إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

           



( تابع ) بيان الشيخ بيار الجميل، رئيس حزب الكتائب اللبنانية، أمام المؤتمر العام السابع عشر للحزب فى 27 سبتمبر 1974
جريدة " النهار "، العدد الصادر في 28 سبتمبر 1974، ص 3 - 4 .

         لكننا لم نتمكن، حتى الآن، من تصور مجاورة معقولة بين الكيان الفلسطليني من جهة، والكيان الإسرائيلى من جهة أخرى، واعترافا متبادلاً بينهما، وتفاعلا مهما كان. فالدولة العبرية لا تستطيع إلا أن ترفض تسوية كهذه وإلا أن تقاومها حتى الموت. واستطراداً فمشروع الكيان الفلسطيني يبدو كأنه مشروع حرب خامسة، مشروع لا يولد إلا بعملية قيصرية. ذلك في منطق الأشياء، وفي منطق الصراع. فإذا كان تحرير القنيطرة مثلا وقناة السويس قد تطلب حربا مدمرة، تدافعت الدبابات والطائرات فيها بالآلاف وكان المقاتلون فيها بمئات الألوف ناهيك بسلاح النفط الذي هز العالم من أقصاه إلى أقصاه، إذا كان التحرير الجزئى قد تطلب كل هذا الجهد، فكم يجب أن يكون الجهد مضاعفا لكي نفرض الكيان الفلسطيني على العقل الإسرئيلى وعلى العالم قبله فى طبيعة الحال؟!

         قصدي ألا نسترسل في التفاؤل بالنسبة إلى المعركة الدبلوماسية التى تدور رحاها الآن هنا وهناك. فالمسألة ليست فى هذه السهولة. ولا هي في البساطة التى تعكسها المواقف العربية، إجمالاً، عندما توحى للناس بأن كل شىء صار ممكنا ومستطاعاً. أن ثمة استحقاقات عديدة تنتظرنا، وتنتظر العرب فى شتى أقطارهم، ذلك قبل أن يستتب السلام، أو تكون هدنة حقيقية. فالنزاع ليس على سيناء أو الجولان، هذه قضية جديدة فرعية، وملهاة صرفت الأنظار عن الجوهر والأساس. فخيل إلى العالم أن ( الحدود ) هى المشكلة، أو إنه العداء المستحكم بين العرب وإسرائيل ما يتسبب فى الاحتكاك والاضطراب والحروب أحياناً. فإذا تأمن الفصل بين المتقاتلين ردحا من الزمن مثلا تهدأ النفوس، ويستحيل العداء صداقة!

         لقد كان من الضروري أن يخوض العرب، والفلسطينيون في نوع خاص، معركة أخرى، ديبلوماسية طبعاً، لتذكير العالم والدول المسؤولة بأن تشريد الشعب الفلسطيني هو المسألة. هذا بعد اثنين وعشرين عاماً، غابت القضية هذه في خلالها عن المسرح الدولي، أو غيبتها التفاصيل! حالة كان يمكن أن تستمر وأن تصبح دائمة أبدية ربما، لولا ثورة الفلسطينيين. فعندما أتذكر ذلك، ئتذكر أيضا كم كانت الثورة لازمة وملحة، وكم هى ضرورية هذه المحاولة الرامية إلى التمييز بين قضية الشعب الفلسطيني والقضايا الأخرى. لقد استردت القضية فلسطينيتها، هويتها وأصالتها. وعلى هذا، يكون الصراع قد دخل مرحلته الأشد ضراوة في نظري، والأكثر دقة وخطورة. ندرك هذه الحال فى صورة أعمق، عندما نراقب انفعالات الكيان الإسرائيلي، إذ يشعر بالخطورة أكثر من سواه فهو أدرى الجميع بما يشكل مساسا بسلامته، وأدرى الناس بمستقبله ومصيره، فمن الغباء أن نتوقع منه أقل مما يتوقع عادة من امرئ خائف حذر الموت! ومن الغباء أيضاً أن يواجه العرب المرحلة الجديدة بأقل ما كانوا عليه أبان حرب تشرين، الحرب التي كلما تكلمنا عليها وعرضنا وقائعها، كانت صورة التضامن الصورة الأكثر بروزا والأقل اهتزازا.

         طبعا، ماهية هذه الحرب كونها المعركة التي تجلت فيها البطولة والخبرة العسكرية كما لم تتجليا من قبل. وماهيتها أيضا، أنه أحدثت في ذات الإسرائيلي نوعاً من الارتجاج ثم يعرفه من قبل، فإذا إيمانه، الذي كان فعلا إيماناً يثقل الجبال، يبدأ يخالجه الشك. فلأول مرة تساءل: إلى أين إسرائيل؟ قبلها بلحظات، كان يهزأ بكل الاحتمالات، فمن حق مصر هنا، ومن حق سورية، في نوع خاص، أن يعترف لهما دائماً بفضلهما فى الإقدام على رهان كان الحد الفاصل بين الإحساس بالهزيمة والإحساس بالكرامة، بين اليأس والثقة في النفس. ومن حق العرب، الذين كان يؤخذ عليهم زورا الاستسلام للثرا، وتبديله، أن يعترف لهم أيضاً بأن قيمة القدس عندهم، مثلا لا تعادلها أي قيمة أخرى، وفي سبيلها تهون كل التضحيات. ولكن أهم ما حققته حرب تشرين، كونها وحدت العرب كما لم يتحدوا من قبل، ولعل

<13>