بناء القوة الرابعة (تابع)

          في الثامن والعشرين من شهر مايو عام 1986 الموافق للرابع عشر من رمضان 1406، صدر قرار تعيني قائداً لقوات الدفاع الجوي الملكي السعودي.

          كان وصولي إلى هذا المنصب هو حصاد سبعة عشر عاماً من العمل الدءوب. درست في أشهَر الكليات العسكرية وأشدّها جدية وصرامة، سواء في بريطانيا أو في الولايات المتحدة. بذلت الجهد كُل الجهد، ولم يجاملني أحد. وفي تعاملنا المضني مع الشركات الأجنبية، ناضلت ومعي كثير من زملائي ضباط الدفاع الجوي أعضاء اللجان المختلفة من أجل ضمان حصول المملكة على أفضل الأسلحة والمعدات، وتدريب السعوديين على تشغيلها. كافحنا معاً كي نجعل الدفاع الجوي قوة منفصلة. والآن، وأنا أواجه أعباء قيادة القوات، أردت أن أكون على مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقي، وأن يدرك الجنود أن الأمير يمكن أن يكون، في الوقت نفسه، جندياً محترفاً.

          عقب تسلمي مقاليد القيادة أعَدْتُ تنظيم شؤون الضباط، ورفعت توصياتي إلى الأمير سلطان من خلال لجنة الضباط العليا. شملت التوصيات إحالة عدد من الضباط إلى التقاعد وترقية آخرين وإرسال عدد غير قليل إلى أوروبا والولايات المتحدة للحصول على درجات علمية أعلى. حرصتُ، تحقيقاً للمصلحة العليا، على منع أية جهة خارجية من التدخل في إدارتَيْ شؤون الضباط والأفراد. وأصدرت أوامر مشددة بوجوب التقيد باللوائح والقوانين بكل دقة، وأعلنت أنني لن أتهاون أبداً في شأن التدخل الخارجي في أمور ترقية الضباط والأفراد، أو نقلهم من مكان إلى آخر. فكل التماس للنقل يجب أن يرفع إليّ شخصياً. كنت أهدف من وراء ذلك إلى جعل الدفاع الجوي كياناً محكَماً مستقلاً بذاته، متحرراً من الضغوط الخارجية تحقيقاً للعدل.

          أبديتُ تشدداً بالغاً في أمور الانضباط العسكري، إذ كان على الأفراد مخاطبة رؤسائهم بالطريقة اللائقة. ولم أكن لأسمح مطلقاً بالتكاسل أو سوء المظهر أثناء العروض العسكرية. ولكي أرسي دعائم قوة نشيطة وفاعلة، يتميز ضباطها وأفرادها بالجدية والتفاني في العمل وحسن السيرة والسلوك، أعلنت أن العمل الجيد سيُكافأ والعمل السيئ سيُعاقب، وأن الثواب والعقاب سيطبقان على الجميع دون استثناء. أما المشاكل الشخصية لجنودي، فكنت في شأنها متفهماً ومتسامحاً. ونظراً إلى صغر حجم القوة آنذاك، إذ لم يكن عدد منسوبيها يتجاوز 10 آلاف رجل، أتيحت لي فرصة التعرف الشخصي بالكثير منهم. وكنت أحب دوماً زيارتهم في الميدان بخاصة أثناء شهر رمضان. وكنت إذا مرض أحدهم وأُدْخل المستشفى، سعيت إلى الاطمئنان على صحته، والاتصال هاتفياً بالطبيب المعالج مستفسراً عن مدى تحسنه وتماثله للشفاء. وإذا أُبلغت بشكوى خلال جولاتي التفقدية كنت آمر بالتحقيق فيها ومعاملة الجميع بالعدل والإنصاف، حتى تحظى حقوق الأفراد بالاهتمام الكافي. وكنت أقول: "أعط كل ذي حق حقه". وكان الأمير سلطان، في ذلك كله، مَثَلي الأعلى، فزياراته المتكررة للوحدات، خاصة في الأعياد والمناسبات، واهتمامه البالغ بأمور منسوبيها، ورعايته الدائمة لمصالحهم كانت تجعل القادة، وأنا منهم، يشعرون بالتقصير.

          كنت أحلم منذ عام 1974 أن يكون لقوات الدفاع الجوي زيّ خاص بها. والحقيقة أنني أحلم بأن يكون لجميع فروع القوات المسلحة زيّ كامل أنيق. فقد تعلمت في ساندهيرست أن على الضابط المحافظة على هندامه وأناقة مظهره المتمثل في زيّ عسكري نظيف وأنيق، وشعر قصير ومهذب. وينطبق ذلك أيضاً على الأفراد، فالهندام اللائق يترك انطباعاً طيباً لدى الآخرين، كما يزرع الفخر والاعتزاز في نَفْس كل من يرتديه. لذلك أسندتُ مهمة ابتكار الزيّ الجديد لقوتنا الرابعة إلى كلٍّ من محمد الكيال وعلي الشعيبي. وأشرفتُ على كل شيء بنفسي بدءاً بالقماش ومروراً بالتصميم والألوان وانتهاءً بالملابس الداخلية والجوارب. كنت أميل إلى اللون الأحمر، وفي إحدى المراحل شاهدت أنموذجاً يتكون من سترة حمراء وبنطلون بشريط أحمر على الجانبين، ولكن الألوان كانت زاهية أكثر مما يتناسب ووقار الزي العسكري.

          وقع اختياري، في نهاية المطاف، على أربعة أزياء رسمية تشبه أزياء الجيش البريطاني. البدلة رقم 1 للمناسبات الخاصة والرسمية ( التشريفات )، والبدلة رقم 2 لحضور الاستقبالات والعروض العسكرية والزيارات والندوات، أمّا البدلة رقم 3 فتُرتدى داخل المكاتب وأثناء الجولات التفقدية والإجازات، والبدلة رقم 4 هي بدلة الميدان ( أُوفرول ) للعمل اليومي في الوحدات والتشكيلات. وصدرت الأوامر بأن يرتدي الضباط البدلة رقم 2 في منتصف كل شهر، ويرتدي الضباط والأفراد البدلة رقم 4 ( بدلة الميدان ) في اليوم الأول من كل شهر، وكان الغرض من ذلك هو التأكد من وجود تلك الملابس في حوزتهم ومن صلاحيتها أيضاً.

          كان "يومٌ مشهودٌ" حين تحدد لنا موعد لمقابلة الأمير سلطان، في جدّة، لعرض الزيّ الجديد عليه والحصول على موافقته. ودخلت مكتبه مع ضباط وأفراد يرتدون الأزياء الأربعة المقترحة، فوافق سموه عليها في الحال.

          ولعل من أعظم الإنجازات الفنية التي تحققت أثناء قيادتي لقوات الدفاع الجوي، إقامة شبكة اتصالات من الألياف البصرية لخدمة تلك القوات إضافة إلى قوة الصواريخ الإستراتيجية. حققت تلك الشبكة نجاحاً عظيماً، وتمت توسعتها لكي تخدم جميع فروع قواتنا المسلحة. فأصبحت تربط مدننا العسكرية وقواعدنا الجوية والبحرية وقيادات المناطق في جميع أنحاء المملكة، بوزارة الدفاع في الرياض. وتُعَدّ المملكة، اليوم، ثالث أكثر دولة في العالم، بعد الولايات المتحدة واليابان، استخداماً للألياف البصرية في الاتصالات الداخلية والإستراتيجية على امتداد آلاف الكيلومترات.

          كان العميد مهندس داود أحمد البصام مستشاري ومساعدي الأول في هذا المشروع الرائد، وهو رجل يتمتع بمهارة كبيرة في الأمور التقنية وبقدرة فائقة على الإقناع. ويعود الفضل إليه في إقناعي بعدم جدوى الأنظمة الأخرى المتاحة، مثل الأقمار الصناعية والتروبوسكاتر tropo-scatter ( الموجات الانتشارية ) والكابل المحوري والمايكروويف، لأنها عرضة للكشف والتشويش والتدمير، وأن المستقبل للألياف البصرية كأفضل وسائل للاتصالات.

          كان طموحي في ذلك كله، بصفتي قائداً لقوات الدفاع الجوي، أن أطبق عملياً ما كنت أؤمن به، من تدريب ولياقة بدنية وانضباط وتفتيش وتقييم ونقل للتقنية واحتراف مهني، من أجل تشكيل قوة جاهزة للقتال. كنت أريد أن يكون تدريب القوات مماثلاً لظروف الحرب الحقيقية. فبدلاً من الانتقال إلى ميدان الرماية والعودة منه بالعربات أو الطائرات، كان على جميع وحدات الدفاع الجوي أن تنفّذ التمارين الميدانية بالرماية التي كانت تشتمل على مراحل عدة: إعداد الأوامر، والاستطلاع والتحرك واحتلال مواقع الإطلاق الرئيسية، وإعداد وتشغيل مركـز القيادة ومركز العمليات، وإدارة المعركة الجوية، والانتقال إلى المواقع التبادلية، ثم العودة إلى مناطق التمركز. فالتدريب الواقعي، يجب أن يكون هكذا، وهو الطريق الصحيح إلى الاستعداد القتالي.

          كنت أؤمن بضرورة الاستعداد الدائم للقتال، وكم قلت لضباطي: " يجب ألاّ يغيب عن بالكم أن الحرب قد تنشب في أية لحظة، فلا وقت للاسترخاء، ولا تهاون في العمل، بل يقظة وجدية وتفان في خدمة الدين ثم المليك والوطن".

سابق بداية الصفحة تالي