القيادة الموازيَة (تابع)

          تعلمت، بالخبرة، أنه مهْما توطدت أواصر الصِّلة بين طرفين متحالفين، فلابد لهما من التسابق دوماً للتفرد بميزات أكثر. وأن كل طرف لا بد له من الاحتفاظ لنفسه بقدر خاص من المعلومات. وعندما أفكر الآن في الأمر، أرى أن معظم خلافاتي مع شوارتزكوف نشبت في شأن انتزاع المعلومات، وأن يجعلني أشاركه في ما يعرف. إذ اكتفى الأمريكيون باطلاعنا على ما قَدَّروا أنه ضروري لنا، إضافة إلى معلومات هامشية لا تسمن ولا تغني من جوع. ولا ألومهم لذلك، مع أنني كنت أفضّل لو أنهم أشركونا في ما هو أكثر أهمية. لم أطلب من شوارتزكوف أن يكشف لي مصادر معلوماته، ولكني كنت في حاجة إلى معلومات لتقييم الموقف العسكري بالكامل، قبل وضع الخطط وصياغة القرارات. وحتى أتمكن من قيادة القوات المشتركة، كنت أطالب بأكبر قدر من المعلومات، شريطة أن يزوِّدنا الأمريكيون بمعلومات دقيقة وكاملة، أو لا يقدموا إلينا شيئاً على الإطلاق. فلم أكن راغباً في أن أُخدع بالعموميات التي لا تفيد.

          وفي شهر نوفمبر، أي قبل اندلاع الحرب بشهرين، علمت من الإيجاز المسائي اليومي الخاص بقيادة القوات المشتركة، الذي كان يبدأ في الثامنة من كل ليلة، أن الأمريكيين يخططون لتدريب جوي صباح اليوم التالي بطائرات كاملة التسليح. لم يخبرني أحد بذلك من قبل. فأجريت بعض التحريات لكي أتأكد من أن قائد قواتنا الجوية لم يعطِهم تصريحاً بذلك. فتبيَّن أن الأمريكيين خططوا لتدريبهم الجوي دون إخطار السلطات المختصة في المملكة. بدأت الشكوك تساورني. هل كانوا يقومون باختباري؟ أم أن الأمريكيين خططوا لمهاجمة العراق دون إشعارنا بذلك مسبقاً؟ ولَمّا كنت قد أصدرت تعليماتي بعدم تنفيذ أي تدريب رئيسي دون أخذ موافقتنا، لذا فإن هذا التدريب الجوي يشكِّل انتهاكاً صريحاً لتعليماتي.

          قررت أن آخذ زمام المبادرة لإجهاض هذه الترتيبات، فأصدرت أوامري بحظر جميع طلعات الطيران المسلح في صباح اليوم التالي. تحدثت، بعد ذلك، مع شوارتزكوف الذي ألغى، بدوره، ذلك التدريب. وربما لم يقدّر كم كان مهماً أن أعرف بالأمر قبل حدوثه. قدّمتْ القوات الجوية الأمريكية تفسيراً في اليوم التالي، جاء فيه أنها أرادت اختبار إمكانية إقلاع الطائرات وهبوطها وهي بكامل تسليحها. تقدَّم الأمريكيون، بعد ذلك بأيام، بطلب للسماح لهم بإجراء التدريب، ومنحتهم الإذن بذلك. صحيح أن الحادثة أخّرت التدريب خمسة أيام، لكنها كانت نقطة مهمة تم تسجيلها.

          أما في ما يتعلق بمصادر المعلومات، فقد أدهشني اعتماد الأمريكيين في جمع معلوماتهم اعتماداً كلياً على التقنية الحديثة، مثل الأقمار الصناعية للمراقبة والتصنت على الرسائل اللاسلكية، وما شابه ذلك، وأنهم لا يعتمدون على المصادر البشرية إلا قليلاً، وكانت تلك نقطة ضعف وقوة في الوقت نفسه. ذات مساء، وأنا جالس مع شوارتزكوف، قدّم إلي تقريراً عمّا قاله صدّام أثناء اجتماع له مع كبار قادته.

          سألته: "هل أنت متأكد من أن هذه هي كلمات صدام؟ ومن أين لك أن تعرف؟ وما مصدر هذه المعلومات؟".

          ردّ شوارتزكوف بهالة من الاعتداد والغموض: "لو أن صداماً تفوَّه بكلمةٍ واحدة فقط لسمعناها".

          تساءلت في نفسي هل كان يحاول إثارة إعجابي أو إبهاري، أم أن الولايات المتحدة قادرة بالفعل على وضع صدّام تحت المراقبة الدقيقة؟ فكرت في هذا السؤال أكثر من ساعة. وتذكرت أن الأمريكيين، على الرغم من التقدم الهائل الذي حققوه في مجال الإلكترونيات عجزوا، على ما يبدو، عن التنبؤ بغزو صدّام الكويت فلو كان شوارتزكوف صادقاً في كلامه، لاستطاعوا التصنت على اتصالات صدّام ومراقبة تحركاته بواسطة الأقمار الصناعية. ولكن لم يكن لديهم ولغيرهم، مصدر بشري مقرب من صدّام ليحذِّرهم من نواياه. لذلك، فإن اللوم يقع علينا جميعاً، عرباً وغربيين على السواء، في الإخفاق في التنبؤ بالغزو قبل وقوعه.

          عندما تسلَّمت مهمة القيادة، كان شغلي الشاغل التأكد من أن قيادتي تشمل كل الجهات على الجانب السعودي. أردت الحصول على تعـاون الوزارات والمؤسسات الحكومية التي لها علاقة بعملي، بما في ذلك رئاسة الاستخبارات العامة. اكتشفت أنني في هذا المجال أحسن حالاً، إلى حدٍّ ما، من شوارتزكوف، لأنني أدركت أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لم تكن تحت تصرفه.

          طَلَبَت وكالة الاستخبارات المركزية، ذات مرّة، من نظيرتها السعودية، رئاسة الاستخبارات العامة، السماح بتحليق طائرتيْ تجسس من قاعدتين من قواعدنا الجوية. ورُفِعَ الطلب إلى الأمير سلطان الذي سألني عن رأيي، كما طلب منيِّ أيضاً بحـث الأمر مع شوارتزكوف. وكم كانت مفاجأة لي حين أخبرني شوارتزكوف أنه لا علم له بهذا الطلب. ويبدو أن علاقته مع الاستخبارات المركزية الأمريكية لم تكن على ما يرام، وأن المودة بينهما كانت مفقودة تماماً.

          في الواقع، تولد لدي شعور قوي بأن شوارتزكوف كان سعيداً لقدرتي على التنسيق مع جهاز استخباراتنا، لأنه يطمع أن يعرف من خلالي ما تخطط له الاستخبارات المركزية. ولست أُلمّح هنا، بالطبع، إلى أن وكالة الاستخبارات المركـزية الأمريكية لم تُزوِّد شوارتزكوف بأية معلومات، ولكني أنوِّه فقط بأني كنت، بين الفينة والأخرى، أسدّ بعض الثغرات في معلوماته هنا وهناك. وعلى كلٍّ، قطعت له وعداً بإطلاعه على كل ما أحصل عليه من معلومات. كما أكد لي الأمير سلطان أنه لن يتم أي عمل إلاّ من خلال قيادة القوات المشتركة. ففي الحرب، لا مجال للتصرّف وفقاً للأهواء دون عِلم القائد. ولطالما ردد شوارتزكوف أن عليهم توخِّي الحذر كي لا يقعوا في الأخطاء نفسها التي وقعوا فيها في حرب فيتنام وهي الحرب التي لم تحقق نتائجها بسبب إدارتها من أجهزة مستقلة ليس بينها تعاون أو تنسيق، وكذلك بسبب تدخل السياسيين في المسائل العسكرية، فضلاً عن عدم مبالاة غالبية الأمريكيين بمشاعر الشعب الفيتنامي وتقاليده وعاداته.

          وفي الوقت المناسب، وبعد موافقتي، حلَّقت طائرتا التجسس، اللتان سبق لوكالة الاستخبارات المركزية طلب التصريح لهما بالطيران، في أجواء المملكة. لم يبدِ شوارتزكوف اعتراضاً في هذا الصدد. رابطت إحدى هاتين الطائرتين في قاعدة الجبيل، والأخرى في قاعدة الملك فهد الجوية في الطائف. وصلت بعدهما طائرات تجسس أخرى كثيرة، ولكن دائماً بعد مشاورات كاملة مع جميع الأطراف المعنية.

سابق بداية الصفحة تالي