المبحث الخامس

"ميلاد الدبابة، نجدة الحليف" (1916)

أولاً: الإستراتيجية

1. الجانب الألماني

تبنى فولكنهاين دائماً إستراتيجية الاستنزاف بالهجوم في مراحل وكل مرحلة لها هدف محدود وليس هجوماً عاماً.

أ. كانت رؤيته أن فرنسا وصلت مجهدة إلى نهاية طاقاتها الحربية ولم يعد لديها المزيد

ب. وفي الإمكان دفعها إلى نقطة الانكسار ـ وأن أضعف نقطة في البناء الحربي الفرنسي هو طاقاتها البشرية المحدودة ـ وضع فولكنهاين إستراتيجيته عام 1916 على أساس استنزاف القوة البشرية الفرنسية بتوجيه الهجوم الرئيسي في الجبهة الغربية وضد القوات الفرنسية بالذات.

ج. قرر فولكنهاين الهجوم مع دقة اختيار الهدف الإستراتيجي الذي يجذب القيادة الفرنسية إلى الدفاع عنه حتى آخر رجل ـ وكان المصطلح (To Bleed France White) ـ ووقع الاختيار على المنطقة المحصنة الفرنسية في فردان لمبررات سنذكرها في سياق هذا الفصل.

د. يخصص مجهود ثانوي في الجبهة الشرقية مع استمرار دعم النمسا والمحافظة على المكاسب الهائلة التي أحرزها الألمان والتي أسفرت عن دخول وارسوا في الشمال والتي أحرزها النمساويون بدخول جاليسيا في الجنوب.

هـ. تشن ألمانيا حرب غواصات غير محدودة ضد البحرية البريطانية وضد السفن المدنية التي تتعامل مع الجزر البريطانية ـ بهدف فرض الحصار البحري حول بريطانيا أو على الأقل إحداث حالة من التهديد المستمر لخطوط المواصلات الحيوية التي تربط بريطانيا بمستعمراتها عبر البحار.

و. نشط السلاح الجوي الألماني وشن إغارات على مدن وأهداف بريطانية مستخدماً المنطاد زبلن [1] في أغلب الإغارات.

2. الحلفاء

أ. في نهاية عام 1915 عقد مؤتمر للقادة العسكريين لدول الحلفاء في مركز قيادة الجنرال جوفر في باريس حضره قادة جيوش فرنسا بريطانيا ـ إيطاليا ـ بلجيكا ـ ومندوبين عن روسيا واليابان. وفيه تعهدوا بشن هجوم عام تزامن ـ موعده صيف 1916 في جميع الجبهات ـ وتشارك في الهجوم جيوش فرنسا وبريطانيا وروسيا وإيطاليا.

ب. في مجال البحر عملوا على تأكيد الحصار البحري وتضييق الخناق على الأسطول الألماني داخل مياهه الإقليمية.

ج. في مجال الحرب الجوية ـ ينشط الحلفاء باستخدام قاذفات قنابل لقصف أهداف صناعية في ألمانيا.

ثانياً: أهم المعارك في الجبهة الغربية

نخص بالذكر معركتين من أهم معارك عام 1916

1. معركة فردان (اُنظر شكل أهم معارك عام  1916)

اختار فولكنهاين فردان هدفاً لتحقيق إستراتيجية الاستنزاف. وقد وقع الاختيار على هذه المنطقة الحصينة في الدفاعات الفرنسية لعدة أسباب، منها:

أ. كانت فردان بالنسبة للشعب والجيش الفرنسي رمز الصمود على خط المارن في معارك 5 ـ 9 سبتمبر 1914، وسقوطها سيحدث تأثيراً معنوياً عميقاً لدى الفرنسيين.

ب. تعتبر فردان أحد المفاتيح الرئيسية في خط الدفاع الفرنسي ـ ويرتكز عليها يمين الدفاع بقوات الجيش الثالث الفرنسي ـ غير أن طبيعة المواقع الفرنسية المدافعة كانت عبارة عن نتوء يمكن مهاجمته من عدة اتجاهات في وقت واحد.

ج. يحد نتوء فردان خط حديدي واحد يعتبر شريان إمداد المنطقة ويمثل نقطة ضعف ـ وفي حالة نجاح الألمان في الوصول إليه فسيصاب الموقف اللوجستي للجيش الثالث بالارتباك.

د. سهولة إغراء القيادة الفرنسية وتوريطها ببذل تضحيات بشرية ومادية فادحة وهما ما يتمشى مع فكرة الاستنزاف التي أخذ بها فولكنهاين.

هـ. التعاون الإستراتيجي بين جبهات الحلفاء بهدف تخفيف الضغط الألماني الواقع على فردان.  

و. نتائج ودروس معركة فردان

(1) كانت أكبر المفاجآت في تقارب الخسائر بين الجانبين:

(أ) الخسائر الفرنسية 315 ألف جندي.

(ب) الخسائر الألمانية 280 ألف جندي.

(ج) إجمالي الخسائر 595 ألف جندي.

بذا لم يحقق فولكنهاين هدفه في استنزاف القوى البشرية الفرنسية.

(2) صارت فردان رمزاً للدمار في الحرب الحديثة وتحولت المدينة إلى أطلال.

(3) كان استخدام المدفعية مثالياً من الجانبين ـ وللمرة الأولى تتفوق المدفعية الفرنسية المتوسطة عيار 155مم وتدمر بطاريات الهاوتزر الألماني 420مم.

(4) أهم دروس معركة فردان على الإطلاق هو بروز التعاون الإستراتيجي الفعال بين مسارح الحرب والجبهات ـ فقد كانت أدوار الحلفاء مؤثرة إلى أبعد الحدود في تخفيف قبضة الألمان على فردان حتى نجحوا في جذب الفرق الألمانية إلى الجبهات الأخرى وهي حسب الأهمية:

(أ) هجوم  بروسيلوف الروسي       في الجبهة الشرقية.

(ب) هجوم  السوم البريطاني         في الجبهة الغربية.

(ج) هجوم  ايسونزو الإيطالي        ضد النمسا.

(5) كانت خاتمة النتائج تنحية فولكنهاين من رئاسة هيئة الأركان الألمانية وإعلان فرنسا عن الجنرال بيتان بطلاً قومياً.

2. معارك السوم (اُنظر شكل أهم معارك عام 1916)

خطط لها القائد البريطاني الجنرال ألكسندر هيج ـ ووصفها بعض المعلقين بأن هيج يعاود الهجوم في الاتجاه الخاطئ ـ فقد كان وادي السوم عارياً من الأهداف الإستراتيجية ـ لكن الهدف الرئيسي العاجل كان نجدة الحليف فرنسا من الضغوط الواقعة عليها في فردان ـ استمرت المعركة 140 يوماً ـ وحققت الهدف الرئيسي فمنذ أطلقت أول قذيفة في معركة السوم لم يوجه الألمان أي دعم إلى قواتهم المهاجمة المتورطة في فردان.

كما أوفى البريطانيون بالتعهد بشن هجوم عام متزامن في صيف 1916. ومن أهم ما تذكر به معارك السوم أنها المكان والزمان الذي شهد ميلاد الدبابة سلاح المستقبل.

حين بدأ الهجوم البريطاني في معارك السوم كان الفرنسيون قد وصلوا إلى أقصى حالات الإجهاد في القتال المستميت دفاعاً عن فردان وكانوا في حالة لا تسمح لهم بشن هجوم الصيف الذي تعاهد عليه الحلفاء لكنهم كانوا قد سددوا نصيبهم كاملاً بوقفتهم وصمودهم البطولي في فردان.

نتائج ودروس معركة السوم

أ. التعاون الإستراتيجي المؤثر ـ فبمجرد بدء الهجوم البريطاني في السوم يوم أول يوليه أوقف الألمان هجومهم في فردان يوم 11 يوليه ـ لدرجة أن الفرنسيين تمكنوا من معاودة الهجوم في فردان في 24 أكتوبر وفي 15 ديسمبر ونجحوا في استرداد كل الأراضي التي كانوا قد أخلوها.

ب. قدمت الدبابة صورة مبدئية عن إمكانياتها في حل معضلات حرب الخنادق ـ وأعطت الأمل في الخروج من مرحلة الجمود إلى مرحلة جديدة من خفة الحركة والمناورة.

ج. وصلت الخسائر البشرية إلى أعلى معدلاتها:

·    البريطانيون                 42 ألف جندي.

·    الفرنسيون                 195 ألف جندي.

·    إجمالي الحلفاء             615 ألف جندي.

·    الألمان                    650 ألف جندي.

·    إجمالي خسائر الطرفين   1.265 جندي.

ثالثاً: أهم الأحداث في باقي مسارح الحرب

1. الجبهة الشرقية

نتائج العمليات الحربية في الجبهة الشرقية

كان هجوم بروسيلوف هو أهم أحداث الجبهة الشرقية عام 1916 وقد نتج عنه:

أ. تخفيف شدة الهجوم الألماني الواقع على فرنسا في فردان.

ب. توقف هجوم النمسا ضد إيطاليا.

ج. وصول النمسا إلى حافة الانهيار وكادت تخرج من الحرب لولا وصول النجدة الألمانية.

د. وقوع خسائر بشرية جسيمة في جميع الأطراف بلغت مليون جندي روسي ومليون جندي نمساوي وألماني.

هـ. بدأت روسيا أول الطريق المؤدي إلى الثورة على النظام القيصري والخروج من الحرب.

2. جبهة البلقان

3. جبهة الشرق الأوسط

أ. مصر وفلسطين

ب. العراق 

4. الجبهة الإيطالية

5. جبهة القوقاز

توقع الروس أن تقوم القيادة التركية بنقل الفرق التركية من شبه جزيرة جاليبولي (بعد انسحاب الحلفاء) إلى جبهة القوقاز ـ فسارع الروس بالهجوم في يناير دخلوا كوبروكوى ـ وفي فبراير دخلوا أرضروم ـ وفي مارس احتلوا طرابيزون.

وفي يوليه تابعوا الهجوم واحتلوا بايبورت وارزنكان ـ ودمروا الجيش الثالث التركي ـ وحاول الجيش الثاني التركي دخوله مدينتين في الجنوب هما موش (Mus)، وبيتليس في أغسطس لكن الروس استعادوا المدينتين خلال أسبوع واحد من القتال.

رابعاً: حصاد العام  1916

1. انتهى عام 1916 بخيبة أمل للألمان في معركة فردان ـ فقد فشلوا في تحقيق جميع الأهداف التي سعوا إلى تحقيقها.

بل حققت معركة فردان نتائج عكسية ـ فالدفاع الفرنسي أثبت تماسكه وارتفعت معنويات الفرنسيين جنوداً وشعباً إلى أعلى درجاتها واكتسبوا ثقة هائلة في قيادتهم وفي أنفسهم ـ أمّا الخسائر البشرية واستنزاف القوات الفرنسية التي سعى إلى فولكنهاين إلى إنزالها بالقوات الفرنسية فقد جاء نصيبه منها مقارباً لنصيب الفرنسيين (280 ألف للألمان مقابل 345 ألف للفرنسيين).

2. حقق التنسيق والتعاون الإستراتيجي أفضل النتائج ـ فقد سارعت قوات الحلفاء إلى نجدة فرنسا في وقت الشدة ـ وقامت جميعها بهجمات مؤثرة في جبهات متعددة اضطر معها الألمان إلى تشتيت قواتهم وتخفيف قبضتهم الثقيلة الواقعة على فردان.

3. فشل الهجوم البريطاني في السوم ولم يحقق مكاسب من الأرض ـ لكنه حقق الهدف الإستراتيجي فإليه يرجع الفضل في توقف الهجوم الألماني عند فردان ـ كما تنسب إليه أول تجربة عملية ميدانية للدبابة.

4. حقق هجوم بروسيلوف في الجبهة الشرقية نتائج إستراتيجية إيجابية وأكد التعاون الفعال بين الحلفاء ـ غير أن تكاليفه كانت باهظة ومرهقة للنظام الروسي القيصري.

5. انتصر الألمان مرة أخرى انتصاراً ساحقاً في الجبهة الشرقية ـ أثمر في مساندة النمسا قبل السقوط ـ وأدى إلى إيقاف طوفان الهجوم الروسي الذي شنه بروسيلوف.

6. قدّم الألمان نموذجاً يحتذى في كفاءة النقل الإستراتيجي والقدرة الفائقة على المناورة بالقوات من جبهة إلى أخرى بفضل شبكة السكة الحديد.

7. وقعت خسائر بشرية فادحة في أطراف خمسة قاربت في مجموعها 5 مليون جندي في معارك عام 1916 وهي ـ فرنسا ـ بريطانيا ـ روسيا ـ ألمانيا ـ النمسا.

8. اجتاحت القوات الألمانية دولة رومانيا وأخرجتها من الحرب واستفادت بمواردها الأولية الغنية.

9. أعلن الشريف حسين الثورة العربية على تركيا وانحاز إلى جانب الحلفاء مقابل وعود زائفة لم تتحقق.

10. أكدت بريطانيا حصارها البحري الذي ضربته حول ألمانيا في بحر الشمال. وخرجت متعادلة مع ألمانيا في معركة جوتلاند (Jutland) ـ مما دفع ألمانيا إلى التوسع في شن حرب الغواصات غير المحدودة.