إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراعات في دول حول النيل والتغلغل الأجنبي، وأثره على الأمن القومي






جنوب شرق آسيا
دول الخليج العربي



المبحث الأول

المبحث الأول

الأهمية الجيوبولوتيكية والإستراتيجية لدول حوض النيل

يُعد حوض نهر النيل ظاهرة طبيعية وجغرافية فريدة، وهو من أهم أحواض القارة الأفريقية، ويخترق إحدى عشرة دولة أفريقية، بإضافة جمهورية جنوب السودان الوليدة. وهذه الدول مختلفة في سماتها السياسية والاجتماعية، وتركيباتها السكانية والعرقية، وعاداتها وموروثاتها الثقافية، وأيضاً في الانتماء العربي أو الأفريقي، وكذا في لغاتها ولهجاتها؛ ومع هذا التباين نجد أن نهر النيل قد وحدها جميعاً في وحدة مائية مشتركة هي حوض النيل، الذي تتقاسم كل هذه الدول مياهه.

أولاً: الأهمية الجيوبولوتيكية لدول حوض النيل

تعد مياه النيل ثروة مشتركة لدول الحوض جميعاً، يحق لها الانتفاع بها على جميع الأوجه، بقدر ما أقرته الاتفاقيات السابقة على الاستقلال، والاتفاقيات التالية التي تستند إلى قواعد القانون الدولي المنظم لقواعد استخدام الأنهار الدولية والعابرة للحدود في غير الأغراض الملاحية.

وهي قد وضعت معايير قانونية لضبط الاستخدام لكافة لأعضاء الحوض النهري كافة، وفقاً لظروف هذه الدول، مثل عدد السكان، وكمية الأمطار الساقطة على إقليم الدولة، ووجود المياه البديلة أو عدم توفرها، وكذا الحقوق المكتسبة، أي الاستخدامات السابقة لمياه النهر المستقرة لفترة طويلة.

أما فيما يخص مياه نهر النيل، فقد بدأ التنافس عليها يشتد بعدما شمل الجفاف مناطق كثيرة بدول الحوض، في الثمانينيات من القرن الماضي، ومن ثم أصبحت مشكلة العجز المائي تنذر بالخطر، وتؤدي إلى نزاعات ثنائية أو إقليمية داخل الحوض، ولهذا أصبح مشكل المياه وإدارتها يمثل جزءاً رئيساً من إستراتيجية دول حوض النيل.

إن قضية العجز المائي أصبحت هي الداعية لحدوث الصراعات على المياه في حوضيه الشرقي والجنوبي، سواء من العوامل الداخلية، أو من أدوار القوى الخارجية التي تدفع هذه الدول للصراع فيما بينها. إذ إن المياه هي العنصر الأساس لتحقيق الأمن الغذائي للشعوب، وتحقيق المطامح الاقتصادية.

ارتبطت عناصر الأمن القومي الإستراتيجية بالعناصر الجيوبولوتيكية التي تركز على مطالب الدولة، من حيث المساحة لتحقيق اكتفائها الذاتي، ونضالها من أجل مجالها الحيوي، وفكرة صراعها على حدودها السياسية، وبقائها أو فنائها. وتعد عوامل السياسة الجغرافية وسياسة الحدود من أهم العوامل المؤثرة إيجاباً وسلباً على علاقات الدول، وذلك لتأثيرها المباشر في صياغة العلاقات السياسية الخارجية وتحديد طبيعتها، إقليمياً وعالمياً. أما البُعد الجغرافي فإنه يحدد أهمية البُعد الاقتصادي ودوره.

إن أمن منابع النيل أمر مهم لقضايا الأمن القومي لدول الحوض، على ضوء ما تموج به هذه الدول من مشكلات ومتغيرات سياسية تفرض نفسها على تشابك أمنها القومي. كما أن هناك اعتبارات متنوعة تؤكد تفاعل الأمن القومي لهذه الدول، ناتجة عن خصائص مواقعها الجغرافية، ومهدداتها الجيوبولوتيكية، وإمكاناتها المائية، وأراضيها الزراعية، وباقي ثرواتها.

1. حوض النيل من المنظور الجيوبولوتيكي

أ. الجغرافيا السياسية لدول حوض النيل

تتكون المنطقة الجغرافية السياسية لدول حوض النيل من إحدى عشرة دول مستقلة، لكل منها كيانها السياسي وصفاتها المميزة، من حيث الإنتاج والاستهلاك، وترتبط هذه الدول ارتباطاً وثيقاً بالظروف الطبيعية والجغرافية والمناخية، كما تتأثر بمياه النيل.

وتمثل دول حوض النيل 18% من دول القارة الأفريقية. ويحتل حوض نهر النيل حوالي 2.9 مليون كم2، تمثل 10% من مساحة القارة، ويتكون حوض النيل من إحدى عشرة دولة، هي: أوغندا ـ كينيا ـ تنزانيا ـ رواندا ـ بوروندي ـ الكونغو الديموقراطية ـ إثيوبيا ـ إريتريا ـ السودان ـ جنوب السودان ـ مصر (اُنظر خريطة دول حوض النيل).

وتعد مصر والسودان دولتي مصب لتشابه الظروف والحاجات المائية، ولأنهما دولتا المجرى الأخير لنهر النيل. أما باقي دول الحوض فتنقسم إلى دول الحوض الشرقي ودول الحوض الجنوبي، وتعد دول الحوضين دول المنابع، سواء في الهضبة الإثيوبية أو هضبة البحيرات العظمى.

ب. منابع مياه هضبة البحيرات الاستوائية العظمى

تُعد كل من أوغندا، وكينيا، وتنزانيا، ورواندا، وبوروندي، والكونغو الديموقراطية، من دول الهضبة الإستوائية. وتتكون مصادر مياه الهضبة الاستوائية من بحيرات: فيكتوريا ـ ألبرت ـ كيوجا ـ إدوارد ـ جورج ـ كيفو، وأنهار: نيل ألبرت - نهر السمليكي- نهر كاجيرا، الذي يغذي بحيرة فيكتوريا بحوالي ستة مليارات م3. وتعد منطقة البحيرات العظمى من أغزر مناطق حوض النيل أمطاراً، وتبلغ 1280 مم في المتوسط في العام. فالمصدر الرئيس للنيل هو بحيرة فيكتوريا، التي يبلغ حجمها 3000 مليار م3، وارتفاع منسوبها 1134 م، ومخرجها هو نيل فيكتوريا (بالقرب من جنجا)، ويصل إيرادها السنوي 114 مليار م3، يأتي منها 98 مليار م3 من الأمطار، و16 مليار م3 من روافدها، وهي تقع داخل الحدود السياسية لكل من أوغندا وكينيا وتنزانيا.

وتفقد البحيرة 81% من إيرادها سنوياً بسبب البخر، ويصل تصرفها إلى بحيرة كيوجا 21.5 مليار م3، وتمر إلى بحيرة ألبرت، بالإضافة إلى 3.6 مليار م3 من نهر السمليكي، و6.3 مليار م3 من روافدها الأخرى ومن بحيرة ألبرت، يخرج نيلها حتى نمولي، ثم يبدأ بحر الجبل الذي يصل تصرفه 30 مليار م3، ثم يجتاز منطقة السدود التي يُفقد فيها 15 مليار م3 ليصب في النيل الأبيض عند ملكال.

وتعد البحيرات الاستوائية هي مصدر المياه الدائم. وعلى الرغم من ضآلة كمية إيراداتها طوال العام، التي تمثل 16% من إيراد النيل، إلا أنها مستمرة ومستقرة طوال العام، وتعد المصدر الرئيس في فترة الجفاف التي تنعدم فيها الأمطار الإثيوبية.

ج. منابع الهضبة الإثيوبية

تُعرف هذه المنابع بالموارد الموسمية لتساقط أمطارها، في الفترة من مايو حتى ديسمبر، وتبلغ متوسط كمية أمطارها 1200 مم، وتعادل إيراداتها حوالي 84% من جملة إيرادات منابع النيل، ومن أنهارها السوباط ورافديه نهر البارو، والبيور، والأول يمد السوباط بحوالي 13.3 مليار م3، والثاني يمده بحوالي 8.2 مليار م3، بالإضافة إلى 1.5 مليار م3 من جبال الأمتونج، وتصبح جملة إيراداته 23 مليار م3، يُفقد منها في نهر السوباط وروافده سبعة مليارات م3 في خور مشار، فيبلغ صافي إيراده 16 مليار م3، يفقد منها أثنـاء جريانـه 2.5 مليار م3، ليصبح تصرفه في النيل الأبيض عند ملكال 13.5 مليار م3.

يستمد النيل الأزرق مياهه من بحيرة تانا بإثيوبيا، وتبلغ مساحتها ثلاثة آلاف كم2، وتصرفها عند مخرجها 3.8 مليار م3. وتصب في النيل الأزرق عدة روافد، بحيث يصل تصرفه عند الرصيرص 50 مليار م3. ويلتقي النيل الأزرق برافديه، نهري الدندر والرهد، ويمده الأول بحوالي ثلاثة مليارات م3، ويمده الثاني بنحو مليار م3، فيصبح تصرفه 54 مليار م3، يفقد منها حوالي ستة مليارات م3 نتيجة البخر، ويبلغ متوسط إيراده 48 م3. وبعد التقاء النيلين الأزرق والأبيض عند الخرطوم، يتكون نهر النيل يغذيه نهر عطبرة بحوالي 12.5 مليار م3.

ويبلغ المتوسط السنوي لإيرادات نهر النيل عند أسوان كالآتي:

إيرادات النيل الأبيض وفروعه                                24 مليار م3

إيرادات النيل الأزرق وفروعه                                 48 مليار م3

إيرادات نهر عطبرة وفروعه                                   12 مليار م3

إجمالي إيرادات النيل مقدرة عند أسوان                       84 مليار م3

2. المياه جيوبولوتيكياً

تُعد الموارد الطبيعية، وفي مقدمتها المياه، المحرك الرئيس داخل أي دولة لأنشطتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وعلى هذا فمياه النيل ثروة إقليمية مشتركة لكل دول الحوض، أُقرت حصصها في الاتفاقيات التي أيدها القانون الدولي.

ازدادت الأهمية الجيوبولوتيكية للمياه اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وسادت نظرة إستراتيجية أن الأعوام القادمة ستشهد صراعاً على المياه في منابع النيل الاستوائية بالبحيرات العظمى، والذي يدل على ذلك الصراعات الإقليمية بين قبائل الهوتو والتوتسي التي امتدت لتشمل الكونغو الديموقراطية وأوغندا ورواندا وبوروندي، تؤيدها وتساندها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، لتحقيق أهدافها الإستراتيجية في منابع النيل. كما تحاول الولايات المتحدة الأمريكية التدخل في السودان لإسقاط النظام السياسي، كما لعبت دوراً في فصل الجنوب. إن الحرب القادمة ستكون من أجل المياه في منطقة حوض النيل بسبب النقص العالمي في المياه، وزيادة عدد السكان، بالإضافة إلى عامل الجفاف المتزايد نتيجة التغيرات المناخية.

3. تأثير الحاجة إلى المياه

إن زيادة استهلاك المياه نتيجة الزيادة السكانية، مع نقص الموارد المائية، والاستهلاك غير المرشد، سوف يصيب اقتصاديات دول الحوض بضربات موجعة، حيث إن معظمها يعتمد على القطاع الزراعي، ما قد يؤدي لفشل الوفاء بالمتطلبات الغذائية لدول الحوض.

هذا إضافة إلى ما تخلقه الأزمات الاقتصادية من تداعيات اجتماعية وسياسية، تتمثل في حالة عدم الاستقرار، والتبعية الاقتصادية والسياسية. أما على الجانب البيئي فإن نقص المياه والجفاف يؤدي إلى تدهور الغطاء النباتي، وما يتبعه من انجراف التربة والتصحر.

ثانياً: الأهمية الإستراتيجية لدول حوض النيل

1. أهمية منطقة حوض النيل

تضم منطقة حوض النيل عدة وحدات سياسية، تبلغ إحدى عشرة دولة، وعدة أقاليم مناخية ونباتية. كما تختلف في أنحائها السلالات والحضارات واللغات والأديان، ويربطها جميعاً مشاطأتها لنهر النيل، الذي يبلغ طوله 6670 كم، ويقطع نحو 35 درجة عرض، من 30-  3° جنوباً إلى 36-  31° شمالاً، ويضم ستة أقاليم مختلفة هي: الاستوائي ـ شبه الاستوائي ـ الموسمي ـ الحار ـ المداري ـ المعتدل (مناخ البحر المتوسط). وهذا التعدد في الأقاليم المناخية يحقق تنوعاً في المحاصيل وأنماط الزراعة، ما يمكن معه، لو خلصت النوايا، تحقيق الأمن الغذائي لسكان الحوض كافة، ومن ثم تقليل التبعية الاقتصادية والسياسية، والاعتماد على القوى الخارجية التي بلا شك تقاوم فكرة التكامل، بل محاولة ذلك،  بين دول حوض النيل، تنفيذاً لمصالحها الاقتصادية وأجندتها السياسية، التي تدعو إلى انكفاء الوحدات السياسية للداخل ما يقلل من فرص التعاون الإقليمي.

تطل بعض دول الحوض على الساحل الغربي للبحر الأحمر، فتبلغ طول السواحل الإريترية حوالي 435 كم، وتملك 126 جزيرة داخله. بينما تبلغ الشواطئ السودانية حوالي 309 كم طولاً، أما مصر فيبلغ طول شواطئها على البحر الأحمر 898 كم.

في حين تطل مصر فقط على البحر المتوسط، كما تطل كل من كينيا وتنزانيا على المحيط الهندي من ناحية الغرب.

ويمكن تصنيف دول حوض النيل الإحدى عشرة سياسياً على النحو التالي: (اُنظر خريطة دول حوض النيل)

أ. دول تقع معظم أراضيها أو كلها داخل حوض النيل، وهي: مصر، والسودان، وجنوب السودان، وأوغندا، ورواندا، وبوروندي، وإثيوبيا.

ب. دول تقع مساحات محدودة من أراضيها داخل الحوض، وهي: كينيا، وتنزانيا، والكونغو الديموقراطية، وإريتريا.

2. توجهات الإستراتيجية القومية لدول حوض النيل

يمثل اتجاه حوض النيل أحد الاتجاهات الإستراتيجية المهمة التي تلبي متطلبات الأمن الإقليمي لدول الحوض كافة، وكذا الأمن القومي لكل دولة من دوله، لما يتضمنه هذا الاتجاه في أحد أبعاده الرئيسة، وهو الأمن المائي. بالإضافة إلى الاهتمامات الأمنية الأخرى التي تهم هذه الدول وتحقق حاجاتها الفعلية، وحجم حدود مصالحها المتبادلة، بالإضافة إلى مواقفها من الصراعات والقضايا الإقليمية.

أ. توجهات الإستراتيجية السياسية.

تعيش معظم دول الحوض صراعات داخلية ونزاعات إقليمية، لهذا فإن أنظمة هذه الدول تسعى لتأمين بقاء النظام، كما أن المعارضة في معظم دول الحوض، سواء كانت مسلحة أو غير مسلحة، تحظى بتأييد دول الجوار الإقليمي المتبادل فيما بينها. ويُلاحظ ذلك في مثالي هضبة البحيرات الاستوائية، حيث تنتقل المعارضة، سواء كانت مسلحة أو غير مسلحة بين دول الإقليم وتلقى الرعاية والتأييد من أنظمة في مقابل أنظمة أخرى. وكذلك في الحوض الشرقي، حيث تحظى المعارضة ببعض دول القرن الأفريقي بتأييد النظام الإثيوبي، وقد تتعدى ذلك لتحظى بالتأييد الكيني (حالة الصومال على سبيل المثال).

إن قضايا الصراعات فيما بين دول حوض النيل تعكس طبيعة متشابكة ومتداخلة، بحيث يصعب فصل تأثير قضية عن أخرى. ومعظم دول الحوض تعيش في توتر سياسي داخلي، قد تصل لصراعات عرقية في ظل حكم يعتمد على ديموقراطيات هشة تمثل واجهة لتلقي المساعدات الاقتصادية من الدول والمؤسسات المانحة.

ونتيجة التقسيم الاستعماري للحدود، الذي لم يراعِ الانتشار القبلي في أكثر من دولة نتيجة التقسيم الحدودي القائم على غير دراسة حقيقية واعية، تُعد مشكلة الهوية المزدوجة أو المتعددة التي تمر بها بعض دول حوض النيل، وبصفة خاصة دول الهضبة الاستوائية وشمالها، أحد الأسباب الرئيسة التي تؤثر على علاقات هذه الدول ببعضها، بل وتؤثر أيضاً على توجهها السياسي. ويظهر ذلك في صراعات رواندا وبوروندي، وصراعات السودان قبل الانفصال مع إقليمه الجنوبي، وكذا صراعات السودان مع أوغندا في دعم كل طرف لتيارات المعارضة للطرف الآخر، وكذا تدخل أوغندا في الكونغو الديموقراطية الذي وصل إلى حد التدخل العسكري.

ب. توجهات الإستراتيجية الاقتصادية

(1) ضعف البنية الأساسية لدول حوض النيل انعكس على ضعف البنية الاقتصادية لها، ما أدى إلى عدم تمكن معظم دول الحوض من تطوير اقتصادها لتحقيق الرفاه لشعوبها، كما أدى الضعف الاقتصادي إلى اعتمادها خارجياً على المنح والقروض، التي زادت من تبعيتها السياسية وأثر على علاقاتها بدول الجوار الإقليمي.

(2) ضعف التبادل التجاري بين دول الحوض فيما بينها، حيث إنها جميعاً تعتمد على تصدير المواد الخام دون المصنعة، ما أدى بدوره إلى ضعف التبادل التجاري بينها واعتمادها على الأسواق الخارجية، وخاصة الأوروبية منها، ما خلق حالة من التنافس البيني لصالح الدول الأجنبية.

(3) التبعية الاقتصادية لدول الحوض للدول الغربية، إما بحكم أنها كانت من دول الاستعمار القديم الذي ربط عملة هذه الدول بعملته، مثل استعمال الفرنك الفرنسي إلى فترة قريبة في الدول الأفريقية الفرانكفوتية، حتى بعد استقلالها على سبيل المثال، أو الاعتماد على سوق دول أوروبية معينة لتصدير المواد الخام والمواد التعدينية فقط، مما جعلها غير قادرة على تحقيق مشروعات طموح للتصنيع أو إقامة نهضة تكنولوجية.

(4) تشكل مشاكل النزوح واللاجئين الناجمة عن الصراعات العرقية والإثنية، والممارسات الحكومية الخاطئة لإدارة النزاعات وحلها، تمثل عبئاً اقتصادياً على هذه الدول، وهي في الأصل ذات اقتصاديات ضعيفة أو منهكة، في ظل اعتمادها على المساعدات، مع ضعف الاستثمارات الأجنبية فيها.

ج. توجهات الإستراتيجية المائية

تختلف التوجهات الحالية للإستراتيجية المائية لدول الحوض، وهناك عدة رؤى، منها:

(1) رؤية التعاون البيني

استمرت منذ فترة الاستقلال حتى فترة قريبة، توحدت فيها الرؤى للإستراتيجية المائية من خلال عدة مشروعات قامت خلال فترات زمنية، دعت إلى التعاون من خلال عدة مشروعات، مثل:

(أ) الهيدروميت: الذي بدأ مشاوراته عام 1961، من خلال مشروع الدراسات الهيدرومترولوجية لحوض البحيرات الاستوائية، وكان من المنتظر إقامة المثيل له للهضبة الإثيوبية، ولكن لم تتواصل المحاولات الرامية لاستكمال المشروع لاختلاف توجهات بعض دول الحوض.

(ب) الإندوجو: الذي أُنشئ عام 1983، وهو تجمع دول حوض النيل المعروف باسم "الأخوة"، إطاراً للتعاون والتنسيق.

(ج) التيكونيل: الذي أُنشئ عام 1992، لجنة للتعاون الفني للتنمية وحماية البيئة في حوض النيل، والذي تضمن 22 مشروعاً لحوض النيل بصفة عامة، ولحوضيه الشرقي والجنوبي في إطار خمسة مجالات رئيسة للتنمية.

(2) الرؤية أو التوجه الفردي

القائم على وجهة نظر بعض الدول في هدم الأطر القانونية القديمة، التي تمت إقامتها خلال الحقبة الاستعمارية، بحجة عدم قدرتها على اتخاذ قرارها في توقيت عقد هذه الاتفاقية لأنها لم تكن كاملة السيادة، وترى ضرورة قيام تعاون إطاري جديد، وهذا ما ظهر في التوقيع المنفرد على اتفاقية عنتيبي من ست دول من دول المنابع في مواجهة مصر والسودان دولتي مصب، وهما تدافعان عن مصالحهما وحقوقهما المكتسبة طبقاً لقواعد القانون الدولي والأعراف الدولية المستقرة.

(3) رؤية الإطار الجماعي

وهي تعني حدوث تقارب واتفاق كامل في التوجهات الإستراتيجية لتحقيق التعاون في إطار جماعي لكل دول الحوض، في منظومة للتعاون الواقعي لصالح جميع الأطراف في حوض النيل، لتعظيم الاستفادة من موارد النيل والاستغلال الأمثل للموارد الحالية، وتقليل الفواقد لزيادة موارد جميع دول الحوض، مع تقسيمها في إطار عادل يحقق العدالة ويراعي المبادئ الأساسية في التقسيم، التي أقرتها قواعد الاستخدام المنصف والعادل لمياه الأنهار الدولية.

د. توجهات الإستراتيجية الثقافية والاجتماعية

إن النظم السياسية في معظم دول حوض النيل تعاني من صراعات داخلية، جعلت هذه النظم لا تركز على التنمية الاجتماعية والثقافية، ولهذا فإن توجهات الدول تركز على تحقيق الولاء السياسي بحكم عدم مقدرتها على تنمية المجتمع ثقافياً واجتماعياً. ورغم ذلك فإننا نجد هذه المجتمعات يعلو فيها الولاء القبلي عن الولاء الوطني، وينتج عن ذلك أن دوائر اهتمام دول حوض النيل على الصعيد الثقافي والاجتماعي لا توجد بينها رابطة إستراتيجية حقيقية تؤدي إلى تجمع هذه الدول بدلاً من تفككها، وتركها للأطراف الخارجية الفاعلة القادرة على ملء هذا الفراغ.

وما يدل على ذلك نجد أن السياسة الأمريكية في القرن الأفريقي تجاوزت حدوده الجغرافية والسياسية لتشمل معه معظم منطقة هضبة البحيرات فيما يُعرف بمنطقة القرن الأفريقي الكبير، وتلاقت السياسة الأمريكية العسكرية مع السياسة الأمريكية الاجتماعية والثقافية لتحقيق المصالح وتنميتها، المصالح القائمة على الهيمنة والسيطرة على النظم السياسية والقرارات القومية، ما أدى إلى زيادة التنافر بين دول حوض الحوض وليس تجمعها.

3. الأمن المائي الإقليمي والقومي

أ. مفهوم الأمن القومي

هو القدرة على توفير أكبر قدر من الحماية والاستقرار للعمل الوطني والقومي في كل المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية والعسكرية والبيئية في الدولة، ضد كل أنواع التهديدات الداخلية والخارجية، سواء إقليمياً أو عالمياً. أي أن مفهوم الأمن لا ينصرف إلى السيادة العسكرية فقط، بل يضم الأبعاد التنموية إلى جانب الأبعاد العسكرية. ومن ثم فإن مفهوم الأمن يكون "هو قدرة المجتمع على الاحتفاظ بذاته ومصالحه وقيمه الجوهرية في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية". ووفقاً لهذا المفهوم، فإن اعتبار الحفاظ على الموارد الطبيعية (والمائية منها) هو أحد مكونات الأمن القومي.

ب. مفهوم الأمن المائي

يُقصد بالأمن المائي، المحافظة على الموارد المائية المتوافرة، واستخدامها في الري والشرب والصناعة، والسعي بكل السبل للبحث عن مصادر مائية جديدة وتطويرها ورفع طاقات استثمارها لتأمين التوازن بين الموارد المائية المتاحة والطلب المتزايد عليها، ويمكن القول إن الأمن المائي يفوق كل ما سواه، نظراً لإمكان تحقيق مزيد من الغذاء، كما أنه لا يوجد بديل عن المياه في الوقت الذي توجد فيه بدائل أخرى للطاقة.

ج. العلاقة بين الأمن المائي والأمن القومي

يُعد المجال الحيوي للدولة هو المناطق أو الدول المرتبطة بالدولة، وتحقق أمنها وازدهارها اقتصادياً، أو تمثل لها عمقاً إستراتيجياً أو أهمية سياسية. ولا شك أن الأمن المائي يحقق النمو الاقتصادي، والقدرة على الحياة والازدهار للدولة، كما أن دول المنابع والنيل الأعلى تمثل عمقاً إستراتيجياً لبعضها، كما تمثل دول المجرى والمصب عمقاً إستراتيجياً لها، وهذا يفسر العلاقة التبادلية بين الأمن المائي والأمن القومي.

د. الأمن المائي القومي والأمن الإقليمي

انطلاقاً مما سبق، فإن متطلبات الحفاظ على الأمن المائي، باعتباره أحد مكونات الأمن القومي لدول الحوض، هي متطلبات الحفاظ على الأمن الإقليمي لحوض النيل، وتُبنى على:

(1) المحافظة على أمن منابع النيل، واستمرار التدفق الطبيعي لمياه النيل، باعتبار أن المياه مورد إستراتيجي مهم، يؤثر على النمو الاقتصادي، ومن هنا فإن أي تهديد للمياه يُعد تهديداً للأمن القومي للدول، ومن ثم على الأمن الإقليمي للحوض كله.

(2) ضمان الأمن والاستقرار السياسي لدول الحوض، حيث يمثل عدم الاستقرار في أية منطقة تهديداً لأمن باقي دول الحوض، ما يضر بالأمن الإقليمي للمنطقة.

(3) مقاومة التدخل الأجنبي في حوض النيل، وخاصة دول المنابع، حيث إن هذا التدخل يضر بمصالح دول المجرى والمصب، ما يخلق جواً من عدم الاستقرار ونشوء المنازعات، التي تضر بمجالات التعاون الإقليمية لدول الحوض مجتمعة.

(4) ضرورة تقيد دول الحوض بالاتفاقيات المبرمة فيما بينها، إما ثنائياً أو جماعياً، حتى ولو أُبرمت خلال الحقبة الاستعمارية منها، حيث إن ذلك يؤدي إلى نشوء نظام قانوني داخل حوض النيل يحقق الأمن الإقليمي للمنطقة كلها، ويدفع إلى التعاون وليس الاختلاف.

(5) ضرورة اهتمام دول الحوض كافة بزيادة الموارد وتقليل الفواقد، بإقامة المشروعات المشتركة لتحقيق المطالب الجماعية لدول الحوض، في ظل منظومة إنشاء مشروعات إقليمية.