إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / مشروع الرئيس التونسي، الحبيب بورقيبة، لتسوية النزاع العربي ـ الإسرائيلي






إندونيسيا
ليبيا
مدينة أريحا
إيطاليا
مشروع التقسيم
المملكة الأردنية الهاشمية
الأماكن المقدسة
الهند
الباكستان
الجمهورية اللبنانية
الجمهورية العربية السورية
الجزائر
الشرق الأوسط
العراق
القدس القديمة
تونس
تركيا
جمهورية مصر العربية
دولة الكويت
Jerusalem's Holy places
فرنسا



الملحق الرقم (2)

ملحق

خطاب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في أبناء فلسطين، بمنطقة أريحا

إني شديد التأثر من هذه المناظر، وشديد الاعتزاز كذلك. أمّا تأثري، فلِما شاهدت من آثار النكبة، التي مُنينا بها في فلسطين، منذ 17 سنة. وأما اعتزازي وتفاؤلي، فلِما لمسته من حماس وإرادة حديدية وتصميم على استرجاع الحق كاملاً، غير منقوص.

تعلمون أن الشعب التونسي، كان، إبان النكبة، مغلوباً على أمره، يعانى وطأة الحكم الاستعماري المباشر. ومع ذلك، فقد أسهم في القيام بالواجب المقدس، وشارك في حرب فلسطين، إذ وفَد التونسيون، شباباً وكهولاً، من كل أنحاء القطر التونسي، كي ينالوا شرف المشاركة في النضال من أجل أرضٍ إسلامية، عربية شقيقة، لا يفرقون بينها وبين الأرض التونسية. ثم خاضت تونس معارك عنيفة وكفاحاً مريراً، حتى تخلصت من الاستعمار، ووقفت على قدميها، وأقامت دولة عربية إسلامية، في أرض مطهرة من كل ازدواج أو احتلال، ومن كل هيمنة أو نفوذ أجنبي.

لكننا نعتبر في تونس، أننا لا نزال مقصّرين، وأن علينا واجبات، يتحتم أن نقوم بها لتخليص كل شبر من الوطن العربي الكبير، وقد أكّدت، في الكلمة التي ألقيتها في مؤتمر القمة العربي الأول، أن تونس تسخّر كل إمكانياتها، لتدعيم الصف العربي، وللخروج من هذه المعركة الفاصلة، والنصر المبين يكلّل جبيننا. لكن ما أريد أن ألفت إليه نظركم، أصحاب الحق السليب، كما كنا نحن أصحاب الحق، الذي استبد به الاستعمار في تونس، هو أنه يجب أن تكونوا في الصف الأول من هذه الواجهة، التي تعمل على حماية فلسطين. إنني أصارحكم بما أعتقده في قرارة نفسي، وما آمنت به، من بعد تجربتي في الكفاح من أجل التحرر والانعتاق، التي دامت 34 سنة، فإن دوركم في المعركة هو الدور الأول، وهذا ما يجب أن تضعوه نصب أعينكم في قرارة نفوسكم وعقولكم، وإذ أخاطب، في هذه اللحظة، الأمة العربية وكل العرب، الذين يعتبرون هذه القضية قضيتهم، أريد أن ألفت نظركم إلى أن تجربتي الشخصية في كفاحي الطويل، أكّدت لي أن العاطفة المشوبة، والأحاسيس الوطنية المتقدة، التي أرى نموذجاً حيا منها على وجوهكم، لا تكفى لتحقيق الانتصار على الاستعمار، فهي، وإن كانت شرطاً أساسياً وضرورياً، غير كافية، بل لا بد مع الحماس والاستعداد للتضحية والموت والاستشهاد من قيادة موفقة، تتحلى بخصال كثيرة، ولا بد من رأس يفكر ويخطط، وينظر إلى المستقبل البعيد.

والكفاح المركز، يقتضي فهْم العدو، ومعرفة إمكانياتنا الحقيقية، وتقدير إمكانيات الخصم، وضبطها بأكثر ما يمكن من الموضوعية والتحري والتثبت، حتى لا نرتمي في مغامرة أخرى، تصيبنا بنكبة ثانية، وتعود بنا أشواطاً بعيدة إلى الوراء. هذا ما يجب أن نفكر فيه ونقرا له حسابه[1]. ولذا، لا بد لنا من الصبر، ومن التخطيط، ومن توفير الأسباب، وتهيئة البشر والعتاد، وحشد الأنصار والحلفاء، ويجب أن نعطي لهذا العمل وقتاً كافياً، وألاّ نتسرع ونرتمي في المعركة الحاسمة، قبل أن نوفر أكثر ما يمكن من أسباب النجاح. على أننا، مهْما وفرنا من هذه الأسباب، فلا بد لنا من أن نتكل على الله، فنحن على حق، والحق يعلو، ولا يعلى عليه.

وإن توفير أسباب النجاح من خصائص القادة والزعماء والمسؤولين وهذه الأسباب، كانت تنقصنا في السنين الماضية، حين خضنا المعركة. وسنعمل - إن شاء الله - بكد وجد وإخلاص وصدق على توفيرها للمعركة المقبلة، وسيكون هذا نصب أعيننا في ندوات القمة، وفي الاجتماعات التي تليها، وفي كل أعمالنا الإيجابية. وعلينا أن ننتفع بالتجارب السابقة، وأن نمعن النظر، لكي نتمكن من ضبط المعطيات، التي تتغير وتتطور بتطور الزمن، ومن ضبط القوى، التي يمكن أن نعتمد، عليها والقوى التي يستند إليها العدو. ولقد بدأنا هذا العمل الإيجابي، ولكنه لم ينتهِ بعد، وهو يحتاج إلى جانب عظيم من الصدق والإخلاص والجدية والشجاعة الأدبية.

إن الإكثار من الكلام الحماسي، أمر سهل، وبسيط للغاية. أمّا ما هو أصعب وأهم، فهو الصدق في القول، والإخلاص في العمل، ودخول البيوت من أبوابها. وإذا اتضح أن قوانا، لا قِبل لها بمحق العدو ورميه في البحر، فعلينا ألاّ نتجاهل ذلك، بل يجب أن ندخله في حسابنا، وأن نستخدم، مع مواصلتنا الكفاح بالسواعد، الإستراتيجية، وأن نستوحيها في مواقفنا، حتى نتقدم نحو الهدف، مرحلة بعد مرحلة، مستعينين في ذلك بالحيلة والجهد، فإن الحرب، كما لا يخفى، كر وفر، فهكذا انتصر أجدادنا في المعارك العظيمة، التي دوخوا بها العالم. وإذا كان من حق الشخص العادي، أن يتحمس للهدف النهائي، ويتخذ منه قمراً، يعينه على السير إلى الأمام، فإن على الزعيم المسؤول عن المعركة، أن يتثبت من الطريق الموصل إلى الهدف، وأن يدخل في حسابه المنعرجات، التي قد يضطر إلى اتّباعها، لاجتياز العراقيل والصعوبات. والمنعرج لا ينتبه إليه، في غالب الأحيان، مَن تسيطر عليهم العواطف، لأن العاطفة تأبى إلاّ أن تسير في خط مستقيم. لكن عندما يدرك الزعيم، أن الخط المستقيم، لا يمكن أن يوصل إلى غاية، فإنه يضطر لاتّباع المنعرج، فيبدو، في الظاهر، وكأنه ترك الهدف جانباً، الأمر الذي يثير ضجة الأتباع. وفي هذه الحالة، يجب على القائد، أن يفهمهم أنه اضطر إلى ذلك اضطراراً، وأنه سيعود إلى الطريق، بعد اجتياز الصعوبة، التي واجهته، وتسلّق الجبل، الذي اعترضه، وأن يقنعهم بأن إمكانياته المتواضعة، فرضت علية ذلك، وأنه لن ينسى الهدف، بل سيواصل، بعد تخطّي تلك العقبات، السير، حتى يصل إليه.

ويبدو أن هذا الأمر، قد تعذر على الكثير من الزعماء العرب. والواقع أن الكارثة، التي مُنينا بها، ووقوفنا على حدود فلسطين العربية، دليل على أن القيادة، لم تكن موفقة، فإن عجز الجيش عن تحقيق النصر، مع توافر الحماس، يدل على خطأ القيادة، بدون شك. وكما قلت لكم، فإننا نعمل بجد واجتهاد، على رفع مستوى القيادة، وجعلها في مرتبة مسؤولياتها، بالاجتماعات الدورية، وبمؤتمرات القمة وغيرها. لكن هذا وحده، لا يكفي، بل لا بد لأمثالكم، سواء في المشرق أو في المغرب، من ألاّ يعرقلوا بحماسهم المتدفق عمل القادة، وألاّ يدفعهم تمسكهم بالخط المستقيم إلى وضع الصعوبات في طريق تنفيذ الخطة، التي ربما استقر عليها رأي الساسة. ولا شك في أنه لا يمكن لأي زعيم عربي، يتهم، لحديثه عن الحل المنقوص، أو عن الحل الوقتي، بالخيانة، ويوصف بأنه صنيعة الاستعمار، أن يواصل عمله في أتون من المهاترات.

ولكي لا يعطل الشعب تنفيذ الخطة، يجب أن تكون له، وهذا ما توافر في تونس - والحمد لله - ثقة في زعمائه وفي قادته وفي المسؤولين، حتى يمكنهم من حرية التصرف والوصول إلى الهدف. وقد حدث لي كثيراً، أن اضطررت، سعياً وراء التحكم في بعض المواقف، إلى الموافقة على تحقيق غاية من الغايات في عدة مراحل، وعندما كان الشعب يبدي شيئاً من الاحتراز، نقنعه بأن لا بد من التمسك بحبل التعقل والتفهم، والاعتقاد بأن المعركة، لا بد أن تكلل بالنصر، وخصوصاً وأن الخصوم، أصبحوا منهارين، وعلينا أن نواصل تشتيت صفوفهم، من جهة، وكسب بعض الأنصار، من جهة ثانية. وهذا لا يمكن أن يتم، إذا تمسكنا بسياسة (الكل أو لا شيء)، التي أوصلتنا، في فلسطين، إلى هذه الحالة، وأصابتنا بهذه الهزائم، خصوصاً وقد أبينا إلاّ أن نتجاهل وجود اليهود، وإلاّ أن ننكر التطورات والمعطيات الجديدة، وإلاّ أن نستهين بما حققه اليهود، ونبالغ في تقدير قوة العرب وكفاءة جيوشهم.

وما كنا لننجح في تونس، خلال بضع سنوات، لولا أننا تخلينا عن سياسة (الكل أو لا شيء)، وقبلنا كل خطوة، تقربنا من الهدف، رغم أن فرنسا، كانت ترضى بها، على أساس أنها أخف الضررين، وظنّاً منها، أنها ستبقى، وتضمن بذلك التوازن وما بقي من نفوذها وسطوتها واستعمارها. وكلما خطونا خطوة إلى الأمام، ضيقنا الخناق على الاستعمار، بالمظاهرات والمقاومة المسلحة، وغيرها من الوسائل، التي تضطره لقبول الخطوة الموالية، باعتبارها أيضاً، أخف الضررين. وهكذا إلى أن وجدت فرنسا نفسها في آخر معركة، أعني معركة بنزرت، حيث لم تجد بداً من الاندحار. أمّا هنا، فقد أبى العرب الحل المنقوص، ورفضوا التقسيم وما جاء به الكتاب الأبيض. ثم أصابهم الندم، وأخذوا يرددون: ليتنا قبِلنا ذلك الحل، إذاً لكنا في حالة أفضل من التي نحن عليها.

ولو رفضنا في تونس، عام 1954، الحكم الذاتي، باعتباره حلاً منقوصاً، لبقيت البلاد التونسية، إلى يومنا هذا، تحت الحكم الفرنسي المباشر، ولظلت مستعمرة، تحكمها باريس. وهكذا، فالمُهم أن تكون للقيادة حرية اختيار السبُل، وحرية التصرف، لكن مع الصدق والإخلاص والنزاهة والتفاني والحكمة، حتى تكون كل مرحلة تمهيداً لِما بعدها من مراحل. وهذا ما أردت أن أقوله لكم، بصفتي أخاً، له تجربة في الكفاح أكثر منكم، ولا سيما في الكفاح ضد الاستعمار. وهذا ما غرسته في قلوب التونسيين، حتى صاروا يتبعون كل الخطط، التي نرسمها، وقد يضايقهم بعض هذه الخطط، أحياناً، ولكنهم يقبِلون على تجربتها، ذلك لأنهم جربوني في الماضي، وكانت - النتيجة والحمد لله - ما ترونه، فقد أصبحنا أحراراً في بلادنا، أسياداً في وطنناً.

هذا ما أحببت أن أقوله لكم في هذه الزيارة، التي سيتذكرها، دائماً، هذا الرجل المتواضع أخوكم الحبيب بورقيبة. وهذه هي نصيحتي، التي أقدمها لكم ولكل العرب، حتى تضعوا في الميزان، لا العاطفة والحماس فقط، بل كذلك جميع معطيات القضية، بناء على ما قاله لكم رجل نزيه، لا تشكّون في صدقه وإخلاصه وتفانيه. وهكذا نصل إلى الهدف، ولا نبقى سبع عشرة سنة أخرى، أو عشرين سنة، نردد: (الوطن السليب... الوطن السليب)، دون جدوى. إنا إذا اقتصرنا على العاطفة، سنظل على هذه الحال مئات السنين. هذا ما أنبهكم إليه، وأعتقد أنه يجب أن يبرز من صفوف العرب رجال، لهم الشجاعة الكافية على مصارحة الشعب، ومواصلة الكفاح بجميع منعرجاته وأطواره وحيله وكرّه وفرّه، حتى نضمن، لا لأنفسنا فقط، بل للأجيال، التي من بعدنا، النصر الكامل، واسترجاع الحق السليب.

هذا ما أردت أن أقوله لكم  في هذه الزيارة، وأطلب منكم إمعان النظر فيه. ولا شك في أن كل واحد، لا بد أن يحاسبه الله وضميره على ما يعمل وما ينوي؛ وإنما الأعمال بالنيات. وأخيراً، أدعو لكم بالتوفيق وسعة الصبر، حتى نوفر أسباب النجاح. أدعو للمسلمين بالتكتل، وللقيادة بالانسجام والابتعاد عن المركبات، سواء كانت مركبات للنقص إزاء العدو، باعتباره في منتهى القوة، أو مركبات الغرور والتهور والارتماء على الهزيمة المحققة، التي يمكن تلافيها بإمعان النظر، وهكذا، نضمن النجاح. )وللهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤمِنِينَ(. (المنافقون: 8)

والسلام عليكم ورحمة الله.

 



[1]  كما وردت في نص الخطاب.