إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الاجتياح الإسرائيلي للجمهورية اللبنانية، 1978، (الليطاني)





حملة الليطاني

لبنان



المبحث الثاني

المبحث الثاني

الميليشيات المتعددة والأزمة اللبنانية

أولاً: الميليشيات اللبنانية المسلحة

كنتيجة حتمية للصراعات الطائفية، تكونت عناصر مسلحة لكل طائفة. ومع بدء الحرب الأهلية اللبنانية، عام 1975، ازدادت القدرات والإمكانات لكل منها، في ضوء دعمها من قوى خارجية، تجري تصفية حساباتها على الأرض اللبنانية.

وبشكل عام، تتشكل الميليشيات داخل لبنان كالآتي:

1. الميليشيات المسيحية

أ. ميليشيا "القوات اللبنانية" المسلحة

تعد أقدم الميليشيات، إذ تكونت مع تأسيس حزب "الكتائـب"، عام 1936. ثم شملت، فيما بعد، ميليشيات "الكتائب" و"الوطنيين الأحرار". وقدر حجمها، قبل سحب أسلحتها، بالآتي:

(12 ألف فرد، و180 دبابة، وعدد من العربات المدرعة، وثلاث كتائب مدفعية، وكتيبة صواريخ ميدان، وهاونات من عيارات مختلفة، حتى 160 مم، صواريخ مضادة للدبابات، نوع "ميلان MILAN" و"تو TOW"، وأعداد كبيرة من الأسلحة القصيرة والخفيفة، من البنادق والرشاشات).

ب. "لواء المردة" أو "جيش التحرير الزغرتاوي"

أنشأه سليمان فرنجيه، زعيم حزب الجبهة الوطنية، بعد اغتيال ميليشيا "القوات اللبنانية" لنجله، توني فرنجية[1]. وقدرت إمكانياته بالآتي:

(3 آلاف فرد، وعدد من العربات المدرعة، وعدد من قطع المدفعية، و30 دبابة، وعدد من قطع المدفعية المجرورة من عيارات مختلفة، حتى عيار 130 مم، ورشاشات قصيرة وخفيفة مختلفة العيارات، وقواذف صواريخ مضادة للدبابات).

ج. جيش لبنان الجنوبي

استطاعت إسرائيل، أثناء هجومها عام 1978، استقطاب الرائد سعد حداد، والذي جمع عدداً محدوداً من المسيحيين، وأعلن إنشاء "جيش دولة لبنان الحر"، في المنطقة الحدودية المتاخمة لإسرائيل. وخـلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، عام 1982، وسع سعد حداد نطاق عملياته، بالتعاون مع القوات الإسرائيلية. ثم تولى، من بعده، أنطوان لحد قيادة هذا الجيش، وأطلق عليه "جيـش لبنان الجنوبي"، الذي تدعمه القوات الإسرائيلية في السيطرة على منطقة الشريط الحدودي، لتأمين حدودها الشمالية ضد أعمال المقاومة. ويصل تعداد "جيش لبنان الجنوبي" الحالي 3000 محارب، معظمهم من الضباط والجنود المتقاعدين والفارين من الجيش اللبناني، أو من المتطوعين المدنيين. وقدرات جيش لبنان الجنوبي محدودة، لا تتعدى تأمين الشريط الحدودي. وتتسلح هذه القوات بالآتي (30 دبابة، وعدد من العربات والعربات المدرعةM-113.وعدد من قطع المدفعية، وقواذف صواريخ مضادة للدبابات، ورشاشات متوسطة وثقيلة).

2. الميليشيات الإسلامية

أ. "حزب الله"

منظمة شيعية، تدعمها إيران، وتضم حوالي 5000 مقاتل، ينتشرون في جنوب لبنان والبقاع، وتتسلح بالآتي: (20 دبابة، و35 عربة مدرعة، و75 قطعة مدفعية، وهاونات مختلفة العيارات، وصواريخ ميدان عياري 107مم / 122مم، وأسلحة صغيرة وخفيفة وأسلحة مضادة للدبابات).

ب. ميليشيا "حركة أمل"

منظمة شيعية، وصل تعدادها، قبل حلها، إلى 12 ألف فرد، علاوة على 15 ألف فرد تحت الاستدعاء. وكانت تتسلح بحوالي: (50 دبابة، وعدد من العربات المدرعة، 12 قطعة مدفعية، وعدد من المدافع المضادة للدبابات، والرشاشات الثقيلة المضادة  للطائرات).

ج. ميليشيا "حركة التوحيد الإسلامي"

أنشئت بدعم مادي وعسكري من منظمة التحرير الفلسطينية، بعد رحيل  قوات المنظمة عن طرابلس، في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان، عام 1982، وقدرت قوتها، قبل حلها، بنحو (2500 فرد، إضافة إلى 1500 فرد من العناصر الفلسطينية، وعدد من الأسلحة والرشاشات الخفيفة، والهاونات، والقواذف المضادة للدبابات).

د. ميليشيا "الحزب التقدمي"

أسسها كمال جنبلاط، بدعم من سورية. وقدرت قوتها، وقتئذ، وقبل تسليم أسلحتها، بالآتي: (10آلاف فرد، و100 دبابة، وعدد من العربات المدرعة، و48 قطعة مدفعية عيار 155مم، وهاونات، مختلفة العيارات حتى عيار 160مم).

ثانياً: القوات السورية داخل لبنان

1. حجم القوات السورية

الفرقة العاشرة الآلية (3 ألوية مشاة آلية، ولواء مدرع)، لواء مشاة آلي مستقل، لواء وفوج مدفعية، وكتيبة صواريخ ميدان (مدفعية صاروخية)، والفرقة 14 قوات خاصة، المشكلة من ثمانية أفواج قوات خاصة، ووحدات دفاع جوي.

2. التسليح

345 دبابة، و280 عربة مدرعة، و191 قطعة مدفعية، و182  قطعة صواريخ ميدان، و120 هاون .

3. التوزيع الاستراتيجي للقوات

·   قيادة الفرقة العاشرة في منطقة رياق.

·   لواءان وكتيبة صواريخ ميدان في منطقة بعلبك ( اللواء 92 ـ اللواء 18).

·   لواء في منطقة كسروان.

·   لواء وفوج في منطقة زحلة.

·   وحدات دفاع جوي وكتيبة مدفعية، في منطقة راشيا.

·   خمسة أفواج قوات خاصة، الأرقام: 41، 46، 53، 54، 55، حول منطقة بيروت.

·   اللواء 51 مدرع، والفوج 36 قوات خاصة جنوب شرق بيروت.

·   القوات في شمال لبنان قيادة الفرقة 14 قوات خاصة، وفوجان قوات خاصة.

ثالثاً: الوجود الإيراني في لبنان

قُدِّر الوجود الإيراني بحوالي 5000 فرد من الحرس الثوري الإيراني، مدربين على عمليات الكمائن والإغارات. وهي مسلحة بالبنادق والرشاشات والأسلحة المضادة للدبابات، من الأنواع الحديثة، إضافة إلى القواذف الصاروخية.

رابعاً: الوجود الفلسطيني

يقدر حجم الفلسطينيين في لبنان بحوالي نصف مليون فرد، يقيمون بمخيمات، تنتشر في السهل الساحلي للبنان، في مناطق شمال طرابلس، وجنوب بيروت، وصيدا، وصور. ومنذ أحداث عام1982، أغلقت الحكومة اللبنانية المكاتب الرسمية للمنظمات الفلسطينية، ورفضت إعادة فتح أي من هذه المكاتب، ومع ذلك فإن معظـم العمليات، التي ينفذها الفلسطينيون ضد الجيش الإسرائيلي، تنطلق من جنوبي لبنان أو من الساحل اللبناني.

وتحاول عناصر "حركة فتح" إعادة انتشار عناصرها الأمنية في المخيمات الفلسطينية، في شمالي لبنان وحول العاصمة، بيروت. كما نجحت "حركة فتح" في إعادة تنظيم قياداتها في لبنان، من خلال اجتماع تونس (أبريل 1992).

أمّا "جماعة أبو نضال"، فيتركز نشاطها في مخيم، "عين الحلوة". وهي المسؤولة عن عمليات الاغتيال لرموز "حركة فتح" في لبنان.

بينما تمارس باقي المنظمات الفلسطينية نشاطها داخل المخيمات فقط، وغير مسموح لأي منها بالوجود المسلح خارجها. كما يوجد تنسيق بينها وبين المقاومة اللبنانية في الجنوب، خاصة "حزب الله".

خامساً: القوات المسلحة اللبنانية

في عام 1916، شكلت القيادة الفرنسية في قبرص "فرق الشرق"، من اللبنانيين والأردنيين والسوريين. وبعد ذلك بعامين، تشكلت أول سرية لبنانية. وفي عام 1925، تم تشكيل أفواج من القناصة اللبنانيين وسرية خيالة المشرق، تمهيداً لإنشاء الجيشين، السوري واللبناني، حيث تمركزت القناصة اللبنانيون في القرى والمدن الحدودية بين البلدين، لتأمين خطوط الهاتف وحفظ الأمن. وفي عام 1943، شكلت أول وحدة عسكرية كبيرة الحجم، وهي اللواء الخامس المشاة، بقيادة العقيد فؤاد شهاب.

وبدءاً من عام 1945، وحتى نهاية فترة الستينيات، تم تطوير الجيش اللبناني، حتى أصبح يتألف من (9 أفواج مشاة، 4 أفواج مدفعية، 3 أفواج مدرعات، فوج مغاوير، أفواج ووحدات إدارية)، إضافة إلى الوحدات البحرية والجوية.

وفي عام 1949، اُنشئت القوات الجوية اللبنانية حيث تم تشكيل أول سرب للطيران، وافتتحت المدرسة الفنية الجوية. ويتكون سلاح الجو اللبناني من سرب طائرات عمودية، وسرب مقاتلات قاذفة. أمّا القوات البحرية، فتم إنشاؤها في عام 1950. وسلحت عام 1954، بزورقين مسلحين. ومنذ عام 1955، عُزز السلاح البحري اللبناني بعدد من القطع البحرية، تتمركز في قاعدة جونيه البحرية.

وتنقسم لبنان إلى خمس مناطق عسكرية هي:

1. شمال لبنان: وقيادتها في طرابلس.

2. بيروت الكبرى: وقيادتها في بيروت.

3. جبال لبنان: وقيادتها في حمّانا.

4. البقاع: وقيادتها في أبلح ـ زحلة.

5. جنوب لبنان: وقيادتها في صيدا.

كما أُعيد تنظيم القوات المسلحة اللبنانية ثلاث مرّات:

1. في أعقاب مؤتمر الرياض، في أكتوبر 1976، ولم تنجح جهود إعادة التنظيم.

2. في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان، عام 1982، ولم تنجح الجهود، أيضاً.

3. في أعقاب مؤتمر المصالحة، عام 1988، ونجحت إعادة التنظيم، هذه المرة. (اُنظر ملحق حجم القوات اللبنانية عام 1997).

سادساً: الأزمة اللبنانية وتطورها وأبعادها

تشير الأزمة اللبنانية، بوضوح شديد، إلى أن الطوائف اللبنانية المختلفة، وزعاماتها السياسية، كانت غير قادرة على التحكم في الأحداث، أو ضبط الأمور. وهي، في عجزها، كانت تنتظر الدعم والتأييد من بعض الأنظمة العربية، أو من الدول الأجنبية، الطامحة إلى تثبيت أقدامها بالمنطقة، من خلال الدعم العربي. وقد كان من النتائج المباشرة لتلك الأزمة، أن اجتاحت إسرائيل لبنان في 15مارس 1978، وما أعقب ذلك الاجتياح من نتائج بعيدة المدى، ثم الاجتياح الإسرائيلي الكامل للأراضي اللبنانية، في 5 يونيه1982.

سابعاً: الأزمة اللبنانية من المنظور السياسي

تقدم الأزمة اللبنانية ـ في الحقيقة ـ نموذجاً فريداً لتداخل وتشابك عديد من العوامل، الداخلية والخارجية، الاجتماعية والاقتصادية والطائفية والأيديولوجية، وذلك كله في إطار مركب ومعقد. فهناك جانب طائفي رفع سلاح الدين. وآخر اجتماعي، تعلق بالقضية الاجتماعية وعدالة التوزيع، أي قضية اليمين واليسار. وثالث يرتبط بالعلاقة بين اللبنانيين والفلسطينيين. ورابع تعلق بالخلاف بين الاتجاهات الانعزالية والاتجاهات القومية. وأخيراً هناك العامل الخارجي، الذي تمثل في صراعات الدول الكبرى والوضع في المنطقة العربية ككل، ودور إسرائيل في هذا المجال، لضرب حركة المقاومة الفلسطينية، من ناحية، وإضعاف مفهوم الدولة العلمانية الديموقراطية، التي ينادي بها الفلسطينيون، من ناحية أخرى.

1. الواقع الطائفي ـ الطبقي في لبنان

ينقسم المواطنون اللبنانيون إلى طائفتين أساسيتين: إسلامية ومسيحية. وينقسم كل منها إلى عدد من الطوائف، يبلغ عددها سبع عشرة طائفة، يعترف بها النظام السياسي، ويقرر لها عدداً من الحقوق الاجتماعية والسياسـية. وقد وصف أحد الكُتّاب لبنان بأنه وطن الأديان والمذاهب.  بل أصبح الوضع الطائفي هو أساس الانتماء والتعامل بين الأفراد.

وجاءت سياسة الانتداب الفرنسي لتؤكد هذه الأوضاع. فاعتمدت الطائفية أساساً في التوظيف والاستخدام، طبقاً للمادة 195 من الدستور (الباب السادس). وكرست الانفصال بين المواطنين، وذلك بإقرار نظم مختلفة لأحوالهم الشخصية. وكان الإقرار، في صلب الدستور، بقيام أنظمة مختلفة للأحوال الشخصية، يعنى تكريساً للانقسام الطائفي. وقد أدى ذلك إلى تعدد القواعد المنظمة لوضع معين، وتعارضها بين وضع طائفة وأخرى.

وهكذا، فإن مفهوم الطائفية في لبنان، لم يكن، في الأساس، مسألة دينية، أو اعتقادية إيمانية. ولكنه كان حقيقة اجتماعية واقتصادية، بمعنى ارتباط الوضع الطائفي بدلالات اقتصادية واجتماعية. ومن هنا، كان ارتباط الحقيقة الطائفية بالحقيقة الاجتماعية، أو الطبقية. وهكذا، فإن الخلاف الطائفي يعكس صراعاً اجتماعياً، بين الغني والفقير، بين اليمين واليسار، بين قوى المحافظة وقوى التجديد، بين أنصار الأمر الواقع والداعين إلى التغيير، الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وأصبح من المعتاد، أن تشير الدراسات المتعلقة بلبنان، إلى الوضع الطائفي بصفته من أهم المشكلات التي تواجه.

2. أركان النظام السياسي في لبنان

أ. الميثاق الوطني (7 أكتوبر 1943)

هو ذلك الاتفاق، الذي تم بين بشارة الخوري ورياض الصلح، ويتضمن ثلاثة مبادئ أساسية. أولها، أن يتخلى المسيحيون اللبنانيون عن رغباتهم في طلب الحماية الفرنسية، مقابل تخلي المسلمين عن السـعي إلى ضم لبنان إلى سورية أو إلى أي وحدة عربية. وثانيها، يعترف المسيحيون بالفكرة العربية، على أنها تعني مساهمة لبنان في مجال التعاون العربي، في إطار استقلاله وسيادته، على ألا يطلب من لبنان إتباع سياسة عربية، تتعارض مع مصالحه. وثالثها، اتفاق الطرفين على توزيع مناصب الدولة الرئيسية على الطوائف.

ب. الدستور (أول سبتمبر 1926 ـ وتعديله في 21 يناير 1947)

ويتضمن السلطات التنفيذية لرئيس الجمهورية، ولرئيس الوزراء، وكذلك للسلطة التشريعية. وحدد قانون الانتخاب مدة عضوية مجلس النواب بأربع سنوات. يزاول، خلالها، مهامه التشريعية، والدستورية، والسياسية، والمالية. وفي الفترة من 1926 ـ 1964، شهدت لبنان 46 وزارة، ومن ثم، يكون متوسط عمر الوزارة  أقل من 8 أشهر. ولهذا، لم يكن هناك نوع من استقرار الإدارة داخل لبنان.

ج. الأحزاب السياسية

اتسم النظام الحزبي اللبناني بالتعدد، وبالطابع الفردي للأحزاب. وتُعد الأحزاب انعكاساً وتعبيراً عن الأوضاع العشائرية السائدة، إذ مصدر القيادة هو الوضع الأسري، مع عدم وجود حزب أغلبية في مجلس النواب. وفي الوقت عينه، عدم مشاركة الأحزاب السياسية في صنع السياسة. فالأحزاب لا تمارس دوراً رئيسياً مهماً في العملية السياسية، نتيجة المحددات، التي يفرضها الوضع الطائفي، بالنسبة إلى اختيار النواب، تبعاً لمعايير طائفية.

والواقع أن النظام اللبناني، قام، أصلاً، على توازن ماروني ـ سني، في إطار الأوضاع الطائفية التقليدية السائدة، وأن هذا التوازن، تعرض لعوامل اختلال رئيسية، تمثلت في ثلاثة عناصر، هي:

(1) الصعود التاريخي للطائفة الشيعية، منذ نهاية الستينيات، ودخولهم حلبة الحياة السياسـية، تحت قيادة قوية، لها قدر كبير من النفوذ، وهي قيادة الإمام موسى الصدر.

(2) بروز الحركة الوطنية اللبنانية، والقوى التقدمية، التي رغبت في تأكيد مفهوم المواطنة اللبنانية، على حساب المشاعر والولاءات  الطائفية. وارتبط بذلك نمو الأفكار والاتجاهات اليسارية.

(3) الوجود الفلسطيني في لبنان، والذي كان يقدر بنحو نصف مليون فلسطيني، يسكن ربعهم تقريباً في مخيمات. وفي الفترة التالية لعام 1970، وبعد خروج حركة المقاومة من الأردن، وتمركزهم في لبنان، نشأ موقف، اتسم بازدواج السلطة في لبنان، تمثل في الوجود العسكري المستقل للفلسطينيين، وعدم قدرة الجيش اللبناني على السيطرة عليهم.

وهكذا تشابكت خيوط الموقف اللبناني وتعقدت، واختلطت الاعتبارات الطائفية بالمصالح الطبقية والاجتماعية، وبظروف القضية الفلسطينية وتطوراتها، وبالأوضاع الاقتصادية، بصفة عامة.

من العرض السابق، يتضح أن النظام اللبناني واجه أزمة، لا تتعلق بمشكلة حكم أو تشكيل دستوري، بل بعجز البنية الأساسية السياسية والطبقة الحاكمة، عن التعبير عن القضايا الاجتماعية المطروحة والقوى الجديدة في المجتمع. جوهر الأزمة، إذاً، أن هناك قوى جديدة، ترغب في إصلاح النظام، وتطرح ضرورة إعادة النظر في عدد من أساسياته وفروضه. وفي مواجهة ذلك، يرفض الموارنة تعديل النظام، ويطرح عدد منهم تقسيم لبنان، كحل بديل للمشكلة. ويبدو أن رفض إعادة النظر في الميثاق الوطني أو تعديله، كان خطاً مستمراً لقوى الموارنة الرئيسية. ففي تصريح للرئيس الأسبق سليمان فرنجية، قال: "إن الميثاق الوطني، وهو صيغة للتعايش الأخوي بين اللبنانيين، سيظل كما هو، استجابة لإرادة اللبنانيين، وتطوراً مع أمانيهم، في إطار الاستقلال". ويترتب على ذلك، أنه لا يمكن إعادة النظر في الميثاق، ولكن يمكن تعديل الدستور.

كما طرحت جبهة الأحزاب والقوى التقدمية، برنامجاً شاملاً، يتضمن تعديلات أساسية لنظام الحكم، أسمته "البرنامج الوطني للإصلاح الديموقراطي". وقد صدر في 19 أغسطس 1975، وهو ينطلق من مـبدأ علمانية الدولة، ويطالب بإلغاء الطائفية، وتعديل قانون الانتخاب، وإعادة تنظيم الجيش والأحزاب. كما تضمن الدعوة إلى إلغاء النصوص الطائفية في الدستور والقوانين، على مستوى الممارسة السياسية، للوصول إلى "علمنة" كاملة للنظام السياسي.

ومن الواضح أن مثل هذه الأزمة، أعمق من أن تكون أزمة أشخاص، أو مؤسسات، بل هي أزمة للنظام السياسي اللبناني، وتتمثل في ثلاثة جوانب هي:

1. أزمة عدم التكامل، فالنظام اللبناني، يقاسي الأوضاع الطائفية، والتوازنات الدقيقة بين الطوائف، والتي تكون، عادة، على حساب الكفاءة، أو المصلحة العامة.

2. أزمة المشاركة، أي أن النظام السياسي، لا يسمح لكل القوى في لبنان من المشاركة فيه، إن هي رغبت في ذلك. الأمر الذي يجعل حركتـها السياسية، بالضرورة، خارج إطار الشرعية الدستورية، ويجعلها لا ترى في المؤسسات القائمة ما يعبر عن مصالحها أو طموحاتها.

3. أزمة توزيع، تتمثل في عدم العدالة في توزيع العائد القومي بين المواطنين، بما يحقق حداً أدنى من الرضاء.

وقد أدّت هذه الأزمات الثلاث إلى "أزمة شرعية"، ويقصد بذلك اهتزاز شرعية النظام السياسي ومؤسساته، في نظر عدد من القوى والجماعات في المجتمع، وإحساسها بضرورة التغيير، والعمل من أجل ذلك.

ثامناً: المناخ الاقتصادي والاجتماعي، الذي كان سائداً في لبنان قبل انفجار الأزمة (1975 ـ 1976)

إن الاتساع الكمي الاقتصادي الكبير، والارتفاع العام للمستويات الاقتصادية، اللذين عرفهما لبنان في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم يرافقهما تطور مواز في المضمون الاجتماعي. وكان، من ثم، أن بقيت ثغرة اقتصادية ـ اجتماعية، كبيرة نسبياً، تفصل بين بعض المناطق اللبنانية من ناحية، وبين فئات المجتمع، ضمن كل منطقة على حدة، من ناحية أخرى. وأما محاولة السلطات الحكومية سد هذه الثغرة، فقد كانت محدودة للغاية.

إن التطور الاقتصادي ـ الاجتماعي، غير المتوازي، عكس إلى درجة كبيرة، تفاوتاً في النمو بين مناطق تسكنها أغلبيات سكانية، كل واحدة منها تنتمي إلى طائفة معينة. وهكذا، أصبح لهذه "اللاموازاة" أبعاداً طائفية، وإن كان من الصعب تحديد أهميتها.

كما إن التضخم المالي، الذي عرفه لبنان في النصف الأول من السبعينيات، والذي أدى إلى ارتفاع الأسعار في الفترة ما بين عامي 1970 ـ 1974، بنسبة 26 ـ 27 بالمائة، أسهم في إبراز الهوة الاجتماعية، التي كانت سائدة وجعلها أشد حدة.

هذه الصورة يمكن النظر إليها كإطار عام، يصلح لاستخلاص بعض النتائج، بالنسبة إلى الجوانب الاقتصادية لأزمة 1975 ـ 1976، وهي:

1. نشوء طاقة اجتماعية كامنة، قابلة للانفجار، فيما لو أتيحت لها فرصة التحرك، أو أتيحت فرص استغلالها، على الصعيد السياسي. ومع ظهور التضخم المالي، في أوائل السبعينيات، كبر حجم هذه الطاقة، وأصبحت أكثر قابلية للاستجابة للتحركات السياسية.

2. أن التقسيم الجغرافي للتفاوت الاقتصادي ـ الاجتماعي اللبناني، إضافة إلى ضعف الأيديولوجية الحزبية الحديثة، أوجد بعداً طائفياً للطاقة اللبنانية الكامنة، والقابلة للانفجار، تخطى المفهوم الطبقي للصراع، أي أن هذا الصراع، إذا ما وجد، بات غير مرتبط، بالضرورة، بعوامل طبيعية صرفة فقط، بل أصبح يتأثر، ولربما إلى حد جد كبير، بالاعتبارات الطائفية والإقليمية.

3. مع وجود قابلية الانفجار، الناتجة عن التطور الاقتصادي ـ الاجتماعي اللامتوازي، فإن هذه القابلية، لم تكن بحد ذاتها، على الأقل حتى السبعينيات، ذات مفعول ضاغط على المجتمع اللبناني، يؤثر تأثيراً كبيراً في مسيرة النمو الاقتصادي ـ الاجتماعي.

ومن ثم، يمكن القول إن العامل الاقتصادي، كان من العوامل المساندة للحرب الأهلية في لبنان (1975ـ 1976)، بمعنى أنه أتاح للقوة الكامنة إمكانية الانفجار، ولو إلى مدى معين فقط، مع كل أبعاده الطائفية.

إن العامل الاقتصادي ـ الاجتماعي، قد استغل من أجل تغذية حرب، أسبابها الرئيسية سياسية محلية، وخارجية. وربما جاز القول أن الحرب أتاحت للعامل الاقتصادي ـ الاجتماعي، أن يقوم بدوره، على وجهين: أولهما، يتعلق بالفرصة، التي أتيحت لعناصر لبنانية، لا تنتمي إلى القيادات التقليدية. كما أتاحت الفرصة أيضاً لعناصر غير لبنانية، لكي تتحرك وتحاول أن تجند طاقات الفئات، التي عانت التفاوت الاقتصادي ـ الاجتماعي. وثانيهما، يعكس التقسيم الجغرافي، والبعد الطائفي لهذا التفاوت، الذي استغل في الصراع، القائم على الصعيد السياسي الصرف.

وبطبيعة الحال انعكست آثار تلك الحرب، وأثرت، بشكل واضح، في الوضع الاقتصادي اللبناني. فعلى سبيل المثال:

1. الدمار المادي الكبير، الذي لحق بالمنشآت اللبنانية، الصناعية والزراعية والتجارية والإدارية. مما أدى إلى انخفاض الدخل الوطني انخفاضاً كبيراً، وتعطل شبكة التجارة، الداخلية والخارجية. كما أدى إلى نزوح القوى الرأسمالية، والفعاليات الاقتصادية، إلى خارج البلاد.

2. تأثير تلك الأحداث في مستوى العمالة، الذي انخفض، بدوره، انخفاضاً كبيراً. وهو ما أدى إلى نزوح عمالي كبير خارج لبنان.

3. الخسائر غير المنظورة. ومن أهمها الخسائر البشرية، وزعزعة الثقة بالاقتصاد اللبناني، والإعادة الجبرية لتوزيع الدخل الوطني، نتيجة تدمير المنشآت والسرقات، التي تمت على نطـاق واسع، دون أي رادع. كذلك هناك العديد من التأثيرات السلبية، التي رافقت تلك الحرب، ومنها ازدياد حدة التضخم المالي، والإقفال المؤقت لعدد من المصارف التجارية.

4. التأثير السلبي على أجهزة الحكم الرسمية. فانقسمت، بدورها، بل فشلت، في معظمها، وحل محلها، في كثير من المناطق، هيئات محلية، غير رسمية.

تاسعاً: بروز المقاومة الفلسطينية، وتفجر التناقضات التقليدية

ما كاد العهد الشهابي ينذر بالأفول، حتى بدأت تظهر، من جديد، وبشكل علني، تناقضات المجتمع اللبناني، مستغلة، هذه المرة، بروز المقاومة الفلسطينية على مسرح الأحداث، بعد حرب يونيه عام 1967. فقد رأى بعض اللبنانيين في المقاومة مدخلاً لهم إلى المسرح السياسي، لإثبات وجودهم، وتحقيق مآربهم. وفي الوقت عينه، حرصت المقاومة، خاصة بعد أحداث الأردن الدامية، على مد يدها، للتعاون مع الفئات الاجتماعية المحلية، إيماناً منها أن هذا التعاون، هو صمام الأمان لحماية نفسها، والعمل على ترسيخ أهدافها في النفوس.

وبسبب التناقض الطائفي والاجتماعي في لبنان، وحرية التحرك، الناتجة عنهما، وجدت المقاومة  الفلسطينية أرضاً خصبة، للعمل باستقلال تام عن مؤسسات الدولة وإشرافها. ولكن الواقع اللبناني، والتناقض الطائفي، بالقدر الذي سهلا به دخول المقاومة، وتحركها بشيء من الاستقلالية في العمل، قد جعلاها، في الوقت نفسه، عرضة للاستغلال السياسي، المحلي. وخلال فترة وجيزة من الزمن، في أوائل السبعينيات، أصبحت المقاومة المحور الأساسي، الذي تدور في فلكه مجموعة الرفض اللبنانية، من جماعات مغبونة، وطوائف محرومة، وأحزاب عقائدية سياسية، كانت ممنوعة، حتى الأمس القريب، من ممارسة نشاطها، إلا في الخفاء. والتفت هذه الجماعات والطوائف والأحزاب حول المقاومة، سلباً، لا إيجاباً. جمعتها سياسة الرفض للنظام اللبناني، أو لبعضه. ولم يجمعها، بالضرورة، الإيمان بمبدأ التحرير وأساليبه. فنشأت، من ثم، معادلة واضحة: أنه كلما ازدادت المقاومة الفلسطينية قوة وتماسكاً، ازدادت الهوة عمقاً بين المحاور اللبنانية، الطائفية والاجتماعية. واستمر هذا الوضع فترة من الزمن، فقدت الدولة، خلاله، سلطانها وسيطرتها.



[1] اُغتيل توني سليمان فرنجية، في 13 يونيه 1978، في دارته الخاصة، في مدينة إهدن، شمالي لبنان. وراح ضحية الحادث زوجته وطفلته, واُتّهم سمير جعجع بتدبير هذا الحادث