إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / سورية من الاستقلال إلى حافظ الأسد




هاشم الأتاسي
أديب الشيشيكلي
أكرم الحوراني
جميل مردم
خالد العظم
حافظ الأسد
حسني الزعيم
سامي الحناوي
صبري العسلي
شكري القوتلي
سعد الله الجابري
فارس الخوري





سورية من عصر الإستقلال والإنقلابات

المبحث الثامن: سورية تحت حكم البعث

نفوذ الضباط البعثيين في قيادة اللجنة العسكرية، التي كان لها دور رئيسي في انقلاب 8 مارس1963، بدأ بالظهور، تدريجياً، بعد نجاح الانقلاب؛ إذ اختير منهم كلّ ممثلي البعث في المجلس الوطني لقيادة الثورة، السلطة العليا في سورية؛ وهم: المقدم محمد عمران، والمقدم صلاح جديد، والرائد موسى زوابي. وكانت سلطات ذلك المجلس واسعة؛ حتى إنها كادت تلغي سلطات مجلس الوزراء. وفي مقابل ذلك، تركت اللجنة العسكرية مقاعد البعث في الوزارة لحرسه القديم، الذين اصطفى منهم صلاح البيطار الوزراء البعثيين التسعة.

اعتقد الحرس القديم للبعث، أن مبادئ الحزب، تتوجه نحو الوحدة. ولكن عسكريي البحث في اللجنة العسكرية، شككوا في جدوى الوحدة؛ بل عارضوا أيّ مهاودة للناصريين في سورية؛ ما نزغ هؤلاء ونظرائهم البعثيين في حكومة دمشق، وانتهى إلى ضرب الناصرية وإقالة وزرائها، وطرد كثير من ضباطها في الجيش السوري.

في الوقت نفسه، دعمت اللجنة العسكرية نفوذها في  صفوف الجيش، بإعادتها إليه الضباط البعثيين المسرحين، وتعيين قيادات بعثية في مناصب عسكرية مهمة، وترقية بعض ضباط الصف الموالين للبعث إلى درجة ضباط. وحازت اعترافاً رسمياً بها في صفوف حزب البعث. واستحوذت على جهازه العسكري، الذي عُدِّل نظامه الداخلي، ليمنحها ميزة خاصة. ودفعت أعضاءها إلى قيادته القطرية، لتُحْكم عليه قبضتها. كما نجحت في السيطرة على الدخل السوري، من خلال تعيين أمين حافظ، في 13 مايو 1963، نائباً لرئيس الوزراء، في وزارة البيطار الثانية؛ مع احتفاظه بوزارة الداخلية. وأمعنت في تسلطها على الجيش، بتمهيدها لتَوَلِّي صلاح جديد منصب شؤون الضباط؛ ثم ساعدته على الوصول إلى رئاسة أركان الجيش السوري. وإثر تَوَلِّي أمين الحافظ رئاسة الدولة، في 14 مايو 1964، إلى جانب رئاسته للوزارة، أمست اللجنة العسكرية مهيمنة على الحكومة والدولة معاً؛ ثم على الحزب بكماله، من خلال مؤتمره السابع، الذي عقد في يوليه 1964.

أولاً: الدور السنَّي في مواجهة البعث

استاء المسلمون السَّنة من استئثار حزب البعث بالسلطة. وزكَّى استياءهم تنظيم الإخوان المسلمين. ولاحت أولى بوادر امتعاضهم في اصطدام طائفي، في 18 فبراير 1964، في بانياس، بالقرب من المنطقة العلوية، بين طلاب بعثيين، معظمهم من العلويين؛ وطلاب آخرين، جميعهم من السنَّة.

دأب الإخوان المسلمون في تحريضهم، فاستجاب لهم تجار حمص، بإعلانهم إضراباً واسعاً. ولكن السلطات البعثية، بطشت بهم، وألفت محاكم طوارئ عسكرية، أصدرت أحكاماً بالإعدام والسجن على قادة الإضراب. ولم يردع ذلك البطش حماة عن الإضراب، إثر اعتقال أحد طلابها الجامعيين، في 5 أبريل 1964. وتنادى زملاؤه إلى إضراب، أئمة المساجد، ليدعوا إلى إنقاذ البلاد من "المهرطقين". وبادرت قوات الأمن إلى التصدي للطلاب، فقتلت أحدهم؛ ما أثار المدينة، فأعلنت، في 12 أبريل، الإضراب الشامل ولم يتردد حزب البعث في دفع الجيش، أول مرة، إلى المواجهة، حيث فتح النار، في 14 أبريل، على المعتصمين بجامع "سلطان" في حماة.

ثانياً: محاولات البعث احتواء التوتر

أدرك قادة حزب البعث إخفاقهم في إدارة النظام السياسي للبلاد، باعتمادهم على الوسائل: العسكرية والقهرية. وأيقنوا بأن تعصبهم الحزبي، قر أجبر المسلمين السنَّة، وهم الأغلبية العظمى في سورية، على تعصب ديني تقليدي. فتدارك البعثيون الأزمة بإجراءات سياسية، أهمها:

1. الإسراع بإصدار دستور للدولة، في مايو 1964؛ نصت مادته الثالثة، على "أن دين رئيس الدولة، هو الإسلام؛ وأن الشريعة الإسلامية، هي مصدر رئيسي للتشريع". وما ذلك إلا استرضاء للمسلمين المتدينين؛ وإن ناقض عقيدة البعث العلمانية.

2. تحذير قيادة البعث القطرية، في نشرة حزبية، في يونيه 1964، محازبيها من استخدام بعض المصطلحات، مثل "ثلاثية البعث المقدسة"، والذي يشير إلى شعار الحزب الثلاثي: "وحدة، حرية، اشتراكية"؛ إذ إن تلك المصطلحات، يستغلها الأعداء لتحريض المواطنين المتدينين على الحزب.

3. استخدام أسلوب القمع والترضية، في التعامل مع المسائل: الدينية والشعبية، وخصوصاً مع الفئات السُّنية.

ثالثاً: حزب البعث في مواجهـة الصراع العربي – الإسرائيلي

فاق اهتمام الحزب بالداخل اهتماماته الخارجية، في طليعتها الصراع العربي -الإسرائيلي، شاغل العرب وقضيتهم الأولى. وربما يتضح دور الحزب، عربياً، في مواجهة إسرائيل، من خلال تمثيله وآرائه في مؤتمرات القمة العربية، التي دعا إليها الرئيس جمال عبدالناصر، من أجل مواجهة مشروعات إسرائيل لتحويل مجرى نهر الأردن؛ وأول ما تهدده هذه المشروعات، هو الأمن القومي السوري.

وقد عقد مؤتمر القمة الأول في القاهرة، في 13 يناير1964، ومثّل سورية فيه الرئيس لؤي الأتاسى. ووضع المؤتمرون الخطوط العامة لمشروع عربي، لتحويل مياه الأردن في داخل البلاد العربية، من دون التعرض للمشروعات الإسرائيلية؛ كي لا تنذرع إسرائيل بالدفاع عن النفس. ووضعوا خطة لإنشاء قيادة عربية موحدة، تكون مهمتها حماية تنفيذ المشروعات العربية لتحويل نهر الأردن.

وعقد مؤتمر القمة الثاني في الإسكندرية، في 11 سبتمبر 1964؛ لمواصلة الجهد، والوقوف على ما نُفِّذ من قرارات المؤتمر الأول. ومثّل سورية فيه الرئيس أمين الحافظ الذي كان تولى السلطة منذ 14 مايو 1964. سرعان ما جاهر المؤتمرين "بأن كل ما يسمعه مضيعة للوقت". وأن مشاكل العرب كلها، تبدأ وتنتهي بإسرائيل. وأن القضاء عليها ممكن ومتاح، إذا استطاع العرب تجميع أربعين لواء من القوات المسلحة. وأنه كفيل بتقديم خطة إلى المؤتمر، تضمن تحقيق هذا الهدف، في أربعة أيام". فطلب منه الأمير فيصل، ممثل المملكة العربية السعودية أن يضع خطته مفصلة، لتناقشها قمة عربية مقبلة. وحددت قمة الدار البيضاء، في13 سبتمبر 1965، لمناقشتها، هي وتقرير قائد القيادة العربية الموحدة في شأنها.

ما كاد يمر شهران على الاقتراح السوري، حتى استدرج الطيران الإسرائيلي، في 14 نوفمبر 1964، نظيره السوري إلى معركة في الأجواء السورية، أسفرت عن إسقاط أكثر من عشر طائرات سورية. لا، بل إن الوفد السوري إلى مجلس الدفاع المشترك، الذي انعقد في جامعة الدول العربية،  بين 26 و30 مايو 1965، طلب تعديل معاهدة الدفاع العربي المشترك؛ لأنها لا تحقق تحرير فلسطين؛ فضلاً عن خلوّها مما يشير إلى تحرير "عربستان " من إيران، ولواء "الإسكندرونة" من تركيا، و"الجنوب المحتل" من بريطانيا.

وفي مؤتمر الدار البيضاء، طلب الفريق أمين الحافظ انعقاد جلسة سرية مغلقة، لمناقشة تحرير فلسطين؛ يقتصر حضورها على الملوك والرؤساء فقط، ومع كلّ منهم مساعد واحد. وقد استجيب طلبه. فأسرّ إلى المؤتمرين، أن " العمل العربي، باتجاهه إلى أعمال، من نوع مشروعات تحويل مياه نهر الأردن، وغيرها، يضيع وقت الأمة وجهدها في أهداف فرعية... وأن الأولى والأجدر بأمجاد العرب وبطولاتهم، ضرب الأفعى على رأسها، بدلاً من الانشغال بذيلها. وأنه يريد أن يسأل القائد العام عما فعله بمطلب تحرير فلسطين؟ ". وعرض القائد العام مطالبه لتحقيق الخطة. وطلب الملوك والرؤساء فرصة من الوقت لدراستها. ولكن الفريق أمين الحافظ، أعلن تشبثه بها؛ لافتاً إلى "أن العالم العربي خليط غريب: دول ثرية، بدون ناس؛ ودول مزدحمة بالناس، بدون ثروة؛ ودول قريبة من ميدان المعركة، وأخرى لا تشعر بحرارتها، دول صغيرة في حجمها، ودول كبيرة في حجمها؛ وهذا الخليط كلّه لا بدّ أن ينصهر في بعضه، وأن يتحمل الجميع، بالتساوي، تحدياً، يواجه الأمة العربية كلها، بوجود الكيان الصهيوني العنصري، العميل للاستعمار الأمريكي".

صدق، إذاً، ما استشفه الرئيس جمال عبدالناصر، قبل انعقاد المؤتمر، "أن الأزمة الحادة بين الحكومة السورية، في ذلك الوقت، وبين القيادة العليا للقوات العربية الموحدة، هي، في الواقع، أزمة بين " بلاغة الخطابة" و"حدود الفعل". وأن هذا التناقص كفيل بتحويل المؤتمر إلى مسرح دعائي أكثر منه اجتماعاً نافعاً".

رابعاً: الموساد في عرين البعث

إيلي كوهين يهودي، مصري، من مواليد محافظة الإسكندرية. غادر مصر في أعقاب العدوان الثلاثي، عام 1956، إلى إيطاليا، ومنها إلى إسرائيل، حيث تلقفه الموساد، فدربه، وسفّره إلى الأرجنتين في مارس 1961، مزوداً بجواز سفر سوري، يحمل اسم: كامل أمين ثابت، المشتغل بتجارة التصدير. وسرعان ما اندمج ذلك الجاسوس في أوساط السوريين واللبنانيين، في بوينس أيريس. وأصبح يمتلك شركة ملاحة، وحسابات متعددة في البنوك؛ فأمسى مرموقاً، يدعى إلى احتفالات بعض السفارات العربية، ومنها السفارة السورية، حيث تعرّف إلى الملحق العسكري السوري، العقيد أمين الحافظ. وما لبث الرجلان أن تصادقا، وتوثقت صداقتهما. وبادر الجاسوس إلى زيارة صديقه، الذي بات يقفز إلى المناصب العليا في دمشق. وألح الفريق الحافظ على ضيفه الثري، أن ينقل نشاطه التجاري إلى وطنه، سورية؛ مانحاً بذلك الموساد الإسرائيلي فرصة, لم يحلم بها. بيد أن إيلي كوهين، تكلَّف أن يتردد إلى سورية والأرجنتين، ريثما تؤكد دراسة الجدوى ربحية نقل نشاطه.

نزل الجاسوس على مؤسسة الرئاسة السورية ضيفاً مدللاً. وما إن استجاب لرئيسها رغبته، حتى أضحى حَظِيَّه،  الذي لا يُضَنّ عليه بمعرفة أيّ قرار سوري: سياسي أو استراتيجي، قبل أن ينفذ. وبات يدعى إلى جميع حفلات النخبة الحاكمة؛ ويحضر العديد من المناقشات، على المستويات العليا؛ ويصاحب الرئيس وكبار الضباط في زياراتهم إلى الجبهة، حيث يتعرَّف المواقع والتحصينات، ويطلع على أدق الخطط.

ولم يُفسِد على الموساد مكايده إلا الاستخبارات المصرية، التي حتمت، إثر تَبُّينها صوراً للفريق الحافظ، وهو يزور الجبهة، بأن من يقف إلى جانبه جاسوس.وسارعت إلى الاتصال، في سرية شديدة، بالاستخبارات السورية، وأطلعتها على كلّ التفاصيل؛ فقُبض على إيلي كوهين. وأوشك الفريق أمين الحافظ، أن لا يصدق ما حدث؛ لولا أنه واجه الجاسوس في سجنه، حيث سأله: من أنت؟ فردّ عليه: إيلي كوهين. وقد حوكم كامل أمين ثابت، وأعدم عام 1966.

خامساً: اصطراع البعثيين على السلطة، وظهور حافظ الأسد

لم يفارق أعضاء  اللجنة العسكرية لحزب البعث تنازعهم أبداً، ولاسيما الصراع بين أمين الحافظ، رئيس تلك اللجنة ورئيس الجمهورية، وهو سني من حلب؛ وبين محمد عمران، علوي، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء لشؤون الصناعة، بعد أن فشل في تولي منصب رئاسة أركان الجيش. ورجّح أولهما انضمام علويَّين إليه، يسعيان إلى تحقيق مصالحهما الذاتية؛ وهما: صلاح جديد؛ وقائد القوات الجوية، حافظ الأسد. فانتهى الصراع إلى هزيمة عمران، وعزله من القيادة القطرية لحزب البعث، وإبعاده سفيراً لسورية في مدريد.

ما إن حسم أمين الحافظ صراعه الأول، حتى استعر بينه وبين صلاح جديد، رئيس أركان الجيش، صراع مرير، جعله شائكاً، في منتصف عام 1965، أن الحافظ، على شعبيته وسلطته الواسعة، يفتقر إلى تأييد القوات المسلحة، التي يسيطر عليها خصمه. عندئذٍ، تماكر الطرفان فاقترح أمين الحافظ، أن يبتعدا كلاهما عن الجيش؛ فيتفرغ هو لمنصب رئيس مجلس الرئاسة، ويحتفظ، كأيّ رئيس دولة؛ بمنصب القائد الأعلى للقوات المسلحة؛ ويكون صلاح جديد نائباً له في الحالَين. فردّ صاحبه باقتراح، يلغي مجلس الرئاسة كلية، ويقصر على كلٍّ من رئيس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة سلطات حصرية خاصة.

تأثرت القيادة القطرية بتنازع الرجلَين، فاستقالت في يوليه 1965. وانتخبت قيادة جديدة، في أغسطس من العام نفسه، قوامها تسعة عشر عضواً، لم يكونوا أقلّ من سابقيهم انقاسماً؛ إذ استمال أمين الحافظ الضباط السُّنيين، بتحريضهم على سياسة خصمه الطائفية. وانحاز العلويون، وبعض الضباط السُّنيين، مثل العقيد مصطفى طلاس إلى صلاح جديد؛ وأيده كثير من الحرس القديم لحزب البعث.

بدأت المواجهة الحاسمة، في 19 ديسمبر 1965، حينما  قررت القيادة القومية، التي يسيطر عليها جناح أمين الحافظ والحرس القديم، الذي أمكنه استمالته، حل القيادة القطرية، التي يسيطر عليها جناح جديد؛ وتولِّي أولاهما جميع المسؤوليات: المدنية والعسكرية.

أثر صلاح جديد تأجيل المواجهة الحاسمة؛ لان قرارات القيادة القومية، لم تطاول مصادر قوّته، لا في الجيش، ولا في التنظيم الحزبي. غير أنه تخلَّى عن تريثه، بعد مبادرة القيادة القومية للحزب أي عزل أخيه، عزت جديد، وأحمد سويدان؛ فسارع، في 23 فبراير 1966، إلى انقلاب، تدعمه القوات الجوية، التي يقودها اللواء حافظ الأسد؛ ما صبغ النظام البعثي بصبغة علوية واضحة، وإن لـم تكن كامــلة. فقد حرص جديــد على تعيين نور الدين الأتاسي رئيساً للدولة، ويوسف زعين رئيساً للوزراء، وهما سُنيان تنفيذاً لما ورد في دستور عام 1964. وعيَّن الفريق حافظ الأسد وزيراً للدفاع، وأحمد سويدان رئيساً للأركان، وإبراهيم ماخوس وزيراً للخارجية. وظل هو نفسه على رأس التنظيم الحزبي.

سادساً: حزب البعث وطبول حرب يونيه 1967

اتسم عام 1966 بتوطد التعاون الأمريكي ـ الإسرائيلي، وازدياد المساعدات الأمريكية لإسرائيل إلى عشرة أمثال ما كانت عليه عام 1965، إذ ناهزت  1100 مليون دولارا. ناهيك من "صفقات سلاح كبيرة"، سرية"، بين الطرفَين، أثارت حفيظة دول عربية، ودفعتها، في بداية عام 1966، إلى حث الجامعة العربية على مواجهة الموقف بحزم؛ فاستحثتها سورية، مثلاً، بمذكرة تقول:

"إن حكومة الجمهورية العربية السورية، ترى من الواجب القومي، أن تعلن الدول العربية استنكارها الشديد للموقف الأمريكي العدائي؛ وأن تستعمل جميع الوسائل، التي في حوزتها، لوضع حدّ لهذا التهديد الخطير، الذي يعرض سلامة البلاد العربية وأمنها وحياة شعوبها لأفدح المخاطر. كما ترى أن تلفت الدول العربية أنظار العالم إلى أن تزويد إسرائيل بهذه الأسلحة، إنما يضع في أيدي المعتدين أنواعاً من أحدث الأسلحة وأكثرها فتكاً، لم تزود بها بعض جيوش أوروبا الداخلة في نطاق حلف شمال الأطلسي؛ مما يحمل على الاعتقاد بأن إسرائيل، تمهد لعدوان جديد، كما حدث عام 1956".

أمّا إسرائيل، فلم تغفل عن سورية؛ بل جهدت في تسقُّط ما يُحَرِّش بينهما. فقابلت، مثلاً، في يونيه 1965، بين معاملتها الحسنة لسبعة عشر "مخرباً" وجاسوساً سورياً، قبل أن تفرج عنهم، وبين "المحنة الأليمة للأسرى الإسرائيليين في سورية وضرورة القيام بعمل من أجلهم". فشنعت على دمشق تعذيبها ثمانية سجناء إسرائيليين، أفرجت عنه، في نهاية عام 1963، بعد قضاء أحد عشر عاماً في سجونها؛ حتى إن سبعة منهم، يحتاجون إلى علاج في مستشفيات الأمراض العقلية. وأكدت أن هناك أربعة سجناء آخرين، لا يزالون في السجون السورية. وقد اقترحت جولدا مائير، وزيرة الخارجية الإسرائيلية، إحالة الموضوع إلى لجنة الشؤون الخارجية والأمن؛ ما أذكى حُمّى المنطقة.

ولم يَفُت إسرائيل سماح سورية لمنظمة "فتح" بالانطلاق من أراضيها، وإصدارها جريدتها: "الفتح"؛ وإجازتها تدريب الفدائيين الفلسطينيين فوق ترابها؛ فضلاً عن إعلان رئيس الجمهورية السورية، "أن الحرب الشعبية هي شعارنا. وما نريد هو حرب شاملة، غير محدودة، حرب تنهي الكيان الصهيوني". ولم تصم عن قول إذاعة دمشق، في أغسطس : "لن تشكو حكومة الثورة السورية، بعد اليوم، إلى الأمم المتحدة. وستكون إسرائيل هي التي تشكو وتدافع. فإستراتيجية سورية، ستقوم، من الآن فصاعداً، على الهجوم". وأصغت إلى تصريح رئيس الوزراء السوري، في العاشر من أكتوبر: "لن نوقف مسيرة الشعب الفلسطيني. وسنحيل المنظمة كلّها إلى نار. وإن أيّ تحرك من جانب الإسرائيليين، سيكون فيه نهاية لهم". وأنصتت لقول رئيس الأركان السوري، اللواء أحمد سويدان: "إن العمليات، التي تقوم بها "فتح"، عمليات مشروعة؛ وعلينا ألا نوقفها ، بل نشجعها وندعمها"؛ لا، بل قال، في 13 أكتوبر: "إن حرب تحرير فلسطين، قد بدأت".

وقد تعددت الأعمال الفدائية لمنظمة "فتح"، فقدِّرت، حتى يونيه 1967، بنحو 40 عملية؛ ردت عليها إسرائيل ردوداً، فاقتها حجماً، وتجاوزتها إلى ردع السوريين وإحباطهم؛ بل تخطت ذلك إلى جانب الروح المعنوية للشعب الإسرائيلي، وتدريب القوات الإسرائيلية على مواجهة الجيوش العربية. فمهدت، في الصنف الأول من

 يوليه 1966، لمعركة جوية، فوق مواقع تحويل نهر الأردن، فقدَ الطيران السوري خلالها العديد من الطائرات. وتكررت المواجهة الجوية، في 15 أغسطس، حينما خسرت القوات السورية نحو إحدى عشرة طائرة؛ وصاحبتها معركة برية، على شواطئ بحيرة طبرية، استهدفت منع المدفعية السورية من التأثير في مشروعات استصلاح الأراضي الإسرائيلية. واعتدت إسرائيل، في 13 نوفمبر 1966، على قرية "السموع"، في لواء الخليل، في الضفة الغربية لنهر الأردن.

سابعاً: إحياء ميثاق الدفاع المشترك، بين مصر وسورية

تلاحقت، في أعقاب المعركة الجوية، في 15 أغسطس، اجتماعات القيادات السورية: السياسية والعسكرية؛ لتدارك عواقب الموقف. وقررت أن تشارك مصر في تدارسه؛ فبعث الرئيس السوري، نور الدين الأتاسي، في 27 سبتمبر، برسالة إلى الرئيس عبدالناصر، يقول فيها:

"إن المسؤولية التاريخية، تحتم علي أن أخطركم، بأن المعلومات المتوفرة لدينا، تجعلنا نتوقع هجوماً إسرائيلياً كبيراً، في الأيام القليلة القادمة. وطبقاً لما لدينا من معلومات، فإن الإسرائيليين يريدون أن ينتهزوا فرصة إعلاننا عن استئناف خطط تحويل مياه نهر الأردن، كحجة لاستئناف الهجوم على مشروعات التحويل؛ على أن يتطور هذا الهجوم إلى ضربة جوية شاملة، لا تترك هدفاً داخل حدودنا، إلا وقد دمرته. وقد قررت القيادة ضرورة التوصل إلى تنسيق كامل مع الشقيقة الكبرى، الجمهورية العربية المتحدة". واختَتم الأتاسي الرسالة برجاء أن يستقبل الرئيس عبدالناصر وفداً سورياً، على مستوى عالٍ.

وصل إلى القاهرة، في الأول من نوفمبر 1966، وفد سوري، قوامه الدكتور يوسف زعين، رئيس الوزراء؛ والدكتور إبراهيم ماخوس، وزير الخارجية؛ واللواء أحمد سويدان، رئيس الأركان؛ والعقيد عبدالكريم الجندي، مدير العمليات. أفصح عن الاقتناع بأن الحرب الشعبية، هي الطريق الوحيد للنصر؛ إذ إن تدجيج واشنطن إسرائيل في الأسلحة الفائقة، يحُول دون انتصار الجيوش العربية التقليدية. فلا محالة من تطوير الموقف على خطوط الهدنة. وإذا حاولت إسرائيل أن تدخل دمشق أو القاهرة، فإن الجماهير هي التي ستهزمها؛ فالعرب مائة مليون في مواجهة مليونَي يهودي. ولا بدّ أن نرفع جميعاً، وندرب الشعوب عليها شعار الحرب الشعبية؛ بل إن سورية شرعت تدرس خبرات الجزائر وفيتنام. ناهيك من تثوير الوطن العربي كلّه، ليضرب إسرائيل والقواعد المحيطة بها، التي تمدها بالدعم؛ ولا يستثنى من ذلك النظُم الرجعية، التي يجب أن تضرب كذلك.

لم تتردد القاهرة في طمأنة القيادة السورية، لتلفتها عن التصرف بعصبية؛ مؤكدة أن إحياء ميثاق الدفاع المشترك، الذي عقد بين مصر وسورية، عام 1955، وتدعيمه بما يلائم التطورات الأخيرة، يحقق هدف الدولتَين. ولكنها لم تتوانَ كذلك في المجاهرة بأن الحالة، تستدعي حكمة وتدبراً، وليس شعارات؛ وأن الأمانة تقتضي التعمق في التفكير، تحسباً لمحاولة أعدائنا توريطنا في عملية مع إسرائيل، يشترك فيها الاستعمار والرجعية. وأن الجيوش النظامية، ستكون، باستمرار، في مقدمة الدفاع عن الدولة. أمّا الحرب الشعبية، فهي تحتاج إلى دراسات مستفيضة وتخطيط سليم، في مدى زمني ملائم.

وانتهت الاجتماعات إلى توقيع اتفاقية، مدرتها 5 سنوات؛ نصت على "إعادة إحياء ميثاق الدفاع المشترك بين البلدَين"، ليصبح أيّ عدوان على أحدهما عدواناً على الآخر؛ وإنشاء قيادة مشتركة للجبهتَين، يقودها رئيس الأركان المصري.

وقد أثارت هذه الاتفاقية ردود فعل في إسرائيل، والولايات المتحدة الأمريكية؛ وفي العراق كذلك، إذ رأت  فيها بغداد انحيازاً مصرياً إلى خصمها، دمشق؛ ما حمل القاهرة على توضيح موقفها للعاصمة العراقية، في الآتي:

1. قبلت مصر توقيع الاتفاق؛ لأن هناك هجوماً رجعياً استعمارياً، يجهد في تقويض النظام في سورية؛ ولو أفلح، لاستبدل به نظاماً رجعياً، سيزيد الأمور تعقيداً.

2. يحتم العمل القومي، أن تلمس سورية، في المواجهة التي تخوضها، موقف مصر المؤيد.

3. طلب الرئيس عبدالناصر من دمشق، أن تقلع عن مشاحنة بغداد.

ثامناً: الحرب

رهصت حرب 1967 اشتباكات متقطعة، على الجبهة السورية ـ الإسرائيلية. تمثل في تبادل شديد لنيران المدفعية، في 5 مارس، إثر تدمير لغم، زرعه الفدائيون الفلسطينيون، جراراً إسرائيلياً ناهيك من إطلاق نحو 50 مدفعاً سورياً قذائفها، في 7 أبريل، على مستعمرات "هاؤون" و"عين جافييت" و"جاودت"؛ لمنع المزارعين الإسرائيليين من استغلالها. وما لبثت معارك المدفعية، أن شملت القطاع الجنوبي من الجبهة؛ لا، بل تدخَّلأ الطيران الإسرائيلي، فضرب المدفعية والدبابات السورية، ونازل  الطيران السوري في معارك جوية، أسفرت عن إسقاط أكثر من عشر طائرات سورية.

تلقفت إسرائيل تلك الاشتباكات، لتبادر إلى تحقيق إستراتيجيتها العامة المرتكزة على:

1. سورية هي عامل الإثارة، الذي يمكن التذرع به.

2. مصر هي مركز الثقل، الذي يتحتم ضربه.

3. الضفة الغربية هي الجائزة، التي لا بدّ من الحصول عليها.

قدم الوفد السوري، في 13، أبريل بياناً إلى الأمم المتحدة، نوه بالنقاط التالية:

1. أيّ هجمات أخرى، تشنها إسرائيل، ستؤدي إلى اشتعال الموقف، مهْما كان الثمن.

2. الاشتباك الأخير، يمثل تدهوراً خطيراً في الموقف على خطوط الهدنة؛ وإسرائيل هي المسؤولة عن تصاعد الأحداث.

3. سورية لن تتخلى عن واجبها المشروع في الدفاع عن النفس.

4. أمريكا حولت إسرائيل إلى "مجرم محترف".

تاسعاً: نُذُرُها

اعتزمت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ضرب مصر فقط، وليس سورية؛ إذ إن القضاء على أولاهما، سيجعل الأخرى شَلاِّء. وهو ما استشفّه الملك حسين، وتضمنته رسالته، في مايو 1967، إلى عبدالناصر؛ محذراً إياه من مؤامرة لاستدراج مصر إلى الحرب، من خلال سورية. ولكن الجنرال إسحاق رابين، رئيس الأركان الإسرائيلي، أعلن، في 12 مايو، "أننا سنشن هجوماً خاطفاً على سورية. وسنحتل دمشق، لنسقط الحكم فيها؛ ثم نعود"46). وعزز النية الإسرائيلية استماتة الاتحاد السوفيتي كل الاستماتة في إخبار القاهرة في 13 مايو، بحشود إسرائيلية على الحدود السورية؛ وأنه سيساعد دمشق. وزكّتها كذلك برقية سورية، في اليوم نفسه، تنبئ بحشد إسرائيل نحو خمسة عشر لواء على تلك الحدود؛ إضافة إلى إبلاغ  العماد حافظ الأسد، وزير الدفاع السوري، المشير عامر، أن ما يراوح بين أحد عشر وثلاثة عشر لواء إسرائيلياً، تحتشد  على الجبهة السورية. بيد أن الفريق محمد فوزي، رئيس الأركان المصري، سافر إلى سورية، من أجل التنسيق، والوقوف على حقيقة الموقف. وقد أكد في مذكراته، "أنه لم يحصل على أيّ دليل مادي بوجود هذه الحشود".

ما إن تعقدت الأزمة، حتى نفى بعض القادة السوريين وجود أيّ حشود، بل استعجبوا من إنباء موسكو والقاهرة بها. إلا أن نفيهم لم يُحل دون اندلاع الحرب، في 5 يونيه 1967؛ مبتدئة بضربة جوية للجبهة المصرية، ثم الهجوم البري. ولم يُغِر سلاح الجو الإسرائيلي على سورية، إلا في الثانية عشرة والنصف ظهر 5 يونيه نفسه، أيْ بعد نحو أربع ساعات على ضربه القوات الجوية المصرية. ولم تبادر دمشق، خلال هذه الفترة، إلى أيّ إجراء. وكادت الجبهة السورية تبقى هادئة، حتى 8 يونيه؛ على الرغم من البيانات العسكرية الحماسية، وتأكيد الرئيس نور الدين الأتاسي " أنهم كانوا يعدون العدة لهجوم كبير على الجليل الأعلى (شمالي إسرائيل)؛ ولكن وقف النيران فاجأهم، فاضطروا، في اللحظة الأخيرة، إلى إلغائه؛ رغم اعتقادهم بإمكانية نجاحه؛ لأن القوات الإسرائيلية، كانت مرهقة". ويصف ديفيد بن جوريون الموقف السوري، في مذكراته، بقوله: "باندلاع حرب الأيام الستة، كان تصرف السوريين متزناً؛ فقد أرادوا أن يظهروا وكأنهم مشتركون في الحرب، ولكنهم في الوقت نفسه، فعلوا كلّ شيء لتجنّب الدخول فيها".

ويروي الجنرال موشى ديان، في مذكراته، أنه: "كان من المحتمل أن تنتهي الحرب، والحدود مع سورية متطابقة مع الحدود قبل الحرب؛ ولكن السبب الحقيقي، الذي جعلنا نقوم بحملتنا على سورية، هو سعينا لإنقاذ مستعمراتنا في الشمال. وقد بدأنا عملية الاستيلاء على مرتفعات الجولان، في 9 يونيه. وكنت قد اعترضت بشدة، في الليلة السابقة، على هذا الهجوم؛ ولكن بعد منتصف الليل، ذهبت إلى مقر القيادة، وعلمت أن عبدالناصر، وافق على وقف إطلاق النار. وفي الساعة الثالثة صباحاً، أعلنت سورية أيضاً موافقتها على وقف إطلاق النار. كما وصلتنا تقارير استخباراتية، بأن القنيطرة خالية، والجبهة السورية بدأت في الانهيار. ودفعني كلّ ذلك إلى اتخاذ قرار الهجوم.

فقامت القوات، في الحادية عشرة والنصف من صباح الجمعة 9 يونيه، بالهجوم على المواقع المحصنة على الحدود. واستغرقت عمليات الاختراق سبع ساعات، حتى المساء. واستمر السوريون في المقاومة في موقع واحد فقط؛ أمّا باقي النظام الدفاعي السوري، فقد انهار تماماً. وكانت قيادة الجيش في دمشق، وعلى أعلى مستوياتها، تتخذ قراراً بالتخلي عن مواقعها حتى قبل ظهور القوات الإسرائيلية في الميدان. وعند ظهر يوم الجمعة، وعندما أدرك القادة السوريون مدى الخطر، الذي يتهدد مرتفعات الجولان، اتخذوا إجراء في اتجاهَين:

الأول: من الناحية السياسية، فقد زادوا جهودهم لوقف إطلاق النار.

الثاني: إصدار أمر بالانسحاب من خط مرتفعات الجولان، وحشد جميع القوات للدفاع خارج دمشق.

وفي صباح 10 يونيه، وجدت قواتنا المواقع السورية خالية، بعد أن ترك السوريون مدافعهم ورشاشاتهم فيها. وقامت الحكومة السورية بإذاعة، أن قواتنا قد استولت على القنيطرة، في الساعة الثامنة والنصف صباحاً، وقبل أن نصل إليها فعلياً؛ وذلك من أجل دفع مجلس الأمن إلى اتخاذ قرار بوقف إطلاق النيران".