إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / غزو العراق عام 2003




مواقع عسكرية قًصفت بالذخائر الذكية
موقع سد الحديثة
مجموعة صور لصدام حسين
محمد سعيد الصحاف
مجلس الحكم العراقي
آية الله علي سيستاني
أركان النظام الصدامي
المظاهرات تعم مدن العالم
بليكس والبرادعي
تحطيم تمثال صدام حسين
صدام حسين لحظة القبض عليه
كولين باول
عناصر القيادة السياسية العسكرية في الحرب
قادة المعارضة العراقية

أهم المدن العراقية
مناطق الاحتلال (سبتمبر 2003)
مناطق القاعدة (ديسمبر 2006)
مناطق القاعدة ديسمبر 2007
أوضاع فرق الحرس الجمهوري
محاولة اغتيال صدام
محاور التقدم الرئيسية والمساعدة
مخبأ صدام حسين
مستويات هجمات قوى التمرد
الأهداف الإستراتيجية في وسط بغداد
الليلة الأولى لقصف بغداد
الهجوم على مطار صدام الدولي
التمرد والعصيان
انتشار قوات التحالف
الحلقة الدفاعية حول بغداد
اقتحام الفرقة الثالثة لبغداد
توزيع قوات الحرس الجمهوري ومواقع قوات التحالف
حصاد ثلاثة أسابيع من المعارك
سيناريو الحرب البرية المتوقع
غزو العراق
قوات التحالف في الحرب
قاعدة العديد الجوية بقطر

معركة الاستيلاء على جزيرة الفاو
أقسام العراق الطائفية والعرقية (بالمحافظات)
المحافظات العراقية
التوزيع السكاني للأكراد بين دول المنطقة
التوزيع السكاني في المحافظات
تحرك القوات الأرضية والقوات الخاصة
خرائط الجمهورية العراقية



بسم الله الرحمن الرحيم

المبحث الحادي عشر

تحليل النتائج السياسية

أولاً: الجانب الأمريكي

حفلت حرب الخليج الثالثة في العراق بالعديد من الدروس المستفادة على جميع الأصعدة السياسية والإستراتيجية والعسكرية والإعلامية والاقتصادية، وفي المجالات المختلفة على كل الأصعدة، ورغم أن الحرب قد انتهت بين القوات العراقية والقوات الأمريكية من الناحية الرسمية في العراق، بسقوط بغداد، وتفكك الجيش العراقي وانهياره ومعه نظام حكم "صدام حسين"، وإنهاء الاحتلال الأمريكي للعراق، وبدء سحب القوات الأمريكية من هناك، إلا أن الإضطرابات والصراعات السياحية والعمليات الإرهابية لاتزال سارية في العراق حتى اليوم، وهو ما يعني أن إنتهاء الأعمال العسكرية لا يعني إنتهاء الحرب. لأنَ تحقيق الهدف السياسي من الحرب يرتبط بفرض النظام والأمن والاستقرار، وهو ما لم يتحقق في العراق حتى الآن. الأمر الذي ينبغي معه عند التخطيط للحرب، أن يشمل هذا التخطيط كيفية الخروج من الحرب ومتى بعد تحقيق الهدف السياسي منها، وبأقل خسائر ممكنة.

لقد دخلت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا الحرب ضد العراق متذرعة بإمتلاكه أسلحة دمار شامل، تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة، وقد جرت الحرب وانتهت ولم يعثر على هذه الأسلحة، ما أثار العديد من التساؤلات والانتقادات التي وُجهت إلى إدارة بوش وحكومة بلير، حول اختلاقهما ذرائع واهية لشن الحرب. رغم أن العراق استخدم بالفعل الأسلحة الكيميائية في حربه ضد إيران، وضد شعبه في حلبجة، وكان له برنامج أسلحة بيولوجية معروف، إلا أنه كان من الأفضل ـ لكي تتجنب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ـ الانتقادات التي وُجهت لهما في هذا الشأن، أن يكون مبدأ تخليص المنطقة من أسلحة الدمار الشامل ينطبق أيضاً على إسرائيل، وأن تطالب بإزالة ما لديها من ترسانات نووية وكيميائية وبيولوجية ضخمة لا تستطيع إخفاءها.

أما التركيز فقط على أسلحة الدمار الشامل العراقية دون الإسرائيلية، فإن العالم العربي عد ذلك انحيازاً واضحاً لإسرائيل، على حساب أمن الدول العربية، لذلك وقفت معظمها ضد الهجوم الأمريكي ـ البريطانى على العراق، وكذلك تركيا إلى حد كبير.

تقودنا هذه النقطة إلى درس سياسي مهم، وهو أهمية شرط تأمين الموافقة والمساندة الدولية لأي عمل عسكري على هذا المستوى، والذي يتمثل في قرار سياسي من مجلس الأمن، الذي يمثل الشرعية الدولية، ويستند إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يتيح استخدام القوة المسلحة لتنفيذ قرارات المجلس، وهو ماعجزت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عن تأمينه لعمليتهما العسكرية ضد العراق. لذلك وُوجهت بمعارضة دولية كبيرة ومظاهرات بالملايين عمت معظم عواصم العالم اعترضت على العملية العسكرية ضد العراق.

وكما أخطأت الإدارة الأمريكية في تقدير حقيقة ما يملكه النظام العراقي من أسلحة دمار شامل، فقد أخطأت أيضاً في تقدير ردود فعل الشعب العراقي من الحرب، والتقليل من قوة المقاومة الشعبية للاحتلال الأمريكي، إلا أن الخوف كان متسلطاً على نفوس العراقيين، الذين لم يتوقعوا ولم يُصدِّقوا أبداً أنه سيأتى يوم ويسقط فيه هذا النظام، وهو ما منعهم في البداية أن يقدموا الدعم والمساندة لقوات التحالف، كما قلَّلت القيادة الأمريكية من قوة المقاومة العراقية.

أما الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه القيادة الأمريكية، فهو إلغاء الجيش العراقي، والحزب، الأجهزة الأمنية وكافة، ما أحدث فراغاً سياسياً وأمنياً هائلاً في العراق، لم تستطع القيادة الوسطى الأمريكية بهياكلها العسكرية، ولا الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أن تشغله وتقضي على حالة الفوضى التي نتجت عن هذا الفراغ، واستغلته إيران وتنظيم القاعدة في شغله ببسط السيطرة الإيرانية على العراق، من خلال القوى السياسية والميليشيات التي كانت تأويها في زمن صدام.

هذا الخطأ يقودنا إلى نقطة مهمة عند التخطيط السياسي للحرب، ينبغى أن تكون واضحة في أذهان السياسيين والعسكريين الذين سيديرون الحروب سياسياً وعسكرياً، حول الكيفية المطلوب أن تنتهي عندها الحرب، هل احتلال كامل للعراق وفرض السيادة الأمريكية عليه ـ كما حدث في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية ـ ومن ثم تضع الإدارة الأمريكية نصب عينيها السؤال التالي كيف لها أن تحقق ذلك؟، أم تسليم السلطة إلى كوادر عراقية معدّة بهياكلها السياسية والأمنية لسد الفراغ الناتج عن إسقاط النظام القائم؟. في حين أن الإدارة الأمريكية لم تتنبه ولم تُعد مسبقاً هذه الكوادر العراقية، رغم أن معظمها كان مقيماً على أراضيها أو في بريطانيا، في إطار قوى المعارضة الهاربة من نظام صدام.

وهل كان من الضروري حل الجيش العراقي والحزب والأجهزة الأمنية بكل هياكلها ومن جذورها؟، أم كان الأفضل إزاحة الكوادر العليا التابعة لصدام فقط، وتسليم الأجهزة الأمنية والجيش إلى قيادات وسطى، يجري ترقيتها لتولي المسؤولية؟ لاسيما وأن الكثير من الضباط العاملين في الجيش والأجهزة الأمنية كانوا كارهين وحانقين على نظام صدام، وكان من الممكن الاستفادة بهم، كما كان بإمكانهم التصدي منذ البداية للأطماع الإيرانية في العراق.

ومن الأخطاء التي وقعت فيها الإدارة الأمريكية أيضاً، أنها أعلنت عقب سقوط نظام "صدام حسين"، رفضها اضطلاع الأمم المتحدة بدور في إدارة عراق ما بعد صدام، ولكن تبيَّن لها، بعد أن تورطت في مشكلات عراق ما بعد صدام، أنها لا تستطيع الاستغناء عن دور الامم المتحدة المهم، سواء في مجال تكوين قوة لحفظ الاستقرار، تخفف عن القوات الامريكية ما تتحمله من عبء المحافظة على الأمن، أو في مجال إعمار العراق وما يحتاجه من تمويل ضخم، يهم الولايات المتحدة الأمريكية أن يسهم كل المجتمع الدولي فيه.

لقد أدى كل ذلك إلى حقيقة مهمة وخطيرة في آن واحد، وهي أن الولايات المتحدة الأمريكية قدمَّت العراق على طبق من ذهب إلى إيران، في حين أنها تعلم جيداً الأطماع الإيرانية في العراق، وخطورة ترك العراق في فراغ سياسي وأمني تشغله إيران، خاصة وأن قوى المعارضة العراقية التي تدفقت على العراق بعد سقوط نظام "صدام حسين" كانوا من الشيعة الذين دعَّمتهم إيران، وكان يتحتم عليهم تسديد فواتير استضافتهم على الأراضي الإيرانية طوال فترة حكم "صدام حسين"، وأن الثمن المطلوب دفعه هو تمكين النفوذ الإيراني في العراق.

وهو ما حدث بالفعل، عندما تصرفت القيادة الأمريكية في العراق منذ البداية من منطلق طائفي خاطئ، حيث اعتقدت أن جماهير الشيعة المعادين لصدام حسين سيؤيدون الوجود الأمريكي في العراق، فساعدتهم، في حين كان ولاؤهم الحقيقي لإيران ولم يكن للولايات المتحدة الأمريكية. وقد أدى ذلك إلى وقوع هذه القيادة الأمريكية في خطأ أخر، هو أنها صنفت جماهير السُنَّة في العراق من مؤيدي "صدام حسين" ومعارضي الغزو الأمريكي للعراق، فاستبعدتم، وكان استبعاد السُنَّة أمراً مريحاً جداً لإيران، ودفع من ثم قيادات السُنَّة إلى معاداة الوجود الأمريكي ووقوعهم في براثن القوى المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية، وعلى رأسها تنظيم القاعدة.

وهو الأمر الذي اكتشفته الإدارة الأمريكية متأخراً جداً، بعد أن هاجمت الميليشيات الشيعية، بدعم من إيران، القوات الأمريكية في العراق، واضطرت القيادة الأمريكية، تحت وقع الخسائر الشديدة التي فوجئت بها، إلى تغيير سياستها جذرياً، واستقطاب السُنة، وتشكيل قوات الصحوة من العشائر والقوى السُنية في العراق، والتى كانت معادية لصدام حسين، ولم تكن أبداً مؤيدة له، ومعادية أيضاً للنفوذ الإيراني في العراق. وقد اكتشفت الإدارة الأمريكية هذه الحقيقة متأخرة جداً، ما جعلها تدفع ثمناً باهظاً نتيجة عدم تقديرها الموقف السياسي الداخلي في العراق، وذلك على أساس معلومات يقينية، وليس على أساس معلومات من عناصر شيعية معارضة تعمل من خلف الستار لصالح إيران.

ورغم التزام القوات الأمريكية بمبدأ تجنب القتال في المدن قدر الإمكان، وكان لذلك ثمرة في تقليص حجم خسائرها، إلا أنه بعد سقوط نظام صدام، لم تلتزم القوات الأمريكية وقيادتها بهذا المبدأ، بسبب شدة قوى المعارضة للاحتلال الأمريكي، فتورطت في عمليات قتالية دامية داخل المدن، كلفتها خسائر بشرية جسيمة، وأفقدتها التعاطف الذي كانت تحظى به أثناء عمليات القتال، لاسيما عندما تعاملت القوات الأمريكية بقسوة مع العراقيين، وهو ما انعكس في عمليات التعذيب التي جرت للمعتقلين في سجن أبو غريب على أيدى القوات الأمريكية، وعناصر شركات الخدمات الخاصة (بلاك ووتر)، وعناصر إسرائيلية. على عكس القوات البريطانية التي نجحت في اكتساب ود العراقيين وزعماء العشائر في مدن البصرة وما حولها، وكان من الممكن للقوات الأمريكية أن تفعل ما فعلته القوات البريطانية، التي أوكلت مهمة إدارة شؤون العراقيين والأمن في مدن الجنوب، إلى رؤساء العشائر، على أن تبقى القوات البريطانية خارج المدن لتقوم بالسيطرة عليها من الخارج، ومواجهة العناصر الإرهابية التي تحاول دخول المدن.

ويرجع فشل الإدارة الأمريكية في استعادة الأمن والاستقرار في العراق إلى عدم قراءتها الصحيحة لطبيعة الشعب العراقي وتكويناته الطائفية والعرقية والسياسية، كما لم تعمل بالنصائح التي قدمتها مراكز بحوث ودراسات سياسية وإستراتيجية في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بعدم تسريح الجيش العراقي، والاكتفاء بتسريح القوات التي يثبت ولاءها للنظام السابق، مثل الحرس الجمهوري.

وبحل الإدارة الأمريكية الجيش وقوات الحرس الجمهوري العراقية، اكتسبت الولايات المتحدة الأمريكية على الفور عداء أكثر من نصف مليون عراقي وعائلاتهم. وهو ما اعترف به "بول وولفويتز" مساعد وزير الدفاع الأمريكي ووصفه بالأخطاء الغبية، وأرجعها إلى سوء فهم الإدارة الأمريكية وتقديرها للموقف في العراق. ورسم تقرير، صدر في عام 2004، أعده فريق في البنتاجون برئاسة "جون هامر" نائب وزير الدفاع، صورة للتوقعات في الموقف في العراق خلال الفترة القادمة، حذَّر فيه من احتمال اندلاع فوضى في العراق، وأن الوقت ينفذ بسرعة أمام استعادة السيطرة على البلاد، لاسيما مع تصاعد التدخل الخارجي من قِبل إيران وسورية والقاعدة. بجانب حالة الرفض للأمريكيين.

وقد عكس هذا التقرير بشدة التناقض الذي تواجهه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وفي العراق على وجه التخصيص، والفجوة بين ما هو معلن من أهداف ومخططات، وبين ما هو حقيقي ومخفي منها. وهذا التناقض في السياسة والممارسة الأمريكية خلق (عراق أزمة)، لا تعرف الإدارة الأمريكية كيف تحلها، فلا هى قادرة على الخروج من العراق وتركه في حالة فوضى لها تأثيرات مدمرة على باقى دول منطقة الخليج، وبما يضر بالمصالح الأمريكية في هذه المنطقة ـ النفطية خاصة. ويزيد من النفوذ الإيرانى فيها، ولا هى قادرة على البقاء في العراق لفترة زمنية طويلة، تستنزف خلالها قواتها واقتصادها. والخلاصة أن القوات الأمريكية أصبحت محاصرة في مستنقع، لا هي قادرة على الخروج منه، ولا هي قادرة على البقاء فيه.

وحتى بالنسبة لمشروعات إعادة إعمار العراق التي دعت لها الولايات المتحدة الأمريكية، وخصَّص لها مؤتمر مدريد 33 مليار دولار، تحملت منها الولايات المتحدة الأمريكية النصف تقريباً، وكان من المفترض أن تشمل تجديد البنية التحتية، والارتقاء بخدمات الصحة والتعليم، وتوسيع الفرص الاقتصادية، والارتفاع بكفاءة عمل الحكومة وأجهزة الرقابة والمحاسبة. أما على المستوى العملي المباشر، فقد أعلن عن خمسة عشر مجالاً شملت: التعليم، والصحة، والزراعة، والطرق والكباري، والمحليات، والإدارة الحكومية، والكهرباء والطاقة، والأمن الغذائى، والرى والصرف، والموانئ والمطارات، والاتصالات، والمياه والصرف الصحي. لم يتحقق منها سوى 25% من الأهداف المطلوبة.

ويرجع ذلك إلى تفشي الفساد الذي ساد إرساء عطاءات هذه المشروعات، التي رست معظمها على شركات أمريكية، فضلاً عن تردي الحالة الأمنية، حيث صار العاملون في هذه المشروعات هدفاً للقتل والخطف، وتخريب المشروعات التي تحت الإنشاء، وكان معدل سقوط القتلى الأمريكيين قتيلين يومياً، حتى منتصف عام 2004، وكان المتوقع أن عائدات النفط العراقي ستتكفل بعملية إعادة البناء، ولكن ما حدث بسبب تدهور الوضع الأمني واستمرار تدمير البنية التحتية، أن تحول العراق إلى عبء ثقيل على دافع الضرائب الأمريكي، ولم يجد الرئيس بوش مفراً من طلب 83.5 مليار دولار إضافي من الكونجرس، تحت بند ميزانية طوارئ لتغطية تكاليف حملة العراق، حيث خصص جزءاً كبيراً من هذه الميزانية لتعويض الخسائر في الأسلحة والمعدات في الحرب ضد المقاومة، وتزويد القوات الأمريكية بوسائل حماية أفضل للجنود، وشراء نظم حديثة للكشف والتعامل مع المتفجرات والالغام ومخازن الاسلحة المخبأة.

ويمكن حصر الاخطاء الأمريكية في فشل مخابراتي، أدى إلى وضع إفتراضات غير واقعية عن رد فعل العراقيين بالنسبة للاحتلال، واستبعاد الجيش العراقي وكل أعضاء حزب البعث وحل المؤسستين بالكامل، وعدم التحسب الجيد لرد الفعل الإيراني لتدمير الجيش ونظام الحكم العراقيين، واستغلال ذلك في تنفيذ المطامح الإيرانية في السيطرة على العراق، خاصة المنطقة الجنوبية منه الغنية بالنفط، في وقت بدأت آبار نفط إيران في النضوب، وباستغلال الأغلبية الشيعية القاطنة في هذه المنطقة، لتكون جنوب العراق امتداداً جغرافياً وسكانياً لإيران.

يضاف إلى هذه الاخطاء المخابراتية صغر حجم القوات الأمريكية، وعدم توافقها مع طبيعة المهمة وصعوبتها، وتجاهل السياسة الأمريكية لأهمية خلق مناخ عربي وإسلامي يؤيد ويدعم الأوضاع في العراق. لذلك لم يكن أمام إدارة بوش في فترة الرئاسة الثانية، وأمام تلك التحديات سوى زيادة الجزء الفعال في قوتها العسكرية داخل العراق بحوالي 20 ألف جندي، والاعتماد أكثر على العراقيين ونقل مسؤولية الأمن إليهم تدريجياً، والوصول بأعداد الجيش العراقي إلى 200 ألف جندي في مرحلة أولى، وأن يكون تدريبهم وتسليحهم تحت إشراف القوات الأمريكية وشركات الخدمات الخاصة، مع تمركز القوات الأمريكية في أماكن قريبة خارج المدن للتدخل إذا لزم الأمر، ولكن المشكلة كانت في ضمان ولاء هذه القوات للأمريكيين، وأيضاً في مستوى أدائها العسكري وقدرتها على التعامل مع المقاومة، وفي الإطار نفسه العودة للاستعانة بقوات الجيش العراقي المنحل وقياداته الوسطى، كما حدث في الفالوجه، إلى جانب الاستعانة بقوات دول أخرى.

أما أخطر ما أسفرت عنه أخطاء الحملة الأمريكية على العراق، أنها أعطت الفرصة لإيران لكي تتحول إلى قوة إقليمية عظمي شبه نووية. فقد استغل نظام حكم الملالي في إيران انشغال الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بالحرب في العراق، وانطلق بقوة في تطوير برامجه التسليحية التقليدية وفوق التقليدية ـ خاصة برنامجه لامتلاك سلاح نووي ووسائل إطلاقه، وهو الأمر الذي ساعد النظام الإيراني على تنفيذ هدفه السياسي الرئيس، بتصدير الثورة الخومينة إلى دول المنطقة. وهو ما رأينا انعكاساته في تشكيل الحرس الثوري الإيراني الذي فاق الجيش النظامي الإيراني وقوته وتسليحه، ما شكَّل مركز قوة ونفوذ في جميع دوائر الحكم الإيرانية، حتى أن البرنامجين الصاروخي والنووي وُضعا تحت سيطرة الحرس الثوري.

أما على صعيد تصدير الثورة الخومينية، فقد استحدث فيلق القدس بقيادة الجنرال "قاسم سليماني" ضمن فيالق الحرس الثورى الخمسة، وأصبح فيلق القدس هو المسؤول عن العمليات الخارجية المتعلقة بتصدير الثورة، وهو ما ظهر واضحاً في دور هذا الفيلق في دعم نظام حكم "بشار الأسد" في سورية، وزرع النفوذ الإيراني هناك، ودعم حزب الله في لبنان وفرض سيطرته على الحكم في لبنان، وإثارة حرب لبنان، عام 2006، ضد إسرائيل. ثم في دعم حركة حماس في غزة، وإثارة حرب عام 2008/2009، ثم حرب عام 2012 مع إسرائيل. وفي إثارة حرب الحوثيين ضد شمال اليمن وجنوب المملكة العربية السعودية، عام 2010. وإثارة الحرب الأهلية في الصومال، بالتعاون مع تنظيم القاعدة.

وبذلك نجحت إيران في تصدير ثورتها بدماء العرب، حيث خسرت لبنان، في حرب عام 2006، حوالي 1187 قتيل و4500 مصاب، فضلاً عن تدمير بنية تحتية تقدر بحوالي خمسة مليارات دولار، إلى جانب 50 ألف مُهجَّر. وفي حروب غزة، خسر الفلسطينيون أكثر من 5000 قتيل و7000 مصاب. وفي اليمن أكثر من ألف قتيل. ناهيك عن الحرب الأهلية في العراق، التي قتل فيها أكثر من 100 ألف عراقي إلى جانب دعم إيران للحزب الإسلامي بقيادة "قلب الدين حكمتيار" في الحرب في أفغانستان ضد قوات التحالف هناك. ودعم تنظيم القاعدة في المغرب، ما أدى إلى قطع العلاقات بين البلدين. ودعم نظام حكم الاخوان في مصر، بعد ثورة يناير 2011. والتدخل في ليبيا بعد الثورة، بما أدى إلى استمرار الحرب الاهلية هناك ومخاطر تقسيمها.

وتهدف الإستراتيجية الإيرانية إلى توريط الدول العربية المحيطة بإسرائيل في حروب معها، بهدف إشغالها عن تهديد إيران بسبب برنامجها النووي، لاسيما بعد أن وصل البرنامج النووي الإيراني إلى نقطة اللاعودة، من حيث القدرة على امتلاك سلاح نووي. وهو ما تمثل في إقامة بنية تحتية نووية تتمثل في تطوير مناجم (ساجهاند، جهينى) لليورانيوم، حيث يوجد احتياطي منه يصل إلى خمسة آلاف طن، وموقع (أردكان) لطحن اليورانيوم، ثم موقع (أصفهان) لتكوين الكعكة الصفراء بعد إضافة الحامض إلى مسحوق اليورانيوم، وانتاج غاز UF-6، ثم مصانع تخصيب اليورانيوم في (ناتانز) و(فاردو)، حيث وصلت نسبة التخصيب إلى 20%، وذلك بعد أن زادت أجهزة الطرد المركزي التي تقوم بالتخصيب إلى خمسة آلاف جهاز، منها 60% من النوع المطور P2.

وبذلك امتلكت إيران كمية تقدر بـ1500 طن من اليورانيوم المخصب، بنسبة 20%، فضلاً عن خمسة آلاف طن بنسبة 5%، وهو ما يمكنها خلال أقل من سنتين من امتلاك حوالى 50 – 60 كجم مخصب بنسبة 90%، تكفي لبناء سلاحين نوويين. كما نجحت إيران أيضاً في الحصول على نموذج رأس نووي للصاروخ (شهاب 3)، الذي طورته ويبلغ مداه حوالي 2500 كم. وأنتجت منه حوالي 300 صاروخ، قادرة على تغطية كل منطقة الشرق الأوسط، وحتى جنوب أوروبا، وجنوب آسيا، وكل آسيا الوسطى.

إلى جانب المفاعل النووي في (بوشهر)، الذي يجري استكماله بالتعاون مع روسيا، ومصنع (آراك) لإنتاج الماء الثقيل وفصل البلوتونيوم. فإذا أضفنا إلى ذلك التطوير الكمي والنوعي في أفرع الأسلحة التقليدية، خاصة بحرية الحرس الثوري التي أصبحت تنافس القوة البحرية الأمريكية في السيطرة على مياه الخليج وخليج عمان وخليج عدن ومدخل البحر الأحمر، وبعد التسهيلات البحرية التي حصلت عليها من إريتريا في ميناء عصب، وبها أصبحت تتحكم في مضيق باب المندب، لأدركنا حجم التهديد الذي تشكله إيران اليوم للأمن العربي، سواء في بعده القطري لكل دولة عربية منفردة، أو في بعده القومي.

وكان من نتيجة تصاعد القوة الإيرانية التقليدية وفوق التقليدية، أن أفشلت كل المحاولات الامريكية لإجبارها على إيقاف برنامجها النووي، وهو ما تمثل في فشل مفاوضات مجموعة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا (5+1)، والتي استمرت من عام 2004 وحتى اليوم، كذلك فشل مفاوضات الوكالة الدولية للطاقة النووية، التي منعتها إيران من زيارة بعض منشآتها النووية الخطيرة مثل منشأة (فاردو) ومنشأة (بارشين)، لاختبار التفجيرات النووية معملياً. وأدى إلى تهديد إسرائيلي بشن ضربة جوية وصاروخية ضد المنشآت النووية الإيرانية، سواء منفردة أو بالاشتراك مع الولايات المتحدة الأمريكية. وهددت إيران في المقابل بضرب إسرائيل والقوات الامريكية ودول الخليج العربية بصواريخها شهاب، وتدمير المنشآت النفطية العربية على الساحل الغربى للخليج.

ثانياً: الجانب العراقي

ليس العراق وحده هو الذي تعرض للهزائم العسكرية في تاريخ الإنسانية، فقد سبقته دول كثيرة، وليس آخرها اليابان وألمانيا فى الحرب العالمية الثانية، عام 1945، ولكن الفرق أنهما عندما انهزمتا في هذه الحرب اعترفتا بوضوح بهزيمتهما السياسية والعسكرية، وتحدثتا وبحثتا عن أسبابها وعملتا على الاستفادة من دروسها، وتلافي الأخطاء التي وقعت قبل الحرب وأثناءها، وأدت إلى هذه الهزيمة، وهو ما شكل حافزاً قوياً لاستنهاض الهمم من أجل تجاوز المحنة، رغم أن الهزيمة كانت مهينة وبالغة القسوة والبشاعة، ولكن مشوار النهوض والإصلاح بدأ أولاً بالاعتراف بالهزيمة، وعدم تجاهل أسبابها أو تعمد إخفائها، والاستعداد لدفع ثمنها كاملاً. لذلك جاء نهوض ألمانيا واليابان من المحنة سريعاً وقوياً وصحيحاً، وصارتا في أُقل من عقدين من الزمان من الدول الكبرى في العالم، قادرتين على منافسة الدول العظمى خاصة على الصعيد الاقتصادي، وما لذلك من تأثير ونفوذ سياسي على المستوى الدولي.

إلا أن نظام صدام رفض الاعتراف بهزيمته في حرب الثماني سنوات مع إيران، وحَّول هذه الهزيمة إلى انتصار أطلق عليه "قادسية صدام". ولأن لا أحد في العراق ولا في الأمة العربية حاول محاسبة صدام على الخسائر البشرية والمادية التي حلت بالشعب العراقي والشعوب العربية بسبب هذه الحرب، نتيجة هذه المغامرة المجنونة التي أوقع بلده فيها، بل صدَّق الجميع وهم انتصاره في هذه الحرب، وسارعوا لتهنئته على انتصاره الكاذب، الأمر الذي شجعه على ارتكاب مغامرته الثانية بعدوانه على الكويت، عام 1990، على النحو المعروف. وعندما انهزم العراق في حرب تحرير الكويت عام 1991، رفض صدام الاعتراف بهزيمته، بل حولها إلى انتصار أطلق عليه (أم المعارك)، وللأسف صدقه في هذا الوهم بعض الأنظمة العربية وشجعته على المضي في حماقاته ومغامراته.

لذلك كان من الطبيعي، نتيجة رفضه دفع ثمن الهزيمة، واستمراره في تحدي المجتمع الدولي بإصراره على امتلاك أسلحة دمار شامل، أن تعرَّض للهجوم الأمريكي ـ البريطاني، الذي وقع على العراق، في 20 مارس 2003، لاسيما وأنه لم يستوعب متغيرات ما بعد أحداث 11 سبتمبر، على المستويين الدولي والإقليمي، ما أدى بالعراق إلى أن يدفع، ومعه كل الأمة العربية، ثمناً فادحاً نتيجة هذا الهجوم، والذي أطاح بنظام "صدام حسين" من جذوره، حتى لا يزعم أحد لا في العراق ولا في أى دولة عربية، أن العراق انتصر في هذه الحرب.

إن المتأمل لتاريخ العراق الحديث، خلال النصف قرن الأخير، سيجده سلسلة من الثورات والانقلابات والاضطرابات، وأعمال العنف والسحل والاغتيالات والإعدامات الجماعية، إلى غير ذلك من المظاهر الدموية. لذلك لم يكن نظام "صدام حسين" استثناءً من هذا السجل الدموي، بل امتداداً وترسيخاً له، حيث سادت في عهده ما عرف بثقافة الدم، وبها ومن خلالها أقام دولة الحكم البوليسي والمخابراتي، وحوَّل العراق في النهاية إلى (جمهورية الخوف) التي أدخلت الشعب العراقي نفقاً مظلماً ليس فيه بصيص نور، حتى فوجئ هذا الشعب بسقوط هذا النظام بكل مكوناته وركائزه في بضعة أسابيع، من شهري مارس وأبريل 2003، على أيدى قوات التحالف، وذهابه إلى غير رجعة ملعوناً من كل عراقي شهد مظالم حكم هذا النظام وطغيانه.

وبسبب أمراض صدام النفسية التي كشف عنها كثير من الأطباء الذين حلَّلوا شخصيته، نجده كان يعيش في عالم من صنع خياله الخاص بعيداً عن عالم الواقع، يتداخل فيه الوهم والخيال مع شيء من الحقيقة. وفي هذا العالم شعر صدام بأنه هو الدولة والوطن، أو بمعنى آخر أن "صدام هو العراق" و"العراق هو صدام"، وأنه تجسيد لتاريخ العراق، وأنه "الزعيم الضرورة"، وصاحب رسالة كبرى لا ترتبط فقط بمصير العراق، ولكن بمصير الأمة العربية كلها. ومن هنا يمكننا أن نفهم ما كان يطمع فيه من إقامة "امبراطورية صدامية كبرى" تسيطر على دول الخليج العربية، وتتجاور حدودها اليمن، وتمتد على ساحل الخليج بطول 800 كم، ويكون لها امتدادات أيضاً في باقي أرجاء الوطن العربي، من خلال فروع حزب البعث وأنشطته التخريبية في الدول العربية.

ومن هذا المنطلق أقدم على غزو الكويت، عام 1990، معتقداً أنه على حق، وأن كل من يعارضه على باطل، حتى صدمته نتائج حرب عاصفة الصحراء، عام 1991، التي هزمته وطردته من الكويت. ولكن لأن عرشه في بغداد لم يُمس، عد ذلك في حد ذاته انتصاراً، وشجَّعه على ذلك حواريوه في العراق، وعدد من الدول العربية والاسلامية، ولم يستفد من الدروس السياسية لهزيمته في الكويت، فاستمر اثنى عشر عاماً يناور فرق التفتيش الدولية في لعبة (القط والفار) حول أسلحة الدمار الشامل، التي جعلها ركيزه تأمين نظام حكمه، غير مدرك بسبب حساباته الخطأ، أنه لابد أن يكون لهذه اللعبة من نهاية، حتى باغتته الهجمة الجوية ليلة 18/19 مارس 2003، وما تلا ذلك من معارك، انتهت بسقوط بغداد، بعد 21 يوماً فقط، من عمليات قتالية، وهو أسرع سقوط لعاصمة في تاريخ الحروب.

وساعد على هزيمة العراق عدم وجود آلية لصنع القرار السياسي في العراق، حيث كانت كل القرارات تصدر عن صدام شخصياً، لذلك جاءت فردية وعفوية وخالية من الحسابات العلمية، والخيارات والبدائل، بل اتسمت بالخداع والتضليل والمناورات الغبية، فكانت النتيجة أن كانت تصدر خاطئة وفاشلة ومسببة للكوارث، وقد أعانه على ذلك نفاق المنافقين المحيطين به.

وفي إطار هذه الاخطاء، ما راهن عليه من أن المظاهرات الحاشدة المعارضة للحرب التي جرت في الأيام التي سبقت الحرب في العديد من مدن العالم، من الممكن أن تثني إدارة بوش عن المضي قدماً في تنفيذ قراره الذي اتخذه بشن الحرب في موعدها المقرر. لذلك جاء رهان صدام على هذه المظاهرات، وعلى إثارة الشعوب العربية والإسلامية ضد حكوماتها، رهاناً خاسراً.

ويُعد الاهتمام بمظهر هياكل الحكم في النظم الديكتاتورية ـ مثل نظام صدام ـ على حساب صلاحية جوهر هذه الهياكل، من أكبر أسباب فشل مثل هذه الأنظمة في إدارة الأزمات الخطيرة، التي تتعلق بواقع ومستقبل ومصير البلدان التي يحكمونها. فقد جاء بنيان هياكل نظام حكم "صدام حسين" على أساس شغل حزب البعث جميع مؤسسات الدولة، سواء السياسية أو الدفاعية أو الاقتصادية، وأيضاً الإعلامية. ولما كان فكر حزب البعث قائم على أساس الولاء والطاعة المطلقة "للزعيم القائد الملهم"، فقد اجتذب في سيطرته على هياكل الدولة كل المنافقين الذين يدينون بالولاء لشخص "صدام حسين"، بغض النظر عن مدى كفاءتهم السياسية والعسكرية والعلمية، لذلك جاء بنيان هياكل النظام ضعيفاً في حقيقته، وفي جميع مجالاته رغم قوة مظهره، حيث بلغ أعضاء حزب البعث حوالي مليوني عراقي، ولكنهم جميعاً من المنتفعين الذين لا يقدرون على قول كلمة الحق في وجه زعيمهم، ومصارحته بأخطائه، وبالمشكلات العويصة التي يعاني منها الشعب العراقي، والخائف من بطشه وتنكيله.

وعندما جاءت لحظة الاختبار الحقيقى لقوة النظام وقدراته، في 20 مارس 2003، تهاوى هذا البنيان وسقط كبيت العنكبوت، حيث وجد العراقيون أنفسهم في وجه الغزاة بلا قيادة ولا حكومة ولا جيش يدافع عنهم، بل أن قطاعات عريضة من الشعب العراقي، في الأيام الأولى من الاحتلال الأمريكي، وجدت فيه خلاص من كابوس طاغ جثم على صدورهم حوالي ثلاثين عاماً، فرفضوا الدفاع عنه، بل أخذوا في تحطيم تماثيل وجداريات رأس النظام وتمزيق صوره فرحاً بالتخلص منه. وهو ما لم يكن صدام يظن يوماً أن يقع، حيث كان المنافقون من حوله يصورون له دائماً الوضع وردياً داخل العراق، وأنه يتمتع بولاء 100% من العراقيين، وهو ما أظهره الاستفتاء المزيف الذي أُجرى قبل الحرب، والمظاهرات التي خرجت تهتف بحياته تملأ الافاق ليل نهار، وقصائد الشعراء الذين تغنوا بمدحه وبآثاره في وسائل الإعلام على مدار الساعة، ولكن ما لم يظنه صدام أن يقع قد وقع بالفعل، ورأى بعين رأسه كيف كان يعيش أسطورة من الوهم وخيالاً مريض يهيئ له الخلود، ورأى الخيانة ولمسها مجسمة في أشخاص أقرب المقربين إليه، وهروب معاونيه ومساعديه واستسلامهم، وهم الذين طالما كان اعتماده عليهم في تثبيت نظام حكمه والدفاع عنه، كما لم تنفعه مليارات الدولارات التي سرقها أو هربها للخارج في الحفاظ على حياته، وهذه هى النهاية الطبيعية التي تنتظر كل نظام حكم ديكتاتوري يعيش في أوهام وخيالات أبعد ما تكون عن الحقيقة والواقع.

إن الدرس الحقيقي في الحرب الأمريكية على العراق، أن واشنطن اختارت للهجوم هدفاً سهلاً، في حين اختار العرب، بمعظم ممثليهم في القمة العربية التي سبقت الغزو، حاكماً ديكتاتورياً مجرماً في حق شعبه للدفاع عنه. فقد أدركت واشنطن بدراستها العميقة للداخل العراقي أنها تستطيع أن تسقط نظام صدام بالقوة المسلحة وبسهولة، وأنها ستجد ترحيباً من الداخل، بعد أن جست نبض الشعور الوطنى فوجدته يؤمن بأن صدام يمثل أسوأ حكام العرب بلا منافسة. لذلك ما كان للحملة العسكرية للتحالف أن تحقق أهدافها بالسهولة والسرعة التي جرت لولا أن العراقيين رأوا فيهم محررين لهم من النظام الساقط. أما "صدام حسين" فإنه عندما سقط نظامه، فوجئ بتهشيمه بنفس القسوة التي حكم بها.

أما الدرس الآخر الحقيقي في هذه الحرب، والذي ينبغي أن يستوعبه جميع الحكام، أن يدركوا تماماً أن اكتساب محبة الجماهير أهم بكثير من زرع الخوف في قلوبهم، ويتحقق هذا الحب عندما تشعر هذه الجماهير أن الحاكم رجل منهم ينتخبونه بحرية مطلقة، يسهر على حمايتهم والدفاع عن مصالحهم، وليس سيفاً مسلطاً على رقابهم يستحلب خيرات البلد له وأهله وبطانته. وعندما يتحقق هذا الحب الحقيقي، هنا سيهب كل مواطن للدفاع عن وطنه، يفتديه بالروح وليس بالهتافات الكاذبة، أما الشعوب التي تُحكم بالكبت والقمع والتخويف، فإنها تخر دون مقاومة أمام الغزاة مع أول طلقة يطلقونها.

ولا يمكن في هذا الصدد أن نعفي النخبة المثقفة في العراق من مسؤولية توصيل صدام إلى ما وصل إليه من طغيان، لأن صدام لم يُولد من رحم أمه ديكتاتوراً دموياً وطاغية مملوء بجنون العظمة، ولكن وجدت بذرة انحرافه في صغره أرضاً خصبة، ساعدته على الانتفاخ إلى حد الانفجار. وذلك بواسطة طغمة فاسدة من بعض المثقفين والإعلاميين المنافقين الذين صنعوا منه صنماً يُعبد من دون الله.

ومن ثم نؤكد على حقيقة مهمة وهي أن الديكتاتور لا يأتي من فراغ، ولكن المنافقين هم الذين يصنعونه محلياً وإقليمياً، وينفخون فيه حتى يؤلهونه. ويفترض من هنا على كل القوى الوطنية في أى دولة أن يتصدوا مبكراً لهؤلاء المنافقين، بكشف أساليبهم المدمرة، ونجعل الشعب يحتقرهم ويعزلهم، والإصرار على أن يكون نظام الحكم ديموقراطياً تعددياً حقاً، وليس بالكلام والشعارات البراقة الزائفة، وأن تكون هناك مشاركة شعبية في إدارة شؤون الحكم، وأن تكون هذه المشاركة حقيقية وليست ديكتاتورية.

ثالثاً: الجانب العربي

لا يمكن أن تعفي الدول العربية نفسها من مسؤولية المشاركة في إطالة عمر نظام "صدام حسين"، حتى وقوع الكارثة بالحرب، في مارس 2003. فقد ظل يُعيث ـ في كل البلدان العربية، وليس العراق فقط ـ فساداً وإفساداً، فما من دولة من الدول العربية إلا ونالت جزءاً من ظلم هذا النظام وتجبره وتهديده. وعندما سقط هذا النظام الباغي والطاغي، وجدنا للأسف كثيراً من المستفيدون منه يتباكون عليه. وخطورة الأمر في هذا الشأن أن كل ما ارتكبه نظام صدام من جرائم في حق شعبه وغيره من الشعوب العربية لم يكن خافياً على أحد، بل كان واضحاً أمام الجميع، خاصة وأن الاحصائيات المحايدة التي أكدت أن ضحايا نظام صدام خلال فترة حكمه، بلغت نحو مليوني عراقي، وهو ما كشفت عنه عشرات المقابر الجماعية التي اكتُشفت في أرض العراق، أثناء الحرب وبعدها.

بل لقد كان الجميع على علم بمؤامرات نظام صدام وأهدافه التوسعية وجرائمه، ليس فقط في حق الكويت، ولكن كل شعوب الخليج ودول الشرق العربي ومصر، وبلدان المغرب العربي، وحتى موريتانيا لم تنج من مؤامرات هذا النظام. وأبرز مثال على ذلك، ما حدث في القمة العربية في بغداد، عام 1979، عندما قاد "صدام حسين" تياراً طالب بعزل مصر عن الجامعة العربية بسبب توقيعها معاهدة السلام مع إسرائيل، وبالفعل قرروا نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، ودامت المقاطعة العربية لمصر لمدة عشر سنوات، سعى خلالها صدام للانفراد بقيادة النظام العربي، وكانت ثمرة ذلك ارتكابه حماقة غزوه للكويت، عام 1990.

ومن هنا لا يمكن أن ننفي مسؤولية النظام العربي عن إطالة عمر النظام الصدامي، حتى وصل الأمر إلى كارثة الاحتلال الأمريكي للعراق، عام 2003، وهو ما تكرر أيضاً حول مسؤولية النظام العربي عن إطالة عمر نظام "القذافى" في ليبيا، بالصمت إزاء مؤامراته ومهازله في حق جميع الدول العربية بلا استثناء، حتى وقعت الثورة الليبية، عام 2012، وأطاحت به، كذلك ما يرتكبه نظام "بشار الأسد" في سورية اليوم من مذابح ضد شعبه.

وللأسف لم يقتصر الأمر على صمت النظام العربي على الجرائم التي ارتكبتها هذه الأنظمة الديكتاتورية في حق شعوبها، بل تعدى ذلك إلى محاولة بعض الأنظمة العربية تبرير تلك السلوكيات الإجرامية، متعذرة مرة بأن جميع الأنظمة تمارس الديكتاتورية بدرجة أو بأخرى، ومرة أخرى بأنه لا بديل حالياً عن هذه الأنظمة. وهي حجج مرفوضة، ومردود عليها بأن الشعوب العربية، في عصرها الحديث، لم تواجه انتهاكات دموية لحقوق الانسان كما واجهتها وتواجهها اليوم، على أيدي هذه الأنظمة، وأبرز دليل على ذلك أنه لا توجد دولة عربية اجتاحت في التاريخ العربي الحديثة دولة عربية أخرى، وحاولت ابتلاعها وضمها قسراً كما فعل النظام الصدامي مع دولة الكويت، عام 1990.

ولا تعد مناهضة الدول العربية لنظام ديكتاتوري دموي يرتكب مذابح يومية في حق شعبه، مثل نظام "بشار الأسد" في سورية، تدخلاً في الشؤون الداخلية للدولة، بل انحيازاً للشعب الواقع تحت قوى الظلم والقهر والطغيان، بما يساعده على التخلص من هذا النظام، وعندما يتحقق له ذلك سيقدر ويحفظ للدول العربية دورها في الوقوف إلى جانبه.

فضيحة أخرى لا تقل في أهميتها عن سابقتها، تتعلق بتجاهل الدول العربية لقوى المعارضة العراقية، التي ناضلت طويلاً من أجل طرح قضية محنة الشعب العراقي مع نظام "صدام حسين" على المجتمع الدولي، الأمر الذي دفع هذه القوى إلى اللجوء إلى دول أخرى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وإيران التي احتضنت قوى المعارضة الشيعية، وقامت بإيوائها وتدريبها وتسليحها وتمويلها، لتكون أدواتها في المستقبل لبسط الهيمنة الإيرانية على العراق. وبينما وجدت قوى المعارضة العراقية آذاناً مصغية في الدول الأجنبية، نجد معظم الدول العربية أغلقت أبوابها في وجوه قادة المعارضة العراقية، ولم يظهروا على شاشات تلفزيوناتها إلا بعد سقوط نظام "صدام حسين"، الأمر الذي ولَّد مرارة شديدة لدى أبناء الشعب العراقي على اختلاف طوائفه وأعراقه.

رابعاً: الجانب الإعلامي في الحرب

بدأت الحرب الإعلامية قبل الحرب العسكرية، فقد شنت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا حملتها الإعلامية، التي استهدفت تأكيد اتهاماتها السياسية لنظام صدام بإخفاء أسلحة دمار شامل، وإعاقة عمل المفتشين الدوليين، ورد الإعلام العراقي والعربي على ذلك باتهام الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بأن لهما أطماع في العراق. واستمرت المساجلات الإعلامية والاتهامات المتبادلة على هذا النحو طوال فترة التأهب والحشد العسكري، حتى انفجرت الحرب ليلة 8/9 مارس 2003.

وتابع العالم كله مجريات الحرب من خلال وسائل الإعلام، في سباق وتنافس محموم، لكسب المشاهدين وتسجيل حضور دولي. وفي هذا الصدد سجَّلت الفضائيات العربية حضوراً قوياً، ودخلت في مناقشة حقيقية مع الإعلام الغربي، الذي ظل سنوات طويلة يهيمن على العالم ويفرض رؤيته على المنطقة العربية.

ومع التسليم بأنه من الصعب بمكان أن يطلب من الإعلام العربي أن يكون محايداً في حرب تدور بين دولة عربية على أرضها هي العراق، ودولة أو دول أخرى أجنبية (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا)، جاءت جيوشها من أقصى الغرب لغزو واحتلال هذه الدولة العربية، حتى وان كان على رأسها نظام "صدام حسين"، بكل ما عُرف عنه من ظلم وقهر ووحشية في تعامله مع شعبه والشعوب المجاورة له. حيث تفرض روابط الدم والتاريخ والانتماء الديني والقومي العربي والاجتماعي نفسها في رفض هذه الحرب من قبل أن تبدأ، وهو الموقف الذي اعتمدته جميع الدول العربية.

إلا أن التسليم بهذه البدهية شيء، وضرورة أن يكون الإعلام العربي أميناً وصادقاً وموضوعياً في طرح الحقائق شيء آخر مهم، وينبغي أن يولى هذا الجانب قدراً من الاهتمام، حتى يمكن أن يكتسب ثقة المشاهد والمستمع والقارئ العربي واحترامهم، وتثبت صدقيته عندهم، ولا يضطر للجوء إلى وسائل الإعلام الأجنبية بحثاً عن الحقيقة، والتي من المحتم أن تفرض نفسها في نهاية مطاف الحرب.

ولأن مسألة الموضوعية في الإعلام تعد في مثل هذه الحرب نسبية، فإن كلا الطرفين ـ العراقي من جهة، والأمريكي والبريطانى من جهة أخرى ـ لم يتمتعا بالموضوعية الكاملة، فقد كان لكل طرف ولايزال حساباته ومصالحه، لاسيما وأن الإعلام لا يعمل منفرداً، بل هو جزء من منظومة سياسية وأيديولوجية واقتصادية واجتماعية وإقليمية. لذلك كان التأثيرالسياسي واضحاً على الاتجاهات الإعلامية لجميع الأطراف، فضلاً عن الأجواء غير الصحية التي تعمل فيها وسائل الإعلام، في بعض الدول العربية، التي تعاني من غياب الديموقراطية وسيطرة الحكومات على وسائل الإعلام، ما يؤدي إلى إضعاف الأداء ويعكس صورة رديئة وركيكة لا تتيح مجالاً للإبداع وحرية الرأي.

ونجح الإعلام العربي في استيراد التكنولوجيا الغربية، واستخدمت بكفاءة في هذه الحرب، خاصة في الفضائيات، ولكن لم يحدث تطور موازي في الفكر والجوهر والمضمون. حيث صار الإعلاميون العرب يديرون الآلة الحديثة بأفكار متخلفة، فاشتغلت الآلة على غير وجهها الصحيح، ما أدى إلى تشويه ذهن المتلقي العربي وإصابته بالإحباط، ويرجع ذلك بالطبع إلى استمرار ثقافة خداع الذات وسيادتها، وإحلال الرغبات الذاتية مع الواقع الملموس، وممارسة أحلام اليقظة في عز النهار، حيث كشفت هذه الحرب عن العورات الفاضحة للإعلام العربي. منها على سبيل المثال ما أذيع عن وقوع خسائر بشرية لجنود التحالف بالآلاف، وهو ما ثبت كذبه، حيث لم تتجاوز الخسائر 300 فرد، إلا أن الذين روجوا لمثل هذه الأكاذيب لا يعلمون للأسف أن إخفاء الخسائر في الدول الغربية يُعد مستحيلاً. إلى غير ذلك من تحليلات وتأويلات وتفسيرات لا تستند إلى حقائق، بل إلى مجرد تمنيات لم تضع في حسبانها الخلل الجسيم في التوازن العسكري بين قوات التحالف والقوات العراقية لصالح الأولى، ومنطق العلم العسكري. فوجدنا من يتحدث عن حرب التحام بشرى في بغداد، ومنهم من ضخَّم من قدرات ميليشيات فدائيي صدام، التي اختفت بعد يومين فقط من بدء الحرب، كما أشاد البعض بالقدرات الخرافية للحرس الجمهوري، إلى غير ذلك. مما أثار سخرية الكثيرين داخل وخارج العالم العربي، سيما بعد أن اتضحت الحقائق.

ومما ساعد على تشويه الحقائق في الفضائيات العربية، سعيها إلى تقديم تغطية متزامنة للأحداث على مدار الساعة، وكان هذا بالطبع على حساب دقة التقارير الأخبارية، وذلك لقلة الخبرات التراكمية لدى هذه الفضائيات، فضلاً عن طول مدة الإرسال، ما جعلها تبث تقارير مشاهد مطولة دون التركيز على تغطية متميزة، لذلك قدمت جزءً مشوهاً من الصورة الكاملة.

وإذا تناولنا إعلام النظام العراقي، على وجه التخصيص، قبل الحرب وأثناءها، فقد انحصر في إطار واحد يعتمد على تمجيد زعيم النظام الحاكم، والإشاده بمنجزاته، وترديد مقولاته، ونقل تحركاته وعائلته وأعوانه. وإذا كان ذلك مفهوماً قبل وقوع الحرب بالنسبة لإعلام تابع لنظام ديكتاتوري، فإنه ليس مقبولاً بعد وقوع الحرب، حيث تفرض الوقائع على الأرض الحقيقة كاملة أمام ملايين المشاهدين في العالم، لذلك يصبح من الغباء والسخف الاستمرار في نشر الاكاذيب والتماس المعاذير للهزائم، لأن ذلك يُعد امتهاناً لعقلية المتلقي العربي، فضلاً عن العراقي العارف بحقيقة ما يجري على أرضه. إلا أن الإعلام العراقي، الذي قاده الوزير "سعيد الصحاف"، اعتقد "أن هزائم الجيوش فى الميدان يمكن أن تعوِّضها الانتصارات في ساحة الإعلام"، في حين أنها انتصارات وهمية وأكاذيب يفضحها الواقع على الارض.

فضلاً عن المبالغة في حجم الخسائر التي تكبدتها قوات التحالف، وافتعال انتصارات وهمية مثل الفلاح العراقي (منقاش) الذي أسقط ببندقيته طائرة عمودية آباتشى، وتجاهل التقدم السريع لقوات التحالف نحو بغداد، ونفى ما رآه ملايين المشاهدين في شتى أنحاء العالم من سقوط المدن العراقية واستسلام آلاف الجنود العراقيين، وتحطم تماثيل صدام وتمزيق صوره في المدن، وترحيب السكان بقوات التحالف. ناهيك عن الألفاظ البذيئة والسوقية التي تعافها الألسنة النظيفة، وهي سابقة انفرد بها السياسيون والإعلاميون العراقيين، الذين اتسمت تصريحاتهم بالفظاظة والاستعلاء على الآخرين، ونعتهم بألفاظ فجّة ممقوتة، لا تمت للأدب والذوق السليم بصلة، منها وصف قوات التحالف بـ"إنهم أشبه بقطعان الخراف المقدَّر لها أن تُقتل في العراق"، وقوله أيضاً "أنهم أشبه بالأفعى التي تزحف وسط الصحراء، وستُقطع إلى أجزاء".

وعندما استولت قوات التحالف على مطار بغداد، قال الصحاف: "لقد ذبحنا المرتزقة الأوغاد في مطار صدام الدولي ولم يعد لهم وجود". وعندما كانت المقاتلات الامريكية تسحق قوات الحرس الجمهوري، وقف الصحاف قائلاً: "لقد سحقنا هؤلاء العلوج سحقاً، ومن بقى منهم محاصر وصلته مقطوعة بباقي قواتهم"، وبينما كانت الدبابات الامريكية تقترب من وسط بغداد، وعلى رمي البصر من المكان الذي به الصحاف، شاهدناه ينكر ذلك قائلاً: "لقد ذبحنا المئات من هؤلاء الغزاة والمرتزقة الأوغاد وبدءوا ينتحرون على أسوار بغداد، وسنشجعهم على الانتحار". وعندما سُئل عن احتمالات استسلام العراق، أجاب "إن العراق لن يستسلم، وعلى مصاصى الدماء أن يستسلموا وإلا فسيتم إحراقهم في دباباتهم".

وليس المهم فيما قاله الصحاف من أكاذيب، فهي سمات النظام الذي كان يتبعه، ولكن الخطير في الأمر هو استجابة الرأي العام العربي لهذه الاكاذيب وتصديقها، والتعامل معها على أنها حقائق، ويرجع ذلك للأسف إلى كثرة الأكاذيب والأوهام والخرافات التي ترددها معظم وسائل الإعلام العربية، حتى تعَّود عليها المشاهد والقارئ والمستمع العربي، لأنه لم يتعلم بعد كيف يواجه الحقائق العارية ويقيسها بالمقاييس الموضوعية، وحتى يتمكن من ممارسة النقد المسؤول ثم الفعل المثابر، وبدون ذلك لن يتعلم، وستتكرر ظاهرة الصحَّاف مرات أخرى. وشاهدناها واقعاً في الإعلام الليبي قبل سقوط نظام القذافى، ونشاهدها اليوم في الإعلام السوري أيضاً، وحتى يسقط نظام "بشار الأسد" قريباً إن شاء الله.

إن إعادة الصدقية إلى الإعلام العربي يستلزم وقفة تقويم ومراجعة، وهى مهمة جماعية لا تقتصر فقط على الإعلاميين، بل أيضاً السياسيين والمثقفين، وذلك لما للإعلام من دور رئيس في تشكيل الرأي العام والوجدان العربي. ومن مبادئ علاج الوضع غير السليم للإعلام العربي، طرح ميثاق شرف للعاملين في هذا المجال يضمن حقوق الإعلامي وواجباته، ويؤمن له حرية العمل والقول دون ضغوط داخلية أو خارجية لفرض آراء معينة عليه، على أن يلخص الميثاق الإعلامي المقترح رؤية لمنهج إعلامي جديد، يعتمد الصدق وشفافية القول والعمل، ونبذ كل ما يسئ لشرف المهنة وأخلاقها.

مع الحرص على التفريق بين الخبر والتحليل، وعدم الخلط بين الوقائع والتمنيات، واحترام القواعد الصارمة في نقل الأحداث بأكبر قدر من الموضوعية والنزاهة، والابتعاد عن الحوارات التي تُهيِّج الجماهير وتدغدغ مشاعرها جرياً وراء الإثارة، وتجعلها أشبه بصراع الديوك، لأن ذلك يثير الفتنة ويؤجج الصراعات السياسية والطائفية والعرقية، ولا ينقص الوطن العربي الكثير منها، بل على مثل هذه البرامج الحوارية أن تُعدِّل توجهاتها بما يُقرِّب المفاهيم، ويُقلِّص الخلافات ويقضي عليها، ويحقق الإصلاح المطلوب.

خامساً: المحصلة النهائية للنتائج السياسية للحرب

يمثل نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في استعمال القوة العسكرية للقضاء على رئيس شرعي، لدولة عربية عضو في الأمم المتحدة والجامعة العربية والمؤتمر الإسلامى، وتقويض نظامه بالكامل، نقطة تحول تاريخية على مستوى العالم العربي والشرق الأوسط والعالم كله. ويزيد من أهمية الحدث أنه تحقق في وجه رفض صريح من الأمم المتحدة ومجلس الامن والرأي العام العالمي والعربي والإسلامي، وفي وجه معارضة شديدة من دول كبرى في المعسكر الغربي، مثل فرنسا وألمانيا، وأيضاً روسيا. والنتيجة أن الحرب أعادت تعريف الولايات المتحدة الأمريكية ومكانتها ودورها بالنسبة للعالم والمنطقة العربية.

يعد الانتصار العسكري لقوات التحالف، في حربها ضد العراق، ونجاحها في تغيير نظام الحكم داخله، أول تطبيق عملي "لعقيدة بوش" القائمة على فكرة إجهاض التهديد قبل أن يتحول إلى خطر حقيقي. أو بتعبير آخر إستراتيجية "الهجوم لأسباب تبدو دفاعية"، أو "الهجوم الدفاعى". والتجربة توضح خطورة هذه العقيدة الاجهاضية التي يمكن أن تستغل أية أسباب غير حقيقية في الهجوم على دولة أخرى. ومن المتوقع أن تحكم "عقيدة بوش" العلاقات الدولية لفترة طويلة. وفي هذا الإطار برزت الثغرة التي انفتحت لتصبح ثقباً واسعاً في الحرب على العراق. ويعود ذلك إلى التحولات التي طرأت على الفكر السياسي والإستراتيجي الأمريكي، والتحولات المقابلة لها في خريطة التهديد العالمية، والتى أدت إلى أحداث 11 سبتمبر 2001.

ستزيد الضغوط على دول الشرق الأوسط والدول العربية والإسلامية بخاصة، والدول النامية بعامة في كل ما يتصل بحزمة من المواضيع تقع في قلب اهتمامات السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وعلى رأسها موقف الدولة من الإرهاب، وامتلاك أسلحة دمار شامل وصواريخ بالستية بعيدة المدى، ومستوى الشفافية في آداء الدولة السياسي والاقتصادي، بالإضافة إلى أمور أخرى تتصل بالديموقراطية وحقوق الإنسان والتعليم والسكان.

سيتعرض مستقبل الجماعات السياسية والعسكرية المتطرفة والمنتشرة في البلاد العربية والإسلامية لاختبار كبير، من حيث اتهام بعضها بالإرهاب أو دعم الارهاب، وما يترتب على ذلك من إجراءات مطاردة ومصادرة أموال واعتقالات وقيود في التحركات، وهو ما سينطبق على الدول التي توجد على أراضيها هذه الجماعات، بدعوى إيواء الارهاب، أو إجبارها على تصفية هذه الجماعات بالقوة. وسيتقاطع ذلك مع التوجهات الأمريكية لحل باقي مشكلات الشرق الأوسط، خاصة الصراع العربي ـ الإسرائيلي. كما ستتعرض نظم الحكم التي تصنفها الولايات المتحدة الأمريكية غير ديموقراطية لضغوط أمريكية مباشرة.

سوف يكون لتفسخ العراق العرقي والطائفي مردودات سلبية على باقي دول المنطقة، التي تعاني من اختلافات عرقية وطائفية عديدة، لاسيما في دول الخليج التي بها أقليات شيعية كبيرة، وستمثل طبيعة حكم ما بعد نظام "صدام حسين" في العراق، وانتمائه الطائفي، ومدى قدرته على وحدة العراق السياسية، تحدياً كبيراً للعراق وتأثيراً مباشراً على باقي أنظمة الحكم في دول المنطقة، بما في ذلك إيران وتركيا، كما سيُعاد ترتيب كثير من العلاقات والأوضاع السياسية على المستوى الإقليمي، في ضوء الشكل الذي سيكون عليه عراق ما بعد صدام. ولكن في جميع الاحوال ستحرص الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ألا يكون عراقاً قوياً عسكرياً، بل عراق ضعيف، مُقسم فيدرالياً، مُحدد حجم قوته العسكرية ونوع تسليحها، بما لا يشكل تهديداً لإسرائيل وللمصالح الامريكية في المنطقة مرة أخرى.