إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع السنغالي ـ الموريتاني






المدن والأقسام الرئيسية
الأقاليم الطبيعية
القبائل الرئيسية
جمهورية موريتانيا
جمهورية السنغال



المبحث الثاني

المبحث الأول

التحولات داخل المجتمع الموريتاني والمجتمع السنغالي

أولاً: المشكلة العرقية في موريتانيا

تعاني موريتانيا، منذ ظهورها كدولة مستقلة على المسرح الدولي، من أزمة (اُنظر ملحق شرح لبعض الكلمات والمصطلحات التي وردت في البحث) سياسية ترتبط بصميم كيانها القومي. ولا غرابة في ذلك إذا أدركنا طبيعة المحددات، التي حكمت نشأتها. فإذا كان من الصحيح أن الدول الأفريقية وعدداً كبيراً من العالم الثالث تشكو من هزال كيانها القومي بالمقارنة ببلاد العالم المتقدم، فإن موريتانيا تندرج في فئة هذه الدول التي تتميز فيها هذه المشكلة بحدة خاصة، إذ إن الكيان القُطري الذي سمي (موريتانيا) اليوم، بل التسمية نفسها، من فعل عامل خارجي وهو التدخل الاستعماري، وليس نتاجاً لمسار طبيعي داخلي، ولم يتم تعيين حدود هذا الكيان بشكله الراهن إلاّ تدريجياً، واستجابة لنفس الاعتبارات الخارجية.

وتكمن الأزمة السياسية في موريتانيا حول المشكلة العرقية، أي مشكلة عدم اتفاق العناصر والمكونات العرقية في المجتمع الموريتاني على صيغة واحدة للسلطة. وليست المشكلة في كيفية توزيع السلطة بين الفصائل المختلفة، وإنما بكيفية تحديد الكيان القومي، الذي تمارس عليه سيادة الدولة، وبالتالي فالمشكلة تعكس ضعف تماسك.

وإذا عدنا إلى الوراء يتبين أن موريتانيا الحالية ليست نتاجاً لمسار طبيعي داخلي، ولم تُحدد تدريجياً، وإنما جاءت نتيجة لاعتبارات خارجية، عندما وضع كوبولاني Coppolani   المسؤول الفرنسي عن المنطقة، (في عام 1899)، مشروعاً بإنشاء موريتانيا الغربية. وفي 27 يونيه 1900، تقاسمت فرنسا وأسبانيا هذه المنطقة من غرب أفريقيا، وأصبح اسمها موريتانيا والصحراء الأسبانية (التي ستسمى فيما بعد " الصحراء الغربية").

إلا أن الغزو الفرنسي تم على مراحل. وقد بدأ جنوباً بالضفة اليمنى لنهر السنغال انطلاقا من السنغال الذي احتله المستعمر في مرحلة سابقة ووسع دائرة سيطرته ناحية الشمال شيئاً فشيئا. ولم يتمكن من التحكم الفعلي والنهائي في الشمال الموريتاني إلا في عام 1936 عندما قضى على آخر مقاومة لقبيلة (الرقيبات)، وأوقف الفرنسيون حركة المور (المغاربة) التاريخية جنوبا، وبدأوا في زيادة عدد السكان في الجنوب من الأفارقة السود رغم وجود عدد كبير منهم في هذه المنطقة من قبل.

وقد اتسعت رقعة الدولة بعد اقتطاع أجزاء من مالي، في عام 1944، والتي صارت تشكل الحوض الشرقي والحوض الغربي. وترتب على هذا الكيان الجديد تجميع شعوب متنوعة قسراً في إطار دولة واحدة وعلى فصل كل منها بمستعمرات أخرى من الجانب الآخر، فالمور مثلاً لهم أشقاء في الصحراء الغربية التي ضمها المغرب بأكملها في عام 1979 والولوف والتوكولور موجودون في السنغال.

وكذلك في جنوب كل من المغرب والجزائر حيث قبائل "التكنة" و"الرقيبات" و "تجكانت" وفي مالي حيث قبيلة "كونتا". أما التوكولور والولوف فيقيمون في السنغال وكذلك السراخولية الذين لهم امتداد فضلا عن ذلك في مالي.

إن عملية تجميع وفصل الشعوب بهذا الشكل التحكمى تعد ظاهرة عامة لا تنفرد بها موريتانيا بل قد لا يشذ عنها كيان سياسي واحد في أفريقيا، جنوب الصحراء، وهي من النتائج المباشرة للتقسيم الاستعماري للقارة الذي على أساسه رُسمت خريطتها السياسية الحديثة. إلاّ أن آثارها ترسخت أكثر في حالة موريتانيا لوجود عوامل ثلاثة تلاقت وتضافرت في اتجاه تأكيد التنافر بين مكونات شعبها. والمهم أن نلاحظ أن هذا الاختلاف المضاعف لا ينشا من أي من هذه العوامل على حدة ولكن من وجودها المتزامن وتفاعلها العضوي. وتتعلق هذه العوامل بالعنصر واللغة ونمط الحياة الاقتصادية.

يُعدّ التعدد العرقي من خصائص البلاد الأفريقية وغيرها من بلاد العالم الثالث. وهي علامة لانعدام اكتمال التبلور القومي الواحد. ولكن يزداد تأثيره عندما يبلغ التباين حد الاختلاف العنصري كما هو الحال بالنسبة لموريتانيا بين " بيض" و"سود". ومع الإقرار التام بما يفتقره " العنصر" من تحديد علمي والتسليم أيضاً لأهمية عامل التزاوج والتخالط في حالة موريتانيا ـ فإنه لا يمكن تجاهل ما للاختلاف العنصري بمعناه المجسد في لون البشرة والسمات الجسدية من تأثير ملموس في حياة المجتمعات.

1. تأثير الاستعمار في المشكلة العرقية

لم يترتب على الخضوع المشترك لشعوب المجتمع الموريتاني الحديث، لإدارة استعمارية واحدة، نتائج إيجابية لمصلحة انصهارها في كيان موحد بل يمكننا القول إن محصلة العهد الاستعماري كرست عوامل الفرقة التي انطوت عليه نشأة موريتانيا.

يلاحظ أن التمايز بين جنوب موريتانيا حيث يغلب السود غير المعربين وشمالها ووسطها حيث يتركز المور ظل واقعاً ثابتاً طوال هذه الحقبة من تاريخ البلاد. فعلى المستوى الإداري تميزت الضفة الموريتانية لنهر السنغال بوجود إداري مكثف يماثل الوضع القائم بالضفة السنغالية للنهر. وكان الشطّان يشكلان منطقة واحدة عاصمتها مدينة سانت لويس السنغالية التي استمرت تقوم بدور العاصمة لموريتانيا حتى 24يوليه 1957، هذا في الوقت الذي لم يقم في الأراضي التي تقطنها قبائل المور، والتي تسميها هي "تراب البيضان" إلا هيكل إداري هزيل لا يقوى على مزاولة إشراف قوي. وكان مرد ذلك لأسباب تاريخية (مجيء الاستعمار أصلاً من الجنوب) وبيئية (سهولة العيش على ضفة النهر وممارسة الحكم فيها بالمقارنة إلى المساحات الشاسعة القاحلة في الوسط والشمال) وثقافية (إحجام المور عن تعلم اللغة الفرنسية)، والتعامل بإدارة تستخدمها كلغة عمل، على عكس السود.

وقد انعكس هذا التباين في اختلاف معاملة الإدارة الاستعمارية لسكان الشمال والوسط من البدو عن معاملتها لسكان الجنوب من المزارعين المستقرين، سواء في موقفهم من التجنيد، إذ لم يجند سوى السود، أو من جباية الضرائب، وإذ انصب تحصيلها بصفة رئيسية من السود الخاضعين وحدهم للضريبة الشخصية نظراً إلى سهولة جبايتها منهم على عكس الحال مع البدو الرحل. وتعمق التمايز في المجال التعليمي، كذلك إزاء مقاومة المور ورفضهم للنظام التعليمي الفرنسي لشدة تعلقهم باللغة والثقافة العربية بسبب ظروف حياتهم البدوية، وعدم ثباتهم في مكان واحد وعدم ملاءمة هذا النوع من التعليم الذي كان يؤهل لتولي أعمال إدارية بسيطة. وانتهت الإدارة الاستعمارية إلى الإقرار للمور وحدهم واستثناءً (بالنسبة لكل شعوب إفريقيا الغربية الفرنسية) بنظام تعليمي خاص يسمى نظام (المدرسة) الذي كان يتيح لأبناء الفئة الأرستقراطية تعلم قدر من مبادئ اللغة العربية وأصول الدين الإسلامي، إلى جانب اللغة الفرنسية، فتركزت المدارس على النسق الفرنسي في الجنوب الموريتاني فقط واستأثر السود بنصيب الأسد من فرص التعليم الفرنسي.

وقد أثر هذا التمايز التعليمي بدوره في تعميق التباين الإداري إذ انبثقت أغلبية كوادر الجهاز الإداري القائم على اللغة الفرنسية من بين الموريتانيين السود خريجي النظام التعليمي الفرنسي فضلاً عن بعض السود من أصل سنغالي استعانت بهم الإدارة الاستعمارية في أول عهدها[1].

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما عمل أسلوب الحكم الاستعماري على تأكيد الاختلاف بين المور والسود؛ لأنه كان يعمل بالمبدأ المعهود (فرق تسد) مستغلاً لصالحه كل التناقضات القائمة ليس فقط بين هذين العنصرين، وإنما بين قبائل المور نفسها حسب مقتضيات المرحلة. فلقد بدأ عهده في مناصرة السود بصفة عامة والطبقات المسحوقة، من عبيد وسبايا، باسم محاربة الاسترقاق وبهدف كسر شوكة الأرستقراطيات الحاكمة وزعزعة قاعدتها. ثم ما لبث أن سعى الاستعمار إلى إيجاد حل وسط معها، بعد أن تخلص بقوة السلاح من رؤوسها المتمردة الصلبة. فعمل على ترجيح كفة قبائل (الزوايا) (اُنظر ملحق شرح لبعض الكلمات والمصطلحات التي وردت في البحث) الدينية بالجنوب على حساب القبائل المحاربة بالشمال، صاحبة الهيمنة أصلاً مع ما ترتب على ذلك من تجاهل لمبادئ إعتاق العبيد، والقضاء على الرق. فلقد حظرت الإدارة الاستعمارية مطاردة العبيد الهاربين، في عام 1901، وألغت الرق في1905 في حين أن المرسوم الفرنسي الذي حّرم الرق صدر في عام 1848، ولكن لم تبدأ في تصفية الممارسات العبودية والخراجية (كمطاردة وسخرة وإتاوات) إلاّ في عام 1946.

وكثيراً ما لجأ المسئولون الإداريون الفرنسيون إلى الحجج العرقية لإقناع واستمالة الأطراف المحلية.

2. تطور المشكلة العرقية بعد الاستقلال

وبعد حصول موريتانيا على استقلالها في 28 نوفمبر سنة1960 (اُنظر ملحق جمهورية موريتانيا) هب عليها منذ اللحظة الأولى تياران أنكرا مبرر وجودها كدولة قائمة بذاتها واستهدفا ضمها إلى كيان آخر: تيار يبغي ضمها للعالم العربي وتيار يريد إدخالها في أفريقيا جنوبي الصحراء.

وما لبث أن طرحت المسألة العرقية في عام 1961 داخل المؤتمر التأسيسي للحزب الذي سيحكم موريتانيا حتى عام 1978 "حزب الشعب الموريتاني". ولكن استقلت موريتانيا فعلاً ولم تذب في غيرها، وكانت الدبلوماسية الفرنسية قد بذلت كل ما في وسعها لبلوغ هذه الغاية، وعلى هذا النحو قدّر لفرنسا أن تكمل ما بدأته عندما فصلت الكيان الموريتاني من قبل. إذ كان إنشاء هذه الدولة يستجيب في هذا الوقت لسياستها الأفريقية، في إطار تصفية استعمارها، وتحويل مستعمراتها منفردة إلى دول مستقلة تدور في فلكها، كما كان يُعدّ خير أسلوب لضمان الاستغلال الآمن لمناجم الحديد الكائنة بالشمال الموريتاني، والوقوف أمام المغرب، الذي لم يكن يعد حينذاك من أصدقائها المضمونين؛ لتعاونه في عهد محمد الخامس مع الأنظمة الوطنية، في إطار "مجموعة الدار البيضاء". ولذلك، وقف حلفاء فرنسا وعلى رأسهم السنغال وساحل العاج، وكذلك تونس، يساندون في الأمم المتحدة الاستقلال الموريتاني. ولذلك لم يستجب السنغال في ذلك الحين ـ إرضاءً لفرنسا، وربما بغرض إقامة دولة عازلة بينه وبين المغرب الذي كان يخشى من ميوله التوسعية ـ لفكرة اقتسام موريتانيا مع المغرب بضم الجنوب الموريتاني إلى السنغال حيث يغلب السود.

لقد ورث النظام المدني ـ الذي رأسه المختار ولد دادة خلال الفترة من عام 1960 وحتى 1978 ـ تركة المشكلة العرقية. وكان اندلاع الاضطرابات العرقية في يناير وفبراير عام 1966 في نواكشوط تأكيداً لتفاقم المشكلة. وقد اختار النظام المدني منذ تلك الاضطرابات عام 1966 أسلوباً لا يزال سارياً في موريتانيا حتى اليوم ومفاده إنكار وجود مشكلة عرقية أو عنصرية فيها لدرجة حظر استخدام كلمات مثل "سود" و "بيض"، أو تسمية الأعراق المختلفة بأسمائها وإبدالها بكلمات لا دلالة عرقية أو لونية لها "كبدو" و "مستقرين". كما رفض فكرة توفير ضمانات دستورية للأقليات أو الأخذ بصيغة الاتحاد المركزي (الفيدرالي).

فوفقاً لمنطق هذه الأيديولوجية، لا توجد مشكلة عرقية أو اجتماعية في موريتانيا، لأن الإسلام لا يقر بمبدأ التمييز بين الناس بسبب اللون أو المركز وكأن تطابق جوهر الرسالة الإسلامية و مضمون الممارسة الاجتماعية المحددة زمانياً ومكانياً للمجتمعات التي أعلنت اعتناقها للإسلام أمر مفروغ منه، لا يقبل الجدل ولا التفكير! ومن المؤكد أن نفي مشكلة واقعية لا يؤدي إلى حذفها من الوجود، وإنما يعني فقط عدم الرغبة في الإقرار بوجودها، من أجل التوصل إلى حلها.

وكان الانقلاب العسكري، الذي أسقط النظام المدني في 10 يوليه 1978، بمثابة رد فعل للنزاع الصحراوي داخل مكونات جماعة المور وتناقضاتها المختلفة. وبعد أكثر من عقد من الزمان، وعبر الكثير من التغيرات العنيفة والتعديلات الهادئة، تمكن الحكم العسكري من صون الكيان الموريتاني وإدخال قدر من التماسك بين صفوف المور. إلاّ أن ذلك كان على حساب توسيع الشقة بين عنصري المجتمع وتفاقم للمشكلة العرقية. ولم يغير النظام الجديد، بحلقاته المتتالية، القوة المهيمنة، التي ظلت برجوازية الدولة تشاركها في السيادة، القوة البرجوازية الخاصة التي ارتقت إلى المكانة الثانية والأرستقراطيات التقليدية التي تراجعت خطوات. ولكن اقتصر مختلف هذه القوى على جناحها العربي فقط ولم يعد لجناحها الأسود تواجداً يذكر على مستوى سلطة الدولة. كما دعمت البرجوازية الصغيرة العربية مراكزها، التي نالتها منذ المرحلة الثانية للعهد المدني، والتي تجعلها القوى المساندة الأولى للكتلة السائدة. ولم يتحقق هذا التوزيع الجديد إلا تدريجياً، ولم يتبلور إلا غداة النزاع مع السنغال، الذي عجل التطور السياسي الداخلي ليبرز الهوية المميزة للنظام العسكري. ولقد تعددت مظاهر تصاعد التوتر العرقي في الثمانينيات. وتمثلت أولها في نشاط الأحزاب، التي قامت على أساس عرقي صريح عند المور والسود على حد سواء، وهي ظاهرة في حد ذاتها تضعف مدلول الوحدة الوطنية. فمن جانب المور، تدعم تنظيمان قائمان على فكرة عروبة موريتانيا وهما البعث والناصريون.

نشأ البعث منذ منتصف السبعينيات، وهو يسير على خط البعث العراقي، ويتلقى منه الدعم والإلهام الفكري. أما حركة الناصريين فظهرت منذ أوائل السبعينيات، واستوحت نهجها من (القذافية) الأولى، وتستمد من ليبيا المساندة. ومن جانب السود، ظهرت العديد من المجموعات الصغيرة ذات التسميات المتغيرة تجمعها أيديولوجياً الجامعة الزنجية ومقاومة تعريب موريتانيا، والمطالبة بحقوق ما تسميهم "بالزنوج الأفارقة" الموريتانيين في سلطة وثروات بلادهم. وتجمعت هذه المجموعات في أوائل 1985، لتنشئ تنظيما موحداً جديداً باسم "جبهة تحرير أفارقة موريتانيا " FLAM.

ثم أقدم كل جانب على العمل العنيف محاولاً ترجمة أفكاره إلى أفعال. فقام التلاميذ السود بإضراب كبير عام 1979 تلته اعتقالات. وفي أبريل 1986، أصدرت (الفلام) (اُنظر ملحق شرح لبعض الكلمات والمصطلحات التي وردت في البحث) "بيان الزنجي الموريتاني المضطهد"، الذي نشر في داكار معلناً هدفه في تدمير "دولة البيضان"، وتوالت منشوراته داخل موريتانيا وفي الخارج وبدا القمع يصيب المتعاطفين معها. ونددت وزارة الداخلية "بالاتصالات الخارجية" التي تجريها "ومساسها بالوحدة الوطنية". وفي نفسه، الشهر وقعت سلسلة من عمليات وضع عبوات ناسفة في نواكشوط ونواذيب. وفي 22 أكتوبر 1987، أعلنت السلطات اكتشافها محاولة انقلاب عسكري، أعقبتها حملة قمع وتطهير واسعة النطاق، تم على أثرها تسريح مئات من عناصر جنس التوكولور من أجهزة الدولة العسكرية والمدنية بسبب الاشتباه في ولائهم. وكان لهذا الحادث آثاره، التي لا تزال حية حتى اليوم. ونما منذ ذلك التاريخ ارتياب السلطات في هذا العرق بالذات، وهو أهم مكونات العنصر الأسود في موريتانيا.

وعلى الجانب الآخر اكتشفت محاولة انقلاب بعثية في مارس 1981، ثم محاولة ثانية في أكتوبر 1983، وثالثة في أغسطس 1988، واعتقلت أعداد كبيرة من العسكريين والمدنيين، وطُهّرت القوات المسلحة من مئات الضباط وصف الضباط والمشتبهين في علاقاتهم بهذا التنظيم. كما اتُهم الناصريون في ربيع 1984 بإثارة الشغب في الأوساط الطلابية، وقطعت موريتانيا علاقاتها بليبيا باعتبارها المحرضة والواقفة وراءهم، واعتقلت العشرات منهم، وعلى رأسهم أمين عام الاتحاد العام للعاملين الموريتانيين في سبتمبر.

وظهرت طريقة جديدة للزحف البطيء، التي اتبعها البعثيون والناصريون على نطاق واسع، معتمدة على التسلل الخفي داخل مختلف الأجهزة بالمراتب المتوسطة والدنيا فضلاً عن تولي بعض شخصياتهم لمناصب عليا في مناسبات معينة. ولا يقوم الأسلوب الجديد على اتفاق صريح بين الفريق الحاكم والتنظيمات المعارضة، بل يمكن أن يتم في غيبة عن اتفاق، حتى ضمني، اعتماداً فقط على الاختراق السري. ولذلك يعد أسلوبا انقلابياً يماثل تغلغل البعثيين في المؤسسة العسكرية في كل من سورية والعراق في الستينيات. وتمكن البعثيون بهذا الشكل من الانتشار في القوات المسلحة، بصفة خاصة، وكذلك فعل الناصريون وإن كان بدرجة اقل، وقد استهدفوا هؤلاء في المقام الأول احتلال مواقع هامة في الإدارة المحلية وخاصة في جنوب موريتانيا على الضفة اليمنى لنهر السنغال في مدن كروسو وكهيدي وسلى بابى على مستوي حكام الأقاليم والولاة ومأموري الشرطة وقادة الحرس الوطني وقوات الجمارك وحرس الحدود، مستندين في ذلك إلى العلاقات القبلية والصفقات السياسية مع المسؤولين الكبار. وكلها ميادين تكاد تخلو تماما من العناصر التقدمية الديمقراطية. وكذلك عمل هذان التنظيمان على توسيع قاعدتهما في أوساط المعلمين والموظفين والإعلاميين والطلبة والتلاميذ.

وقد كان لهذا الحضور المكثف بالأجهزة الأمنية والمحلية في الجنوب أثره الحاسم في تأجيج الأزمة العرقية داخل موريتانيا، وفي تأزيم العلاقات الموريتانية السنغالية، منذ عام 1985، لاسيما وأن لممثلي الدولة المحليين صلاحيات واسعة في نطاق تنفيذ الإصلاح العقاري من خلال إجراءات نزع الأراضي من أصحابها القدامى وإعادة توزيعها على المنتفعين الجدد بصفة مؤقتة ثم بصفة دائمة، بل وزادت صلاحياتهم أكثر بفعل تدابير الطوارئ التي اتخذت بمقتضى القرارين الوزاريين في يوليه عام 1985 وأغسطس 1986. وقدر لنفس هذه العناصر أن تمارس تأثيرها بعد اندلاع الأزمة بين البلدين، خاصة في عملية التهجير وإبعاد مواطنين موريتانيين والاستيلاء على أراضيهم وأملاكهم وفي التحرش بأهالي الضفة المقابلة.

ثانياً: الأزمة في السنغال

لقد تعرض السنغال منذ استقلاله في يونيه عام 1960 إلى عدة فصول ساخنة.

أولها: انفصام عُرَى الاتحاد مع مالي، في أغسطس عام 1960، عندما قبض السنغاليون على القائد السوداني موديبوكيتا في داكار وشحنوه إلى باماكو في عربة سكة حديدية مغلقة، وبعدها مباشرة اجتمع المجلس الوطني السنغالي في جلسة طارئة ليعلن انفصال السنغال عن مالي. وفي نهاية سبتمبر 1960، أعلن السنغال دستوره المستقل.

وثانيها: الصدام بين الرئيس ليوبولد سنجور ورئيس وزرائه، محمد وضيا، في ديسمبر 1962.

وثالثها: اضطـرابات ديسمبـر عام 1963 ومايو 1968 ومارس 1969، وكلها أعاصير أمكن حسمها والحد من خطورتها.

إن الأزمة الحقيقية في السنغال تكمن أساساً في الشرعية، إذ تعد هذه الدولة منذ استقلالها امتداداً طبيعياً وتنظيمياً وعقائدياً للدولة التي أسسها الاستعمار الفرنسي؛ لأنها قامت على أكتاف فئة من المثقفين بالثقافة الفرنسية، والذين كونوا أيديولوجياً الدولة السنجورية على أساس المزج بين النزعة الإصلاحية الاجتماعية الأوروبية المنهل والعلمانية المستمدة من الفقه الدستوري الفرنسي وعقيدة الزنوجة، وبالتالي فليس هناك مكان للهوية الإسلامية على الرغم من أن 90% من الشعب يدين بالإسلام.

ومنذ أوائل عام 1988، يعيش السنغال أزمة سياسية مرت بمراحل متفاوتة الحدة، مختلفة الأشكال، من التناطح الساخن إلى المقاومة السلبية. ومن الأهمية أن ندرك أن الأزمة السنغالية الموريتانية إنما وقعت متزامنة مع تطور الأزمة السياسية السنغالية بحيث تلاقى وتضافر المساران في اتجاه واحد، ليتفاعلا وليؤثر كل منهما في الآخر ويتأثر به. ولذلك، لا يمكن فهم أبعاد النزاع الموريتاني السنغالي ولا تداعياته ولا الشكل العنيف الذي اصطبغ به بمنأى عن فهم الأزمة السياسية السنغالية.

وتستمد الأزمة السياسية في السنغال طابعها البنيوي من كونها "أزمة هيمنة" والمراد بها عدم دعم سيادة الفصيلة المهيمنة نتيجة خلخلة قيادتها داخل الكتلة، التي تجمع كافة القوى السائدة من جانب، وتزعزع سلطتها على المجموعات الواقعة خارج هذه الكتلة بسبب تناقض نفوذها على القوى الاجتماعية المساندة لها، من الجانب الآخر.

1. الصراع السياسي والحزبي

ويتسم الصراع بين الحزب الحاكم في السنغال وأهم أحزاب المعارضة بالحدة منذ أوائل عام 1988، تاريخ الانتخابات الرئاسية والتشريعية. ويعجز الطرفان عن الاتفاق على قدر أدنى من المبادئ، ينعقد حولها التوافق العام، حيث أن المعارضة تنازع أصلاً في نتيجة هذه الانتخابات على اعتبار أنها تقلب الحقيقة رأساً على عقب.

ويعكس احتدام الصراع الحزبي والسياسي أزمة الهيمنة، لأن تزعزع الهيمنة سواء داخلياً أو خارجياً يؤثر في الصفة التمثيلية للفريق الحاكم، الذي يزعم امتلاكها باعتباره الممثل الصحيح للقوة المهيمنة: برجوازية الدولة.

ولم يتوقف مسار التدهور إلا بسبب انفجار الأزمة بين السنغال وموريتانيا، في 9 أبريل 1989، التي حملت الحكومة والمعارضة على إسكات خلافاتهما، ولكن لم يدم الاتحاد بينهما طويلاً، وجاء مستهل عام 1990 ليؤكد تجمع أسباب التناطح الحزبي من جديد مع بقاء التوافق العام مفقودا ينتظر حلاً.

إن لحظات احتدام الصراع السياسي، التي تتخذ شكل الدورات (25 فبرايرـ أول مايو 1988 و 7 مارس -9 أبريل 1989 ومن 28 فبراير 1990)، كشفت بوضوح أن المجتمع الحضري السنغالي أصبح يعاني من مرض (الشغبية). ويقصد بها قابلية المجتمع للانفجار عند وقوع حادث معين يقوم بدور المفجر، وهي قابلية تمتد زمنياً. ويقوم الانفجار بتفريغ طاقة مكبوتة من السخط في شكل أعمال شغب عنيفة، تتجه إلى أهداف معينة لما تحويه من معان استفزازية في أعين القائمين بالشغب. ومن هذه الأهداف: الحكومة ومظاهر الترف والوجود الأجنبي. وتلتقي هذه الحالة النفسية الجماعية بظاهرة التخريب والاعتداء لتولد ظاهرة اختلال الأمن التي يعاني منها السنغال، منذ أوائل عام 1988، باعتراف حكامه. هذا ويلاحظ أن أوساطاً معينة من الحزب الحاكم والمعارضة لا تتردد في استغلال هذه الحالة لمصلحتها، فتلجأ إلى تأجير عناصر معينة للقيام بعمليات اعتراض وتخويف. ولقد ظهرت بوادر ذلك في (المليشيات)، التي كونها كل من الحزبين الاشتراكي والديموقراطي أثناء الحملة الانتخابية، لحماية أعضائه مستعينين في سبيل ذلك بخدمات شرطيين مسرحين و(عاطلين) محترفين مع الاستعداد للانتقال في رأي بعض المراقبين إلى عمليات إرهابية بمعنى الكلمة[2].

ظهرت حالة الشغبية العامة قبل وقوع الأزمة السنغالية الموريتانية، في غضون الانتخابات، واستفحلت خلال الأيام الساخنة لهذه الأزمة، عندما قام حادث (دياوارا/سونكو) بدور المفجر، وبلغت حالة الشغب عندئذ قمتها. كما عادت حالة الشغبية، بعد وقوع الأزمة بأكثر من عام، مع عودة التحرش بين الحكومة والمعارضة.

2. نشاط أرستقراطيات إقليم النهر

كان لأرستقراطيات إقليم النهر (نهر السنغال) قدرة كبيرة على التنظيم والدفاع عن مصالحها وخاصة الأرستقراطية البولارية. ولقد أنشأت في عام 1947 (الاتحاد العام للمنحدرين من وادي النهر) (UGOVAF) و(الجمعية لبعث البولار) وكونت مجموعة ضغط، كانت أول من ألح على ضرورة استغلال الإمكانيات الاقتصادية لنهر السنغال وهي مدفوعة في ذلك بشعورها بالإحباط من الوضع الهامشي، الذي ظل إقليمها يعيش فيه على أطراف منطقة النمو الاقتصادي والاجتماعي، والذي ترسخ أكثر بعد نقل العاصمة من سانت لويس إلى داكار. وضَمّت مختلف الحكومات، التي شُكِّلت في السنغال منذ استقلاله دائماً، بعض أعضاء هذه المجموعة ضماناً لتمثيل مصالحها.

ومنذ بداية اشتداد الاحتكاكات مع الحكومة الموريتانية، في عام 1985، أخذت المجموعة المنظمة في الاتحاد العام للمنحدرين، تعقد الندوات والاجتماعات وتصدر البيانات والمنشورات تعرب فيها عن آرائها في المشاكل المطروحة مع موريتانيا. فتبدي تحفظها على اتفاق (الاج)، الذي توصلت إليه الحكومتان السنغالية والموريتانية، ثم تشجب حكومة نواكشوط لعدم التزامها به، في رأيها، ثم يذهب وفد منها لمقابلة رئيس الجمهورية، في 3 أبريل عام 1988، لعرض مطالبها عليه. وفي يونيه عام 1988، تقدم هذه المجموعة على إنشاء (حركة 18 يونيه) في اجتماع تأسيسي، حضره كافة شخصياتها وكوادرها، وظهرت الأرستقراطية البولارية كقوة قيادية تسعى إلى جمع شمل أعيان الإقليم على اختلاف انتماءاتهم العرقية. وقدمت، في سبيل ذلك، تصوراً إقليمياً لحركتها على أساس الوحدة الجغرافية السياسية للمنطقة، التي تتشكل على جانبي النهر من (الفوتا تورو) و (الوتا تورو) و (الوالو) و (الفاديماجا) و (غيد ماخا). وأكد القرار الصادر عن الاجتماع التأسيسي على أهمية اعتبار مشكلة إقليم نهر السنغال مشكلة قومية تمس الشعب السنغالي بأسره وطالب الحكومة أن تولي اهتمامها بها. واعتنى، كذلك، بالجانب التنظيمي بإنشاء لجنة للمتابعة ولجنة مصغرة تمثل فيها كل ولايات السنغال . واكتسبت حركة 18 يونيه قوة إضافية في غضون الأزمة السنغالية الموريتانية وبدت كأحد الأطراف الفاعلة على الساحة السياسية التي لا تملك الحكومة تجاهلها وتجاهل آرائها في مختلف بنود الخلاف.



[1] تركزت المدرستان الوحيدتان لإتمام الدراسات الثانوية في الضفة اليمنى لنهر السنغال في بوجي وكهيدي ولم تتجاوز نسبة التغطية المدرسية في موريتانيا عام 1948 عن 1.6% (4%في أفريقيا الغربية الفرنسية

[2] نفذت أربع عمليات نسف في أبريل 1988. ويتشكك المراقبون في وجود تنظيم سري جديد بهذا الاسم. ويرون فيها بصمات مباحث أمن الدولة، أو المعارضة. ووقعت عملية أخري، في ديسمبر 1988، أعلنت `جبهة تحرير الشعب السنغالي` مسؤوليتها عنها. وأجريت التحقيقات مع شرطيين مسرَّحين، ومع الحزب الديموقراطي، وخلالها، تراجع أحد المتهمين عن أقواله الأولى، بالتواطؤ مع الحزب المعارض، ليتّهم عناصر من الحزب الحاكم، الذي يرأسه جان كولاني (سوبي) 20 أكتوبر 1989. ولاحظ المراقبون المستقلون استعانة الحزب الاشتراكي، من جديد، بهذه العناصر المحترفة، مع عودة التوتر إلى الشارع، في أوائل عام1990