إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع السنغالي ـ الموريتاني






المدن والأقسام الرئيسية
الأقاليم الطبيعية
القبائل الرئيسية
جمهورية موريتانيا
جمهورية السنغال



المبحث الرابع

المبحث الرابع

أزمة الحدود بين السنغال وموريتانيا

أولاُ: أزمة الحدود بين السنغال وموريتانيا

ينطوي الخلاف الحدودي بين السنغال وموريتانيا على فهمين أساسيين لقضية الحدود بشكل عام، فهم حديث مطلق وفهم تقليدي. فالحدود التي تتشكل في خط هندسي يفصل بين دولتين هي فكرة أوروبية حديثة تبلورت مع ظهور الدولة القومية في إطار التطور الرأسمالي، ومن ثم فإن هذا الخط الحدودي يكرس الانقطاع العام بين الدولتين في شكل علاقات حدودية، ونقاط جمارك ومراقبة، وهذا الفهم الحديث لم تعرفه القارة الأفريقية.

أما الفهم التقليدي حسب الواقع المعاش، والذي يتناسب مع دول أفريقيا، فيتمثل في وجود منطقة حدودية Frontier Zone، وليس في شكل خط حدودي Frontier Line. وهذه هي الحدود التي تفهمها الشعوب الأفريقية في حياتها اليومية المعيشية والتي كانت قائمة في القارة الأفريقية بما فيها إقليم نهر السنغال قبل التقسيم الاستعماري، والتي كانت تتناسب والظروف الاقتصادية لهذه الشعوب، كالزراعة المتنقلة غير المستقرة والصيد والرعي على مساحات شاسعة.

إن حدود أفريقيا قد خططت طبقاً لاعتبارات خارجة عن إرادة شعوب القارة، وهي أمور أُدخلت فيها مصالح القوى الأوروبية، والتكالب الاستعماري، ومن ثم فإن ثمانية أعشار الحدود الأفريقية قد رسمت بشكل لا يأخذ في الحسبان حقيقة الكيانات الأفريقية لعصور ما قبل الاستعمار.

إن الحدود بين موريتانيا والسنغال تم رسمها بين الدولتين بعد إدخال كثير من التعديلات عليها. وقد نجحت موريتانيا في إقناع السنغال ببعض مطالبها، إذ أبرمت في 14 أكتوبر 1959 معاهدة بين البلدين جاء فيها "أن يكون الموريتانيون أحراراً في الصيد بأي مكان في نهر السنغال، (اُنظر جدول المعاهدات الخاصة بموضوع النزاع بين موريتانيا والسنغال) كما أنه من المتيسر لهم أن يزرعوا بعض المناطق حول النهر المذكور". وكانت جمهورية السنغال تطمع في ضم موريتانيا إلى اتحادية مالي خاصة وأن بعض أفراد حزب الاتحاد الموريتاني الذين كانوا يروجون لمثل هذه الأفكار كانوا يقطنون في مدينة داكار وكانوا يتلقون المساعدة المادية والأدبية من حكومتها. وحتى عام 1960، كان هناك اجتهاد بين رأيين متعارضين في موريتانيا حول نهر السنغال، حيث كان يرى الفريق الأول أنه لا يمكن الاستغناء عن نهر السنغال، بينما يرى الفريق الثاني أنه لا حاجة لكي ترضخ موريتانيا لشروط أو ضغوط سياسية من جراء النهر، بسبب غنى موريتانيا بالمياه الجوفية وسقوط الأمطار الصيفية التي تصل إلى أكثر من 600 ملليمتر في بعض الأحيان.

1. الموقف السنغالي من أزمة الحدود

عندما نشب الصراع بين السنغال وموريتانيا لأسباب كثيرة، طفت على السطح مشكلة الحدود بين الدولتين، وعَدّتها السنغال بنداً أساسياً من بنود التسوية المنشودة، وإن كانت موريتانيا لا تنظر إليها بنفس المعيار. وأوضحت حكومة السنغال في بيانها الصادر، في الثالث من يوليه 1989، أن موقفها من الحدود يقوم على المبدأ القانوني، الذي يقضي بعدم جواز المساس بالحدود الموروثة من الاستعمار، وأنها لا تضمر أي غرض إقليمي في أرض موريتانيا.

طالبت السنغال بإتمام ترسيم الحدود بين البلدين على أساس المرسوم الفرنسي الصادر في 8 ديسمبر 1933، والذي عين الحدود بين مستعمرة السنغال وموريتانيا. وأوضحت السنغال أن هذا الأساس قد قبلته موريتانيا ونشرته في جريدتها الرسمية كأساس لترسيم الحدود الجنوبية.

وتتضح أهمية الاستناد إلى هذا المرسوم، إذا عُلم أن الحدود بين الدولتين تقع بمقتضاه في جزءها الأعظم على الضفة اليمنى لنهر السنغال، وليس في منتصف النهر، كما جرى عليه العمل. وبعبارة أخرى يصبح وفقاً لهذا المرسوم كل الجزء من نهر السنغال الواقع بين الدولتين وكذلك كل الجزر الصغيرة في مجراه باستثناء جزيرة واحدة ينص عليها المرسوم بالاسم، داخلاً في إقليم السنغال.

وتنص المادة الأولى، من مرسوم 8 ديسمبر 1933، على أن الخط الفاصل بين مستعمرة السنغال ومستعمرة موريتانيا يتحدد بعلامة يجب وضعها على شاطئ المحيط الأطلسي بنقطة محددة، (اُنظر جدول المعاهدات الخاصة بموضوع النزاع بين موريتانيا والسنغال) (بجوار منزل جارديت)، ومنها بخط يمر عبر البحيرات الصغيرة التي يكونها نهر السنغال بضواحي مدينة (سانت لويس) حتى الضفة اليمنى للفرع الرئيسي للنهر حتى التقائه برافده (الفالمية) بنقطة واقعة شمال مصب نهر الفالمية. ويحرص المرسوم على النص على أن جزيرة (أوبوا) eli au Bois داخلة في إقليم موريتانيا.

إن الخلاف بين الدولتين يكمن في عدم الالتزام أثناء الممارسة الجارية بمنطوق المرسوم الفرنسي، الذي يُعدّ المرجع الأساسي لترسيم الحدود بين الدول، طبقاً لقرارات منظمة الوحدة الأفريقية. وظهر التناقض لدى الدولتين عند تفسير هذا المرسوم بعد استقلال الدولتين، في عام 1960، وعند تنظيم استغلال النهر اقتصادياً من خلال منظمة الدول المطلة على النهر عام 1963، ثم من خلال منظمة استغلال النهر في عام 1972، وهو التنظيم الذي جعل الخط الفاصل بين الدولتين يمر بمنتصف النهر على أساس الاستفادة المتساوية للدول المطلة على النهر.

وفي 10 نوفمبر 1989 أصدرت حكومة السنغال بياناً تعلن فيه تأكيد تمسكها بمرسوم 8 ديسمبر 1933، وذلك بعد زيارة قام بها مساعد وزير الخارجية الأمريكي، هيرمان كوهين، الذي اقترح بأنه لا ولاية لحكومة السنغال على الضفة اليمنى، ولا محل لها وفقاً لقواعد القانون الدولي.

وأضاف أنه حسب الدراسة التي أجرتها الولايات المتحدة الأمريكية "تملك موريتانيا الضفة اليمنى بـأكملها وأراضيها الزراعية"، وأنه "لا يعتقد أن حكومة السنغال تطالب بهذا الإقليم"، وأن في رأيه ألاّ يطالب السنغاليون بالضفة اليمنى. وعاد المسؤول الأمريكي وكرر هذه النقاط في تصريحات له، في 10 نوفمبر.

وتتمثل أهمية بيان 10 نوفمبر 1989 السنغالي، في أنه يوضح رأي الحكومة السنغالية في ترسيم الحدود. فهو أولاً يبين فهمها لإقامة الحدود على الضفة اليمنى للنهر، عندما ينص على أن المعني بالضفة اليمنى Miver droite شريط الأرض الواقع بمحاذاة النهر على جانبه الأيمن، والذي يتحدد حده الأدنى Limite inferieure بالمنسوب المنخفض للمياه basses eaux وحده الأقصى Limite superieure   بالمنسوب المرتفع للمياه Hautes eaux ، وذلك كله، قبل طفحها، أي خروجها من مجرى النهر وقت الفيضان.

ومعنى هذا، أن حكومة السنغال لا تطالب بزحزحة الحدود شمالاً بمسافة معينة عن ضفة النهر لالتهام جزء من الجانب الأيمن بل يحرص البيان على معنى الضفة اليمنى. أي أن توضع العلامات على حافة المياه عند الحد الأدنى أو الأقصى حسب مدى انتشارها داخل المجرى قبل الفيضان وليس أثناءه، ولا تأخذ في الاعتبار الأرض التي يغمرها الفيضان، وهذا هو ما ترمي إليه السنغال وإنها لا تريد أية أطماع إقليمية في الأراضي الموريتانية.

كما أوضحت الحكومة السنغالية، في بيان 10 نوفمبر، رأيها في نهر السنغال وقد عَدّته داخلاً في جزئه الواقع بين البلدين بأكمله داخل الإقليم السنغالي، من دون أن تنكر في الوقت نفسه طابعه ونظامه الدولي المستمد من اتفاقية 11 مارس عام 1972 الخاصة بنظام النهر والموقعة عليها من الدول الأعضاء (في منظمة استغلال نهر السنغال). وذلك، على أساس التمييز بين إقليمية النهر Territorialisation وبين دوليته Internationalisation حيث وضع له نظاماً دولياً، ليتسنى للدول المطلة عليه الاستفادة منه واستخدامه على قدم المساواة.

أ. الحركة السياسية لإقليم النهر والمطالبة الحدودية

وكان للحركة السياسية لإقليم النهر السبق التاريخي في المطالبة الحدودية بالعودة إلى الوضع القائم، في عام 1891، عندما كان الجانب الأيمن للنهر جزءاً من السنغال. وظلت تثيرها من حين إلى آخر، وبصفة خاصة، بعد تزايد التوتر بينها وبين السلطات الموريتانية، في منتصف الثمانينيات. وقد استندت هذه الحركة في موقفها هذا إلى الشعور التلقائي لسكان إقليم نهر السنغال، الذين تختلف نظرتهم إلى الحدود عن نظرة القانون الدولي الحديث إليها. فمفهوم الحدود باعتبارها خطاً يفصل بين دولتين يُعدّ غريباً عليهم وعلى عالمهم الثقافي، الذي تكيف وتحدد على أساس عوامل التواصل، البيئي والاقتصادي والثقافي، بين شطري وادي نهر السنغال، وهي عوامل تحملهم على عدم الاقتناع بأن النهر يمثل حاجزاً بين كيانين متميزين، وإنما على العكس همزة وصل بين جزئين لنفس الكيان الطبيعي الواحد.

وذكرت مجلة (لوريفي Le Reveil ) ، لسان حال الحركة السياسية لإقليم النهر، موقفها من قضية الحدود بقولها: "لا يمكن للسكان الذين يعيشون على جانبي النهر منذ الأزل أن يعتبروا هذا النهر بمثابة حدوداً بين دولتين مستقلتين، فبالنسبة إليهم تقوم الحدود على مسافة أبعد ناحية الشمال حيث تبدأ أول الكثبان الرملية، وهي حدود عرقية وعنصرية وثقافية: ففي الشمال يوجد البيضان الرعاة وفي الجنوب الزنوج الأفارقة المستقرون. هذه هي الحدود الطبيعية والنهائية".

وشددت الحركة السياسية لإقليم النهر، بعد نشوب الأزمة مع موريتانيا، على قضية الحدود باعتبارها لب الخلاف والمشكلة الحقيقية وأخذت تروج نظرتها الخاصة في هذا الشأن، ومفادها زحزحة خط الحدود شمالاً بعيداً عن الضفة اليمنى لنهر السنغال بمسافة معينة، تمثل المسافة التي تغمرها مياه الفيضان بعد طفوحها وخروجها من مجرى النهر. وهي تختلف من منطقة إلى أخرى حسب تضاريس الأرض، وأعطت معنىً واسعاً لكلمات "المجرى الأعرض Lit majeur" للنهـر تمييـزاً عن "المجرى الأضيق Lit mineur " أو "حد المنسوب المرتفع لمياه النهر Hautes eaux". ويختلف عرضها حسب التقديرات: فتبلغ هذه المسافة عند البعض 7 كم وعند آخرين 70 كم و 100 كم. وطالب ممثلو حركة الحكومة بالتمسك بكل حزم بهذه المطالبة وعدم التزحزح عنها.

ب. حجج الحركة الشعوبية لإقليم النهر

وتؤسس الحركة الشعوبية لإقليم النهر وجهة نظرها على نوعين من الحجج:

(1) حجج تاريخية

اعتمدت، في المقام الأول، على أن أراضي نهر السنغال بجانبيه، بل كل الأراضي التي تتشكل منها موريتانيا كانت تقطنها الشعوب السوداء، منذ فجر التاريخ وحتى قدوم حركة المرابطين، بحيث أن النهر لم يكن يمثل في أي وقت فاصلاً وإنما عموداً فقرياً للمنطقة بأسرها. وكذلك، لأنه في إطار الحقبة الاستعمارية لم تتبلور موريتانيا في حدودها الحالية مع السنغال إلا في عام 1900، وكانت من قبل جزءاً من السنغال، بل ظلت عاصمته سانت لويس، وهي أهم مدينة في إقليم نهر السنغال، عاصمة لها أيضاً، حتى عام 1957. ويستشهد أصحاب هذا الرأي ليس فقط بمرسوم 8 ديسمبر 1933، وإنما بالقرارات الفرنسية السابقة عليه، كمرسوم 16 يونيه عام 1895، وقرار 11 مايو 1895، والقرار الملكي، في 7 سبتمبر عام 1840. (اُنظر جدول المعاهدات الخاصة بموضوع النزاع بين موريتانيا والسنغال)

ويتناول القرار الملكي، في 7 سبتمبر عام 1840، إرساء أجهزة مستعمرة السنغال، ولا يتضمن شيئاً عن حدودها الإقليمية. أما القرار الوزاري في 11مايو عام 1895،فينشئ ثماني دوائر لمستعمرة السنغال، إحداها دائرة كهيدي Kaedi، واقعة على الضفة اليمنى للنهر بأراضي موريتانيا حالياً. ومرسوم 16 يونيه 1895  ينشئ الحكومة العامة لأفريقيا الغربية الفرنسية، التي كانت تضم كلاً من السنغال والسودان الفرنسي وغينيا الفرنسية وساحل العاج، ولا يذكر شيئاً عن موريتانيا، التي كانت تقتصر على الجانب الأيمن للنهر، الذي ضُمّ إلى مستعمرة السنغال، من عام 1891 حتى عام 1900. (اُنظر جدول المعاهدات الخاصة بموضوع النزاع بين موريتانيا والسنغال)

(2) حجج عرقية

تقوم على الوحدة العنصرية والثقافية للشعوب السوداء على جانبي النهر، والتي تنعكس في كون أسماء القرى والمدن فيها ولمسافة بعيدة ناحية الشمال كلها بولارية أو سونيكية أو ولوفية.

ج. المعارضة الحزبية السنغالية ومسألة الحدود

أبدت المعارضة الحزبية، من ناحيتها، اهتماماً بالغاً بالمسألة الحدودية. وجاءت المبادرة في هذا المجال من جانب "العصبة الديمقراطية" الحليف الماركسي للحزب الديمقراطي، ويقودها "عبد لاي باتلي"، وهو من أبناء إقليم النهر. وانتهى الحزب الديموقراطي إلى تبني الموقف المتطرف من الحدود، ليس اقتناعاً بسلامته من ناحية المبدأ، وإنما لاستخدامه كسلاح لإحراج الحكومة والمزايدة عليها. فعندما تم لقاء الرئيسين، السنغالي والموريتاني، في "اوجادوجو"، قام هذا الحزب بحملة صحفية حول قضية الحدود متهماً الرئيس ضيوف باستعداده للتنازل عن "جزء من التراب الوطني".

وقد أجمعت كافة الأحزاب على ضرورة تضمين تسوية النزاع القائم حلاً للمسألة الحدودية على أساس التطبيق الفعلي لمنطوق مرسوم 8 ديسمبر 1933، الذي أصبح مطلباً عاماً سنغالياً. (اُنظر جدول المعاهدات الخاصة بموضوع النزاع بين موريتانيا والسنغال)

وعلى هذا النحو، يتضح كيف تُعدّ المطالبة بحل المسألة الحدودية جزءاً من اللعبة السياسية في السنغال، بعد أن تحولت من مطلب إقليمي طرحته حركة إقليم النهر إلى مطلب وطني يصعب على أي قوة سياسية سنغالية عدم إبداء الاهتمام به. وهو تحول يعكس القوة الجديدة التى اكتسبتها الحركة الإقليمية في غمار النزاع السنغالي الموريتاني. إلاّ أن السياسة الداخلية واعتباراتها غير كافية وحدها لتفسير حرص الحكومة السنغالية على إثارة القضية الحدودية.

د. تحديد مسؤولية وقوع النزاع

لا شك أن الحكومة السنغالية تولي اهتمامها إلى تحديد وتوزيع المسؤوليات عن كل ما حدث بين البلدين منذ 9 أبريل 1989، وهو موضوع أساسي في تحديد التعويضات المتبادلة. ولا ريب، كذلك، في أن هذا لا يتم بمنأى عن رؤية واضحة إلى رسم الحدود حيث لا مجال لتكييف قانوني للحادث المفجر للأزمة لا يتضمن تحديداً مكانياً لوقوعه. لذا، كان حرص السلطات السنغالية منذ اللحظة الأولى على أن تحدد مكان هذا الحادث في جزيرة "دوندي خوريه.[1] Dounde Khore " وهي Tuweiza  ، حسب تسميتها الموريتانية الداخلة في الإقليم السنغالي، وتسميته بحادث "دياوارا" نسبة إلى القرية السنغالية الواقعة على الضفة الجنوبية للنهر في مواجهة هذه الجزيرة. ومعنى ذلك أن الحادث الذي أطلق شرارة الأزمة كان عدواناً من جانب رعاة موريتانيين، اشترك معهم أفراد من قوات الأمن الموريتانية، داخل الأراضي السنغالية. ولقد وضح ذلك تماماً في الخطاب الذي ألقاه الرئيس السنغالي عبده ضيوف، يوم 29 أبريل 1989، وفي المستندات التي قدمتها، بعد ذلك، الحكومة السنغالية. لذا، تتضح أهمية مرسوم 8 ديسمبر 1933 الذي جعل كافة جزر النهر من نصيب السنغال، باستثناء جزيرة واحدة خصها بالذكر. (اُنظر جدول المعاهدات الخاصة بموضوع النزاع بين موريتانيا والسنغال)

واصطدمت اللجنة المشتركة للتحقيق في الحادث، والتي شكلتها الدولتان، والتي انفضت دون التوصل إلى نتيجة يوم 29 أبريل، بعقبة تحديد مكان وقوع الحادث المفجر. فالحادث بالنسبة إلى الجانب الموريتاني وقع في الأراضي الموريتانية نتيجة هجمة قام بها مزارعون سنغاليون بالقرب من قرية "سونكو" الموريتانية، ولذلك يسمونه "بحادث سونكو"، وهي قرية مقابلة لقرية "دياوارا" واقعة على الضفة الشمالية، وبين القريتين عداء تاريخي متوارث.

2. الموقف الموريتاني من أزمة الحدود

ترفض الحكومة الموريتانية التحدث في مسألة الحدود، وترى فيها مشكلة مفتعلة لصرف الأنظار عن المشاكل الحقيقية، وعن القتل والتنكيل بالموريتانيين في السنغال، وأن حكومة داكار تلقفت هذا المطلب من أيدي المعارضة لتزايد عليها. كما استهجنت البيان السنغالي، الصادر في 10 نوفمبر عام 1989، ولم تلمس فيه ما قد يشجعها على تغيير موقفها. وقال الرئيس الموريتاني في حديث صحفي: "هذه هي المرة الأولى منذ أكثر من ثلاثين عاما نتحدث فيها عن هذه القضية. إنها مشكلة وهمية".

ويوضح المسؤولون الموريتانيون في الاتصالات الجانبية أن موقف دولتهم يقوم على التمسك بمبادئ القانون الدولي، ومنها مبدأ عدم جواز المساس بالحدود الموروثة من الاستعمار، كما جاء في قرار مؤتمر القمة الأول لمنظمة الوحدة الأفريقية، وتأكد باتفاقية نظام النهر لمنظمة استغلال نهر السنغال. وبمقتضى هذا المبدأ فإن الحدود بين الدولتين تمر بمنتصف النهر. ولا يرى هؤلاء في حالة رفض الجانب السنغالي لهذا المنطق سوى بديلاً واحداً يتمثل في رأيهم في "المطالبة التاريخية". وحينئذ، يصبح نهر السنغال كله نهراً موريتانياً بحكم التسمية، إذ إن اسم (سنغال) مشتق من كلمة (صنها دجا)، وهي مجموعة قبلية موريتانية موجودة حتى الآن ( أي تاريخ إعداد البحث)، كما يدخل الشمال السنغالي بالضفة السنغالية للنهر في الإقليم الموريتاني استناداً إلى سابق خضوعه لسيادة أمراء البراكنة والترازة، بما في ذلك مدينتي "سانت لويس" و "لوجا" كما تثبته المعاهدات المعقودة بينهم وبين الأوروبيين، خاصة الفرنسيين في المرحلة التي سبقت الاستعمار المباشر.

وفي الواقع، فالقول إن المسألة الحدودية جديدة كل الجدة زعم باطل. فلقد أثيرت من قبل اندلاع الأزمة السنغالية الموريتانية الراهنة. وقتذاك وإنما لم تثر زوبعة ولم تسبب مشكلة بين البلدين. وعليه يمكن القول إن هذه الأزمة لم تخلق المسألة الحدودية، وإنما بعثتها انبعاثاً وأكسبتها، قيمة جديدة في نظر الجانب السنغالي، الذي كان دائماً هو المهتم بها.

أ. التسلسل التاريخي للمسألة الحدودية

طرحت لأول مرة مسألة الحدود في العهد الاستعماري من قبل "مجلس مستعمرة السنغال"، وكان مقره سانت لويس، في نوفمبر 1938، ثم من جديد في عام 1947، من جانب "اتحاد المنحدرين من وادي النهر"، بقيادة الشيخ سيد نورو طال، الد الشيخ تيرونو منتقا طال والذي طالب بإقامة الحدود بين السنغال وموريتانيا على بعد خمسين كم شمال الضفة اليمنى للنهر، ولكن لم تنجح هذه المحاولات.

وظلت هذه المشكلة بين الدولتين في شكل مراسلات، إلاّ أن الاختلاف كان حول طريقة وضع العلامات الحدودية في الناحية الشمالية لسانت لويس، في عام 1971. وبعد ذلك، فشل اجتماع لوزيري داخلية البلدين في تحديد التبعية الإقليمية لإحدى الجزر الصغيرة الواقعة في النهر وهي جزيرة "تود Todd " مما دفع بالرئيس الموريتاني، المختار ولد دادة، لإرسال خطاب إلى قرينه السنغالي، ليوبولد سنجور، في 17 مايو 1973. رَدّ الرئيس السنغالي برسالة، في 23 سبتمبر 1973، تضمنت شرحاً وافياً لوجهة نظر بلاده، ليس فقط بالنسبة لوضع الجزيرة المذكورة، وإنما فيما يتعلق بترسيم الحدود بين الدولتين، بصفة عامة، على أساس مرسوم 8 ديسمبر 1933. كما حوت رسالته إشارات واضحة إلى أن الجانب الموريتاني للنهر كان أصلاً جزء من مستعمرة السنغالي، وإلى الوحدة العرقية والثقافية، التي تربطه بالجانب السنغالي. وتبلور الموقف الموريتاني، تماماً، في رسالة للرئيس ولد دادة المؤرخة في 23 أبريل عام 1975، دافع فيها عن أن الحدود بين الدولتين تمر في منتصف نهر السنغال، ورفض بكل وضوح وجهة نظر الرئيس السنغالي. وحذر الرئيس ولد دادة الرئيس سنجور في هذه الرسالة، أن بلاده ستمتنع عن المشاركة في كافة برامج وأنشطة منظمة استغلال نهر السنغال في حالة تشبث السنغال برأيه في مسألة الحدود.

ولم يقر الرئيس السنغالي في رده بحجة الرئيس الموريتاني، ببطلان مرسوم 8 ديسمبر 1933، لعدم الاعتداد به في التطبيق العملي، إذ لا تفقد القرارات الإدارية كمرسوم 8 ديسمبر 1933 قيمتها القانونية لهذا السبب في القانون الفرنسي، الذي يُعدّ هو مصدر التشريع في الدولتين. وقد فَضّل الرئيس السنغالي عدم الاستمرار في هذه المساجلة الفقهية، بعد إرسال الرئيس الموريتاني لرسالة أخرى، في 23 أغسطس 1975، حفاظاً على "منظمة استغلال نهر السنغال" الوليدة من الانهيار، ولم تكن تبدي موريتانيا اهتماماً كبيراً بها، في ذاك الوقت. وقد تضمنت رسالة الرئيس الموريتاني كما ذُكر من قبل، التهديد بتجميد مشاركة بلاده فيها، على عكس السنغال، الذي كان متحمسا لفكرة استغلال إمكانيات النهر ومهتماً باشراك موريتانيا فيها للاستفادة من دور رئيسها في جذب التمويل العربي، الذي اتضحت ضرورته الحيوية لإنجاز المشروع.

وجاء التعديل، الذي أدخلته الدول الأعضاء الثلاث في منظمة استغلال نهر السنغال، في 16 ديسمبر 1975، على اتفاقية نظام النهر دليلاً على الاتفاق الودي بين السنغال وموريتانيا، وعلى إنهاء المساجلة الحدودية، التي توقفت في ذاك الوقت في مقابل تأكيد الالتزام الموريتاني تجاه المنظمة. وانصب هذا التعديل على تمديد الفترة التي يجوز بعد انقضائها للدولة العضو بالمنظمة الانسحاب منها، بجعلها 99 عاما بعد أن كانت 10 أعوام فقط لتأكيد ـ على حد تعبير البيان المشترك الذي صدر في هذه المناسبة ـ الالتزام الذي لا رجعة فيه للدول الأعضاء في المشروع.

ب. الحجج الموريتانية الخاصة بالحدود

إن الموقف الموريتاني من الحدود لا ينقصه الحجج والأسانيد، ولا تزال رسالة الرئيس ولد دادة في 23 أبريل 1975 تُعدّ خير مرجع في هذا الشأن. وقد تضمنت ما يلي لرفض الموقف السنغالي:

(1) إرجاع الأساس القانوني لتعيين الحدود إلى المرسوم الفرنسي الصادر في 25 فبراير 1905، الذي عين خط الحدود بين مستعمرة السنغال والقطر المدني لموريتانيا بنهر السنغال، وليس بالضفة اليمنى للنهر كما فعل المرسوم اللاحق الصادر في 8 ديسمبر 1933. (اُنظر جدول المعاهدات الخاصة بموضوع النزاع بين موريتانيا والسنغال)

(2) اعتبار مرسوم 8 ديسمبر 1933 لا يصلح كأساس لترسيم الحدود؛ لانعدام الاتساق في المعنى، إذ صدر بغرض استيضاح مرسوم 25 فبراير 1905، وهو ما لم يفعله، إذ إنه غير أساس تعيين الحدود من النهر إلى الضفة اليمنى للنهر، في الوقت الذي امتنع فيه عن إلغاء مرسوم 25 فبراير 1905 وظل يرجع إليه. ثم لأن مرسوم 8 ديسمبر 1933، لم يطبق قط، وأهمل إهمالاً قانونياً من الناحية العملية، بدليل إصدار مستعمرة موريتانيا العديد من القرارات الإدارية في مجالات تنظيم الملاحة النهرية وصيد الأسماك وتحديد المصايد، في أعوام 1940، 1952، 1955و1959، وفي الوقت نفسه، الذي نظمت فيه مستعمرة السنغال من جانبها هذه الموضوعات، وهو أمر يتنافى وكون نهر السنغال نهراً سنغالياً خالصاً، كما يفهم من مرسوم 8 ديسمبر 1933. ولقد نشرت الجريدة الرسمية لأفريقيا الغربية الفرنسية كل هذه القرارات الموريتانية بما يدل على استيفائها لشروط صحتها القانونية، وعلى موافقة الحكومة الفرنسية، صاحبة الاختصاص. (اُنظر جدول المعاهدات الخاصة بموضوع النزاع بين موريتانيا والسنغال)

(3) تستند موريتانيا إلى ما جرى العرف والعمل الدوليان عليه في شأن ممارسة السيادة. فمنذ عام 1960، وموريتانيا تبسط سيادتها على الضفة اليمنى للنهر من حافتها حتى الخط، الذي يمر بمنتصف النهر من دون منازعة أو اعتراض من السنغال.

(4) تعتمد موريتانيا في إثبات حقها في النهر على مبادئ القانون الدولي، وقرارات منظمة الوحدة الأفريقية، ومنظمة استثمار نهر السنغال. فمبادئ القانون الدولي تقضي أن كل دولتين يفصل بينهما نهر أو مجرى مائي، تكون حدودهما في منتصف ذلك النهر، وذلك انطلاقاً من مبادئ الإنصاف والمساواة بين الدول المطلة عليه. كما نص القرار 16 الصادر عن مؤتمر القمة الأفريقي الأول بالقاهرة في يوليه 1964، على "أن تتعهد جميع الدول الأعضاء على احترام الحدود القائمة عندما يتم استقلالها الوطني". وعلى الرغم من أن دستور منظمة الوحدة الأفريقية لم يتضمن هذا المبدأ، إلاّ أنه تضمن محتواه وذلك بالإشارة إلى ضرورة الحفاظ على السلامة الإقليمية للدول.

(5) إعلان اتفاقية منظمة نهر السنغال، في 11 مارس 1974، والتي وقعتها الدول الثلاث السنغال وموريتانيا ومالي، وتنص في مادتها الأولى على إعلان نهر السنغال في جمهورية مالي والجمهورية الإسلامية الموريتانية وجمهورية السنغال نهراً دولياً بما في ذلك روافده. وتنص المادة (6) على أن الملاحة في النهر بالأقاليم الوطنية للدول المتعاقدة حرة ومفتوحة تماماً. كما تنص المادة (7) على أن تلتزم الدول المتعاقدة على إبقاء قطاعاتها من النهر في حالة تسمح بتسيير الملاحة فيها، كما تحرص الاتفاقية على تأكيد مبدأ المساواة بين الدول المتعاقدة، وليس بوضع النهر كله داخل في الإقليم الوطني لدولة واحدة من هذه الدول. (اُنظر جدول المعاهدات الخاصة بموضوع النزاع بين موريتانيا والسنغال)

(6) ترد موريتانيا على الحجة السنغالية، التي تقوم على الحق التاريخي، بأن هذه الحجة تعتمد على أسلوب الانتقاء التاريخي، الذي يعتمد على اختيار فترة زمنية أو حدث تاريخي معين يناسبه. وتستطيع موريتانيا أن تستعمل هذا الحق، وتقول إن القبائل الموريتانية ظلت تسيطر على جانبي النهر لفترات طويلة حتى أن البرتغاليين، وهم أول من وصل المنطقة من الأوروبيين، قد أطلقوا اسم تلك القبائل وهي قبائل صنهاجة على ذلك النهر، فسموه "نهر صنهاجة"، ثم حُرِّف الاسم بمرور الزمن، حتى أصبح نهر "السنغال". وقد استمرت السيطرة الموريتانية على النهر منذ القرن الخامس عشر حتى القرن العشرين.

ج. الاختلاف الحدودي بين الدولتين

وباختصار فإن الاختلاف الحدودي بين الدولتين يتركز في النقاط التالية:

يمثل مرسوم 8 ديسمبر 1933، الأساس القانوني الأهم بالنسبة لترسيم الحدود بين السنغال وموريتانيا، وهو فعلاً يقيم الخط الفاصل للحدود شرق منطقة سانت لويس على الضفة اليمنى للنهر. ولكنه ليس الأساس الوحيد فهناك مرسوم 25 فبراير 1905. (اُنظر جدول المعاهدات الخاصة بموضوع النزاع بين موريتانيا والسنغال)

وإن كان من خصائص القرار اللاحق أن يجب القرار السابق. العرف وقيمته القانونية: فمنذ عام 1960 والدولة الموريتانية تبسط سيادتها كاملة على الضفة اليمنى للنهر من حافتها حتى الخط المار بمنتصف النهر، من دون منازعة أو اعتراض. والأهم قانوناً، في رأي الكثير من الفقهاء، هو الوجود الفعلي والمعترف به للحدود، وليست الوثيقة القانونية المعينة لهذه الحدود، سواء كانت معاهدة أو اتفاقاً دولياً أو قراراً إدارياً صادراً من السلطة الاستعمارية صاحبة الاختصاص (كما هو الحال مع مرسوم 8 ديسمبر 1933). فللوثيقة قيمة تاريخية وليست إنشائية، وهناك حدود من دون وثيقة تعيّنها. (اُنظر جدول المعاهدات الخاصة بموضوع النزاع بين موريتانيا والسنغال)

إعلان كل من دولتي السنغال وموريتانيا تمسكها بمبدأ (عدم جواز المساس بالحدود الموروثة من الاستعمار) الذي أصبح يمثل جزءاً أصيلا من القانون الإقليمي الأفريقي، ومن المشروعية الأفريقية. ويتزايد وزنه حالياً في إطار مبدأ عدم قبول تغيير الحدود القائمة. (اُنظر ملحق تحديد الحدود السياسية بين الدول النهرية) وفلسفتهما العامة واحدة، وهي تغليب مقتضيات الأمن والاستقرار على اعتبارات العدل على أساس أن المحصلة النهائية للتغيير ستكون أوخم وأكثر ضرراً من عدم التغيير بكل ما قد يتضمنه الوضع القائم من عيوب. فالخلاف الحدودي السنغالي الموريتاني لا يدور حول الأخذ بمبدأ عدم جواز المساس بالحدود الموروثة من الاستعمار من عدمه، وإنما حول معرفة ماهية هذه الحدود الموروثة نفسها. وعليه فإن حل الخلاف لا يتضمن تبني النظرة المراجعية، وقوامها المنازعة في صحة الحدود الاستعمارية باسم حقوق تاريخية معنية واعتبارات جغرافية وعرقية[2].

د. يوجد بكل من البلدين تيار يؤمن بالنظرة المراجعية، التي تتناقض ومبدأ عدم جواز المساس بالحدود الموروثة من الاستعمار. وإذا كانت مخاطر مثل هذه النظرة غير خافية على أحد، بالنسبة إلى هذا النزاع أو غيره، فإن الحالة التي نحن بصددها كفيلة أيضاً بإبراز عدم صلاحيتها لأن تكون أساساً لتعيين الحدود بين الدول المعاصرة، إذ إن المطالبات التاريخية لا ترجع الشيء إلى أصله الصحيح، وبالتالي توفر له شروط الصلاحية كما تدعيه، وإنما تبدل وضعاً تحكمياً معيناً بوضع تحكمي آخر. ويقصد بالوضع التحكمى الوضع القائم الذي تبلور في مرحلة معينة من التاريخ يحكم موازين القوى بين الطرفين، والذي يتضمن بالضرورة قدراً من (العدل) لطرف وقدراً من (الظلم) للطرف الآخر. فالمطالبة التاريخية تختار من التاريخ الفترة التي تناسبها فقط وتتجاهل غيرها.

هـ. ينطوي الخلاف الحدودي السنغالي الموريتاني على فهمَيْن للحدود: الفهم الحديث المطلق والتجريدي، والفهم التقليدي والنسبي والمعاش للحدود. فالحدود التي تتمثل في خط هندسي يفصل بين دولتين مدلول لفكرة حديثة أوروبية تبلورت مع ازدهار الدول القومية في إطار التطور الرأسمالي. وبناء على هذه النظرة يكرس الخط الذي يتم رسمه بالأدوات القياسية لخبراء الطبوغرافيا الانقطاع المطلق بين دولة ودولة مجاورة، تمثله العلامات الحدودية ونقاط الجمارك والمراقبة. مثل هذه النظرة لم تكن تعرفها أفريقيا وغيرها من المناطق، التي لم تكن قد شهدت تطوراً اقتصادياً وسياسياً وقومياً وثقافياً مماثلاً.

ومن المفارقات أن يلاحظ اليوم كيف يبتعد غلاة التطرف في البلدين عن الفهم التقليدي للحدود، ويتمسكون بالخط الفاصل المطلق، على الرغم من تمسكهم بالحقوق التاريخية. كما نلاحظ في المقابل اقتراب فهم الحكومة السنغالية للحدود من مدلول المنطقة الحدودية، (وقد ضاق عرضها ما بين حد المنسوب المرتفع لمياه النهر وحد المنسوب المنخفض لمياهه)، الذي يتمشى والتمييز ما بين إقليمية النهر وإخضاعه للنظام الدولي، أي لنظام الاستفادة المشتركة للدول المطلة عليه.

وعلى هذا، فإن الخلاف الحدودي بين السنغال وموريتانيا لا يدور حول الأخذ بمبدأ عدم جواز المساس بالحدود الموروثة من الاستعمار من عدمه، وإنما حول معرفة ماهية هذه الحدود الموروثة نفسها، وبالتالي فإن الحل لهذا الخلاف يجب أن يتضمن فكرة الحقوق التاريخية، أو الاعتبارات الجغرافية والعرقية، والأخذ في الحسبان طبيعة المنطقة وشعوبها، والتي لا تفصل بينها تلك الحدود الهندسية.

ثانياً: موقف الدولتين من قضية الحقوق العرفية

1. موقف السنغال

رأى بعض المحللين أن وراء إثارة الحكومة السنغالية لمسألة الحدود رغبة منها في استخدام هذه المطالبة كأداة ضغط على الحكومة الموريتانية لحملها على تقديم تنازلات معينة في مجال الحقوق العرفية التي كان يتمتع بها المزارعون السنغاليون، والتي بموجبها كانوا يستغلون أراض لهم على الضفة الشمالية الموريتانية.

قد يكون لهذا الاعتبار أثره ولكنه ثانوياً لما للمطالبة الحدودية من دواعي قائمة بذاتها. والمرجح أن الحقوق العرفية تمثل بنداً آخر على قائمة المطالبات السنغالية والخلط بينها ومسألة الحدود غير قائم بالنسبة إلى الحكومة السنغالية، على عكس الحال لدى أنصار التيار المراجعي، الذين لا يميزون بين الموضوعين حقيقة. وقد وجدوا في زحزحة الحدود شمالاً وسيلة لمعالجة موضوع الحقوق العرفية، وضماناً لاسترداد الأراضي، التي كانت بحيازة مواطنين سنغاليين، على الجانب الموريتاني للنهر.

وحرص المسؤولون السنغاليون على التفريق دائما في اتصالاتهم بالوسطاء بين موضوعي الحدود والحقوق العرفية والتاريخية. وقد اعتبروا أنه يجب تضمين كل منهما على حدة في الاتفاق الإطاري لمبادئ التسوية. البيان نفسه، الذي أصدرته الحكومة السنغالية، في 10 نوفمبر 1989، كرس هذا المنهج، إذ بعد توضيحه لموقفها من مسألة الحدود، انتقل البيان إلى ما أسماه "بمسألة أخرى" في التسوية "يعلق عليها أهمية خاصة"، وهي الحقوق العرفية المتعلقة بالأراضي التي كان يستغلها السنغاليون على (الجانب الأيمن) للنهر، والذي لا يجب خلطه كما يقول البيان "بالضفة اليمنى"، أي بأراضي واقعة (حسب هذا المنظور) خارج الإقليم السنغالي وداخل الإقليم الموريتاني مؤكداً أن الملكية العقارية لا ترتبط بمعيار الجنسية وحده.

2. موقف موريتانيا

تبنت الحكومة الموريتانية موقف الرفض من المطالبة بالحقوق العرفية على نسق موقفها من المطالبة بترسيم الحدود. ومن المستبعد تماما أن يقبل النظام الموريتاني مراجعة سياسته العقارية بحيث يتم استعادة المزارعين السنغاليين لأراضيهم لما لهذه السياسة من صلة عضوية بالخيارات الأساسية للنظام، اقتصادياً وسياسياً، وبطبيعة تشكيل الكتلة السائدة في موريتانيا. ومن ثمّ، فمن غير المتصور إمكان العودة إلى ما كان قد انتهى إليه الجانبان، الموريتاني والسنغالي، قبيل الأزمة الراهنة وقتذاك من اتفاق على حصر كل دولة للأراضي التي بحيازة مواطني الدولة الأخرى، وإجراء التبادل بينهما كلما كان ذلك ممكناً، وتجميد الوضع القائم إلى أن يتم الحصر والتبادل وهو أسلوب لم يدخل قط حيز التنفيذ.

بيد أن الحقوق العرفية تقبل نوعاً آخر من المعالجة من طريق تعويض أصحاب الحيازات عن الأراضي، التي انتزعت منهم، وهو الحل الذي نَوّه به البيان السنغالي الصادر في 10 نوفمبر 1989، عند إشارته إلى ما جرى عليه العرف في حالة الحرب بين بلدين، من السماح لسكان كل من البلدين بمواصلة استغلال الأراضي، التي تكون بحيازتهم في البلد الآخر أو تعويضهم عنها، وإلى أن هذه المعاملة تنطبق من باب أولى في حالة السلم. وقد أوضح المسؤولون السنغاليون خلال اتصالاتهم بالوسطـاء أنهم يعدون هذه الأراضي داخلة ضمن أموال السنغاليين الضائعة في موريتانيا. ولكن لا يبدو أن الجانب الموريتاني يوافق على ذلك، ولا على تطبيق مبدأ التعويض عن هذه الحقوق العرفية.

وإن هذا التشدد يعكس موقفاً سياسياً تماماً، كما هو الحال بالنسبة إلى التصلب من مسألة الحدود، اتخذه النظام الموريتاني ترضية للتيار المتطرف الشوفيني، وتكريساً للخريطة العقارية في شكلها الجديد. علماً بأنه قد تكون لموريتانيا نفسها مصلحة في إقرار مبدأ الحقوق العرفية، وفي التوصل إلى حل متوازن، إذ إن هذا المدلول لا ينطبق فقط على السنغال، إنما أيضاً على موريتانيا سواء في شكل أراضي كانت بحيازة موريتانيين على الجانب السنغالي للنهر وهي محدودة وتقل عما كان بيد السنغاليين على الجانب الموريتاني، أو في شكل حق إدخال قطعان المواشي الموريتانية إلى الأراضي السنغالية بغرض الانتجاع فيها، وهو بلا شك موضوع له أهمية مؤكدة بالنسبة إلى موريتانيا.

والأمل من قرب التواصل مع دول الجوار وخاصة السنغال قائم فإنه بعد أن تغير النظام الحاكم في موريتانيا بعد الانقلاب الذي وقع في الثالث من أغسطس 2005، والذي قاده المجلس العسكري للعدالة والديموقراطية بعد الإطاحة بنظام الرئيس معاوية ولد طايع بعد عشرين عاماً من الاستئثار بالسلطة.

فيبدو أن تغير النظام الحاكم سوف يفتح آفاقاً جديدة للمصالحة مع الدول التي اضطربت علاقاتها مع النظام السابق. فالمتابع لسياسة النظام الجديد يلاحظ حرصه على التواصل مع دول الجوار، وتحسين العلاقات معها. فقد أرسل بوفود ورسائل إلى دول الجوار، ونخص بالذكر السنغال بقصد دعم العلاقات، ولكن يبقى الأمر مرهوناً بتعامل النظام مع القضايا الخلافية مع الدول المجاورة.



[1] جزيرة دونديه خوريه الصغيرة، يصعب تحديدها في غير أوقات الفيضان؛ إذ إنها أقرب إلى الساحل الموريتاني منها إلى السنغالي. وينخفض منسوب مياه النهر التي تصلها بهذا الساحل، خلال بعض أشهر السنة، حين تختفي وتبدو كأنها جزء ملاصق متمم للضفة اليمنى. وقال إن مجرى النهر، يتزحزح، ناحية الجنوب، تحت تأثير عوامل جيولوجية، مما يجعل هذه الضفة تلتهم جُزُراً صغيرة، كانت، في الأصل بعيدة عنها

[2] ربما يمكن النظر إلى مبدأ عدم جواز المساس بالحدود الموروثة من الاستعمار، كمبدأ من مبادئ ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية، إذا كان مرادفاً لمبدأ الحفاظ على السلامة لإقليمية الدول، كما يمكن فهْمه من أعمال المؤتمر التأسيسي، وتبلور صراحة في القرار الرقم 16، الصادر عن مؤتمر القمة الأفريقي الأول، المنعقد في القاهرة، في 21 يوليه 1964، والذي تبناه مؤتمر القِمة الثاني لحركة عدم الانحياز، في القاهرة، في أكتوبر 1964. وجرى العمل على الرجوع والاستناد إليه، في كل خلاف حدودي في أفريقيا، بل مال إلى اكتساب قِيمة عالمية عامة، كما نلمسه في حكم محكمة العدل الدولية في قضية مالي ـ بوركينا فاسو (22ديسمبر 1986). ويلفت، في هذا الصدد، الوحدة الجوهرية بين هذه المبادئ ومبدأ `استمرار وضع اليد`؛ الذي كان قد توصل إليه، مبكراً، فقهاء أمريكا اللاتينية