاً، مثل النهر الكبير الجنوبي، ونهر البارد، ونهر قاديشا، إضافة إلى نهر الجوز، ونهر إبراهيم، ونهر بيروت، ونهر الدامور، ونهر الأولي، ونهر الزهراني، وكلها أنهار للري، وبعض منها، مثل نهرَي البارد وقاديشا، تُستغل في توليد الكـهرباء.

ثانياً: المناخ

يسود لبنان مناخ معتدل بصفة عامة، ويتأثر بمناخ البحر المتوسط، الذي يتميز بصيف جافّ حارّ، وشتاء ممطر معتدل. وتفوق درجة الحرارة في فصل الصيف 25 درجة مئوية، بينما تنخفض في فصل الشتاء إلى خمس درجات مئوية. وتسقط الأمطار بغزارة في فصل الشتاء، وفي أشهُر الخريف والربيع، بتأثير الرياح الغربية من البحر المتوسط. وهي رياح ممطرة، وترافقها، أحياناً، العواصف القوية. كما تهبّ على لبنان رياح شمالية، شديدة البرودة وجافّة، إضافة إلى رياح جنوبية جافّة، محملة بالأتربة والرمال. ويختلف المناخ في لبنان من منطقة إلى أخرى. 

المنطقة الساحلية: ومناخها، بصفة عامة، معتدل، غزير الأمطار شتاء، وشديد الحرارة والرطوبة صيفاً.

المنطقة الجبليـة: ومناخها بارد، كثير الأمطار والثلوج شتاء، ومعتدل الحرارة صيفاً.

البقــــــاع: ومناخه قاريّ، شديد البرودة وقليل الأمطار شتاءً، وحارّ جافّ صيفاً.

ثالثاً: السكان

يبلغ تعداد سكان لبنان، طبقاً لإحصائية يوليه 1997، 578 449 3 نسمة. ويتكون المجتمع اللبناني من حوالي 19 طائفة دينية، ما بين مسلمين ومسيحيين وديانات أخرى، نشأت بينها صراعات متعددة، منذ فترة طويلة. وأهم هذه الطوائف هي:

1. الطوائف المسيحية

وتتمثل في الموارنة، الذين يشكلون غالبية المسيحيين. إضافة إلى الروم الأرثوذكس، والروم الكاثوليك، والأرمن الأرثوذكس، والأرمن الكاثوليك، وأعداد قليلة من طائفة البروتستانت والطائفة الإنجيلية.

أ. الطائفة المارونية

هم مسيحيون، تعرضوا  للاضطهاد من بعض الدول المجاورة، قبل ظهور الإسلام. فهاجروا إلى جبل لبنان. ونمت ثقافتهم على يد الكنيسة المارونية، وقد ساند بعضهم الغزو الصليبي لبلاد الشام، الأمر الذي أدى إلى تعرض الحكام المسلمين لهم، بعد انتهاء الحروب الصليبية.

ويمثل الموارنة، داخل مجلس النواب اللبناني، أكبر الأعداد عن الطوائف الأخرى. وينتخب منهم رئيس الدولة، وفقاً للميثاق الوطني، عام 1943.

ب. الروم الأرثوذكس

هم عرب في أنسابهم، وينتمون إلى الغساسنة، إذ كانوا يسكنون سورية الحالية. والمعروف تاريخياً، أن روسيا القيصرية، أعلنت حمايتها للطائفة الأرثوذكسية، حتى قيام ثورة البلاشفة، حين لجأوا إلى الارتباط بأرثوذكس سورية، الأمر الذي ساعد على تنامي فكرة القومية العربية لديهم.

ج. الروم الكاثوليك

وينتمون إلى الكنيسة البابوية في روما. ولهم كنيسة خاصة، حيث مقر البطريرك الكاثوليكي في بيروت. ويختار من بينهم وزير الخارجية.

د. الأرمن

وهم طائفتان: أرمن أرثوذكس (وهم الأكثر عدداً)، وأرمن كاثوليك. وتضم طائفة الأرمن أعداداً كبيرة من العاملين في المهن الطبية كالصيادلة والأطباء، وتسيطر، إلى حد كبير، على أعمال الصرافة.

هـ. الأقليات المسيحية

وهم خليط من طوائف أخرى (البروتستانت ـ الإنجيلية). وليس لهم تأثير واضح أو نفوذ في السياسة الداخلية أو الخارجية.

2. الطوائف الإسلامية

يشكل المسلمون، بطوائفهم المختلفة (السنّة، والشيعة، والدروز، والعلويين)، ما يزيد على نصف سكان لبنان حالياً.

أ. السنّة

ينقسمون إلى مسلمِي بيروت ومسلمِي طرابلس. وتشتهر الفئة الأولى منهم بأعمال التجارة، ويدينون بالولاء لفرنسا. بينما يتصف مسلمو طرابلس بالتعصب الديني، خاصة في مواجهة الموارنة، وترتبط مصالحهم الاقتصادية بسورية، منذ فترة طويلة. ويختار من السنّة رئيس الوزارة وبعض الوزراء (معظمهم من مسلمِي بيروت).

ب. الشيعة

يمثلون، خلال الفترة الحالية، أكبر نسبة سكان بين الطوائف اللبنانية. ويسكن غالبيتهم جنوبي لبنان ومحافظة البقاع، منذ هجرتهم إلى هذه المناطق، هرباً من الاضطهاد، المملوكي والتركي. ويختار منهم رئيس المجلس النيابي اللبناني.

ج. الدروز

إحدى الطوائف التي تفرعت عن الشيعة، في عهد الحاكم بأمر الله. ولهم طقوس خاصة في عباداتهم، لا يعرفها إلا القليل منهم. ويتركزون في لبنان. ويختار من بينهم وزيران. وينقسمون، سياسياً، إلى قسمين آل أرسلان، وآل جنبلاط.

د. العلويون

ويمثلون نسبة محدودة من السكان. ويقطن أغلبهم مدينة طرابلس.

ومن الواضح أنه لا تشكل أي طائفة أكثرية مطلقة. إلاّ أن زيادة نسبة مواليد المسلمين، قد تغير من البناء الديموجرافي[1].

رابعاً: التقسيم الإداري للبنان

لبنان جمهورية، عاصمتها بيروت. وتنقسم، إدارياً، إلى ست محافظات. ويتبع المحافظة عدة أقضية، يرأس كلاًّ منها موظف مدني، يسمى قائمقام، ويتبع للمحافظ مباشرة. ويضم القضاء عدة قرى، تديرها مجالس بلدية.

1. محافظة بيروت: ومركزها بيروت.

2. محافظة جبل لبنان: ومركزها بعبدا، وتتبعها عدة أقضية، منها: بعبدا، وعالية، والشوف، وكسروان، وجبيل.

3. محافظة لبنان الشمالي: ومركزها طرابلس، وتتبعها أقضية: طرابلس، وعكار، وزغرتا، وبشرّي، والبترون، والكورة.

4. محافظة البقاع: ومركزها زحلة، وتتبعها أقضية: زحلة، وبعلبك، والهرمل، وراشيا، والبقاع الغربي.

5. محافظة لبنان الجنوبي: ومركزها صيدا، وتتبعها أقضية: صيدا، وجزين، وصور.

6. محافظة النبطية: ومركزها النبطية، وتتبعها أقضية: النبطية، ومرجعيون، وبنت جبيل، وحاصبيا.

خامساً: الخلفية التاريخية للبنان

من الظواهر الملاحظة في تاريخ العرب المعاصر، أنه كلما نال قطْر استقلاله، ازداد تمسكه بمقوماته الوطنية المحلية، مهْما كان هذا القطْر صغيراً، ولم تتكامل له مقومات الدولة. وقد يختلف الأمر، في هذا المضمار، بالنسبة إلى لبنان. فبعد أن اتّحدت الطوائف الدينية تقريباً، أثناء العمل من أجل إنهاء الانتـداب، عاد الجدل قوياً، بعد الاستقلال، حول هوية لبنان، هل هي عربية أو متوسطية؟ أو أن له شخصية خاصة، تميزه عن منطقته الجغرافية؟ وقد أعطت المباحثات، التي دارت لتأسيس الجامعة العربية، والتي اشترك فيها لبنان، فرصة لاحتدام الجدل. كان هناك بعض المسيحيين، الذين يريدون عزل لبنان عن محيطه العربي. بل إن أحد رجال الدين الموارنة، ذهب إلى المطالبة بجعل لبنان وطناً قومياً للمسيحيين في الشرق الأوسط، على نمط الوطن القومي لليهود في فلسطين. وقابل المسلمون ذلك بتشدّد مضاد. فدعا بعض المسلمين السُّنِّيين إلى اندماج لبنان في اتحاد عربي شامل، أو اتحاد جزئي مع سورية، أو على الأقل إعادة الأجزاء، التي اقتُطعت منها عام1920، وهي طرابلس والأقضية الأربعة.

وتتعدد المواقف، تبعاً لاختلاف الطوائف والمصالح. فكثير من الروم الأرثوذكس، يسلّمون بمسحة لبنان العربية. كما أن المسلمين السُّنيِّين، لم يُجمِعوا على معارضة الكيان اللبناني. فرجال الأعمال في بيروت، فضّلوا استمرار هذا الكيان، لأنه يتفق ومصالحهم الاقتصادية. وأبدَوا تعاوناً مع الدول العربية، في إطار رابطة واهية، تتماشى مع صيغة الجامعة العربية

كما، أيّد بعض الشيعة تدعيم الكيان اللبناني، لأنهم ظنوا، في بداية عهد الاستقلال، أن دولة صغيرة، متعددة الطوائف، هي أفضل لهم من الضياع في ظل دولة كبيرة، تتكون من سورية ولبنان، ويسودها المذهب السُّنِّي. وكذلك الدروز أيضاً لم يتخذوا موقفاً موحداً في هذا الشأن.

وإلى جانب تلك الآراء، وُجد تيار معتدل لدى الطائفتين الرئيسيتين: الموارنة والمسلمين السُّنيِّين. وبفضل التعاون بين بشارة الخوري، ممثل الفريق الأول، ورياض الصلح، ممثل الفريق الثاني، أمكن التوصل إلى صيغة توفيقية، تجمّد النزاع الطائفي، دون أن تلغيه. وتمثلت تلك الصيغة في الميثاق الوطني، الذي أُعلن عام 1943. وهو وثيقة غير مكتوبة، إلا أنه صار يعَدّ من قواعد الحكم في لبنان، يُرجع إليه عند وقوع الأزمات. ويقْسم رئيس الجمهورية، أحياناً، إن يحترم الميثاق الوطني، إلى جانب القسم باحترام الدستور، كما فعل فؤاد شهاب، عام 1958.

ويعترف الميثاق بالصِّلات الروحية، التي تربط لبنان بالحضارة الغربية. كما يقّر بصِلاته، الثقافية والجغرافية، بالعالم العربي. ويعترف الميثاق الوطني بضرورة مراعاة التوازن بين الطوائف في الوظائف العامة. كما ينص على أن المسيحيين، لن يتطلعوا، بعد الآن، إلى حماية أوروبا، وأن المسلمين، لن يطالبوا باندماج لبنان كلياً في سورية، أو تعديل حدوده، التي أقيمت في عام 1920. على أن الرأي العام، كان يسلّم، في ذلك الحين، بوجود روابط خاصة بين سورية ولبنان، نظراً إلى كثرة  تنقّل الأشخاص بين الدولتين، ووجود اتحاد اقتصادي بينهما. وكان مختلف الأمور، يسوَّى بواسـطة الوزراء المختصين من البلدين، في اجتماعات تتم، عادة، عند إحدى قرى الحدود.  وللأسف، لم يستمر الاتجاه نحـو تدعيم الروابط، بل أخذت العرى تنفصم بالتدريج، حتى انتهت إلى قطيعة اقتصادية تامة، في عام 1950. ويلاحظ أن الظروف، الطبيعية والجغرافية، تحتم وجود اتحاد اقتصادي بين البلدين؛ فموانئ لبنان هي المنافذ الطبيعية لسورية، وبيروت هي أقرب إلى دمشق من اللاذقية، كما أن طرابلس هي أقرب الموانئ وأيسرها اسـتخداماً، بالنسبة إلى سورية الوسطى. ومن مصلحة لبنان، أن يستورد المواد الغذائية من منتجات سورية. ومع تعـذر إقامة الاتحاد الاقتصادي، اقتصر البلدان على توقيع اتفاق، في عام 1952، من أجل تسهيل حركة التجارة، وتنقّل البضائع والأشخاص.

بدا لبنان، خلال الخمسينيات، وكأنه أقرب الدول العربية إلى النظُم الديموقراطـية. إذ بينما خضعت تلك الدول لحكم الفرد المطلق، أو الحزب الواحد، أخذ لبنان بنظام الجمهورية البرلمانية، وتعدُّد الأحزاب. وتمتعت صحافته بحرية، ليس لها نظير في أي قطر عربي آخر. وحقيقة الأمر أن الديموقراطية اللبنانية، تقوم على الشكل الخارجي، فالولاء للطائفة ظل يَرجَح الولاء للوطن، وهذا الاتجاه من شأنه أن يفسد دعائم الدولة نفسها، كما اتضح ذلك في الأزمات والحروب الأهلية، التي شهدها لبنان.

وقد بلغت شدة التعصب الطائفي، أنها غطت على التناقضات الاجتماعية؛ كأن يتضامن مزارع ماروني مع مالك الأرض من طائفته نفسها، في بلدة زغرتا، ضد فلاحِي طرابلس من المسلمين السُّنِّيين، وهكذا. وكان من المفـترض، أن تخفّ هذه الطائفية، نتيجة تأثير الثقافة العصرية. ويبدو أن فرنسا، التي تأخذ بمبدأ العلمانية في التعليم، لم تشجع على تطبيق المبدأ عينه في لبنان. وعلى ذلك، بقي التعلـيم أداة قوية لتعميق الطائفية. وطبقاً لإحصائية 1974ـ 1975 المنشورة، في ذلك الوقت، بلغ عدد المدارس الثانوية، الخاضعة للتعليم العام، عشراً، مقابل 122 مدرسة خاصة، تديرها الهيئات الدينية. وبلغ عدد تلاميذ المدارس العامة 2850 تلميذاً، مقابل 550 38 تلميذاً في التعليم الخاص.

ولا يخلو التعليم العالي من المؤثرات الطائفية؛ فالجامعة الأمريكية، في منشئها، كانت تبشيرية للبروتستانت. ولا شك أن الثروة، التي تمتلكها البطريركية المارونية، هي التي مكنت الموارنة من أن يصبحوا أوفر الطـوائف نصيبـاً في التعليم، على مختلف المستويات. والواقع أن غلبة الروح الطائفية على تنشئة الأجيال، انعكست آثارها في شتى المجالات، حتى على الميثاق الوطني، الذي أقام ما يعرف بالتوازن الطائفي. ولذا، صار تركيب الدولة قائماً، على هذا التوازن. فرئيس الجمهورية، يعُدّ نفسه زعيماً للطائفة المارونية، إلى جانب دوره كرئيس لجمهورية لبنان. كذلك ينظر إلى رئيس الوزراء، كممثل لطائفة المسلمين السُّنِّيين قبل كل شيء. وكشفت الحرب الأهلية، عام1975، هذه الحقيقة، حينـما وقع الصدام بين سليمان فرنجية ورشيد كرامي، وانهار صرح الدولة بسبب هذا الصدام بين الشخصيتين الرئيسيتين في الحكم.

ويقضي نظام الجمهورية البرلمانية، أن يكون الرئيس محدود السلطات، غير أن الدستور اللبناني، يمنح رئيس الجمهورية سلطات واسعة، وفي الوقت عينه، فهو غير مسؤول أمام مجلس النواب. في حين أن رئيس الوزراء، المسؤول أمام هذا المجـلس، لا يتمتع بسلطات فعلية مهمة. ويرجع هذا الخلل في نظـام الدولة، إلى أن لبنان لم يصدر دستوراً جديداً، عند الاستقلال. كما أن من حق رئيس الجمهورية إصدار مراسيم تشريعية في غياب المجلس[2].

ويراعى التوازن الطائفي في تشكيل مجلس الوزراء. لذلك، قد يمضي الرئيس المرشح لرئاسة الوزارة وقتاً طويلاً، لمراعاة هذا التوازن، عند تشكيل وزارته. وحسب التقاليد، التي اكتسبت صفة العرف، يتولى الروم الأرثوذكس منصبَي نائب رئيس الوزراء ووزير العدل. ويتولى الكاثوليك وزارة الخارجية، والدروز وزارة الدفاع. وعلى أي حال، فلا بد من تمثيل الطوائف الرئيسية الخمس في المجلس، وهي: الموارنة والروم الأرثوذكس والسُّـنة والشيعة والدروز. كما يتيح هذا التشكيل الطائفي لرجال الدين مجالاً للتدخل، كلما واجهت البلاد تكوين وزارة جديدة. ونتج من هذا التركيب الطائفي لمجلس الوزراء، أن أصبح مجال الاختيار محدوداً، وتكررت الشخصيات الوزارية في عدة مجالس. ولم تقتصر شكوى المسلمين على مسألة سلطات رئيس الجمهورية، بل استمر التركيب الطائفي لمجلس النواب، يضيف عاملاً آخر من عوامل السخط.

تطلب التوزيع الطائفي للمقاعد البرلمانية، تقسيم البلاد إلى أقاليم انتخابية، لكل إقليم قائمة، تتكون من أحد عشر مرشحاً، وتمثل هذه القائمة النِّسب المخصصة لأتباع كل مذهب يسكن الإقليم. ولا يقتصر التوزيع الطائفي على تقسيم المقاعد بين مسلمين ومسيحيين، بل تخصص لجميع المذاهب الدينية في لبنان نسبة مقررة، وكلما زيد في عدد مقاعد مجلس النواب، عدلت النسبة بما يتلاءم وتلك الزيادة. وقد سمحت الزيادات المتوالية في عدد المقاعد، بتمثيل المذاهب الصغيرة.

كما يلاحظ، أيضاً، تداخل العامل الاجتماعي مع العامل الطائفي. وحصيلة هذا التداخل، هي أن الحزب، الذي مثل الطبقتين، العاملة والوسطى، كان أكثر الأحزاب المارونية حدّة في نزعته الطائفية، وأعني بذلك حزب "الكتائب"، الذي أسسه بيار الجميل، عام 1936، متأثراً بأنظمة الأحزاب الفاشستية الأوروبية، فكوّن "الكتائب" على شكل منظمات عسكرية أو "ميليشيا"، لا تلتزم الطرق الدستورية. لذلك، حظر الحزب بعد الاستقلال، بيد أنه عاد في عام 1952 أكثر نشاطاً، وتمتع بحماية الدولة في عهد كميل شمعون. وقد حاول الجميل، أن يحجب قليلاً صفة الحزب الطائفية، ففتح الباب للمذاهب الأخرى، بما في ذلك المسلمون، للانضمام إليه. ويقال إن بعض أفراد الشيعة التحقوا بالحـزب. غير أن أحداث عام 1958، ثم الحرب الأهلية عام 1975، أكدتا الصفة الطائفية لـ "الكتائب".

وظهر رد فعل سريع لدى المسلمين، على إنشاء "الكتائب". ففي عام 1937، أسس عدنان الحكيم جماعة "النجادة"، التي تشبه "الكتائب"، في اعتمادها على تنظيمات شبه عسكرية، تتكون من شباب المسلمين. ويؤكد "النجادة" صفة لبنان العربية، واقترحت أن تكون رئاسة الجمهورية دورية بين المسلمين والمسيحيين، واتخذت من جريدة "صوت العروبة" منبراً للتعبير عن آرائها.

وسط هذا الجو المشحون بالطائفية، حاول زعيم لبناني، أن يؤسس حزباً علمانياً، يتجاوز إطار المذاهب الدينـية. ذلك هو كمال جنبلاط، منشئ "الحزب التقدمي الاشتراكي"، عام 1947. وهو يجمع بين فكرة القومية العربية والمناداة باشتراكية معتدلة، تقوم على أساس تدخل الدولة للحد من سطوة الرأسمالية. ولم ينجح جنبلاط في مواجهة التيار الطائفي عميق الجذور.

وظهر دور هذا الحزب إبان الصراعات الطائفية المختلفة، خاصة في الحرب الأهلية، حين صار جنبلاط شبه زعيم للفئات الإسلامية، التي تكتلت في هذه المناسبة. ومن ثم، صار الرجل هدفاً للإرهاب الماروني، واغتيل في 16 مارس 1977.

1. أزمة عام 1952

على الرغم من أن نواب المعارضة كانوا قلة، إلا أنهم كانوا الأفضل تنظيماً، والأقوى تأثيراً في الجماهير، من أعضاء الكتلة الدستورية. ومن أبرز قادة المعارضة كميل شمعون. ومن الغريب أن يتحالف شمعون مع كمال جنبلاط، الشخصية الثانية، البارزة، بين صفوف المعارضة[3]. واستطاعت المعارضة، في عام 1952، أن تجمع صفوفها من عناصر متنافرة من الليبراليين، أتباع شمعون وإميل البستاني، والتقدميين الاشتراكيين، بزعامة كمال جنبلاط، إضافة إلى المنظمات شبه العسكرية، مثل "النجادة" و"الكتائب". وعلى الرغم من هذا التنافر، إلا أن المعارضة أطلقت على نفسها اسم "الجبهة الاشتراكية".

ولعل بشارة الخوري كان محقاً بعض الشيء، حينما وصف المعارضة بأنها تتستر وراء المبادئ، وأن أهدافها هي خدمة المصالح الشخصية لبعض الساسة المحترفين، الذين يتطلعون إلى السلطـة. كمـا أن بعض السياسيين، مثل رشيد كرامي، كان غاضباً لسقوطه في الانتخابات عام 1951.

وقد أراد الخوري أن يُرضي، على الأقل، فريقاً من هؤلاء الطامعين في السلطة، وهم أنصار رياض الصلح. فاختار سامي الصلح، ليرأس الوزارة عام 1952. إلا أن ذلك، لم يمنع العناصر الأخرى من متابعة نشاطها. ففي يونيه من العام نفسه، رُفعت عريضة تطالب بالإصلاح الإداري، وتعزو عجز الحكومة إلى تجاهل الكفاءات، من أجل التوازن الطائفي. ومن الإصلاحات الإدارية، تحولت المعارضة إلى المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية، ونددت بالنظام الطائفي، سواء في تعيين الموظفين أو في التمثيل النيابي. وفي 9 سبتمبر 1952، تحول سامي الصلح، فجأة، إلى صفوف المعارضة. وألقى بياناً في مجلس النواب هاجم فيه رئيس الجمهورية.

وإزاء هذا الموقف، صار أمام بشارة الخوري خياران: إمّا أن يستجيب للمعارضة، أو يستعين بالجيش، ويمنع وقوع أزمة دستورية. وفكر بالفعل في استخدام الجيش، بيد أن قائده العام، فؤاد شهاب، رفض فكرة الاشتباك ضد جماهير الشعب. وهكذا، قرر بشارة الاستقالة، في 16 سبتمبر، بعد أن عهد إلى فؤاد شهاب برئاسة الدولة مؤقتاً. ولم يجد النواب الذين تنتمي غالبيتهم إلى حزب بشارة الخوري، غضاضة، في أن ينتخبوا، عام 1958، الشخص نفسه، الذي تسبب بإسقاط رئيسهم، أَلا وهو كميل شمعون، بأغلبية 74 صوتاً، مقابل صوتين.

2. حكم شمعون 1952 ـ 1958

اشتعل الصراع ضد حكم شمعون منذ عام 1957، بعد أن أعلنت حكومة شمعون في 16مارس1957، قبول لبنـان لمبدأ أيزنهاور (اُنظر ملحق معلومات مختصرة عن مبدأ أيزنهاور، وردود فعل الدول العربية). ونادت المعارضة باحترام مبدأ الحياد الإيجابي، بينما اتجهت حكومة شمعون اتجاهاً، لم يسـبق له نظير في الانحياز نحو الغرب، وسلمت بأن الاتحاد السوفيتي يهدد الشرق الأوسط. وطالبت المعارضة بأن تتولى حكومة محايدة الإشراف على الانتخابات، وبرفع الرقابة عن الصحف، وإلغاء حالة الطوارئ، التي فرضت على البلاد منذ العدوان الثلاثـي، عام 1956، ورفع عدد المقاعد في المجلس النيابي إلى 88 مقعداً، وعدم إجراء اتفاق مع دولة أجنبية، قبل انتخاب مجلس جديد، بما في ذلك ما يتضمن مشروع أيزنهاور من التزامات. وتجاهلت حكومة شمعون تلك المطالب، فنشرت قانوناً انتخابياً جديداً، جعل عدد المقاعد 66 مقعداً، وأن تتم الانتخابات على أربع مراحل. وكان من الواضح أن الهدف من ذلك، هو تسهيل تدخل الحكومة في حرية الانتخابات.

وجرت الانتخابات في يونيه 1957، إلا أن الحكومة التجأت إلى وسائل التهديد، التي لم يسبق لها مثيل فـي لبنان. فاستدعى شمعون الأسطول السادس للمرابطة قرب الشواطئ اللبنانية، بقصد إرهاب المعارضة. كما استدعى شمعون أحد المرشحين ضد شارل مالك، ويدعى "فؤاد غصن"، وبدا أن شراء الأصوات أصبح هو الشـيء السائد. ولم تخـف صحيفة "لوريان" و"الحياة"، وكانتا تناصران شمعون، تهمة الرشاوى، التي دفعها أنصار الحكومة .

وسقط في تلك الانتخابات زعماء معروفون، كانوا يتمتعون بنفوذ مؤثر في دوائرهم، مثل كمال جنبلاط عن دائرة الشوف، وعبدالله اليافي وصائب سلام في بيروت، مما لا يدع مجالاً للشك في تزييف الانتخابات.

ويتضح، مما سبق، وجود أسباب عديدة كامنة، بعثت على الاستياء لدى الرأي العام، طفا كثير منها فوق السطح عام 1957، نتيجة المعركة الانتخابية. ولذا، حينما تمت الوحدة بين مصر وسورية، كان الشعور في لبنان معبأ للانفجار في أي لحظة. وازداد الموقف الداخلي توتراً، فوقعت مصادمات مسلحة، في طرابلس وبيروت، خلال الفترة من 28 مارس حتى 2 أبريل 1958. وسقط عدد من الضحايا، وكان ذلك نتيجة الشائعات، التي انتشرت، ومفادها أن شمعون، ينوي تعديل الدستور، تمهيداً لتجديد فترة الرئاسة.

وبعد فترة من الهدوء النسبي، توتر الموقف من جديد، بسبب اغتيال المتني[4]، وهو مدير جريدة "التلغراف"، وأحد الصحفيين البارزين. وثارت ثائرة المعارضة، وطالبت باستقالة شمعون، وحل مجلس النواب، وتكوين حكومة أمن وطني (وفاق وطني). ودعت المعارضة إلى إضراب شامل. واستمال شمعون إليه بعض التنظيمات المسلحة، مثل حزب "الكتائب"، وانقسمت العاصمة إلى قسمين متحاربين، ووضعت المتاريس. وتحولت طرابلس إلى شبه ميدان قتال، ونزل الجيش إلى المعركة، واستخدمت الدبابات. وكانت أكبر مراكز المعارضة في "الشوف".

وبوجه عام، سيطرت المعارضة على نحو 40% من أراضي لبنان. وحشدت نحو 12 ألف مقاتل، في الوقت الذي لم يزد فيه تعداد الجيش اللبناني عن عشرة آلاف مقاتل. ومن جهة أخرى، عمل شمعون، وبعض الموارنة، على إعطاء الصراع صورة طائفية محضة. ومن الواضح، أن كميل شمعون، كان يريد تدويل المسألة اللبنانية، على أساس اتهام الجمهورية العربية المتحدة بالتدخل، ومن ثم، طلب المساعدة من الغرب، وبالتحديد من الولايات المتحدة الأمريكية، لحماية استقلال لبنان.

وفي 13 مايو 1958، صرح شارل مالك بأن الجمهورية العربية المتحدة، تساعد المعارضة، وطلب اجتماع مجلس الأمن، للنظر في هذه المسألة. وحينما اجتمع المجلس، في 27 مايو 1958، كانت كثير من الهيئات، داخل لبنان وخارجه، قد نصحت الحكومة بأفضلية طرح القضية أمام الجامعة العربية، على أساس أن الخلاف قائم بين دولتين عربيتين. لذلك، أجل مجلس الأمن النظر في شكوى لبنان. وتقرر عقد جلسة استثنائية للجامعة في بلد عربي محايد، ووقع الاختيار على ليبيا. ولم تكن حكومة الجمهورية العربية المتحدة متحمسة لبحث القضية، أصلاً، في اجتماع على أي مستوى، لأنها لا تجد مبرراً للشكوى. وطلبت أن يسحب لبنان شكواه المقدمة إلى مجلس الأمن. وحاولت الجامعة إيجاد حل توفيقي، من أجل عدم الإضرار بالعلاقات العربية ـ العربية، وضرورة سحب لبنان شكواه من مجلس الأمن. وكانت الدهشة عظيمة، حينما قررت حكومة شمعون رفض قرارات الجامعة، واستئناف الشكوى في مجلس الأمن. وما أن طُرحت القضية على المجلس، في 6 يونيه 1958، حتى تبين أنها تحولت إلى موضوع من موضوعات الصراع الدولي، بين الشرق والغرب.  فقد رأى الاتحاد السوفيتي، أن الأزمة مفتعلة، من أجل إيجاد مبرر لتدخل الغرب. وبنى الوفد اللبناني شكواه أمام مجلس الأمن، على الادعاء بوجود تسلل جماعي، عبر الحدود السورية، يُقدر بنحو 15 ألف متسلل، في الأشهر الأخيرة من عام 1957. ويتمـثل الادعاء الثاني في وجود أسلحة مصرية لدى بعض الثوار. واقترح السويد إرسال قوة من المراقبين، تكون مهمتها استطلاعية لمراقبة الحدود. وبالفعل، أرسلت قوة من نحو 54 مراقباً، وشرعت في إجـراء التحقيقات، وكتبت ثلاثة تقارير، أكدت خلالها عدم وجود تسلل جماعي، أو تدخل من جانب الجمهورية العربية المتحدة. ومن ثم، أصبح واضحاً أن هـدف الحكومة اللبنانية، لم يكن سوى وسيلة لإيجاد المبرر للتدخل العسكري الأمريكي.

ويبدو أن شمعون ربط بين مصيره ونظام الحكم في العراق، الذي أُطيح به في 14 يوليه 1958. فاستولى على شمعون شعور جارف بالذعر، فأسرع بتوجيه رسالة إلى الإدارة الأمريكية، في 14يوليه جاء فيها: "إذا لم تبادر القوات الأمريكية بنجدة الحكومة اللبنانية، خلال 48 ساعة، فإنكم ستجدونني ميتا". وحتى بعد أن نزلت القوات الأمريكية على الساحل، قرب العاصمة بيروت، أصر شمعون على أن تدخل هذه القوات بيروت. وأنزل الأمريكيون  نحو 15 ألف جندي، يومي 15 و16 يوليه، واحتلوا مطار بيروت الدولي. ولا شك أن ذلك الموقف، قد جرح كرامة بعض ضباط الجيش اللبناني.

وفعلاً دخلت القوات الأمريكية إلى بيروت، وبررت حكومة واشنطن هذا العمل، بأنه إجراء اتخذ بناء على رغبة السلطة الشرعية في لبنان، وأنه موجه ضد الاتحاد السوفيتي، وليس ضد الجمهورية العربية المتحدة، بدليل عدم التدخل في العراق. وتظاهر الأمريكيون أنهم يتبعون سياسة محايدة بين الحكومة والمعارضة، داخل لبنان .

وإزاء ذلك، تصاعد الموقف في مجلس الأمن. وطالب الاتحاد السوفيتي بالانسحاب الفوري للقوات الأمريكـية. وعرض مشروع أمريكي بإرسال قوة طوارئ دولية، تحل محل القوات الأمريكية. وعرضت اليابان مشروعاً آخر، يقضي بزيادة قوة المراقبين الدوليين. ولم يتمكن مجلس الأمن من اتخاذ قرار بالموافقة على أي من هذه المشروعات، بسبب استخدام حق النقض (Veto).

وقدم أيزنهاور اقتراحاً إلى الجمعية العامة، في 8 أغسطس 1958، يقضي بتقوية وجود الأمم المتحدة، في كل من لبنان والأردن، وإنشاء قوة سلام دولية للمنطقة، ومنع تسابق التسلح بين دولها، وتعيين لجنة اقتصادية واجتماعية، لمعالجة المشكلات المتعلقة بهذه الأمـور، على أساس أنها سبب رئيسي من أسباب التوتر السياسي. ولم ترحب الحكومات العربية بأية اقتراح، دون تمثيل المعنيين فيه، إذ يعد ذلك، من أساسه، مبدأً خاطئاً، ووصاية مقنعة، ترفضها الحكومات الوطنية.  وتحت ضغط عربي أمام الجمعية العامة، استطاعت الدول العربية، أن تخرج، في النهاية، بتوصية مشتركة، تشمل  في أول بند منها "إعلان بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية سحب قواتهما من لبنان والأردن في أقرب فرصة". ولا شك أن تطور الأحداث داخل لبنان، هو الذي ساعد على تقارب وجهات النظر العربية، إلى أن خرجت بتوصية موحدة أمام الجمعية العامة.

استطاع التدخل الأمريكي في لبنان، أن يحقق أهدافه، بأن أسكت الأصوات المنادية بالاتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة. وإذا كان من بين محركات الأزمة شعور المسلمين بالاستياء من امتيازات الموارنة، فإن الامتيازات لم تمس. وإذا كان ثمة أثر ملموس، حققته المعارضة، فهو أنها حالت دون تفكير شمعون في تجديد رئاسته، أو اختيار رئيس آخر على شاكلته. فالرئيس فؤاد شهاب، الذي انتخب في أعقاب الأزمة، ترفع عن التكتلات القديمـة، ووقف موقفا محايداً بين الأطراف المتنازعة. وانتقلت السلطة انتقالاً طبيعياً إلى شهاب في 24 سبتمبر 1958. وهكذا  هدأت النفوس، إلا أن القيادة اللبنانية الجديدة، لم تكن تؤمن بالتغيير الجذري في لبنان. ومن ثم، لم يطرأ أي تعديل يذكر على سياسة لبنان في المرحلة التالية. ولم يخرج لبنان عن سلبياته في مؤتمرات القمة، وشاركت حكومته، على مضض، في مشروعات تحويل نهر الأردن. ثم أتت حرب يونيه 1967 وذيولها، التي دفعت لبنان، إلى المواجهة مع إسرائيل.



[1] أ. الطوائف العرقية في لبنان: 95% عرب، 4% أرمن، 1% طوائف أخرى. ب .  الأديان في لبنان: 70% مسلمون (الطوائف الإسلامية الخمس المعترف بها في الدولة: العلويون أو النُّصَيرِيُّون، والدروز، والإسماعيليون، والشيعة، والسنة)، و 30% مسيحيون (وينقسمون إلى الطوائف المسيحية الإحدى عشرة المعترف بها: أربع طوائف أرثوذكس، وست طوائف كاثوليك، وطائفة واحدة بروتستانت)

[2] الدستور اللبناني، المواد 51 ـ 59

[3] إن الغرابة في تحالف كمال جنبلاط وكميل شمعون، تأتي من أن الأول يمثل تيار أقصى اليسار، بينما يمثل الثاني تيار أقصى اليمين. والأول درزي، والثاني مسيحي. ومثل هذا التحالف قلّما وُجد على المسرح السياسي اللبناني

[4] اُغتيل نسيب المتني، في 8 مايو 1958، إبّان فترة حساسة في التاريخ اللبناني، بعد فترة وجيزة من خروجه من المعتقل، نتيجة معارضته تجديد رئاسة كميل شمعون. وكان اغتياله أحد أسباب نشوب الحرب الأهلية