إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / غزو العراق عام 2003




مواقع عسكرية قًصفت بالذخائر الذكية
موقع سد الحديثة
مجموعة صور لصدام حسين
محمد سعيد الصحاف
مجلس الحكم العراقي
آية الله علي سيستاني
أركان النظام الصدامي
المظاهرات تعم مدن العالم
بليكس والبرادعي
تحطيم تمثال صدام حسين
صدام حسين لحظة القبض عليه
كولين باول
عناصر القيادة السياسية العسكرية في الحرب
قادة المعارضة العراقية

أهم المدن العراقية
مناطق الاحتلال (سبتمبر 2003)
مناطق القاعدة (ديسمبر 2006)
مناطق القاعدة ديسمبر 2007
أوضاع فرق الحرس الجمهوري
محاولة اغتيال صدام
محاور التقدم الرئيسية والمساعدة
مخبأ صدام حسين
مستويات هجمات قوى التمرد
الأهداف الإستراتيجية في وسط بغداد
الليلة الأولى لقصف بغداد
الهجوم على مطار صدام الدولي
التمرد والعصيان
انتشار قوات التحالف
الحلقة الدفاعية حول بغداد
اقتحام الفرقة الثالثة لبغداد
توزيع قوات الحرس الجمهوري ومواقع قوات التحالف
حصاد ثلاثة أسابيع من المعارك
سيناريو الحرب البرية المتوقع
غزو العراق
قوات التحالف في الحرب
قاعدة العديد الجوية بقطر

معركة الاستيلاء على جزيرة الفاو
أقسام العراق الطائفية والعرقية (بالمحافظات)
المحافظات العراقية
التوزيع السكاني للأكراد بين دول المنطقة
التوزيع السكاني في المحافظات
تحرك القوات الأرضية والقوات الخاصة
خرائط الجمهورية العراقية



بسم الله الرحمن الرحيم

المبحث التاسع

أعمال القوات الجوية والبرية المشتركة

أولاً: الهجمة الصاروخية والجوية فجر يوم 19 مارس 2003

أبلغت الإدارة الأمريكية الحكومتين البريطانية والإسرائيلية بقرار الحرب في وقت واحد تقريباً، وأنها قدمت موعد تنفيذ خططها قبل ساعتين ونصف فقط من الهجوم الجوي على بغداد، وأحاطت رئيس وزراء إسرائيل "أرييل شارون" علماً بأن القوات الأمريكية تنشط حالياً في غرب العراق لمنع النظام العراقي من استخدام صواريخ سكود ضد إسرائيل.

وفي فجر يوم 19 مارس 2003، وقبل نهاية الإنذار الموجه لصدام بـ 12 ساعة، شنت القوات الأمريكية هجمة صاروخية وجوية مركزة ضد أحد المباني بحي المنصور في بغداد، يتخذه صدام ملجأً له في أثناء الحرب، بواسطة مقاتلتين F-117 (الشبح)، من السرب الثامن مهام سريعة، انطلقتا من قاعدة العديد الجوية ومعهما طائرتان للتزود بالوقود في الجو، حيث ألقتا أربع قنابل موجهة بالأقمار الصناعية، زنة كل منها 950 كجم من نوع EGBU-27، قادرة على اختراق سطح والوصول إلى هدف على عمق 20 م، وذلك بالاستعانة بجهاز التوجيه GPS والليزر.

وقد كان مصدر المعلومات عن الهدف أحد عملاء المخابرات الأمريكية CIA، متواجد داخل الدائرة القريبة المحيطة بصدام حسين، حيث أبلغ بمكانه باتصال مباشر مع مقر CIA في لانجلي بولاية فرجينيا، والتي بدورها حولته إلى إحداثيات رقمية أرسلتها إلى القيادة الوسطى في السيلية بقطر، ومركز العمليات الجوية المشتركة COAC، والقيادة البحرية في الخليج، وهم بدورهم حولوا المعلومات إلى الوحدة الجوية التي كلفت بتنفيذ المهمة، وتزويدها بصورة جوية عن الهدف الذي سيتم قصفه. ولم تواجه المقاتلات الأمريكية أثناء تنفيذها للمهمة أى نيران من دفاعات جوية عراقية ـ لا أرضية ولا جوية ـ والتى يبدو أنها فوجئت بالهجمة الجوية، باستثناء طلقات رشاشات مضادة للطائرات بعد القصف بحوالي خمس دقائق، في حين انطلقت صفارات الإنذار بعد حوالي ساعتين من انتهاء القصف.

وقد صاحب عملية القصف، إجراء إعاقة إلكترونية على رادارات وحدات الدفاع الجوي ومراكز القيادة والسيطرة والإذاعة العراقية. واستهدفت هذه الهجمة الجوية ثلاثة أهداف، منها المبنى الذي كان به صدام وولديه، وخمسة من معاونيه (أبرزهم "طارق عزيز" و"طه ياسين رمضان")، والهدف الثانى مصنع للتزود بالوقود على بعد 160 كم جنوب بغداد، ونتج عن هذه الهجمة الجوية مقتل من 12 - 15 شخصاً، وقد اتضح أن صدام كان موجوداً في مبنى آخر مجاور للمبنى الذي استهدف، ولذلك لم يصب ولا رفاقه.

وعلى صعيد الحرب النفسية ألقت الطائرات الأمريكية، يوم 19 مارس، وحده حوالي مليوني منشور، استهدفت 29 موقعاً عسكرياً ومدنياً عراقياً، في جنوب شرق العراق، وقد حملت هذه المنشورات رسائل تأكيدات من قيادة التحالف أنها لا ترغب في إيذاء العراقيين الأبرياء، كما شجعت الجيش العراقي على عدم استخدام أسلحة الدمار الشامل، والامتناع عن إشعال آبار النفط وتخريبها، كما أوضحت كيفية استسلام القوات العراقية لقوات التحالف.

ثانياً: أبرز عمليات الأسبوع الأول قتال

في الساعة 9.34 مساء يوم 19 مارس، بدأت العمليات الهجومية ضد العراق بقذف 40 صاروخ توماهوك، وهجمات من القاذفات والمقاتلات، ضد الهياكل الرئيسة للنظام العراقي الحاكم في بغداد والبصرة، وشمل القصف أيضاً مواقع وحدات الصواريخ أرض/ أرض، ووحدات الحرس الجمهوري، ومراكز القيادة والسيطرة، ومواقع الدفاع الجوى، وبدأت القوات البرية عبور الحدود الكويتية الشمالية في اتجاه جنوب العراق، صباح يوم 20 مارس. واكب ذلك قيام العراق بقصف أهداف داخل الكويت بصواريخ أرض/ أرض (صمود-2). (اُنظر شكل سيناريو الحرب البرية المتوقع) و(شكل الليلة الأولى لقصف بغداد)

تقدمت قوات الفرقة الأولى مارينز في اتجاه صفوان وأم القصر، واستولت عليهما في نهاية يوم 20 مارس. وفي طريقها نحو البصرة اصطدمت مع الفرقة 51 عراقية، والتفت حولها ونجحت في كسر مؤخرتها، كما نفذت عدة عمليات إبرار جوي بالتعاون مع القوات البريطانية في حقول النفط، التي نجح صدام في إشعال بعضها، كذلك نجحت الفرقة 82 محمولة جواً، في الاستيلاء على القاعدة الجوية العراقية H-3 وما حولها في منطقة الحدود مع الأردن.

لم تواجه الفرقة الثالثة الميكانيكية مقاومة تذكر في تقدمها السريع في اتجاه الشمال الغربي، وفي يوم 21 مارس، أصبحت الفرقة الأولى مارينز على مشارف البصرة، بعد تأمين حقول النفط حولها، ومنشآت تصدير النفط في ميناء البكر ومحطة ضخ النفط في الزبير، ومحطة تصدير النفط في الفاو. وبذلك تحقق تأمين 85% من مرافق النفط في الجنوب.

وفي حين تمكن النظام العراقي من تخريب ستة مصانع كبرى لفصل الغاز، تغطي مساحة 50 كم تشتمل على سبع آبار نفط اشتعلت فيها النيران، إلا أن وحدات إطفاء الحرائق الأمريكية، بذلت جهوداً كبيرة لإطفائها وحتى لا يتسرب النفط إلى مناطق الهجوم فيعيق تقدم القوات، كما قام النظام العراقي بتلغيم معظم المنشآت النفطية في الجنوب استعداداً لنسفها، وفي نهاية اليوم الثاني قتال، استسلمت الفرقة 51 العراقية المدافعة عن البصرة.

أما الفرقة الثالثة الأمريكية فتقدمت نحو 170 كم جنوب العراق، في طريقها نحو بغداد واصطدمت بالفرقة 11 مشاة العراقية حول الناصرية، والتي استسلمت بعد تعرضها لهجمات جوية وعمليات إبرار جوي، فأمكن بذلك الاستيلاء على مطار (الطليل) جنوب الناصرية، ومطار (جليبه)، مع استمرار القصف الجوي لأهداف إستراتيجية في بغداد شملت مقار القيادة السياسية الأمنية للنظام العراقي، ومواقع عسكرية في كركوك والموصل وتكريت.

وفي اليوم الثالث قتال، واصلت القوات الأمريكية تقدمها داخل العراق تحت ستر الضربات الجوية في العمق، والمعاونة الجوية القريبة. حيث قطعت الفرقة الثالثة الأمريكية نصف المسافة نحو بغداد، ووصلت قواتها إلى مدينة السماوة، واستخدمت مطار الطليل مطاراً متقدماً للقوات الأمريكية. وكانت الفرقة الثالثة تستخدم في تقدمها تكتيك (قفزة الضفدع Leap Frog) بأن يتقدم أحد اللواءات نحو موقع محدد يستولي عليه ويعيد ملء مركباته، ويحصل أفراده على قسط من الراحة، في ذات الوقت الذي، يتقدم فيه لواء آخر إلى موقع أكثر تقدماً، يتخطى فيه موقع اللواء السابق ثم يتوقف، ثم يقوم اللواء الثالث بقفزة أكثر تقدماً من اللواءين السابقين. وهكذا.

أما فرقة المارينز الأولى فقد حققت تقدماً واقتراباً من مدينتي البصرة والناصرية، ودار قتال في ضواحي الناصرية وداخل شوارعها. وتنبع أهمية هذه المدينة من وقوعها على نهر الفرات، وتُعد معبراً إستراتيجياً مهماً في اتجاه بغداد. وعلى الجبهة الشمالية تمكن حوالى 1500 جندي أمريكي من عبور الحدود التركية نحو شمال العراق. ولأن البرلمان التركي رفض عبور الفرقة الرابعة الأمريكية للأراضي التركية، قررت القيادة الأمريكية تحويل سفينة راسية في الموانئ التركية تحمل معدات هذه الفرقة إلى الكويت عبر قناة السويس، على أن ينقل أفراد الفرقة جواً.

وفي اليوم نفسه، شنت هجمة جوية ضد منظمة أنصار الإسلام شمال العراق، والتى تتهمها الولايات المتحدة الأمريكية بتنسيق عملياتها الإرهابية مع القاعدة. وقام العراق كذلك في اليوم نفسه، بإطلاق صواريخ أرض/ أرض اعترضتها وأسقطتها الصواريخ باتريوت، كما أشعلت القوات العراقية المدافعة عن بغداد النار في حقول النفط المحيطة بها للتأثير في رؤية الطيارين الأمريكيين، وفي هذا اليوم استسلم حوالي ألفي جندى عراقي، وأفادت معلومات عن وجود اتصالات بين المخابرات الأمريكية وبعض قادة الحرس الجمهوري لتحييد فرقهم واستسلامها، وقد ثبتت صحة هذه المعلومات بعد ذلك.

في اليوم الرابع، واصلت القوات الأمريكية تقدمها شمالاً، وواجهت بعض المقاومات العنيفة حول الناصرية، وتكرر قذف فرق الحرس الجمهوري بواسطة القاذفات الثقيلة، خاصة فرقة المدينة المحيطة ببغداد بواسطة 30 صاروخ توماهوك، بالإضافة لهجمات الطائرات العمودية الأباتشى، ومراكز قيادة الفيلق الخامس العراقي وقصور الرئاسة في بغداد، ومواقع القوات والدفاع الجوي العراقية في الموصل وكركوك، استعداداً لفتح الجبهة الشمالية، ما أدى إلى استيلاء قوات البشمرجة الكردية على عدد من المواقع الإستراتيجية المهمة في شمال العراق.

وناورت الفرقة الثالثة أثناء تقدمها غرب مدينة النجف ولكن لم تدخلها، وواصلت تقدمها نحو بغداد، وواجهت مقاومات متفرقة من فدائيى صدام أمكنها التغلب عليها، وكانت هذه المنظمة تستخدم عربات مفخخة وأفراد انتحاريين، كما كانوا يتخفون في أزياء النساء في شن هجماتهم. وفي الشمال تمكنت القوات الخاصة الأمريكية بمساعدة البشمرجة من تأمين ثلاثة مطارات حول أربيل والسليمانية، وإسقاط ألف جندي أمريكي من اللواء 173 مظلات تمهيداً لفتح الجبهة الشمالية، في حين واصلت قوات الفيلق الخامس العراقي انسحابها من مواقعها والتحصن داخل الموصل وكركوك، ونجحت القوات الخاصة الأمريكية والبشمرجة في تأمين حقول نفط كركوك منعاً لنسفها.

وحتى اليوم الخامس قتال، 24 مارس، كانت المعارك مستمرة حول البصرة والناصرية، الأمر الذي قيَّد حركة بعض معدات الفرقتين الأولى مارينز والثالثة الميكانيكية بسبب جيوب المقاومة، ما أدى إلى تخفيض معدل تقدمها من 100 كم/ يوم إلى 40 كم/ يوم. وقد استمرت الغارات الجوية على بغداد والموصل وفرقة المدينة جنوب بغداد تمهيداً للمعركة الحاسمة، وقد استخدمت قنابل جوية ذات وزن كبير جدا (مثل ديزى كاتر)، وهو ما أطلق عليه المراقبون مرحلة "كسر العظم" لاقتحام بغداد.

وكان السيناريو المفترض هو الإسراع في الاستيلاء على الناصرية لجعلها قاعدة متقدمة، وإخلاء الطريق، وبعدها يتقدم المارينز إلى الشمال من جهة بابل والكوت لتأمين الضواحى الجنوبية، والفرقة الثالثة من كربلاء في اتجاه شمال غرب بغداد عن طريق المطار شمالاً، تعويضاً عن غلق الجبهة التركية. إلا أن العقبة في تنفيذ هذه الخطة كانت تتمثل في فرق الحرس الجمهوري المدافعة جنوب وشمال بغداد، وضرورة تحييدها وإخراجها من المعركة، إما بتكثيف القصف الجوي عليها أو بشراء قادتها.

وفي الناصرية أمكن للفرقة الأولى مارينز أن تشق طريقها بقوة وسط المدينة، عابرة جسر على نهر الفرات، بعد معارك شرسة في الشوارع بطول أربعة كم، تحت نيران كثيفة من القوات العراقية المدافعة عن جسرين على نهر الفرات، وكانت هذه هي أكبر معركة مدن خاضتها القوات الأمريكية. وهكذا عبر نحو أربعة آلاف عنصر مارينز نهر الفرات في وسط الناصرية، بينما أخذت القوات العراقية المدافعة عن المدينة في الفرار شمالاً.

أما في قطاع البصرة، فقررت القوات البريطانية عدم اقتحام المدينة، مفضلة حصارها والتفاوض مع زعماء عشائرها للاستسلام وإخراج العناصر العسكرية العراقية منها، وقد تصدى اللواء السابع مدرع بريطاني لمحاولة خروج لواء مدرع عراقي من المدينة في اتجاه الجنوب، وتمكن البريطانيون من تدمير عشر دبابات عراقية له، ما أدى إلى عودة باقي اللواء إلى داخل البصرة، كما انتشرت قوات بريطانية على الحدود مع إيران لمنع تدخلها.

وخلال هذا اليوم، خاضت الفرقة الثالثة أكبر معاركها فيما عُرف بمعركة "ممر كربلاء"، وعرضه ثلاثة كم وطوله خمسة كم، ويحده من الغرب بحيرة الرزازه ومن الشرق الحدود الغربية لمدينة كربلاء، ما يشكل عائقاً لتقدم أية قوات في اتجاه بغداد، لاسيما إذا ما أحسنت القوات العراقية الدفاع عنه، وكان ينبغي على الفرقة الثالثة عبور هذا الممر لكي تواصل تقدمها نحو بغداد، وكان هناك تخوف من أن تقدم القوات العراقية على تدمير السد لإغراق المنطقة، أو تستخدم الأسلحة الكيميائية إذا تقدم الأمريكيون وراء السد، لاسيما أن العراقيين كثفوا مدفعيتهم شمال الممر، ولغموه وأنشأوا ستائر مضادة للدبابات داخله.

إلا أن الفرقة الثالثة قامت بعملية خداع تكتيكي ناجحة مكَّنتها بسهولة من الاستيلاء على هذا الممر وتجاوزه، وذلك بأن جذبت نيران المدفعية في منتصف الليل، حيث أوهمتها بأنها سوف تلتف حول الممر بدلاً من اختراقه، ونشرت الفرقة الثالثة بعض قواتها في جنوب غرب الممر لتأكيد هذا الانطباع، فردَّت القوات العراقية على مدفعية الفرقة الثالثة، وبذلك كشفت مواقعها، وهنا بدأت راجمات الصواريخ الأمريكية MLRS بقصف مواقع القوات والمدفعية العراقية شمال الممر وداخله، وأمكن تدمير المدفعية العراقية تدميراً تاماً بالتعاون مع الطائرات العمودية الأباتشى، وهو ما مكَّن وحدات الفرقة الثالثة من عبور الممر من داخله عنوة وبدون خسائر تذكر، واحتلت جسر الهندية على نهر الفرات في طريقها نحو بغداد.

وكانت القيادة العراقية قد حرَّكت لواء مدرع من الحرس الجمهوري تقدم في اتجاه ممر كربلاء لشن هجوم مضاد، فتصدت له المقاتلات والطائرات العمودية الأباتشى، ودمرت له عشر دبابات وأجبرته على التراجع إلى جنوب بغداد وإلى داخل كربلاء. وقد وصف "توني بلير" رئيس وزراء بريطانيا معركة ممر كربلاء، بأنها لحظة حاسمة في الحرب، وأثبتت أنه لا يوجد أي تنسيق أو ترابط في أعمال القوات العراقية، ما يعني تفكك القيادة والسيطرة على المستويين الإستراتيجي والتعبوى. وبعد أن أمَّنت وحدات الفرقة الثالثة جميع مخارج كربلاء الرئيسة، واصلت تقدمها شمالاً وغرباً.

وأدى التقدم السريع للقوات الأمريكية أن أصبحت ذيولها الإدارية طويلة أكثر من 300 كم، ما عرّضها لهجمات من فدائيى صدام، وعالجت القيادة الأمريكية ذلك بأن خصَّصت سرايا وفصائل ميكانيكية لحماية الأرتال الإدارية، وهو ما تطلب إنشاء قواعد إمداد لوجستي متقدمة بدلاً من الاعتماد على القاعدة الرئيسة في الكويت، إلى جانب بروز مشكلة أخرى تمثلت في تحول القوات العراقية المتروكة خلف الوحدات الأمريكية المتقدمة إلى عناصر مقاومة، وبما يشكل تهديداً لهذه القوات من الخلف، ما فرض ضرورة توفير حماية برية وجوية لحماية ظهر القوات الأمريكية المتقدمة، وإعادة النظر في إستراتيجية الالتفاف حول المدن، للقضاء على المقاومات الباقية داخلها. وفي الشمال واصلت القوات الأمريكية إنزال الأفراد والمعدات الخاصة باللواء 173 مظلى في المطارات الكردية الثلاثة حتى بلغ عددهم ستة آلاف فرد.

ووُجِّهت في هذا اليوم انتقادات لوزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد، بسبب امتناعه عن تخصيص أحجام أكبر من القوات للقتال في العراق، الذي تبلغ مساحته 448 ألف كم2، ومطلوب هزيمة الجيش العراقي الذي تبلغ قوته أكثر من نصف مليون جندي، منتشرة في هذه المساحة، بالإضافة لميليشيات قوتها 60 ألف فرد، إلى جانب مهمة إسقاط النظام السياسي في بغداد، وهو ما لم يستجب له رامسفيلد اعتماداً على التفوق التكنولوجي والقوات الجوية الأمريكية، الأمر الذي تسبب في إطالة زمن الحرب.

وفي اليومين السادس والسابع عمليات (25 – 26 مارس)، ورغم ازدياد الأحوال الجوية سوءاً ما أثر سلباً في أعمال قتال الفرقة 101 محمولة جواً، وتقييد استخدام الطائرات العمودية، واصلت فرق المارنيز والفرقة الثالثة تقدمها نحو بغداد، ووقع قتال عنيف شمال الناصرية، وقرب الكوت وشمال كربلاء وفي ضواحي البصرة، تكبدت فيه القوات الأمريكية خسائر اعترف بها البنتاجون. وفي جنوب العراق أحكمت القوات البريطانية حصارها للبصرة، وواصلت الفرقة الأولى مارينز عبورها شمال الناصرية، واقتحمت مستشفى كان متحصناً بها قوات خاصة عراقية، وأسر 170 فرد منهم والاستيلاء على أسلحتهم.

كما عبرت بعض وحدات الفرقة الثالثة نهر الفرات ووصلت طلائعها إلى مسافة 80 كم جنوب بغداد، ما أدى بالقيادة العراقية إلى سرعة دفع عدة آلاف من الحرس الجمهوري وفدائيى صدام، من داخل بغداد لاحتلال الدفاعات جنوبها، لإيقاف تقدم الفرقة الثالثة التي اصطدمت مفارزها الأمامية بمواقع متقدمة لفرقة المدينة جنوب بغداد. كما دارت معركة شرسة بين وحدات الفرقة 101 إبرار جوي وعناصر فدائيي صدام حول النجف.

وفي شمال العراق واصلت الطائرات الأمريكية قصف مواقع الفيلق الخامس العراقي حول كركوك والموصل وجماعة أنصار الإسلام، مع استكمال تجميع اللواء 173 مظلات، واستمرار القصف الجوي لمواقع الحرس الجمهوري ومراكز القيادة والسيطرة وقصور الرئاسة، كما قصفت محطات الإذاعة والتليفزيون العراقية ومراكز الاتصالات الهاتفية، ما أدى إلى توقف البث الإذاعى والتليفزيونى لعدة ساعات. وفي البصرة عمدت القوات البريطانية إلى تعمية المدفعية العراقية الموجودة داخل المدينة باصطياد عناصر استطلاعها في مراكز الملاحظات وتدميرها بالقصف الجوى، كما أحكمت القوات البريطانية حصارها على المدينة ومطارها، وقد حاول أهل البصرة إضرام النار في مقار حزب البعث في انتفاضة شعبية، فردَّ عليهم حاكم المدينة بنيران كثيفة أُطلقت عشوائياً على سكان المدينة، وقد اتخذت القيادة الأمريكية قراراً بتجنب الاشتباكات داخل المدن وحولها، والاكتفاء بحصارها وعزلها بقوات محدودة، لتوفير الجهود والقوات للإسراع بالتقدم نحو بغداد، لذلك حوصرت النجف رغم وجود ألف جندى داخلها.

ومن أجل الاستعداد لمعركة بغداد، توقع البنتاجون أن يحشد لها 170 ألف جندي أمريكي، ومضاعفة القصف الجوي للحرس الجمهوري المتمركز حولها، وكانت المخابرات الأمريكية قد رصدت هواتف "صدام حسين" السرية، وحثته على الاستسلام، كما اتصلت بقادة الحرس الجمهوري من طريق الهواتف والبريد الإلكتروني، وأوضحت لهم أنه لا أمل في المقاومة، وحثتهم على الاستسلام، وذلك بعد أن تبين أن القيادة السياسية والعسكرية العليا في العراق فقدت سيطرتها المركزية على فيالق القوات المسلحة والحرس الجمهوري، وأصبح كل منها يعمل مستقلاً، دون أوامر مركزية من قيادة أعلى، بالإضافة لتوغل أعداد كبيرة من عملاء الـ CIA داخل بغداد وجنوبها، للاتصال بقادة فرق الحرس الجمهوري، والتى انخفضت كفاءتها إلى مستويات متدنية، ووصل حجم الأسري من الفيلق الرابع فقط إلى حوالى أربعة آلاف أسير، فضلاً عن خسائر مادية جسيمة، ما جعل القيادة الأمريكية تعده خارج المعركة.

وفي إطار الاستعداد لمعركة بغداد، قام النظام العراقي بتلغيم أهداف البنية الأساسية ـ خاصة الجسور المحيطة ببغداد ـ استعداداً لنسفها. أما الفرقة 101 إبرار جوى فقد واصلت تقدمها خلف وحدات الفرقة الثالثة دعماً لها، في ذات الوقت الذي بدأت فيه الفرقة الرابعة الأمريكية إنزال معداتها من السفن في ميناء الشعيبة بالكويت (حجمها 20 ألف  فرد، و250 دبابة ابرامز M1E2 الأكثر تطوراً، و300 عربة برادلي، وطائرات عمودية بلاك هوك)، كما صدرت الأوامر إلى اللواء الثالث المدرع في فورت كارسون بولاية كاليفورنيا، واللواء الأول فرسان في فورت هود بولاية تكساس بالاستعداد للتحرك إلى العراق، وبنهاية اليوم السابع أعلن قائد القيادة الوسطى أن عدد الأسرى العراقيين وصل 8900 أسير.

وثار جدل في القيادات الأمريكية في واشنطن، وفي القيادة الوسطى بالسيلية، حول شكل معركة بغداد، حيث أفاد البعض أنه لا حاجة بالقوات الأمريكية لاقتحام بغداد تخوفاً من خسائر بشرية جسمية، ويكفي حصارها وعزلها، خاصة مع تحصن قوات الحرس الجمهوري والميليشيات داخلها، بينما اعترض آخرون بحجة أن هذا السيناريو سيطيل أمد الحرب، ويدخل القوات الأمريكية في دوامة حرب الاستنزاف، فضلاً أنه سيدخلها في ظروف حرارة الصيف التي لا تناسب القوات الأمريكية، وأنه من المفضل اقتحام بغداد مستغلين حالة الإعياء التي أصابت قوات الحرس الجمهوري بعد القصف الجوى المكثف الذي تعرضت له، ما يسهل استكمال تدميرها، لا سيما أنه لا يزال عدة أيام باقية على وصول الفرقة الثالثة وفرقة المارينز إلى ضواحى بغداد، ويمكن خلالها تكثيف القصف الجوي، بما يفقد المدافعين عن بغداد كفاءتهم القتالية نهائياً.

وقد ساد الجبهة الهدوء في الأسبوع الثانى قتال، فيما صنفه المراقبون "وقفة إستراتيجية" بهدف تقييم عمليات الأسبوع الأول من الحرب، والاستعداد للمعركة الرئيسة حول بغداد وداخلها، ولاستكمال الإمداد بالاحتياجات اللوجستية، ومراجعة الدروس وخبرات القتال التي وقعت، وكان أخطرها استخدام رشاشات الدفاع الجوي العراقية في فرقة المدينة جنوب بغداد لأسلوب السد الناري، لمواجهة الطائرات العمودية الأمريكية، وتوفير الدعم الجوى القريب للقوات المهاجمة بدلاً من القيام بغارات جوية شاملة، واختيار الأهداف بدقة لتدميرها، والقيام بهجمات مدرعة سريعة تحت إسناد جوي ضد أهداف منتقاة، يكون لتدميرها تأثير إيجابي في سير العملية الهجومية.

كانت حصيلة الأعمال القتالية في الأسبوع الأول من الحرب أن تم إطلاق 600 صاروخ توماهوك، و4300 قنبلة موجهة، و700 طلعة جوية، وحشد 250 ألف جندى أمريكي، و40 ألف جندي من دول أخرى. ونجح هجوم هذه القوات في اختراق 354 كم داخل العراق، وإنزال اللواء 173 مظلات في شمال العراق، وأعلن البنتاجون عن حشد 120 ألف جندي إضافي، وتم أسر قرابة 8000 جندى عراقي، وتخفيض كفاءة القوات المسلحة العراقية إلى أقل من 40%، وبعض فرق الحرس الجمهوري إلى أدنى من 50%، وتأمين جسور مهمة على نهري دجلة والفرات. (اُنظر جدول بيانات إحصائية عن الحرب الجوية في العراق)

وعلى الصعيد اللوجستي تم نقل حوالي 450 ألف طن معدات جواً، فيما اكتمل إنزال 170 ألف رجل جواً، واستخدام طائرات خضعت للتحديث من نوع (س-17 جلوبماستر) كل منها قادرة على نقل حمولة 80 طن. كما استخدمت القاذفات B-2 ضد أهداف داخل بغداد قنابل زنة 900 كجم، ونجحت المقاتلات A-10 في تدمير وحدات صواريخ أرض/ أرض سكود، واعترضت الصواريخ باتريوت في الكويت صواريخ (صمود-2) العراقية، وأعلنت بغداد عن إسقاط طائرة من دون طيار، ومقتل ألف مدنى عراقي في بغداد بفعل الهجمات الجوية. مع استمرار اللواء السابع البريطانى في حصار البصرة، ومنع قيادات حزب البعث العراقيين من النزوح عن المدن، واعتقالهم رهائن من العشائر والعائلات، وإجبار السكان على مقاتلة البريطانيين والعمل بصفة انتحاريين، وقد أعدم بالفعل 79 ضابطاً وجندياً من الفرقة 11، والفرقة 51 مشاة، بالإضافة لإعدام سبعة من أعضاء حزب البعث لرفضهم تنفيذ الأوامر.

وفي النجف كان حجم القوات العراقية المحاصرة يقدر بحوالي 6000 جندى، شاملة القوات الخاصة، وقد شاركت فرق إطفاء كويتية في إطفاء حرائق مشتعلة في تسعة حقول نفط بالرميلة جنوب العراق. وفي بغداد عقد وزير الدفاع العراقي مؤتمراً صحفياً توقع فيه وصول قوات التحالف إلى ضواحي بغداد خلال 5 – 10 يوم، بعد أن أصبحت على مسافة 140 كم منها، كما توقع اشتباكات عنيفة حول كربلاء وداخلها خلال 48 – 72 ساعة، ووعد الشعب العراقي بتكبيد قوات التحالف خسائر جسيمة تجبرها على إيقاف الغزو والانسحاب. وفي واشنطن اتهم وزير الدفاع الأمريكي سورية بإمداد العراق بأنظمة تسليح متطورة، كما حذَّر من وجود عناصر في جنوب العراق تعمل بتوجيه من إيران.

ثالثاً: عمليات الأسبوع الثانى قتال

بعد انتهاء الوقفة الإستراتيجية، في 28 مارس، استأنفت القاذفات الإستراتيجية B-52 وB-1 وB-2 قصف مواقع فرق الحرس الجمهوري بكثافة أدت إلى خفض كفاءة فرقة (بغداد) إلى 60%، وفرقة (المدينة) إلى ما دون 50%، أما عن الفيلق الرابع فقد أُنهيت القدرة القتالية للفرقتين 11 و51 في البصرة، وارتفعت نسبة الهاربين من الضابط والجنود، وانخفضت كفاءة الفرقة ست مدرعات إلى أقل من 40% بعد استسلام أحد ألويتها (25 مدرع). وقد تعرضت الكويت لقصف صواريخ ساحلية عراقية (سيلك وورم) سقطت في منتصف المدينة. ومع استمرار وصول معدات الفرقة الرابعة المشاة الأمريكية أصبحت جاهزة في الكويت خلال 48 ساعة للدفع بها إلى داخل العراق، كما رفعت درجة استعداد الفرقة الأولى المدرعة الأمريكية في ألمانيا، وذلك في إطار خطة لحشد 120 ألف جندي من الفرق الأولى مارينز، والثالثة ميكانيكية، و101 إبرار جوي المسلحة بـ72 طائرة عمودية، مع تسريع عمليات استكمال إنزال اللواء 173 مظلات في شمال العراق.

وفي هذه الأثناء رصد تسابق أجهزة المخابرات الأمريكية والروسية للحصول على وثائق المخابرات العراقية وأرشيف "صدام حسين" الخاص، وأرشيفات الوزارات خاصة الخارجية والنفط، وكشفت صحيفة روسية عن إرسال مجموعتين من المخابرات الروسية إلى بغداد قبل الحرب ولهذا الغرض.

في يوم 29 مارس (اليوم العاشر قتال)، واصلت القيادة الأمريكية دعم قواتها في العراق بوحدات إضافية، ضمت وحدة الحملة 24 مارينز وقوتها 2300 جندي، ونشرها في جنوب العراق، كما عبرت قناة السويس أربع غواصة وسفينتان حربيتان أمريكيتان في طريقها للخليج. في ذات الوقت واصلت القاذفات والمقاتلات قصف مواقع الحرس الجمهوري ـ خاصة فرقة المدينة ـ ومنعتها من إرسال قوات نحو كربلاء لشن هجمات مضادة، حيث كان يجري تدميرها فور خروجها من مواقعها. واستمر حصار البريطانيين للبصرة والناصرية.

وفي شمال العراق واصلت وحدات الفيلق الخامس العراقي انسحابها من مواقعها، وتدمير الجسور الإستراتيجية في المنطقة بعد انسحابها في اتجاه بغداد، فيما كانت ميليشيات البشمرجة الكردية تحتل المواقع التي ينسحب منها العراقيون، في ذات الوقت الذي بدأ فيه اللواء 173 مظلي تقدمه في اتجاه الموصل وكركوك. وفي داخل بغداد مارست مجموعات خاصة تابعة للمخابرات الأمريكية عمليات قتل لبعض عناصر قيادة النظام العراقي، وتخريب بعض المنشآت التي لم يفلح القصف الجوي في تدميرها، وفي إطار ذلك استخدمت القناصة وعمليات تفخيخ السيارات، وتوجيه الطائرات الأمريكية نحو أهدافها، كما قامت هذه المجموعات بالاتصال بعدد من قادة الحرس الجمهوري لإغرائهم على التمرد، والبحث عن أماكن مستودعات أسلحة الدمار الشامل، وأجروا اتصالات مع زعماء العشائر والقبائل لحثهم على التمرد، والتبليغ عن نتائج القصف الجوي، وإنقاذ الطيارين والأسرى من قوات التحالف.

وقد حدث نشاط مماثل لمجموعات استخباراتية أخرى في الناصرية وكربلاء والنجف والموصل وكركوك، كما شاركت عناصر مخابرات أمريكية في استجواب الأسرى العراقيين في معسكرات الاعتقال، وأعلن الرئيس بوش أن قواته على مسافة 20 كم من بغداد، وأن صدام فقد السيطرة على 40% من الأرض العراقية التي صارت تحت سيطرة التحالف.

وإزاء تباطؤ عمليات التقدم والهجوم، أوضح البنتاجون، يوم 30 مارس، أن قوات التحالف بعد تقدمها العميق في الأراضي العراقية، تتبع إستراتيجية (هضم المكاسب)، بمعنى تأمين المكاسب التي تحققت، وتأمين خطوط المواصلات الطويلة لنقل الإمدادات إلى القوات، وإنشاء قواعد إمداد متقدمة بدلاً من الاعتماد على الكويت، حتى لا تطول خطوط المواصلات، مع استكمال بناء الجبهة الشمالية، تحسباً لمعركة بغداد. ومع تقدم اللواء 173 مظلات في اتجاه الموصل وكركوك، وصل حوالى 23 ألف جندى من الفرقة الرابعة إلى داخل العراق، كما رفعت درجة استعداد الفرقة 10 جبلية في أفغانستان للانتقال إلى شمال العراق. وعن خسائر الأمريكيين، أُعلن عن مقتل 43 جندي أو فقدهم، بالإضافة إلى أكثر من 100 جريح.

ومع اقتراب الفرقة الثالثة من بغداد، وقعت يوم 31 مارس، معركة عنيفة بينها وبين القوات العراقية عند بلدة (هندية) 80 كم جنوب بغداد، حيث تمكنت وحدات الفرقة من الاستيلاء على جسر مهم على الفرات، بالقرب من هذه البلدة سليما، بعد أن تمكن المهندسون من تفكيك عبوات ناسفة كانت عليه، والقضاء على الوحدة العراقية التي كانت تدافع عنه.

وفي منطقة النجف تمكنت وحدات الفرقة 101 إبرار جوي من الاستيلاء على مطار المدينة، وعزلت القوات العراقية في المنطقة بعد تدمير 70 دبابة ومركبة مدرعة عراقية، واكتشفت القوات الأمريكية أن العراقيين اتخذوا من المواقع الدينية في المدينة أماكن لتكديس الأسلحة والذخائر. وكانت القوات الأمريكية التي تحاصر المدينة حريصة على ألا تمس هذه الأماكن الدينية حتى لا تثير مشاعر سكان المدينة من الشيعة.

وهاجمت وحدات الفرقة 101 إبرار جوي المدينة من الشمال والجنوب تحت مساندة جوية، بعد أن غطت المدينة بستارة من الدخان الأسود، وكان الهجوم شديداً ضد القوات العراقية على امتداد القناة المائية في القسم الغربي من النجف، كما دمرت جسراً يقع فوق القناة إلى شرق الفرات لمنع أى هجوم مضاد من جانب فرقة (عدنان) حرس جمهوري في اتجاه كربلاء، وقامت الطائرات العمودية الأباتشى بتدمير معظم الشاحنات العراقية التي تحمل ذخائر حول النجف وداخلها، كذلك مخازن الذخيرة تحت الأرض في المزارع المنتشرة حول المدينة.

وفي شمال الناصرية استولت الفرقة الأولى مارينز على أكبر مستودع ذخيرة أعلن عن اكتشافه حتى هذا التاريخ، يتكون من 40 مبنى يحوي آلاف الأطنان من ذخائر المدفعية والدبابات وأسلحة المشاة. وحول البصرة استعدت القوات البريطانية لمعركة اقتحام المدينة، وذلك بجذب الوحدات المدافعة عنها خارج تحصيناتها، واستدراجها في معارك تصادمية تستغل فيه قوات التحالف التفوق الجوى في تدميرها، كما قسِّمت المدينة إلى قطاعات، للزحف عليها من جميع الاتجاهات في وقت واحد نحو قلب المدينة، والاستيلاء عليها بأسلوب القضمات المتتالية، لتشتيت جهود القوات المدافعة عنها.

بلورت حرب العراق عقيدة عسكرية جديدة أطلق عليها (الحرب الشاملة المحدودة)، وذلك تطويراً لمنظومات بالغة التعقيد في القيادة والسيطرة والاستطلاع والمخابرات والاتصالات والأسلحة والذخائر الذكية (اُنظر ملحق القيادة والسيطرة والاتصالات والكمبيوتر والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع)، بما يتيح للقوات الأمريكية أن تشن حروبها بشكل حاسم وفي وقت قصير وكلفة رخيصة، بمعنى آخر تحقيق أهداف ضخمة بقوة قليلة نسبياً وخسائر بشرية محدودة، وبواسطة وسائل قتالية تشتبك عن بعد، مع عدم التورط في قتال تلاحمي، وبهذا الأسلوب يمكن للجيش الأمريكي أن يشن ما يعرف بـ(الحرب الشاملة المحدودة)، أى شاملة لجميع أبعاد مسرح العمليات، ومع جميع عناصر العدو في الجو والبر والبحر في وقت واحد، وبشكل قاسٍ وفعال في قدرتها على القتل والتدمير، ولكن ومحدودة من حيث بعدها الزمنى.

وقد جنت الحرب النفسية ثمارها، حيث استجاب بعض مسؤولي النظام العراقي، وقادة الحرس الجمهوري، إلى الرسائل التي وُجهت إليهم بالتمرد على النظام، مع حرصهم على إرجاء ذلك حتى اللحظة المناسبة، عند اقتحام قوات التحالف بغداد، وقد ازدادت الشكوك في نفوس الضابط والجنود العراقيين حول إمكان تحقيق أى انتصار في أية جبهة من جبهات القتال، ما دفع الكثيرين إلى الهروب من وحداتهم، كما ازداد معدل عزل القادة والذي شمل عزل قائد الدفاع الجوى.

واستجوب فريق من المخابرات المركزية الأمريكية ثلاثة منشقين عراقيين فروا إلى الأردن ـ لواء وعقيدان ـ كشفوا عن معلومات مهمة عن الأوضاع حول بغداد وداخلها والحرس الجمهوري، وتعمد هؤلاء الضباط الثلاثة إجراء اتصالات بزملائهم في الحرس الجمهوري لحثهم على التمرد، وإمداد مندوبي المخابرات الأمريكية بمعلومات عن تحركات قادة النظام عندما تبدأ معركة بغداد.

وبدءاً من اليوم الثالث عشر قتال، أول أبريل، اشتد القصف الجوي على بغداد والوحدات المحيطة بها في دفاعاتها، واستخدمت فيها قنابل عنقودية زنة 454 كجم. كما قامت قوات (دلتا) الخاصة بمهمة إنقاذ ناجحة لأسيرة أمريكية في منطقة الناصرية، يوم 23 مارس، وكانت قد احتجزت في مستشفى المدينة. ونجحت جهود القوات الخاصة في استقطاب الكثير من رؤساء العشائر والقبائل في مدن جنوب العراق، وقبلوا بالتعاون مع قوات التحالف.

وفي يوم 2 أبريل، أعلنت القيادة الأمريكية الوسطى في السيلية أنها بدأت المرحلة الأخيرة من الحرب، وأن طلائع قواتها الزاحفة جنوب بغداد من الجنوب الغربي والشرق صارت على مسافة 40 كم من بغداد، وأنها سيطرت على الطرق الرئيسة الثلاثة المؤدية إليها، وهو ما يعني أن الفرقتين 3 و4 من الجيش العراقي أصبحتا محاصرتين ولا يمكنهما الانسحاب شمالاً ولا التراجع جنوباً، ويعني ذلك أيضاً تقدم الفرقتين المارينز والثالثة، على طول دجلة والفرات صوب بغداد، متجاوزتين الخط الأحمر الكيميائي الذي حدَّدته القيادة العراقية لاستخدام أسلحتها الكيميائية، والتى استعدت القوات الأمريكية لمواجهتها بإجراءات وقائية، وذلك بعد أن نجحت في تدمير فرقة (بغداد) التابعة للحرس الجمهوري في محيط مدينة الكوت 150 كم جنوب شرق بغداد. كما عطلت فرقة (المدينة) بنسبة 70% بعد القصف الجوي الذي تعرضت له، كما تعرض مطار بغداد الدولي إلى قصف جوي مكثف لمنع المسؤولين العراقيين من الهرب. (اُنظر شكل توزيع قوات الحرس الجمهوري ومواقع قوات التحالف)

وعلى محور تقدم الفرقة الثالثة من كربلاء في اتجاه بغداد، نجحت في تأمين سد (الحديثة) (اُنظر صورة موقع سد الحديثة) المقام قرب المدينة لمنع القوات العراقية من نسفه، لإغراق المنطقة بالمياه لإعاقة تقدم القوات الأمريكية، وبذلك أصبحت القوات المتقدمة للفرقة الثالثة على مسافة 20 كم من مطار بغداد، وفي منطقة النجف تحصن فدائيو صدام في مسجد الإمام علي رضى الله عنه، وأخذوا يطلقون النار منه ضد القوات الأمريكية التي دخلت المدينة، ولكنها رفضت الرد عليها حتى لا تتسبب في المساس بالمسجد، ومنعاً لإثارة جماهير الشيعة ضدهم.

أما الجبهة الشمالية، فقد وافقت تركيا على مرور الإمدادات اللوجيستية دون الأسلحة والمعدات الحربية إلى شمال العراق، بعد زيارة وزير الخارجية "كولين باول" إلى أنقرة، وتقديم مساعدات مالية بمليار دولار و8.5 مليار دولار أخرى ضمانات قروض، في ذات الوقت الذي واصل فيه اللواء 173 مظلات استعداده للدخول في معركة الموصل وكركوك.

رابعاً: عمليات الأسبوع الثالث قتال

وصف يوم 3 أبريل (الخامس عشر عمليات)، بأنه يوم معركة مطار بغداد، حيث نجحت وحدات الفرقة الثالثة في اختراق دفاعات بغداد من الجنوب الغربي، واقتحام المطار واحتلاله جزئياً. فبعد أن نسف العراقيون آخر جسر على الفرات قرب بغداد مع اقتراب الفرقة الثالثة، قام منهدسو الفرقة بإزالة كمية من المتفجرات من قواعد الجسر لم تنجح القوات العراقية في تفجيرها، وبذلك أمكن لوحدات الفرقة الثالثة أن تستخدم ثلاث حارات من ست حارات على الجسر وتعبر خلالها صوب المطار، وقد جرى التمهيد لاقتحامه بقصف جوي مركز ضد القوات المدافعة عنه ومدرج المطار ووسائل الدفاع الجوي عنه، ما أوقع عشرات القتلى العراقيين. (اُنظر شكل الهجوم على مطار بغداد)

وقد قام اللواء الأول من الفرقة الثالثة باقتحام بوابات المطار، مساء يوم 3 أبريل، واندفع داخله، في حين قامت باقي وحدات الفرقة الثالثة بعزل بغداد من الجنوب والجنوب الغربي، وبذلك شكَّلت الفرقة الثالثة بداية الطوق الذي خُطِّط له ليحيط ببغداد، وكانت المفاجأة التي واجهت اللواء الأول في المطار، هو ضعف المقاومة العراقية داخله. وقد كان التمهيد للاستيلاء على المطار بقصف جوي ومدفعي مركز، سقط خلاله أكثر من 500 قذيفة مدفعية، و90 صاروخاً ميدانياً، وأربع قنابل طائرات زنة ألفي رطل ضد مواقع العراقيين شرق المطار، ما أدى إلى تدمير وإصابة 40 دبابة ومدفع عراقي ومقتل 320 جندي عراقي، بالإضافة لتدمير عشرات المدافع المضادة للطائرات وحاملات الجنود والشاحنات، وأسر 40 جندي من الحرس الجمهوري.

وخلال عملية استيلاء اللواء الأول على المطار، كان اللواء الثاني من الفرقة الثالثة يتقدم باتجاه الغرب من جسر على الفرات، ويستولي على تقاطعات إستراتيجية على الطريقين (1) و(8) على بعد 30 كم من العاصمة، وبذلك قُطع الطريق إلى بغداد من الجنوب. وفي ذات الوقت كانت القوات الخاصة الأمريكية تسيطر على الطريق القادم من تكريت إلى بغداد لمنع فرقة (عدنان) من إرسال دعمها إلى القوات العراقية المدافعة داخل بغداد، وبذلك أصبحت بغداد في مرمى المدفعية الأمريكية. (اُنظر شكل اقتحام الفرقة الثالثة لبغداد) (وخريطة تحرك القوات الأرضية والخاصة)

وفي هذه المرحلة من الحرب كانت فرق الحرس الجمهوري قد تقلصت كفاءتها القتالية إلى ما دون 40% بفعل القصف الجوي، وأعيد تجميع بعضها، وكُلَّفت فرق أخرى بدخول بغداد للدفاع داخلها، كما رُصد أعداد كبيرة من الضباط والجنود قد هجروا دباباتهم ومركباتهم وأسلحتهم واتجهوا إلى منازلهم، كل ذلك رغم أن معظم فرق الحرس الجمهوري ـ باستثناء فرقة المدينة ـ لم تكن قد تورطت بعد في قتال مع القوات الأمريكية المتقدمة نحو بغداد.

وفي 5 أبريل 2003 (اليوم السابع عشر عمليات)، عزَّزت القيادة الأمريكية قواتها حول بغداد، حيث تدفقت طوابير من آلاف الدبابات والعربات المدرعة من الفرقة الثالثة عبر نهر الفرات باتجاه العاصمة، ووصل حجم القوات داخل المطار إلى سبعة آلاف جندي، كما تقدمت الفرقة الأولى مارينز من جنوب شرق بغداد عبر دجلة، لتتمكن بالتعاون مع الفرقة الثالثة من عزل بغداد من الشرق. وبذلك فرضت معركة بغداد نفسها على الجميع داخل العراق وفي واشنطن، لاسيما بعد أن نجحت وحدة فرعية من اللواء الأول من الفرقة الثالثة قوامها 20 دبابة وعشر عربات مدرعة برادلى من التوغل في شوارع داخل جنوب المدينة، ودمرت ست دبابات وخمس عربات مدرعة عراقية، والتحمت مع قوات عراقية من المنتشرة في جنوب غرب المطار، وقد خَّلفت هذه المعركة عشرات من المركبات المشتعلة وحوالي ألف قتيل ومصاب من العراقيين.

وكانت هذه العملية تعني انطلاق مرحلة البداية الإستراتيجية للسيطرة على العاصمة العراقية، منطقة بعد أخرى باتباع أسلوب (القضمات)، وباستغلال حالة الارتباك والفوضى التي سادت كل هياكل النظام العراقي، إزاء سرعة المناورة والمرونة التي تعمل بها القوات الأمريكية، وما يعانيه النظام العراقي من تصدعات داخله منذ بداية الحرب، وتراجع خوف عامة العراقيين منه.

خامساً: معركة السيطرة على بغداد

بعد التقدم السريع الذي أحرزته الفرقة الثالثة في التقدم نحو بغداد والاستيلاء على مطارها، تحولت خطة الحصار إلى خطة أخرى أطلق عيها (الحزام الأمني)، وهو حزام أمني غير محكم حول بغداد، بواسطة الفرقتين الثالثة والأولى مارينز، وتوزيع منشورات وبثت رسائل إذاعية لإقناع سكان العاصمة بأن نظام صدام قد انهار، وليس من مصلحتهم دعمه ومساندته. وتمضى الخطة مستغلة الطبيعة الجغرافية التي تجعل نهر دجلة يقسم بغداد إلى قسمين، كما أن الطرق السريعة التي تتخللها تقسم بدورها العاصمة إلى أقسام شبه منفصلة عن بعضها، بحيث يسهل تحديد مسؤولية الوحدات والوحدات الفرعية للقوات الأمريكية المهاجمة عن كل قسم، ويسهل من ثم تطهيرها من المقاومة العراقية.

كما تسمح خطة الحزام الأمني لمن يريد من السكان بمغادرة المدينة، وبتدفق المساعدات الإنسانية إلى داخلها، وتنظيم عملية الهجرة حتى لا تقع كوارث إنسانية، وكذلك تفادي خوض مواجهات دموية في قتال الشوارع داخل المدينة، وإقناع السكان بمعاونة القوات الأمريكية وألا يعيقوا أعمالها. كما يُسهِّل الحزام الأمني أيضاً الإمساك بالمسؤولين في نظام صدام، وإن كان الحزام الأمني، الذي يبلغ طوله 20 كم وعرضه مثلهم، سيحتاج إلى حجم كبير من القوات الأمريكية حتى يكون محكماً حول بغداد، لذلك ألقت الطائرات الأمريكية 25 مليون منشور لحث العراقيين على الاستسلام وعدم التعرض للقوات الأمريكية، كما كَثَّفت قصفها المدفعي ضد أهداف منتقاة داخل بغداد، واستمر الغطاء الجوي فوق بغداد على مدار الساعة لضرب أى جيوب مقاومة فور اكتشافها، واستخدمت في ذلك قنابل ذكية (زنة 500 طن)، لا تحمل متفجرات وتدمر المبانى نتيجة قوة الارتطام بالهدف فقط، ولا تنتج ضغطاً جوياً زائداً يدمر المباني المحيطة، بسبب الصعوبة التي تواجه المقاتلات في توفير المعاونة النيرانية للقوات الأمريكية التي تخوض حرب شوارع، وصعوبة تمييز القوات الأمريكية عن العراقية، والحرص على عدم إصابة المدنيين.

لذلك استخدمت قنابل أصغر موجهة بالليزر بدلاً من التوجيه بالأقمار الصناعية، لاسيما وأن الدبابات والمدافع والعربات المدرعة العراقية كانت تختفي بين المنازل والمساجد والمستشفيات وسط الأحياء السكانية، كما لم يكن معروفاً أماكن مرابطة بقايا فرق الحرس الجمهوري التي انسحبت إلى داخل بغداد، لذلك كانت طائرة من دون طيار (بريداتور) تحلق لمدة 12 ساعة متواصلة لكشف أماكن المقاومة العراقية وقصفها فور اكتشافها.

وفي مطار بغداد، أُزيل تقل مئات من الجنود وفدائيى صدام ومتطوعين عرب قد اندفعوا نحو المطار للقضاء على القوات الأمريكية فيه، ولمواجهة ذلك قام قائد اللواء الأول من الفرقة الثالثة بعملية خداع تكتيكي، أظهر فيها انسحابه من المطار، فاندفعت الشاحنات التي تقل هؤلاء نحو ساحة المطار، فتلقتها نيران الطائرات العمودية الأباتشى والمقاتلات ومدفعية اللواء الأول، ما أدى إلى وقوع خسائر بشرية ومادية جسيمة بين العراقيين وتدمير مركباتهم، بالإضافة لتدمير عشرات الشاحنات التي كانت تقل فئات من عناصر عراقية مماثلة ومتطوعين في منطقة الدورة، اندفعت في الليلة السابقة للقيام بهجمات انتحارية على الطريق رقم (8) المؤدي من المطار إلى بغداد، للتصدى للقوات الأمريكية، فتعرضت للقصف الجوى في منطقة الدورة وقبل أن تصل إلى المطار. وكان النظام العراقي قد دعا الجنود العراقيين وميليشيات الحزب والمتطوعين العرب من خلال الإذاعة ومكبرات الصوت التي تحملها السيارات، إلى تشكيل دروع بشرية تزحف نحو المطار لاسترداده من أيدي الأمريكيين.

وفي إطار تنفيذ الخطة الأمريكية بقطع شرايين بغداد لتضييق الخناق عليها وعزلها استعداداً لشن الهجوم عليها، تقدمت الفرقة الأولى مارينز في اتجاه جنوب شرق عبر جسر على نهر دجلة، بعد أن استكملوا اختراق دفاعات فرقة (النداء)، وأصبحت على مسافة كيلومترين من ضواحي بغداد، بهدف تطويق بغداد من الشرق بالاستيلاء على معسكر الرشيد ومطاره في منطقة الرصافة، ومقار الوزارات.

وكان النظام العراقي قد أقام عدة نقاط تفتيش على الطرق المؤدية إلى العاصمة، لمنع الجنود المنسحبين المذعورين من العودة إلى بغداد، بعد أن انتشرت أخبار تدمير الفرقة التي في منطقة الكوت التي كانت تدافع فيها، كما تشكلت مجموعات داخل الجيش النظامي والحرس الجمهوري لإعدام الفارين الممتنعين عن القتال والهاربين إلى الخلف، ونفذ بالفعل إعدام عشرات الجنود، ما أدى إلى زيادة الانهيار في الروح المعنوية للقوات المسلحة والشعب العراقيين.

وابتداءً من 6 أبريل (اليوم الثامن عشر)، عمليات نقلت القيادة الأمريكية معركتها مع النظام العراقي إلى قلب بغداد، بعد أن أحكمت الفرقة الثالثة سيطرتها على المطار وثلاثة قصور رئاسية في المدينة، حيث شهدت العاصمة اشتباكات عنيفة بين القوات الأمريكية وعناصر النظام لاسيما فدائيو صدام وميليشيات البعث، في ذلك الوقت، ودخلت الفرقة الأولى مارينز المدينة من الشرق بعد عبورها نهر ديالي. ووقعت اشتباكات قرب فندق الرشيد، وظهرت سحابة دخان وغبار في سماء بغداد بسبب إطلاق العراقيين خمسة صواريخ ضد القوات الأمريكية الموجودة على مشارف بغداد، كما وقعت عدة انفجارات لقنابل طائرات ضد مواقع عناصر الحرس الجمهوري التي تحصنت في منطقتي المنصور والزيتونة.

وتوزعت وحدات الفرقة الثالثة على النحو التالي، اللواء الأول في المطار وغرب بغداد، واللواء الثاني لتأمين جنوب بغداد، واللواء الثالث لتأمين شمال غرب المدينة، محتفظاً بحوالي 50 دبابة و70 عربة برادلي في مواقع دفاعية على مسافة أربعة كم من مشارف العاصمة، ومسيطراً على الطريق رقم (10)، وبالتعاون مع الفرقة الأولى مارينز جرى تأمين حزام أمني حول بغداد طوَّقها من جميع الهجمات، يعاونها في ذلك وحدات من الفرقة 101 إبرار جوي. وهكذا تم عزل بغداد عن باقي العراق، وأقيمت نقاط تفتيش على كل الشرايين الرئيسة المؤدية إلى المدينة والخارجة منها.

أما الجانب العراقي فقد فشلت جميع محاولاته لدفع قوات مدرعة من خارج بغداد (بقايا الحرس الجمهوري) إلى داخلها للدفاع عنها، وأبيد معظم أفراد فرقتي (المدينة) و(بغداد) ودمرت أسلحتها، ولم يبق من فرقة (النداء) سوى فوج واحد. أما فرقة (نبوخذ نصر) فقد قُضي على جزء كبير منها، وتبقى من فرقة (حامورابي) لوائان فقط، كذلك فرقة (عدنان) التي كانت لا تزال محافظة على هيكلها، رغم أن الهجمات الجوية خفضت كفاءتها القتالية لأقل من 40%، في مواقعها شمال بغداد وقرب تكريت.

وفي داخل بغداد نشر النظام العراقي عدة كتائب مدفعية في منطقة الكاظمة، ووحدات عسكرية أخرى في المنطقة المحيطة بمرقد الأمام موسى الكاظم، في محاولة لإعادة انتشار فلول فرق الحرس الجمهوري التي انسحبت إلى داخل بغداد. وفي ذات الوقت الذي نفذت فيه العناصر الأمنية حملة لاحتجاز تلاميذ المدارس الابتدائية لمنع ذويهم من مغادرة بغداد، وتهديد كل من يمتنع عن حمل السلاح دفاعاً عن النظام بالإعدام، بل وصل الأمر إلى فتح النار على العربات التي تحمل مدنيين لمنعهم من الخروج من المدينة، ومطالبتهم بالعودة إلى منازلهم للقتال ضد الأمريكيين، بالإضافة لحملات تفتيش على المنازل للإمساك بالهاربين من الجيش. وكان واضحاً للمراقبين في بغداد أن نظام صدام فقد سيطرته على البلاد والقوات المسلحة والحرس الجمهوري وميلشياته الحزبية، ما أدى إلى انهيار مادي ومعنوي في جميع هياكل النظام السياسية والعسكرية والأمنية، مع التهاوي السريع لفرق الحرس الجمهوري التي كان يعتمد عليها النظام في تثبيت أركانه، ولم يعد هناك أى ترابط بين هذه الهياكل، فانفرط عقدها الواحدة تلو الأخرى.

وفي اليوم التاسع عشر قتال (7 أبريل)، نقلت القوات الأمريكية معركتها في بغداد إلى منطقة الرصافة على الضفة الشرقية من دجلة، حيث تمكنت الفرقة الأولى مارينز من اقتحام مطارها. أما الفرقة الثالثة فقد تقدمت إلى وسط بغداد ووصلت ساحة الشهداء بأكثر من 100 عربة مدرعة ودبابة تحت ستر المقاتلات A-10، وسيطرت على القصر الجمهوري ومباني حكومية في المنطقة المحيطة به، وقد حَّول هذا الاقتحام لوسط بغداد منطقة الكرخ غرب دجلة إلى ساحة معارك، استخدمت فيها جميع أنواع الأسلحة من الجانبين، وقد قامت الطائرات من دون طيار بدور رئيس في استطلاع مناطق تقدم الفرقة الثالثة نحو وسط المدينة، وقصف عناصر المقاومة التي اعترضت تقدم وحدات الفرقة.

وفي اليوم نفسه، أعلنت القيادة الأمريكية أن القوات الأمريكية اقتحمت مواقع فرقة (المدينة)، واحتلت مواقعها في بلدة السويره جنوب شرق بغداد، واخترقت أيضاً مواقع اللواء المتبقي من فرقة (النداء)، كما اجتاحت في طريقها نحو وسط بغداد مركز قيادة هذه الفرقة دون مقاومة، ما يعني انهيار هذه الفرقة نهائياً.

وكشفت القوات الأمريكية أنها استخدمت لأول مرة راداراً رقمياً لتوجيه الطائرات والدبابات في آن واحد، نحو أهدافها رغم الرؤية الصعبة في العواصف الرملية، ما أتاح تنفيذ مهام قتالية كانت مستحيلة في الماضي، خاصة القاذفات B-52 المجهزة برادارات حديثة تلتقط صوراً تبثها طائرات استطلاع (جلوبال هوك)، والطائرات من دون طيار، وبذلك أمكن للدبابات على الأرض أن تكون على اتصال بالمقاتلات وقادرة على توجيهها نحو أهدافها ورؤيتها بسهولة، كما جُهِّزت الطائرات من دون طيار بهذه الرادرات أيضاً، وامتازت عدسات كاميراتها بالتقاط الصور بوضوح، وقد غطت هذه الطائرات معظم مسرح العمليات.

دخلت الفرقة الأولى مارينز مدينة صدام، الذي يسكنها 1.5 مليون شيعي في شرق دجلة بمنطقة الرصافة، واستقبلت بترحاب من قِبل جماهير الشيعة الفقراء، وإن لم يمنع هذا الاستقبال من وقوع اشتباكات مع ميليشيات النظام عند جسر الجمهورية لمنع مدرعات الفرقة من اجتيازه، ولكن تم تدمير الموقع العراقي وعبور الجسر وإحكام السيطرة على معسكر الرشيد ومطاره، ومقر قيادة الفرقة العاشرة العراقية، وبذلك وصلت فرقة أمريكية أخرى الى قلب العاصمة تحت إسناد جوي من الطائرات العمودية الأباتشى للالتحاق مع وحدات الفرقة الثالثة، التي وصلت أمام فندق فلسطين الذي يقيم به الصحفيون ومراسلو وكالات الأنباء والشبكات التلفزيونية، بل اقتحمت الفندق بحثاً عن عناصر للنظام كانت تحتمي بالفندق وتطلق النار منه على القوات الأمريكية.

ورغم أن الوحدات الأمريكية قد دخلت إلى قلب المدينة من عدة اتجاهات، إلا أن قيادة القوات الأمريكية في السيلية أعلنت أنه من السابق لأوانه الحديث عن انتهاء معركة بغداد، وانتهاء الحرب، وتوقعت استمرار المعارك في الأيام المقبلة مع جيوب مقاومة في أنحاء متفرقة من المدينة، وإن كانت غير شرسة بعد الانهيار الذي أصاب هياكل النظام، وهروب عشرات من أركان النظام العراقي ـ عسكريين وسياسيين وأمنيين ـ إلى منازلهم والمساجد والمدارس والمستشفيات ومقر منظمة (مجاهدي خلق) المعارضة للنظام الإيراني، وكان يتبناها صدام لمناوأة النظام الإيراني بها، كما توقف البث التليفزيوني العراقي بعد أن قصفت محطة الإرسال، وخرج أكثر من ألف شخص من السجون العراقية مع دخول القوات الأمريكية بغداد، أما الحرس الجمهوري فقد توزعت الوحدات المتبقية منه على 20 موقع إستراتيجي وسياسي داخل بغداد، بالإضافة لتمركز حوالي خمسة آلاف متطوع عربي في مواقع مقاومة. (اُنظر شكل حصاد ثلاثة أسابيع من المعارك)

سادساً: عمليات الأسبوع الرابع قتال

في 9 أبريل (اليوم الحادي والعشرين عمليات)، التقت وحدات الفرقة الثالثة مع الفرقة الأولى مارينز، وتمت السيطرة على المواقع المهمة في وسط المدينة ومفارق الطرق الرئيسة، وأحكمت القوات الأمريكية قبضتها على المدينة. وفي مشهد أُذيع حياً في جميع أرجاء العالم، قام أهالي بغداد بتحطيم أكبر تمثال لصدام حسين وسط هتاف الجماهير العراقية وفرحتها (اُنظر صورة تحطيم تمثال صدام حسين)، وجرت عمليات سلب ونهب لجميع قصور الرئاسة ومؤسسات النظام السياسية والأمنية، بينما اختفى مسؤولو النظام تماماً، ابتداءً من رأس النظام وقادته ووزارئه، وحتى الموظفين العاديين، ورجل المرور في الشارع، ما أثار حالة من الذهول في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي ودول أخرى، ليس بسبب المفأجاة التي أصابت الجميع للسرعة التي سقطت بها بغداد، ولكن أيضاً لسرعة تبخر النظام الحاكم واختفاء مظاهره اختفاءً كاملاً، حيث كان معظم الناس يصدقون ما يصدر عن قادة وأركان العراق حول قدرته على الصمود، وهزيمة الأمريكيين وإعادتهم جثثاً في توابيت إلى ذويهم في الولايات المتحدة الأمريكية.

واستمر الجدل في مراكز الدراسات والأبحاث الإستراتيجية في مختلف دول العالم، لتفسير التقدم السريع الذي أحرزته قوات التحالف في عملياتها العسكرية بالعراق، حيث قطعت حوالي 500 كم في 20 يوماً سيطرت بعدها على العاصمة، في حين لم تتجاوز خسائرها 130 قتيلاً، وهو ما يسجله التاريخ على أنه أسرع عملية احتلال دولة في حجم العراق وسقوط عاصمتها، حيث اجتاحت الجيوش الألمانية فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية في أكثر من شهر، وتكبدت خسائر جسيمة في اجتياحها، وقد أرجع الخبراء السبب في ذلك إلى أن الجيش العراقي رغم ضخامته في الأفراد والأسلحة والمعدات، إلا أنه كان في حقيقته أشبه بـ "نمر من ورق"، بلا كفاءة قتالية.

اتضح ذلك في التشكيلات العراقية التي تركت أسلحتها ومعداتها ولاذ أفرادها بالفرار، ومنها الفرقة العاشرة المدرعة و بها 250 دبابة، ومثلهم من العربات المدرعة، لم تطلق طلقة واحدة، حيث اقتحمت المارينز مقر هذه الفرقة في جنوب العراق، ففوجئت بدبابات ومركبات القتال الأخرى مصطفة في صفوف، والدبابات والعربات المدرعة متجاورة ومدافعها منكسة لأسفل أو موجهة للخلف وليس بها جندى واحد، لذلك لم تأسر المارينز فيها أحداً، وهو ما تكرر مع فرق الفيلق الخامس العراقي شمال العراق، الذي استسلمت فرقه قبل دخول القوات الأمريكية كركوك والموصل، لذلك لم يعثر على أحد في مواقعها.

أما الجنرال فرانكس فقد أعطى تفسيراً لما حدث، حيث اكتشف أن دفاعات بغداد هشة وصورية وليست بالقوة التي أظهرتها الخطة السرية (فيكتور 1003) التي وضعها البنتاجون ورئاسة الأركان لغزو العراق قبل الحرب، لذلك أجرى تعديلاً في الخطة اعتمد فيه على السرعة والمرونة، بخلاف حرب تحرير الكويت عام 1991، وقد اختبر فرانكس خطته المعدلة بدفع لواء مدرع ضد الدفاعات العراقية في جنوب بغداد، حيث تمكن هذا اللواء المدرع من اختراق مواقع فرقة حرس جمهوري، بعد معركة دامت ثلاث ساعات، قُتل خلالها ما بين (2000 - 3000) جندى عراقي، وتدمير معظم دبابات ومركبات الفرقة.

عند ذلك قرر فرانكس اعتماد السرعة وزيادة قوة الدفع نحو بغداد، ومواصلة الضغط بقوة على صدام ونظامه، وعدم إعطائهم فرصة لالتقاط الأنفاس، حتى انهيارهم نفسياً قبل أن ينهاروا مادياً، بعد أن يفقدوا توازنهم، لذلك رفض فرانكس جميع الآراء في قيادته التي اقترحت إستراتيجية تعزيز الأراضي التي تم اكتسابها جنوب العراق، وتأمين الإمدادات اللوجستية للقوات الأمريكية التي اقتربت من بغداد، إلى حين القضاء على الميليشيات العراقية التي تشن هجمات مستمرة ضد الأرتال الإدارية وذيول الفرق الأمريكية المهاجمة.

وفي مواجهة كل هذه التحفظات قرر فرانكس أن يكلف لواء من الفرقة الثالثة بحماية خطوط الإمداد، بينما تواصل باقى وحدات الفرقة اندفاعها نحو بغداد، على أن تقوم القوات الخاصة مع الفرقة 101 إبرار جوي بتأمين المدن التي تتجاوزها في جنوب العراق، وملاحقة الميليشيات وجمع المعلومات، وشجعه وزير الدفاع رامسفيلد على تنفيذ الخطة المعدلة، بتوجيه خطاب إلى القادة الميدانيين قائلاً لهم: "اضغطوا .. اضغطوا بقوة وبدون توقف".

وجعل هذا التعديل في الخطة، القوات الأمريكية المهاجمة في النسق الأول الفرقة (الأولى مارينز، والثالثة الميكانيكية) متقدمة بـ(2 - 3) يوماً على العراقيين، الذين لم يتمكنوا من تنفيذ خططهم لنسف حقول النفط والجسور والسدود، وتحويل المدن إلى شراك من الدم.

سابعاً: انهيار دفاعات بغداد

اعترف أحد الجنود المنتمين لحزب البعث بقصة الانهيار السريع في وحدته العسكرية، بأن قادة الوحدة تركوا الوحدة فجأة وتوجهوا إلى منازلهم، وتركوا الجنود بلا تعليمات يواجهون مصيرهم، ولقد ترك القادة وصغار الضباط مواقعهم داخل بغداد مع بداية القصف الجوي للعاصمة، وكانت الخسائر البشرية كبيرة جداً في كل معسكرات الجيش والحرس الجمهوري، فعلى سبيل المثال كان موقع الحرس الجمهوري في المطار به 320 جندي بقى منهم 13 فرداً أحياء فقط، كما سقط 90 قتيلاً في الكلية العسكرية.

وقد بدأ الانهيار في جميع التشكيلات العراقية عندما طلبت القيادة العامة من القيادات الأدنى أن تقود بنفسها القتال أو المواجهة، ودون تخصيص مهام للوحدات والوحدات الفرعية، ما جعل الفوضى تدب في جميع المواقع، خاصة مع عدم وجود مرجعية مركزية تصدر منها الأوامر، ما جعل الريبة والشك تدب في نفوس الأفراد.

وتناقل أفراد الحرس الجمهوري رواية عن مشاهدتهم الفريق "سفيان التكريتي" المرافق الأقدم لصدام حسين في طائرة عمودية أباتشى أمريكية، يقوم بجولة على مختلف قطاعات الحرس الجمهوري حول بغداد، يطلب منهم عدم القتال، ما يدل على انشقاق الضباط الكبار على النظام وانضمامهم إلى الأمريكيين.

كما أكد ضباط الحرس الجمهوري مشاهدتهم نجل "صدام حسين" (قصي) يهرب بسيارة بيجو، بعد 15 دقيقة من قصف المبنى الذي كان به صدام بحي المنصور، وأن ما كان يظهر على شاشات التليفزيون العراقي عند استقبال صدام لكبار القادة والضباط يعلنون ولاءهم له، ليس سوى تمثيليات معدة مسبقاً تم تلقينها لهؤلاء القادة والضباط بواسطة مساعدي صدام، الذين كانوا يعطون كل قائد وضابط كبير ورقة كتب فيها ما ينبغي قوله أمام صدام، بتأكيد الولاء له والرغبة في القتال حتى الموت، وعليه أن يحفظها ويلقيها أمام صدام، وبعد إطفاء كاميرات التليفزيون يتسلم كل منهم خمسة ملايين دينار (ألفي دولار).

وفي اعتراف لضابط برتبة عقيد لشبكة BBC البريطانية، أفاد بأنه لم يبذل جهوداً لإجبار القطاعات العسكرية المترددة على محاربة قوات التحالف، وأنه ورجاله 600 فرد اختفوا منذ بدأ قصف طائرات التحالف، فيما أخذ هؤلاء يهجرون مواقعهم يوما بعد يوم، ولم يكن لديه خطط واضحة لمحاربة التحالف، وأنه لم يكن لديه استعداداً للدفاع عن ديكتاتور دموى مثل "صدام حسين"، وأضاف أن معظم الضباط العراقيين ضاعوا وسط التضليل الإعلامي وطمس الحقائق.

ثامناً: أبعاد الصفقة بين المخابرات المركزية الأمريكية CIA وقادة الحرس الجمهوري

نشرت صحيفة البيان، في 12 مايو 2003، تقريراً أكدت فيه وجود صفقة مخابراتية كانت وراء السقوط السريع لبغداد، طرفاً الصفقة هم عدد من قادة فيلق الحرس الجمهوري ووكالة المخابرات المركزية. وأبعاد هذه الصفقة تتمثل في عرض سخي قدمته الـ CIA للقادة العراقيين، يتضمن تأمين نقلهم إلى أماكن آمنة خارج العراق، ومنح قيادات الصف الأول (قادة الفرق) مبالغ مالية ضخمة، والصف الثاني (قادة الألوية) مبالغ أقل، مع إعطاء بعض قيادات الحرس الجمهوري من الصف الأول ممن لم يرتكبوا جرائم حرب وضعاً مسؤولاً في النظام السياسي الجديد، بعد سقوط "صدام حسين"، ومنح آخرين من الصف الأول وعائلاتهم الجنسية الأمريكية والإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية (طبقاً لرغباتهم).

وفي تفصيل الاتفاق المكتوب، أنه بعد احتلال مطار بغداد يتوجه قادة فرق الحرس الجمهوري إلى المطار لنقلهم، فإن تعذر نقلهم من المطار، ينفد ذلك بواسطة عدد من الطائرات العمودية تنتظرهم في ضواحى بغداد، على أن يتحصن قادة اللواءات داخل القصر الجمهوري الملاصق للمطار، ثم تنقلهم القوات الأمريكية إلى المطار، على أن تصدر الأوامر لباقي قيادات الألوية والكتائب بعدم المقاومة، وإلقاء السلاح مقابل ضمان سلامتهم وعائلاتهم، ونقلهم إلى أماكن آمنة. وقد اتبع قادة الفرق والألوية خطة خداع لإقناع القيادات الدنيا بعدم المقاومة، بحجة أن المقاومة ستكون سرية داخل بغداد، بتنفيذ خطة أعدتها القيادات لإطالة أمد الحرب، وإيقاع القوات الأمريكية في فخ نصب لها، وقد انطلت هذه الحيلة على القيادات الدنيا.

وسلم قادة الفرق والألوية مبالغ بالدولار، دفعة أولى لضمان تنفيذ المهمة، وكان احتلال مطار بغداد نقطة التحول وإشارة البدء بتنفيذ الخطة، وكان هؤلاء القادة يعطون الأمريكيين معلومات دقيقة عن أماكن الدفاعات ومراكز القادة العراقيين حول المطار وداخله في بغداد، كذلك معلومات عن الأنفاق التي تمتد من القصر الجمهوري إلى داخل المطار، وهذا الاتفاق لم يكن أحد يعلم عنه شيء سوى قادة فرق الحرس الجمهوري.

وأعدت طائرة نقل ضخمة تتسع لعدد مقداره 200 فرد لنقل قادة الفرق، وعدد من قادة ألوية الحرس الجمهوري، وطبقاً للخطة، فقد استكمل وصول هؤلاء القادة بعد ثماني ساعات من الانتظار، وكانت المفاجأة أنهم اصطحبوا معهم قائد قوات فدائيي صدام الذي رحب به الأمريكيون وضموه إلى الخطة، وقد أقلعت الطائرة من مطار بغداد في الساعة الثامنة من اليوم الثالث لاحتلال المطار، واتجهت بهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة، وفي وقت لاحق كانت طائرتان عموديتان تنقلان قادة ألوية الحرس الجمهوري إلى البصرة، حيث استضافتهم القوات البريطانية حتى حين نقلهم إلى خارج العراق، وكشف بعض الساسة الأمريكيين أن الاتصالات التي كانت تجري بين الأمريكيين، وقادة الحرس الجمهوري استخدمت فيها أجهزة اتصال ذات تقنية حديثة، لم تسمح لأجهزة صدام أن تكتشفها.

ولتغطية عملية هروب قادة الحرس الجمهوري إلى المطار، جرى انقطاع متعمد للتيار الكهربائي، ليلة 9 أبريل، وتحت حالة الإظلام التام التي حلت بالعاصمة، نقل القادة وعائلاتهم من بغداد إلى المطار، وفي مدة استغرقت ثماني ساعات، وكشفت مصادر الاستخبارات الأمريكية عن أن اللواء "ماهر سفيان التكريتى" ابن عم صدام ومعاون قصي في قيادة قوات الحرس الجمهوري، هو الذي قاد عملية الخيانة، وهو الذي أمر قوات الحرس بعدم المقاومة، وأن ما أعلنته الولايات المتحدة الأمريكية، في 8 أبريل، عن مقتل اللواء ماهر، كان بهدف التمويه على هذه الحقيقة، ولتسهيل خروجه وعائلته من بغداد إلى مكان آخر خارج العراق.

كما كشفت الصفقة بعد ذلك عن خيانات أخرى من جانب ضباط أقارب "صدام حسين"، منهم اللواء "حسين رشيد التكريتي"، الذي أطلع الأمريكيين على تفاصيل دقيقة عن أوضاع القوات العراقية وتحركاتها، وقام ضابط آخر بتبليغ الأمريكيين عن مكان صدام، ليلة 19/20 مارس، و7 أبريل، وقد قصفت هذه الأماكن، وعندما كشف صدام عن خيانه الضابط حكم بإعدامه.

تاسعاً: معارك اقتحام البصرة وتكريت والموصل وكركوك

توغلت القوات البريطانية في البصرة، ووصلت إلى وسط المدينة مستهدفة مقرات فدائيى صدام وحزب البعث، ومقر "علي حسن المجيد" قائد المنطقة الجنوبية، وقصفته ولكنه تمكن من الهرب، وبذلك فقد النظام سيطرته على المدينة التي تضم أكبر تجمع سكاني بعد بغداد (مليوني نسمة)، كما شجع سقوط البصرة على سقوط عدد من مدن الجنوب ومعارضي النظام على الثورة عليه. وقد جاء اقتحام البصرة بعد أن سيطرت القوات البريطانية بإحكام على الطرق الرئيسة المؤدية من وإلى المدينة، ونجحت في تطويقها تماماً دون فرض حصار كامل عليها، وبما سمح لسكانها بحرية الحركة منها وإليها، واعتمدت على اجتذاب السكان لإمدادها بالمعلومات التي تحتاج إليها في قصف المواقع الدفاعية النظامية الرئيسة داخل المدينة، ومراكز قيادات الحزب والأجهزة الأمنية والميليشيات، حيث كانت تقصف بالطائرات العمودية الهجومية والمقاتلات والمدفعية، حتى بعد انتقالهم إلى مواقع تبادلية. (اُنظر شكل قوات التحالف في الحرب)

ونتيجة الاتصالات التي أقامتها القوات البريطانية مع السكان ورؤساء العشائر واكتساب تأييدهم، دُمر العديد من مراكز النظام داخل البصرة والزبير وحولهما، كما دافع البريطانيون عن العناصر العراقية التي تعاونت معهم، وحرصت على توفير الاحتياجات الرئيسة للسكان. أما الهجوم على البصرة فقد جرى بأسلوب القضمات، أي الاستيلاء على منطقة تلو الأخرى، ومن الأطراف نحو القلب، مع إرهاق قلب المدينة بالهجمات الجوية والمدفعية المستمرة، وتقديم العروض المستمرة للاستسلام من خلال المفاوضات التي أجراها رؤساء العشائر، وإذاعة أخبار دخول الأمريكيين بغداد.

وعندما وصلت عناصر النظام المدافعة عن البصرة إلى مرحلة الإنهاك واليأس من تحقيق أى انتصار، شنت القوات البريطانية ضربتها النهائية بواسطة عشرة آلاف جندي، تدعمهم 200 دبابة وعربة مدرعة، تحت ستر نيران المدفعية والمقاتلات والطائرات العمودية الهجومية، وأثناء هجومها سعت إلى السيطرة على الطريق رقم (6) لكي تتقدم عبره إلى شمال المدينة، حيث تتركز المقاومة، وحتى يمكن إجبارها على الاستسلام أو تدميرها، ولم تصادف القوات البريطانية مقاومة كبيرة أثناء اقتحامها وسط المدينة، واكتشفت غرفاً لتعذيب المعتقلين وإعدامهم، ومخازن ضخمة مليئة بالأغذية التي حُرم منها سكان المدينة، وقُتل في هذا الهجوم 400 جندى عراقي وأسر 40 آخرون.

كما نجحت القوات البريطانية في السيطرة على البصرة، ونجحت القوات الأمريكية في استكمال السيطرة على المدن الأخرى في الجنوب، وهي كربلاء والنجف والديوانية، حيث جرى تحطيم تماثيل صدام وتمزيق صوره بواسطة السكان، وتحققت السيطرة على 900 حقل نفط من 940 أشعلها النظام. وفي العمارة استولى سكانها على مقر الفرقة 14 العراقية وسيطروا عليها.

وفي شمال العراق، واصل اللواء 173 مظلات تقدمه إلى مشارف الموصل، وسط هروب وانسحاب القوات العراقية، وكان فدائيو صدام يقيمون حواجز على الطرق لمنع الانسحاب، وطالب الجنود العراقيون الأمريكيين بقصف هذه الحواجز حتى يتنسى انسحاب الآلاف من الجنود، حيث انخفضت كفاءة الفيلق الخامس إلى ما دون 40%، وقد تمكنت قوات بشمرجة وعناصر من اللواء 173 مظلات من دخول كركوك، يوم 9 أبريل، دون قتال، وسط مظاهر احتفال الأكراد بسقوط النظام في بغداد وباقى المدن العراقية. وفي الموصل جرى التوصل إلى إتفاق بين قيادة الفيلق الخامس والقيادة الأمريكية، يقضي بالاستسلام والسماح للجنود بالخروج من المدينة دون أسلحة، ودخول سلمي للأمريكيين كما حدث في كركوك.

وفي 13 أبريل، تقدمت وحدة من فرقة المارينز الأولى نحو تكريت، تحت ستر المقاتلات والطائرات العمودية الهجومية، وفي طريقها واجهت مقاومات ضعيفة من قِبل الميلشيات في بعقوبة وسامراء، وتمت محاصرة تكريت من الجنوب والغرب والشمال، إلا أن المارينز تمكنوا من دخول المدينة دون قتال، بعد عرض استسلام قدمه زعماء العشائر شريطة عدم قصف المدينة.

وفي يوم 14 أبريل، توغلت 250 مدرعة للمارينز وسط تكريت، واستولت على قصر صدام، وفوجئت قوات المارينز بوجود عشرات الدبابات وعربات القتال المدرعة BMP العراقية مصفوفة في أحد المستودعات سليمة وبكامل ذخيرتها، ومن دون جنودها، الذين تركوا مواقعهم وأسلحتهم وارتدوا ملابس مدنية وهربوا من المدينة، إلا أن اصطفاف مركبات القتال بجوار بعضها البعض في وضع التخزين، كان يوحي بوجود نوايا مسبقة على عدم القتال.

وفي الرمادي غرب العراق، استسلم 16 ألف جندى عراقي، على رأسهم اللواء "محمد الجرعاوي"، الذي وقـَّع وثيقة استسلام مع قائد كتيبة/ الفرقة الثالثة الأمريكية، وبذلك استولت القوات الأمريكية على مئات الدبابات والمركبات المدرعة والشاحنات والمدافع. وكان شيخ قبيلة الديلم في محافظة الأنبار قد طلب من الأمريكيين عدم اجتياح المحافظة وإفساح المجال للتفاوض مع باقي القبائل.