القيادة الموازيَة (تابع)

         لم يحدُث قط، خلال حياتي العسكرية، أن أبديتُ اهتماماً كبيراً بحمايتي. ففي الرياض، كنت أقود سيارتي بنفسي، أمَا عندما أسافر خارج المدينة، فكنت أصطحب معي فرداً أو اثنين على الأكثر من أفراد الأمن. لكنّ الخوف من وقوع أعمال إرهابية بتحريـض من العراق زاد من احتمال التعرّض للخطر. فأحاط شوارتزكوف نفسه بقدر كبير من احتياطات الأمن الظاهرة للعيان. كانت في صحبته حضيرة ( جماعة ) من الجنود وعدد من رجال الأمن بالملابس المدنية يرافقونه أينما ذهب وأسلحتهم جاهزة دوماً. كان ينطلق، عند خروجه من وزارة الدفاع، في قافلة من السيارات المملوءة بالرُّماة المَهَرَة. لذلك، شعرت أن عليَّ أن أحذو حذوه. إذ لو شاهد أحدّ شوارتزكوف يسير في فرقته المدججة بالسلاح، ثم رآني مع حارس أو اثنين، لاستنتج فوراً أن شوارتزكوف هو القائد الأعلى، وهذا ما لم أكن لأسمح به أبداً. فمظهري أمام الناس، بصفتي القائد السعودي، يجب ألاّ يقلّ عن مظهره هيبةً، حتى في أدق تفاصيله. فإذا كان لديه جنود مسلحون، فينبغي أن يكون لدي أيضاً جنود مسلحون. فشكلتُ جهازاً للحراسة الشخصية يماثل ما لدى شوارتزكوف إن لم يكن يتفوَّق عليه، حتى إنني أرسلت بعضهم لتلقي التدريب في الخارج. كان هدفي من تقليده هدفاً سياسياً، وليس أمنياً، إذ إن ثقتي بقدرات أجهزة الأمن الداخلي في المملكة لا حدود لها. ولكني في واقع الحال، كنت أحافظ على صورة المملكة وهيبتها

          عندما شاهدني الناس وفي رفقتي تلك القوة المسلحة المتطورة، ظنوا أنني أسعى إلى التباهي والظهور، إذ لم أكن معرّضاً للخطر، خصوصاً أن عملي ومأكلي ونومي كان في وزارة الدفاع. قال بعضهم، وفيهم عدد من ضباط أركاني: " لِمَ يحتاج إلى عشرة رجال، خمسة في المقدمة وخمسة في المؤخرة، وجميعهم مسلحون بالرشاشات، عندما ينزل من مكتبه إلى غرفة العمليات؟" لقد فعلت ذلكَ لأني قدَّرت ضرورة أن يرى الجميع، بمن فيهم ضباط التحالف وممثلو وسائل الإعلام، أني قائد لا يقلّ مكانةً عن شوارتزكوف.

          عندما أقام شوارتزكوف مركز قيادته في وزارة الدفاع أراد ضباط أركانه أن يضعوا حراساً أمريكيين في أنحاء المبنى في الخارج وفي الداخل وفي المصاعد وفي كل مكان. وأبلغني هذه الرسالة العقيد الأمير تركي بن عبدالله بن محمد بن عبد الرحمن، قائد كتيبة الشرطة العسكرية المكلَّفة بحراسة المبنى. أدركـت أن الأمريكيين يخشون أن تشنّ القوات الخاصة التابعة لصدام هجـوماً على مبنى القيادة، فتقضي علينا جميعاً. فقلت للعقيد تركي أن يعود وحمّـلته رسالة تقول إن الحضور الأمريكي المبالغ فيه ليس أفضل السبل لضمان الأمن، وإننا لسنا بلداً محتلاً. فنحن نعرف كيف ندافع عن أنفسنا دون حاجة إلى المظاهر اللافتة للنظر. ووافقت على تكثيف عدد الحراس السعوديين حول المبنى وعلى المداخل كلها، تخفيفاً من مخاوف شوارتزكوف. ولم أسمح للأمريكيين إلاّ بوضـع حارس واحد منهم عند البوابة الخلفية ليتعرف بسياراتهم حين اقترابها من المبنى.

          في غرفـة الحرب، وهي عبارة عن مجمع ضخم منفصل يُعرف بـ "الغرفة الحصينة" على عمق خمسة طوابق تحت سطح الأرض أسفل وزارة الدفاع، كنت مصرّاً على وضع فريق مشترك من الحراس السعوديين والأمريكيين تأكيداً على أننا شركاء في القيادة. وكثيراً ما كنت أضحك من المبالغة في إجراءات تلك الحماية. ففي كل 20 متراً وقف ستة حراس: ثلاثةٌ سعوديون وثلاثةٌ أمريكيون. ولكن حتى في مثل تلك الأمور الصغيرة، كان من الضروري المحافظة على المظاهر.

          كنت أعتبر نفسي مسئولاً عن أمن شوارتزكوف وسلامته. لذا، خصَّصت لحمايته فصيلاً من الشرطة العسكرية، بقيادة الملازم ثامر سبهان السبهان. ولكن، كان لشوارتزكوف أيضاً حراسه الأمريكيون الذين يحرسون غرفة نومه والجناح الذي يضم مكتبه. وأخبرني ذات صباح قائد كتيبة الشرطة العسكرية أن شوارتزكوف استيقظ بعد منتصف الليل، بين الثانية والثالثة صباحاً، ليتفقد حراسه فوجدهم جميعاً يغطون في نوم عميق! فطار صوابه ووجَّه إليهم أقسى عبارات التأنيب والتوبيخ. التزمت الصمت ولم أُبلغ شوارتزكوف علمي بتلك الواقعة، حتى كتابة هذه السطور. ولكن خلال الليلتين التاليتين، لم أستطع أن أقاوم رغبتي في التسلل في ساعات الصباح الأولى للتأكد من يقظة حراسي. فوجدتهم ساهرين بالفعل يؤدون واجبهم.

          كانت غرفة نوم شوارتزكوف صغيرة الحجم بسيطة الأثاث، وتقع جوار مكتبه في الطابق الرابع من الوزارة. سعيت في البداية لأوفر له مسكناً آخر يليق به، تقديراً منّي أنه يحتاج إلى سكن أوسع وأفخم. وكان تحت تصرّفي المباشر واحدة من أفضل فيلاّت الضيوف في مجمع نادي الضباط، كنت أخصَّصها لاستضافة الضباط الصينيين الزائرين خلال مفاوضاتنا في شأن قوة الصواريخ الإستراتيجية. كنت واثقاً أن الفيلاّ آمنة؛ لأنني أشرفت على توفير وسائل حمايتها بنفسي خلال السنوات الثلاث الماضية. خصَّصت تلك الفيلاّ لشوارتزكوف، على الرغم من معارضة بعضٍ أعضاء القيادة العسكرية السعودية العليا الذين أرادوا حجزها لإسكان كبار الزوار المتوقَّع قدومهم.

          وعلى الرغم من الجهود التي بذلتُها، لا أعتقد أنه قضى أكثر من بضع ليالٍ في هذه الفيلاّ طوال فترة الأزمة، إذ كان يكتفي بغرفة نومه الصغيرة في مبنى القيادة التي لا تبعد سوى خطوة واحدة عن مكتبه. فضغْط العمل والحاجة إلى الاتصال هاتفياً برؤسائه في واشنطن ما كانا يتيحان له وقتاً، ولو قليلاً، ليستمتع بالإقامة في تلك الفيلاّ الأكثر رحابة والأكثر رفاهية.

          انتقلتْ إقامتي، عندما بدأت الحملة الجوية، من الطابق الرابع في وزارة الدفاع، حيث كنت أقيم خلال الأشهر التي مضت، إلى غرفة نوم صغيرة في القبو جوار غرفة الحرب. كان أثاثها مؤلفاً من سرير ضيّق وعدد من الهواتف، وجهاز تليفزيون وجهاز فيديو ودُش حمّام في إحدى الزوايا. عَلّقتُ على جدران هذه الغرفة الصغيرة لوحات رسمها أولادي، تحمل رسومات بدائية لدبابات ومدافع. ولَمّا كان أولادي يُلقون باللوم على صدّام لأنه السبب في إبقاء والدهم بعيداً عنهم، فقد كتب أحدهم على لوحة منها عبارة: "أنا لا أحب ( صدّام )". وبقيت في تلك الغرفة طوال فترة الحرب، ولم أزُر عائلتي خلالها إلاّ لماماً. لم يكن ضغط العمل هو الدافع الوحيد لاتخاذي ذلك القرار، بل أردت أن أشارك رجالي، ضباطاً وأفراداً، إحساسهم بالبعد عن الأهل والولد.

          كانت ساعات الليل أسوأ الأوقات عندي، وخصوصاً ساعات ما بعد منتصف الليل. إذ كان النوم فيها يستعصي عليَّ، لانشغال ذهني بمهام متعددة وإجهاد بدني لتحركاتي الدائمة من مكان إلى آخر طوال اليوم. وكـم عانيت الوحدة! وكم كانت فكرة امتداد المواجَهة مع صدّام إلى أجل طويل كابوساً يقضّ مضجعي!

          كانت سعادتي كبيرة لوصول اثنين من أعز أصدقائي من لندن، هما وفيق سعيد والدكتور جون إند. كنت أعرف وفيقاً منذ أيام دراستي في ساندهيرست أمّا جون إند، فكان طبيبي الخاص منذ ذلك الحين. وتقديراً منهما لانشغالي بواجباتي ومهامي العسكرية، أرادا أن يكونا إلى جانبي في الرياض، لتلبية ما قد تحتاج إليه أسرتي.

          كان من أولى الخطوات التي اتخذتها في الوزارة أن خصَّصتُ غرفة لتكون صالحة لممارسة التمارين الرياضية. ولشدة حاجتي إلى ممارسة الرياضة، جعلت من التمارين الرياضية نظاماً ثابتاً لا أحيد عنه كل يوم. فبعد الانتهاء من أعمالي اليومية، كنت آخذ قسطاً من النوم بين السادسة والسابعة مساء، ثم أمارس تدريبات اللياقة البدنية في الغرفة الرياضية لمدة خمس وأربعين دقيقة. وبعد ذلك، أكون في الثامنة مستعداً للاستماع إلى الإيجاز اليومي من الأركان. وقد دعوت شوارتزكوف للاستفادة من تلك الغرفة، فمارس التمرينات بانتظام إلى حدٍّ ما، وكنّا نتمرن تحت إشراف مدربي المصري القوي البنْية، رشدي محمد حسام الدين علي.

          وبصرف النظر عن الخوف من احتمال التعرّض لهجوم انتحاري يُشنّ على مبنى القيادة، وهذا ما كان يقلق شوارتزكوف إلى حدٍّ كبير، كان هناك دوماً خطر آخر سبب لكلينا قلقاً عميقاً. ذلك الخطر هو قيام رد فعل معادٍ داخل المملكة ضـد وجود القوات الأجنبية. وكانت قد وقعت في جدّة حادثة واحدة حين تعرّضت حافلة تنقل جنودًا أمريكيين لوابل من النيران، مما أسفر عن إصابة واحد أو اثنين منهم بجروح طفيفة. أُلْقِيَ القبض على الفاعلين الثلاثة، وهم اثنان من اليمن وأردني واحد، وصدرت أحكام بالسجن في حقهم. ولم يشترك في الهجوم أي مواطن سعودي. وباستثناء تلك العملية، لم تقع حوادث أخرى، سوى إنذار أو إنذارين تبين، بعد ذلك، أنهما كاذبان.

          أخبرني شوارتزكوف، ذات مرة، قبل الهجوم بوقت قصير، أن اثنين من جنوده جُرحا حين أطلقت سيارة مسرعة عيارات نارية عليهما من مسافة قريبة. وادَّعى الجنديان أنهما كانا هدفاً لهجوم إرهابي. وثبت، بعد التحقيق، أن الجنديين هما اللذان أطلقا النار على أنفسهما لتفادي الذهاب إلى الخطوط الأمامية من الجبهة. وحذرت شوارتزكوف لو أن وسائل الإعلام علِمت بالخبر، وبدأت تلمح إلى أن الحادث يُعَدّ أول بادرة لعدم رضى الشعب السعودي عن وجود القوات الأجنبية، فسأعلن على الملأ حقيقة ما حدث! لم أكن أرضى أن يقول أحد إن ثمة إرهابيين موجودون في المملكة. أسدل الأمريكيون الستار على الحادث، ولم يذكروا عنه شيئاً. فالتزمت الصمت، وأصبحت القصة في طي الكتمان.

سابق بداية الصفحة تالي