رياحُ الشرق (تابع)

         بدأ تنفيذ المشروع بسرِّية تامّة في المملكة. كنت وضابطاً واحداً، هو المقدم عبدالله السويلم، نعمل في غرفة غير مسموح لأحد بدخولها. وبعد أن وضعنا الخطط المبدئية، انضم إلينا عددً آخر من الضباط، تم اختيارهم في تحفظ وتكتم شديدين، للعمل معنا في المشروع. ووقع اختياري على ضباط كنت أعرفهم معرفة شخصية، بحكم عملي معهم من قبل، بعد أن قمنا بإجراء تحريات دقيقة عن حياتهم العائلية والعسكرية. وفي بداية الأمر، كان العبء الأكبر من العمل يقع على عاتق عدد قليل منهم. وحتى لا تثار الشكوك حولهم، واصل هؤلاء الضباط عملهم المعتاد أثناء ساعات الدوام الرسمي. وكان كل ما يتعلق بمعاملات تعيينهم ونقلهم ومستحقاتهم وما إلى ذلك يتم في قوات الدفاع الجوي، التي كانوا يرتدون زيّها الرسمي. وعندما اتسع نشاط المشروع، اضطر الضباط إلى العمل في ورديات ( نوبات ) ليلية. وبما أنهم أقسموا على كتمان السر، فلم يكن في وسعهم التحدث عن عملهم الجديد أو عن أسباب تغيبهم ساعات طوالاً، حتى إلى أقرب الناس إليهم. ومن الطريف، أن كثيراً منهم تعرضوا لمتاعب أسريه نتيجة لذلك، فزوجاتهم كْن على قناعة تامة بأنهم قد أقدموا على زيجات جديدة. ولم أَسلم أنا نفسي من هذه الشائعات.

         عهِدتُ إلى صفوة من المهندسين العسكريين، برئاسة مهندس كفء هو المقدم عبد العزيز محمد النملة، بتصميم مواقع الإطلاق وأماكن التخزين، بينما نفذت الشركات السعودية الخاصة معظم الأعمال الإنشائية، بمساعدة الخبراء الفنيين الصينيين. كما اعتمدتُ في عمليات تفريغ الصواريخ والمواد المتفجرة والمعدات الخاصة بهما في موانئنا، على ضابط موثوق به هو الرائد سليمان عبدالله النملة، الذي أثبت براعة أثارت إعجاب الصينيين، فتبنوا طريقته في العمل بعد ذلك. وأسندت إلى المقدم علي الشعيبي مسئولية تنظيم العمليات المختلفة للمشروع في موانئنا البحرية وتأمينها ( قام بعمل مماثل لذلك خلال حرب الخليج كضابط اتصال مختص بالموانئ مع القوات الصديقة ). فساعدني على مسح الموانئ واختيار المراسي الصالحة والمستودعات المناسبة ووضع إجراءات الإخفاء والتمويه وابتكار أساليب خداع للتغلب على أية عمليات للمراقبة أو الاستطلاع. وحدث ذات مرة، عندما خشيت من أن تكون إحدى الشحنات هدفاً لعملية تخريب، أن أرسيت السفينة القادمة من الصين جوار ناقلة أمريكية، حتى إذا عنّ لأحد نسفها، كان عليه أن يفكر غير مرة قبل أن يقدم على مثل هذا العمل. وعلى الرغم من المحاولات التي بذلها الشعيبي لإبقائي بعيداً عن الميناء، فقد أمضيت الليل كله ساهراً ذات ليلة على الرصيف أراقب تفريغ الوقود السائل. كانت تلك هي المرة الأولى التي يتداول فيها رجالنا مثل هذه المادة السريعة الاشتعال. وحرصت على أن أكون بينهم لأزرع الثقة في نفوسهم، ولكنني أعترف بأنني لم أكن أقل خوفاً منهم.

         لم يكن العمل في مواقع البناء خلواً من المخاطر. فذات مرة، وقع حادث قُطِعت فيه أُذن أحد العمال الصينيين، فَنُقِل جواً إلى المستشفى غائباً عن الوعي حيث تم إسعافه. لكن أُذنه المقطوعة كانت لا تزال مفقودة. فألحّ الأطباء في البحث عنها. فأرسلت، في تلك الليلة، قافلة من السيارات مضيئة أنوارها الأمامية وكشافاتها القوية لمسح الصحراء حول موقع البناء. وحدثت المعجزة، وعُثر على الأذن المقطوعة قبل أن تغطيها الرمال، ونقلت على جناح السرعة إلى المستشفى حيث أعيدت إلى مكانها بعملية جراحية ناجحة. ولم يمضِ وقت طويل حتى تماثل العامل للشفاء وعاد إلى ممارسة عمله، وكأن شيئا لم يكن.

         اقتضى الأمر إرسال عدد من الضباط والأفراد إلى الصين للتدريب على استخدام السلاح الجديد. وكان لا بد من مواصلة تدريبهم في المملكة لشهور بل سنين أخرى بعد انتهاء تلك الدورات في الصين فأنشأنا مركز تدريب في الصحراء بعيداً عن الأنظار، ولم نكن نسمح للمتدربين بمغادرة المركز بعد وصولهم إليه. كنّا نسمح لهم بالاتصال بذويهم وعائلاتهم بين فترة وأخرى، لكن جميع المكالمات كانت تخضع للرقابة الصارمة لمنع تسرب أية معلومات عن أماكن عملهم. انتاب القلق وساورت الشكوك أسر هؤلاء المتدربين الذين اختفوا فجأة ولمدة طويلة. وكانت زوجات الضباط كثيراً ما يتصِلْن بي لمعرفة إن كان أزواجهن قد ذهبوا للقتال في أفغانستان. وذهبت الظنون ببعضهن أن أزواجهن قد لقوا حتفهم، ورجونني أن أُعْلِمَهنَّ رسمياً بوفاتهم كي يُعْلِنَّ الحداد عليهم بشكل رسمي، وهذا أمر من حقهن وواجبهن بمقتضى الشريعة الإسلامية. فكنت أقسم لهن بأن أزواجهن أحياء يرزقون، ومع هذا كان إقناعهن جدّ عصيب.

         وذات يوم، اندفع أحد ضباط الاستخبارات إلى مكتبي، وهو في حالة ذعر شديد، وأخبرني أن أحد الأفراد المتدربين، ويبلغ عمره ثمانية عشر عاماً، كشف لوالده، أثناء مكالمة هاتفية، عن مكان وجوده وعن طبيعة عمله. فأصدرت أوامري إلى الاستخبارات العسكرية باحتجاز الشاب في الحبس الانفرادي وإحضار والده إليّ على جناح السرعة. فلما أحضروه صباح الغد، وجدته رجلاً كبير السن وسبق أن خَدَمَ في الدفاع الجوي، وكان سعيداً لأن ابنه يخدم في القوات نفسها. ولَمّا كان الأب مسلماً تقياً، فقد حرص على أن يسلك ولده مسلكاً مستقيماً بعيداً عن رفاق السوء. ولذلك، عندما اتصل ابنه هاتفياً بعد غياب طويل أصرّ الوالد على معرفة مكانه ومعرفة ما يفعله. وأمام إلحاح الوالد، اعترف الشاب بمكان وجوده. وعندئذ استشاط الوالد غضباً، وقال لابنه: "إيّاك والكذب، ليس هناك أية معسكرات أو قواعد في تلك المنطقة. أخبرني بحقيقة أمرك". وهكذا وجد الشاب نفسه مضطراً إلى أن يشرح لوالده أنه في مهمة سرِّية تتعلق بالصواريخ. ولَمّا تأكد الوالد من صدق ابنه غمرته السعادة لأن ابنه اختير لمثل هذا العمل الحساس. وسألته مَن مِنْ أصدقائه وأقاربه عرفوا السر حتى الآن. فأقسم بأنه لم يخبر أحداً به.

         ووقعت في حَيرة من أمري. فلو عاد الرجل إلى قريته، فقد يكشف السر ويبوح به، كما لم يكن في وسعي احتجازه قسراً. لذلك، عَرَضْتُ عليه أن يُعيَّن إماماً لمسجد القاعدة براتب شهري جيد، فوافق على الفور وأرسل في طلب أسرته، وما زال هناك حتى اليوم. وكلما كنت أزور تلك المنطقة كان يهرع إلى استقبالي وتحيتي. وكان كثيراً ما يردد أن المكالمة الهاتفية التي تلقاها من ابنه، هي أسعد حدث مرَّ به في حياته.

         من بين الدروس الكثيرة التي تعلمتها من الأمير سلطان أنه عند إقامة أية منشأة أو مؤسسة عسكرية، ينبغي العمل على إفادة البيئة المحلية المحيطة بها. فعلى سبيل المثال، حين أنشأ الأمير سلطان المدن العسكرية، في خميس مشيط في الجنوب وتبوك في الشمال الغربي، بذل المستحيل ليضمن أن الوجود العسكري سيُسهم في رفع مستوى معيشة السكان المحليين. لذلك، عقدت العزم على أن أحذو حذوه عندما بدأنا بإقامة مركز تدريب آخر لقوة الصواريخ في السليّل، التي تبعد نحو 500 كيلومتر إلى الجنوب الغربي من الرياض على مشارف الربع الخالي.

         كانت السليّل منطقة غير متطورة إلى حدٍّ ما، وتعيش ظروفاً حياتيه قاسية. وقد تم تخصيص الاعتمادات المالية لبناء مساكن للضباط والأفراد ولتعبيد الطرق وإقامة مستشفى ومهبط للطائرات. وكان من المتوقع أن تستغرق عملية البناء والتطوير مدة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات. ولكني عملاً بفلسفة الأمير سلطان، أصدرت تعليماتي بألاّ نتعجل البناء، إذ كان في استطاعتنا توفير المال وتحقيق التطوير المنشود باستئجار ما ينوف على مائة مسكن من المساكن المشيدة في المنطقة. وأعطانا هذا الخيار المزيد من الوقت لإنشاء المباني الجديدة دون اللجوء إلى أسلوب بناء سريع باهظ النفقات. ونظراً إلى ما يحتاج إليه الأفراد من ملابس وأحذية ومستلزمات منزلية فضلاً عن الأشياء الأخرى، فقد أقنعت الكثير من التجار في الرياض بأن يشتركوا مع السكان المحليين في فتح متاجر لهم هناك، وقطعت لهم وعداً، في المقابل، بأن نشتري منهم كل ما نحتاج إليه. وشجع ذلك الأمر فرص الاستثمار في المنطقة، كما وفَّر الكثير من فرص العمل. وسررت حين وافق الأمير سلطان على اقتراحي ببناء مطار مدني هناك، كان سكان البلدة يطالبون به منذ عشرين عاماً، فساعد ذلك على إنعاش المنطقة كلها.

         كانت هناك مدرسة للتدريب المهني في السليل، تم إنشاؤها قبل بضع سنوات، ولم يستفد منها أحد. فطالبت بها القوات الجوية، التي كانت تنشئ قاعدة لها في المنطقة، ولكنني استطعت الحصول عليها وخصصتها لتدريب الضباط والأفراد، وجعلتها جاهزة للعمل في غضون ثلاثة أشهر.

         شُحنت الصواريخ والمعدات اللازمة من الصين إلى المملكة في سرِّيه تامة، ووُضعَت، في بادئ الأمر، في أماكن مؤقتة. ثم نُقلت، بعد ذلك، إلى أماكنها الدائمة. وكنّا دائماً على استعداد تام لمواجهة أي تهديد قد تتعرض له تلك الشحنات، سواء أَكانت في عرض البحر أم في الموانئ المختلفة التي كانت ترسو فيها السفن وهي في طريقها إلى المملكة. كنّا قادرين على حماية مواقع الإطلاق ومنشآت التخزين أثناء عمليات البناء في مختلف أنحاء المملكة، وتزويد قوة الصواريخ باتصالات مأمونة ( مشفرة )، وتدريب الضباط والأفراد في الصين وفي المملكة في آن وأحد على تشغيل الصواريخ وصيانتها. وبفضل عمليات التمويه ونشْر المواقع فوق مساحات شاسعة، أصبح من المتعذر على العدو أن يقضي بضربة واحدة على سلاحنا الرادع الجديد.

         وبطبيعة الحال، اقتضت ضرورة العمل أن أغيب عن أسرتي في الرياض لفترات طويلة من الزمن دون أن يعرفوا مكان وجودي. أمّا قوات الدفاع الجوي فلم تتأثر بغيابي؛ لأننا بنينا أنظمة متكاملة لإدارة شؤون الضباط والأفراد، والاستخبارات، والعمليات، والإمدادات والتموين، والاستعداد القتالي، والاتصالات الإلكترونية، والتدريب، والتفتيش، والرقابة المالية، وما شابه ذلك. وتستطيع هذه الأنظمة أن تعمل ذاتياً على أكمل وجه.

         سأظل أشعر على الدوام بالامتنان لزوجتي عبير؛ لِمَا أبدته، خلال تلك الفترة العصيبة، من تفهم يفوق الوصف. وعبير هي ابنة عمي الأمير تركـي بن عبد العزيز، وقد تزوجتها عام 1981، بعد عودتي من دراساتي العليا في الولايات المتحدة، وهي زوجة مثالية وأم نموذجية تتميز بالدقة والذوق الرّفيع في تنظيم شؤون المنزل وإدارته. ملأت حياتنا الزوجية بالسعادة والرضا، وأنعم الله علينا بخمسة أطفال هم: هالة و مشاعل و فهد و عبدالله و سلمان. وهؤلاء مع ولديّ من زواجي الأول، فيصل وسارة، هم مصدر سعادتي وفخري واعتزازي في الحياة.

         كنت أتلقى، أحياناً، مكالمات هاتفية من الضباط في أوقات متأخرة من الليل، وعندما تشعر زوجتي بحساسية المكالمة، تغادر الغرفة علي الفور وبلا تردد، وتظل خارجها مدة قد تطول إلى أكثر من نصف ساعة. وفي الواقع، إنها لم تعلم، إلاّ في وقت متأخر جداً، أنني كنت مسؤولاً عن مشروع الصواريخ. وحدث، ذات مرة في اجتماع عائلي، في اليوم الذي نشرت فيه وسائل الإعلام العالمية نبأ الصفقة الصينية، أن التفت إليها عمي الأمير سلمان، أمير منطقة الرياض، وسألها "كيف حال "أبو" الصواريخ؟".

فأجابت بدهشة وحيرة: "أية صواريخ؟ من تعني بذلك؟".
فقال: "أعني زوجك بالطبع".

سابق بداية الصفحة تالي