القيادة الموازيَة (تابع)

          ومع أن شوارتزكوف رجل عسكري من الطراز الأول إلاّ أنه، ولشدة دهشتي، لا يملك في شؤون الشرق الأوسط سوى خبرة قليلة. ففي عام 1947، وهو في الثانية عشرة من عمره، أمضى عاماً في طهران مع والده الذي كان ضابطاً برتبة لواء ومُكلَّفاً بإعادة تنظيم قوات الشرطة الإيرانية. وفي 1989-1990، أي بعد ما تسلَّم مهامه في القيادة المركزية، أمضى بضعة أيام في الرياض والكويت والقاهرة وعَمّان وصنعاء. وذلك، حسبما علِمتُ، كل خبرته فى الشرق الأوسط. كان مقر قيادة شوارتزكوف في تامبا في ولاية فلوريدا التي تبعد عن منطقتنا مسافة 6500 ميل جواً، و10 آلاف ميلٍ بحراً، وتختلف عن الشرق الأوسط أشد الاختلاف.

          وعلى الرغم من تلقي شوارتزكوف معلومات مستفيضة عن الجوانب الإستراتيجية والعسكرية المتعلقة بالمنطقة، إلاّ أنه لم يكن لديه الإلمام الكافي بالشخصيات القيادية المؤثرة في السياسات العربية. كما كانت تنقصه معرفة التاريخ واللغة والعائلات والعادات والتقاليد وأسلوب الحياة، بل جميع تعقيدات عالمنا العربي، شأنه في ذلك شأن المواطن الأمريكي العادي. وكانت مهمتي في تزويده بما ينقصه من معارف ومعلومات عن هذه الأمور كلها مهمة صَعبة. وعلى النقيض، كان الفريق هورنر والفريق يوساك، يملكان خبرة واسعة بشؤون الشرق الأوسط. الأول بسبب ارتباطاته السابقة بقواتنا الجوية، والثاني بسبب السنوات التي قضاها مع الحرس الوطني السعودي. لكن شوارتزكوف، بطبيعته العسكرية، كان قليل الصبر إزاء الأمور التي يجهلها أو التي لا يرى لها علاقة مباشرة بمهمته. وأدى ذلك إلى عدد من حالات سوء التفاهم بيننا.

          ولا أظن أن شوارتزكوف كان يفهم تماماً سبب حرصي الشديد على أن تتجنب القوات المتحالفة أية أعمال أو تصرّفات من شأنها أن تعرّض بلادنا لخطر ما بعد الحرب. كان من واجبي التأكد من أن تصرّفاتنا وتصرّفات حلفائنا لن تثير القلق في مجتمعنا المحافظ، وأنها لن تُعْطي العناصر التي تضمِر لنا العداء، ذريعة لبذر بذور الشقاق. كما كان من واجبنا أن نُفَوّت الفرصة على أولئك الذين يسعون إلى زعزعة استقرار مجتمعنا السعودي.

          كان علينا التزام اليقظة التامة. لذلك تنبهتُ إلى الخطر فوراً حين جاءني شوارتزكوف ذات يوم، والأزمة مازالت في بدايتها، ليخبرني أنه تلقى رسالة من الرئيس اليمني، علي عبدالله صالح يدعوه فيها لزيارة صنعاء كنت ناقماً على اليمن لوقوفه إلى جانب صدّام وفسّرت دعوة الرئيس اليمني، علي عبدالله صالح لشوارتزكوف أنها محاولة من اليمنيين للتقرب إلى الأمريكيين وإحداث انشقاق في صفوف التحالف.

          وسألت شوارتزكوف: "وماذا تنوي أن تفعل؟ آمل ألاّ تفكر في الذهاب!".

          فوعدني بألاّ يقرر شيئاً قبل التشاور معنا أولاً. وقال: "لست هنا لأقوم بدور سياسي. سأحيطكـم علماً بكل تحركاتي. فنحن قيادة واحدة ".

          فأجبته: "يكفيني هذا".

          لكني شعرت أن موقف شوارتزكوف من اليمن مختلف عن موقفي منه بعض الشيء. فقد كان يعتقد أن زيارته ربما تسهم في جذب اليمن إلى صفنا. وكان يردد دوماً أن الرئيس علي عبدالله صالح لا يلتزم جانب الحياد، بل إن له قدماً في كلا المعسكرين، وعلى استعداد للقفز من طرف إلى آخر حسب مقتضيات الظروف. لكن الرئيس اليمني، حسب تقديري، كان أكثر تحيزاً إلى صدّام. كنت أستشعر ضرورة أن نوضح لليمنيين بجلاء أنهم لن يستطيعوا التلاعب بأمن شبه الجزيرة العربية.

          ونظراً إلى الموقف المعادي الذي اتخذته الحكومة اليمنية، قررت المملكة إنهاء المعاملة التفضيلية التي كان يحظى بها اليمنيون في المملكة، ومعاملتهم معاملة الرعايا العرب الآخرين. وذلك يعني حاجتهم إلى كفيل سعودي إذا أرادوا العمل في المملكة. وأدى هذا القرار إلى مغادرة مئات الآلاف من اليمنيين المملكة عائدين إلى وطنهم، بينما التزم من بقي منهم بالقواعد الجديدة، ولا يزالون ينعَمون بالعيش في المملكة حتى الآن.

          ومما زاد في قلقنا، أن تقارير عدة توالت تفيد بتحركات القوات اليمنية. وكنّا نعتقد أن الرئيس اليمني علي عبدالله صالح والملك حسيناً والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات قد شجعوا صدّام حسين، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على غزو الكويت وأنهم يتحيَّنون الفرصة لاستغلال الأزمة لمصلحتهم الخاصة. ومع أننا لا نملك الدليل القاطـع على وجود تلك المؤامرة، إلاّ أن أتفَه الأشياء، في ذلك الجو المحموم الذي كان سائداً آنذاك، كان كافياً لإثارة الارتياب. فبعد الغزو بشهر واحد، طلب الملك حسين من رعاياه، في خطاب ألقاه أمام الجمعية الوطنية الأردنية، أن يطلقوا عليه لقب "الشريف"، وهو لقب تشريفي يختص به من ينتسبون إلى سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولعل هذا الموقف لفت انتباه المملكة إلى أنّ خيال الملك حسين، في حالة حدوث اضطرابات خطيرة في المنطقة، قد تداعبه أحلام بالاستيلاء على الحجاز التي كان يحكمها قديماً جده الأكبر الحسين، شريف مكّة! فما العمل لو سمح الملك حسين للقوات العراقية بمهاجمتنا عبر أراضيه؟ أمَا كان متوقعاً أن تُحَرض هذه الخطوة اليمن على مهاجمة مدننا الحدودية الجنوبية مثل نجران وجيزان؟ كان علينا الاستعداد "لأسوأ الاحتمالات".

سابق بداية الصفحة تالي