إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / المسرح الدولي والإقليمي والعربي (خلال الفترة من 1980 إلى 1990)









ثانياً: الموقف الدولي

المبحث الثالث

الموقف الدولي

أولاً: الحرب الباردة، ومشكلات الأمن في الخليج

    عندما أعلنت حكومة العمال البريطانية، برئاسة هارولد ويلسون Harold Wilson، سياسة الانسحاب من الخليج العربي، في 16 يناير1968، حددت نهاية عام 1971، ليكون موعداً نهائياً لاستكمال هذا الانسحاب وإنهاء الوجود العسكري البريطاني، بما يترتب على ذلك، من التخلي عن التزاماتها الدفاعية في المنطقة.

    والحقيقة أن الحكومة البريطانية قد ترددت كثيراً في اتخاذ هذا القرار، بعد فترة استعمارية طويلة، استمرت أكثر من قرن ونصف قرن من الزمان. غير أنه تعذر عليها التوفيق بين حرصها على استمرار البقاء وبين ما يترتب عليه من نفقات مادية، لم تكن قادرة على تحملها.

    والشيء الغريب، والمثير للانتباه، أن قرار الانسحاب البريطاني من الخليج العربي، لم يجد ترحيباً له في كثير من الدوائر، الغربية والإقليمية والمحلية. إذ أبدت الولايات المتحدة الأمريكية قلقها من السرعة التي اتخذ بها هذا القرار. ودعا الرئيس الأمريكي،"ليندون جونسون Lyndon Baines Johnson"، الحكومة البريطانية إلى الإبقاء على بعض قواعدها العسكرية، تحسباً للفراغ الذي سوف يخلّفه انسحابها. كما أبدت المملكة العربية السعودية قلقها من القرار البريطاني، لأنها كانت تخشى من الهيمنة الإيرانية على الخليج. وكانت البحرين تخشى، بدورها، من تجدد الادعاءات الإيرانية فيها. كما عرض بعض الإمارات العربية، خاصة إمارة دبي، على الحكومة البريطانية، المساهمة في النفقات المادية، المترتبة على استمرار وجودها العسكري. أمّا إيران، فقد رحبت بقرار الانسحاب، إذ كانت تنظر إلى الخليج على أنه بحيرة فارسية. ومن ثَمّ، أخذت تعد نفسها، لتكون القوة المهيمنة عليه، خاصة أن قرار الانسحاب، اقترن بضجة، سياسية وإعلامية، واسعة النطاق، بما سيؤدي إليه من حدوث فراغ، يتعين ملؤه، حتى لا تتاح الفرصة للسوفيت، أو للعناصر الراديكالية المعادية للأنظمة القائمة، فرصة التغلغل في المنطقة.

    وقد أكدت الحكومة الأمريكية، على لسان دافيز روجرز، وهو أول مبعوث رسمي، أوفدته إلى المنطقة، في نهاية عام 1971، أنها ترحب بتحالف إقليمي، يكون من شأنه المحافظة على الأمن والاستقرار في المنطقة، على الرغم من أنها لم تكن عازمة على سد الفراغ الذي سينشأ نتيجة الانسحاب البريطاني. وفي صدد ذلك، طرحت مشروعاً لحلف إقليمي، يتكون من تركيا وإيران وباكستان والمملكة العربية السعودية والكويت. وصرح"يوجين روستو EugeneRostow"، مستشار الرئيس الأمريكي،"ريتشارد نيكسون Richard Milhous Nixon"، للأمن القومي، بأن هذا التحالف سيكون أساساً، يمكن أن ترتكز عليه تدابير الأمن والاستقرار في المنطقة.

    غير أن مشروع التحالف الإقليمي، أو الإسلامي، الذي اقترحته الولايات المتحدة الأمريكية، لم يجد استجابة من دول الخليج العربية، خاصة من المملكة العربية السعودية والكويت، اللتَين أخذتا تركزان جهودهما في التغلب على العقبات، التي كانت تعترض سير المباحثات الاتحادية، التي كانت تدور بين الإمارات السبع على الساحل الجنوبي للخليج، إضافة إلى قطَر والبحرين، والتي قد يكون من شأنها إقامة دولة اتحادية، تجمع بين تلك الإمارات التسع، كوسيلة يمكن التذرع بها لمواجهة ما كان يتردد من حدوث فراغ في المنطقة. ونتيجة للمساعي السعودية ـ الكويتية، شهدت الفترة المواكبة للانسحاب البريطاني، قيام دولة الإمارات العربية المتحدة في 2 ديسمبر 1971، وإن لم تضم إليها قطَر والبحرين، اللتَين انسحبتا من المباحثات الاتحادية، وأعلن كلٌّ منهما استقلالها. ومع ذلك، لم تكن الجهود المبذولة لقيام الدولة الجديدة، كافية لسد الفراغ. ومن ثَمّ، أخذت الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى إيران، كأقوى قوة إقليمية، يمكن أن تعتمد عليها في حماية مصالحها. ولعل ذلك يفسر تأييد واشنطن لطهران، بالتنسيق مع لندن، في السيطرة على جزر الخليج الثلاث، أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، لأهمية موقعها الإستراتيجي، على مقربة من مضيق هرمز، شريان الحياة، الاقتصادية والملاحية، في منطقة الخليج العربي.

ثانياً: التحركات السوفيتية في منطقة الخليج

    ولم تكد تنقضي عدة أشهر على إعلان الانسحاب البريطاني، حتى وصلت قطع بحرية سوفيتية إلى بعض موانئ الخليج العربي، والجزء الغربي من المحيط الهندي، في كلٍّ من بومباي (Bombay) ومدراس (Madras) وبندر عباس وأم قصر وعدن ومقديشو. وساعد على تلك التحركات البحرية، التحولات السياسية في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية؛ إذ هيمن الجناح الماركسي من جبهة التحرير القومية، على السلطة. إضافة إلى التحولات التي أعقبت انقلاب حزب"البعث"في العراق؛ إذ تمكنت مجموعة من عناصر الجيش العراقي من السيطرة على الحكم، في 17 يوليه 1968، وكان على رأسها اللواء أحمد حسن البكر وصدام حسين.

    وكان من الطبيعي، أن يترتب على تلك التطورات توثّق العلاقات بين الاتحاد السوفيتي وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، من جهة، وبينه وبين العراق، من جهة أخرى. فقد أُبرمت معاهدة صداقة وتعاون، في 9 أبريل 1972، بين موسكو وبغداد (أُنظر وثيقة ترجمة معاهدة الصداقة والتعاون بين العراق والاتحاد السوفيتي التي عقدت في بغداد في 9 أبريل 1972) و(وثيقة أصل المعاهدة باللغة الإنجليزية)[1]. أتاحت للسوفيت موضع قدم لهم على الجزء الساحلي الجنوبي من العراق، المشرف على الخليج، من الناحية الشمالية. بينما أتاحت للعراق الحصول على الأسلحة والخبراء الفنيين من الاتحاد السوفيتي. كما منح العراق الاتحاد السوفيتي الإشراف على بعض مشروعاته الحيوية، ومن بينها مشروع أنابيب للنفط، تمتد إلى ميناء أم قصر العراقي، المطل على الخليج. وكدليل على توثّق العلاقات السوفيتية ـ العراقية، بادر الرئيس السوفيتي، "ليونيد بريجينيف Leonid Llich Brezhnev" إلى زيارة منطقة شط العرب، ضمن جولته في العراق، على أثر توقيع تلك المعاهدة. وردت الولايات المتحدة الأمريكية، في مايو 1972، بتقديم كميات هائلة من المساعدات العسكرية إلى إيران، إضافة إلى صفقة أسلحة كبيرة. فكان الربط بين معاهدة الصداقة والتعاون العراقية ـ السوفيتية في أبريل 1972، وبين صفقة الأسلحة الأمريكية لإيران في مايو 1972، إيذاناً ببدء الحرب الباردة بين العملاقَين.

    وهكذا بدأ التسابق بين الدولتَين العظميَين، إلى كسب النفوذ في الخليج العربي والأقطار المجاورة له. فقد أتيح للسوفيت، بحكم علاقتهم الوثيقة بجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، أن يسهموا في دعم الحركة اليسارية، التي كانت تتزعمها جبهة تحرير ظُفار، في سلطنة عُمان، التي لم تلبث أن تحولت إلى الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي، مما شكل تحدياً للمصالح الغربية في المنطقة، إذ كان هناك تخوف مما يمكن أن يترتب على نجاح تلك الحركة، من قيام نظام يساري في عُمان، يكون في مقدوره التحكم في شبه جزيرة مسندم (Musandam)، المشرفة على مضيق هرمز. وإذا أُضيف إلى ذلك، أن جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، تتحكم في جزيرة بريم، الواقعة عند مدخل مضيق باب المندب، فإن ذلك يعني، أن تصبح نقاط اختناق (Choke Points) في كلٍّ من المداخل الجنوبية للبحر الأحمر والخليج العربي، أي مضايق هرمز وباب المندب، واقعة تحت النفوذ السوفيتي، من طريق الأنظمة الموالية للاتحاد السوفيتي، فيكون في مقدوره، استطراداً، التحكم في تصدير النفط، أو قطع إمداده عن العالم الغربي، بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية.

ثالثاً: التغير في الساحة الإقليمية، والمكاسب السوفيتية

    استطاع الاتحاد السوفيتي أن يستفيد من التغيرات في الساحة الإقليمية، المتمثلة في الاضطرابات، التي وقعت في إيران، ومهدت لقيام الثورة الإسلامية، عام 1979. وعلى الرغم من أن قادة النظام الإسلامي، لم يتجهوا إلى توثيق علاقتهم بالاتحاد السوفيتي؛ إذ أعلنوا أن ثورتهم ضد المعسكرَين، السوفيتي والأمريكي معاً، إلاّ أن موقف الثورة العدائي تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وإطاحتها النظام الشاهنشاهي، المعروف بتحالفه مع الغرب، والمستخدم كأداة لقمع التيارات اليسارية، كان يعد، في حد ذاته، كسباً للجانب السوفيتي.

    ترتب على نشوب الثورة الإسلامية الإيرانية، وظهور آية الله الخميني، كزعيم روحي لها، اتجاه لتصدير العنف إلى الدول المجاورة، ومحاولة إطاحة الأنظمة السياسية القائمة، مما أدى إلى تعريض الأمن في الخليج لأخطار شديدة. وكان من الطبيعي، أن يؤدي ذلك إلى قلب الإستراتيجية، التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية، في منطقة الخليج، رأساً على عقب، ومن ثَمّ، كان لا بدّ لها أن تضع إستراتيجية جديدة، خاصة بعد أن أظهرت دول الخليج مخاوفها، حين أفصحت حكومة الثورة الإيرانية عن أهدافها التوسعية، ولم تخفِ عزمها على تصدير الثورة، وهو ما نظرت إليه تلك الدول على أنه تهديد لأمنها. ولم ينتقص من هذه النظرة ما بدا من عداء الثورة الإيرانية للسوفيت؛ إذ إنها كانت ضد الشاه والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، في آن واحد. وتجسد خطر الثورة في ما صرح به آية الله الخميني، عشية اندلاعها، أن في إمكانه "أن يحوّل الخليج إلى كرة من النيران، إن جرؤ أحد على المساس بنا".

    وفي الوقت الذي كان السوفيت يحققون تلك المكاسب، كانت الولايات المتحدة الأمريكية، ترقب تلك التغيرات بقلق واهتمام بالغَين. كما كان الطبيعي أن تتجه إلى ردود فعل مضادّة، كي تواجِه التقدم السوفيتي، من جهة، وتعمل على تدعيم مصالحها، الاقتصادية والإستراتيجية في المنطقة، من جهة أخرى.

    وليس من شك في أن الولايات المتحدة الأمريكية، كانت تدرك جيّداً، أن الانسحاب البريطاني قد أفرغ المنطقة من قوة رادعة؛ إذ لم تكن دول الخليج العربية في وضع، يمكّنها من تحمّل مسؤولية الدفاع عن نفسها، على الرغم من إحرازها الاستقلال. ومن ثَمّ، وجهت واشنطن نظرها إلى القوى الإقليمية، المحيطة بالخليج، وهي العراق والمملكة العربية السعودية وإيران، وسعت إلى التوفيق بين طهران والرياض، بعد ما توترت العلاقات بينهما، نتيجة التصريحات الإيرانية المتكررة، بأن إيران قد أصبحت القوة الوحيدة، المهيمنة على الخليج العربي. أمّا العراق فلم يكن، بطبيعة الحال، يستلفت اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية لانشغاله بأوضاعه الداخلية، واتجاهه إلى توثيق علاقته بالأنظمة ذات النزعة اليسارية، للوقوف ضد إيران، من جهة، وضد المصالح الغربية، من جهة أخرى.

    وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية، كانت تركز اهتمامها في إيران، تحديداً، بعد كارثتها في فيتنام، وتبنّيها"مبدأ نيكسون"، إلاّ أنها كانت تدرك خطر غياب الوجود الأمريكي المباشر عن منطقة الخليج. ومن ثَمّ، اتجهت إلى تعزيز مَواقعها الإستراتيجية في المنطقة، كما اهتمت، في الوقت نفسه، بإقامة علاقات، اقتصادية ودبلوماسية، بدول الخليج العربية، حديثة الاستقلال، وقدمت إليها الخبرات والمساعدات، العسكرية والتقنية، التي كانت في حاجة إليها. وفضلاً عن ذلك، بادرت إلى تعيين أول سفير لها لدى الكويت، عام 1974، واعتمدته سفيراً متنقلاً في دول الخليج العربية الأخرى. وكل ذلك، يشير إلى ازدياد مصالح واشنطن في منطقة الخليج العربي.

    وكشفت مناقشات الكونجرس الأمريكي، أن وزارة الدفاع الأمريكية، استأجرت قسماً من قاعدة الجفير، منذ أخلتها بريطانيا، وبررت موقفها، سياسياً، بأن خطوتها تلك ضرورة، يمليها تغلغل الأسطول السوفيتي في المحيط الهندي، فلا بدّ من إثبات الوجود الأمريكي في بعض المَواقع القريبة منه. وعلى أثر نشر هذه المناقشات، نفت حكومة البحرين، أن يكون هناك أي اتفاق عسكري مع واشنطن. وذكرت أن الأمر يتعلق ببعض التسهيلات الاقتصادية لشركات مدنية أمريكية؛ إذ يتعذر على حكومة البحرين الناشئة، الاستفادة من المباني الشاسعة في القاعدة.

    وبمقتضى المعاهدة، التي أبرمتها الولايات المتحدة الأمريكية مع حكومة البحرين، في 23 ديسمبر 1971، أصبح لـ"قوة دفاع الشرق الأوسط"الأمريكية[2]. (Mid East Force) حق استخدام قاعدة الجفير، مما أتاح للبحرية الأمريكية، أن يكون لها وجود فاعل في الخليج العربي، والجزء الغربي من المحيط الهندي، وذلك إثر إلحاق "قوة دفاع الشرق الأوسط" بقيادة الأسطول السابع، في المحيط الهادي، بعد أن كانت لها قيادة خاصة مستقلة. كما طورت البحرية الأمريكية قاعدة الجفير، ليكون في وسعها استقبال السفن الأمريكية الأكبر حجماً، والأكثر كفاءة في التسليح. وبدا واضحاً، أن"قوة دفاع الشرق الأوسط"، ستضطلع بدور الحماية، الذي كانت تؤديه بريطانيا في الخليج.

    وإضافة إلى التسهيلات والقواعد البحرية الأمريكية في الخليج العربي، حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على تطوير قاعدتها في جزيرة دييجو جارسيا، الواقعة في الجزء الجنوبي الغربي من المحيط الهندي. وقد أسهمت هذه القاعدة إسهاماً ملحوظاً في نقْل المعدات العسكرية الأمريكية إلى الخليج، إبّان الغزو العراقي للكويت.

    ولم تقتصر أهمية الخليج العربي على موارده النفطية، أو دعم النظام النقدي العالمي، أو تحقيق الاستقرار والانتعاش الاقتصادي في الدول الصناعية الكبرى، وإنما يمكن أن نضيف إلى ذلك القروض والمنح الضخمة، التي كانت تقدمها دول الخليج العربية، كالمملكة العربية السعودية والكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة، من طريق برامج المساعدات، أو صناديق التنمية العربية، أو المنح المباشرة، إلى دول العالم الثالث، مما كان يخفف، إلى حدٍّ كبير، من الأعباء المادية، التي كانت تتحملها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، خاصة أن تلك المساعدات، كانت تتجه إلى الدول ذات الأنظمة المعتدلة. ومن ثَمّ، أصبح النفط، لا يشكل أهمية اقتصادية فحسب، وإنما أهمية سياسية وإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، ولحلف شمال الأطلسي.

    وانطلاقاً من هذا السياق، أصبح مفهوم أمن الخليج، يرتكز، في منظور السياسة الأمريكية، على تأمين موارد النفط، وإبعاد السوفيت، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، عن التطلع إلى المنطقة. وعلى العكس من ذلك، كان الاتحاد السوفيتي، يرفض فكرة الأمن في حدِّ ذاتها، ويعدها فكرة إمبريالية، ابتدعتها الولايات المتحدة الأمريكية، بهدف السيطرة على موارد النفط، واستخدام منطقة الخليج لتهديد أمن الاتحاد السوفيتي نفسه. ومن ثَمّ، اتجهت السياسة السوفيتية إلى التقرب من دول المنطقة وشعوبها، والتضامن معها إزاء العديد من القضايا، وبصفة خاصة في النزاع بينها وبين إيران، فيما يتعلق بحقوق السيادة على جزر الخليج الثلاث (أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى).

رابعاً: اتفاقات السلاح الكويتية، وبداية التغلغل السوفيتي في المنطقة

    تُعَدّ الاتفاقية العسكرية، بين الكويت والاتحاد السوفيتي، الموقعة في أغسطس 1976، بداية التغلغل السوفيتي في دول منطقة الخليج. كما تعد أولى الخطوات نحو علاقات عسكرية ودية بين البلدَين. وقدرت قيمة الاتفاقية بمبلغ 300 مليون دولار، ثمن أسلحة حديثة من صواريخ أرض / جو، من نوع سام 7 (SAM-7)، ودبابات، ومدفعية حديثة (بما فيها صواريخ أرض / أرض).

    كما زار موسكو وزير خارجية الكويت، الشيخ جابر الأحمد الصباح، في أبريل 1981، موفداً من قِبل دول الخليج، بما فيها المملكة العربية السعودية، لفتح قناة حوار مع الاتحاد السوفيتي، وليوضح لمسؤوليه، أن مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ليس"وصفة"عسكرية أمريكية.

    وبحلول أغسطس 1984، وقَّعت الكويت والاتحاد السوفيتي اتفاقية أخرى، تقدر قِيمتها بنحو 325 مليون دولار، لشراء نظام دفاع جوي متطور. وفي صيف 1988، توصلت الدولتان إلى ثلاث اتفاقات، لشراء الأسلحة، قدرت قِيمتها بمبلغ 300 مليون دولار، لشراء عربات مدرعة من نوع (BMB-2) ومع نهاية مايو 1989، وقَّعت الكويت ويوغسلافيا اتفاقية شراء معدات عسكرية، قدرت قِيمتها بنحو 800 مليون دولار، لشراء 350 دبابة.

    وقد تسببت أول اتفاقية كويتية ـ سوفيتية، في أغسطس 1976، بخلق توتر، داخلي وإقليمي. فاتُّهمت الكويت بأنها فتحت أبوابها لتلقين المبادئ الماركسية لقواتها المسلحة، من خلال التدريبات العسكرية، وفتحت الباب، كذلك، للخبراء العسكريين السوفيت إلى بنية الجيش الكويتي. والأهم، أن المملكة العربية السعودية، عارضت التغلغل السوفيتي في شبه الجزيرة العربية، من خلال الكويت. وقد عُدلت الاتفاقية، ليتمكن الكويتيون من الحصول على التدريب على المعدات الجديدة، في كلٍّ من مصر وسورية، وكذلك في الكويت نفسها، من قِبل خبراء مصريين بدلاً من الخبراء السوفيت.

    ويبدو أن العلاقات الكويتية ـ السوفيتية، قد آتت بعض الثمار. ومع حلول عام 1987، وأثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، أُعلن أن الاتحاد السوفيتي، قد بدأ يتصل مع إيران، طالباً منها التوقف عن مهاجمة الكويت، واحترام سيادتها واستقلالها.

    وفي منتصف عام 1988، اتفقت الكويت والولايات المتحدة الأمريكية على اتفاقية أسلحة شاملة، تقدر بمليار وتسعمائة مليون دولار. وتُعَدّ هذه أكبر صفقة سلاح، توقّعها الكويت. وسبق للكويت أن اشترت من فرنسا، عام 1983، أسلحة تجاوزت قيمتها 300 مليون دولار.

    ويتضح من ذلك، أن الكويت قد تبنّت، في الحصول على أسلحتها، سياسة تنويع مصادر السلاح، وهو ما يسمح بحرية شراء السلاح، من دون ضغوط سياسية، أو تنازلات معينة، لأي من مصدّري السلاح.

خامساً: أمن الخليج، من وجهة النظر السوفيتية

    رداً على التحركات الأمريكية في الخليج العربي، والدول المجاورة له، حاول الاتحاد السوفيتي توثيق علاقته بدول الخليج العربية، وإقامة علاقات دبلوماسية معها. فانبرى يخفف من حِدة حماسته للأنظمة اليسارية، في الوقت الذي كانت الحركات اليسارية، قد انحسرت، أو قُمِعَت، في منطقة الخليج. وأظهر تضامنه مع دول الخليج العربية في ما كانت تردّده من أن ثرواتها ملك لها، وأمنها هو من مسؤوليتها. فبادر الاتحاد السوفيتي إلى إعلان أهمية تحقيق الاستقرار والسلام في الخليج العربي والمحيط الهندي. وانطوي هذا الإعلان على مبادئ خمسة، طبقاً لما ورد في الخطاب، الذي ألقاه الزعيم السوفيتي، ليونيد بريجينيف، في البرلمان الهندي، في ديسمبر 1980، وشرح، من خلاله، للعالم وجهة النظر السوفيتية الرامية إلى تقليص الوجود الغربي في المنطقة الخليجية المجاورة للسوفيت. ودعا فيه إلى :

1. تحييد منطقة الخليج العربي والمحيط الهندي، وتعهد الدول المعنية بعدم الاعتداء على منابع النفط، باستخدام القوة، أو التهديد باستخدامها.

2. عدم إقامة قواعد عسكرية أمريكية في المنطقة، أو في الجزر القريبة منها.

3. احترام سياسة عدم الانحياز، التي اختارتها دول المنطقة وشعوبها، وعدم جرها إلى أحلاف عسكرية.

4. احترام حقوق السيادة لتلك الدول على مواردها الطبيعية، بما فيها النفط، وتوثيق العلاقات وتطوير التعاون فيما بينها.

5. عدم إيجاد عقبات أمام التبادل التجاري المشروع، أو إعاقة الطرق البحرية، التي تربط المنطقة بالعالم الخارجي.

    وعلى الرغم من جاذبية المبادئ، التي أعلنها بريجينيف وأهميتها، إلاّ أنها لم تلقَ استجابة من كثير من دول المنطقة، بسبب استمرارية الوجود السوفيتي في أفغانستان، إضافة إلى ما كانت تشنه الدوائر الأمريكية، من هجوم عنيف على الاتحاد السوفيتي، والذي وصل إلى حدّ مطالبة وسائل الإعلام الأمريكية، بضرورة المبادرة إلى تحركات عسكرية ضد السوفيت، الذين أصبح في وسعهم إعاقة الملاحة في مضيق هرمز، وما سوف يترتب على ذلك من تعرّض العالم الغربي لأضرار فادحة. 

    وحقيقة الأمر، أن استغلال الولايات المتحدة الأمريكية للتدخل السوفيتي في أفغانستان، أو احتمال تهديد الملاحة في مضيق هرمز، لم يكن إلاّ من قبِيل المبررات، التي استهدفت بها الولايات المتحدة الأمريكية تأكيد وجودها العسكري في الخليج.

سادساً: موقف الاتحاد السوفيتي، قبل الغزو العراقي للكويت

    لقد شهد النظام العالمي، خلال الثمانينيات، تحولات عميقة، أثرت في هيكل القوى وموازينها فيه. وجاءت أزمة الكويت لتضع هذا النظام برمّته عند مفترق طرق، ولتسهم، بدورها، في الكشف عن سمات نظام دولي مختلف، بدأ يتشكل في رحم هذه الأزمة نفسها، بعد أن شهد مرحلة استقرار كبيرة، إثر الحرب العالمية الثانية، وإن كان يسيطر عليها أسلوب الحرب الباردة.

    فمنذ وصول الرئيس السوفيتي،"ميخائيل جورباتشوف Mikhail Gorbachev"، إلى السلطة في الاتحاد السوفيتي، في مارس 1985، كسكرتير عام للحزب الشيوعي السوفيتي، وشروعه في إحداث تغييرات جوهرية في هيكل النظام السوفيتي وسياساته، وفقاً لرؤيته هو إلى ضرورات المكاشفة"جلاسنوست"(Glasnost)، وإعادة البناء"بيريسترويكا"(Perestroika) ـ كان من الواضح أن النظام العالمي، بدأ يدخل مرحلة جديدة، امتدت منذ وصول جورباتشوف إلى السلطة وحتى اندلاع أزمة الكويت. وكان أهم سماتها قرار الاتحاد السوفيتي تقصير خطوط علاقاته الخارجية، والبحث عن أسلوب جديد لمعالجة المشكلات الدولية وحلها، يقوم على أساس"توازن المصالح"، بدلاً من"توازن القوى"، ونبذ محاولات السيطرة والهيمنة، والصراع الأيديولوجي، وتلمّس صيغ جديدة للتعاون الدولي، تضمن الحدّ من سباق التسلح، والتفرغ لمعالجة المشكلات الكونية. وكانت النتيجة الأساسية لهذا التوجه الجديد، بصرف النظر عن دوافعه أو أسلوب تطبيقه، هي الانحسار التدريجي للنفوذ السوفيتي من مَواقع عديدة، ثم الانسحاب، الذي بدأ منتظماً، ثم راح يتعثر، مهرولاً، بعد ذلك، من المسرح العالمي، للتركيز في مشكلات الاتحاد السوفيتي الداخلية.

    وقبل أن تندلع أزمة الخليج، في 2 أغسطس 1990، كان موقف الاتحاد السوفيتي من العديد من المشكلات الإقليمية في العالم، قد تغيّر كلية، بعد أن أبدى استعداده للذهاب إلى أبعد مدى ممكن، لإيجاد حل مشرّف ومعقول يأخذ في الحسبان مصالح جميع الأطراف. ثم بدأ موقفه يتغير من قضايا ومشكلات أوروبا الشرقية نفسها، وهي منطقة نفوذه المباشر، وخط دفاعه الأمني الأول، إلى حدّ أنه تخلّى نهائياً عن أنظمة الحكم الشيوعية الموالية له، وتركها وحيدة تحت رحمة جماهيرها الغاضبة. ولم يكن في وسع أحد، على الإطلاق، أن يشكك في عمق التغير، الذي طرأ على سياسة الاتحاد السوفيتي، إذ بدا وكأنه غير راغب في أن يحرك ساكناً، عندما اندفعت الجماهير الثائرة في ألمانيا الشرقية، تحطم سور برلين، في 9 نوفمبر 1989، وهو اليوم الذي جسد، عملياً، نهاية الحرب الباردة.

    لقد طغت التطورات الداخلية، التي مر بها الاتحاد السوفيتي، خلال عام 1989، على مسرح الأحداث الدولية، سواء منها، الإيجابية الناجمة عن تمكن جورباتشوف من إرساء بعض إصلاحاته على أرض الواقع، في المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو الآثار الجانبية، المترتبة على هذه الإصلاحات، والتي وصلت، في أحد جوانبها ـ مشكلة القوميات ـ إلى ظهور بعض التكهنات باحتمال إطاحة جورباتشوف، إضافة إلى تفجَّر الإضرابات العمالية، مطالبة بتحسين ظروف العمل، وتوفير الخدمات.

    وشهد الاتحاد السوفيتي، عام 1990، فوضى، سياسية واقتصادية، داخلية، غير مسبوقة في تاريخه الحديث، كادت تؤدي إلى انهيار شامل. وخيّم على البلاد شبح المجاعة، على الرغم من تحسن الإنتاج الزراعي، كاستجابة لتشوش عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق، واضطراب العلاقات التوزيعية بين المدن والأرياف، وبين الجمهوريات السوفيتية نفسها. وسرت عدوى الاستقلال من الجمهوريات الهامشية إلى جمهوريات القلب.

سابعاً: العلاقات الثنائية بين القطبَين

    انعكس التدهور الشديد للقوة السوفيتية في السياسة الدولية، الناجم عن تفاقم الأزمة الداخلية، على الأداء الخارجي للدولة. وتبلور ذلك في تحوُّل غير ملحوظ، من توازن المصالح إلى التسليم بتفوق الغرب، وشبه الانفراد الأمريكي بمكانة القوة العظمى. وترجم ذلك كله بمزيد من التنازلات السوفيتية، في السياسة الدولية. فإلى جانب تقنين التحول السياسي في أوروبا الشرقية، الذي نقلها من النفوذ السوفيتي إلى النفوذ الغربي، فقد قفز الاتحاد السوفيتي قفزة إضافية، في التنازلات الإستراتيجية، عندما اعترف، في سياق مفاوضات 2+4[3]، التي بدأت في 15 مارس 1990، في شكل مائدة مستديرة، بحق ألمانيا الموحَّدة في الانتماء إلى حلف شمال الأطلسي، أي نقل ألمانيا الشرقية، من دائرة حلف وارسو إلى ندّه السابق، حلف الناتو. وإضافة إلى ذلك، فقد كانت التنازلات الإستراتيجية السوفيتية، وراء النجاح في توقيع معاهدة تخفيض الأسلحة التقليدية في أوروبا. وكان أهم التنازلات هو الاعتراف بحق التفوق في أعداد القوات الأمريكية المنتشرة في أوروبا الغربية، تعويضاً للولايات المتحدة الأمريكية عن القرب الجغرافي للقوات السوفيتية من أوروبا الشرقية.

    وشهد عام 1989، وبدايات عام 1990، ما يشبه إطلاق يد الولايات المتحدة الأمريكية في إدارة صراعات دول العالم الثالث، والصراعات الإقليمية، نتيجة للانسحاب السوفيتي من بعضها، ولتهميش دوره في بعضها الآخر، مما أدى إلى انفراد واشنطن بإدارة هذه الصراعات، واستقطاب أطرافها، المحلية والإقليمية، للتباحث مع الإدارة الأمريكية.

    ولا يمكن فهْم ردود فعل الولايات المتحدة الأمريكية، إلاّ في سياق فهْم أعمق لطبيعة سياستها تجاه المنطقة ككل. فقد كان لواشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى اندلاع أزمة الخليج، في 2 أغسطس 1990، ثلاثة أهداف رئيسية تجاه المنطقة: محاربة النفوذ السوفيتي، وحماية إسرائيل وضمان أمنها، والمحافظة على المصالح الأمريكية النفطية، التي تشمل ضمان تدفّق النفط إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإلى حلفائها، بالأسعار الملائمة للاقتصاد الأمريكي بصفة خاصة. وعلى الرغم من اختلاف وتغيّر أساليب السياسة الخارجية الأمريكية وأدواتها، من إدارة إلى أخرى، إلاّ أن هذه الأهداف الثلاثة ظلت ثابتة، ولم تخضع لأي مراجعة جوهرية، طوال ما يقرب من نصف القرن الماضي، كما أنها لم تتأثر بتغيّر الإدارات الأمريكية المختلفة وتعاقبها، طوال تلك الفترة.

    وفيما يتعلق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، فقد شهد انفراداً أمريكياً، وتراجعاً سوفيتياً، تبلور، بوضوح، في المحاولات السوفيتية المتكررة، لإقناع واشنطن بأن يكون له دور في حل الصراع. ويمكن القول إن الاتحاد السوفيتي، خضع لعملية ابتزاز أمريكي ـ إسرائيلي، مقابل السماح له بدور ما في حل الصراع؛ إذ تشترط الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل عليه، أن يعيد علاقاته الدبلوماسية بإسرائيل، ويفتح الباب أمام هجرة اليهود السوفيت.

    ونجحت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في تنفيذ مطالبهما. فعلى صعيد الهجرة السوفيتية اليهودية إلى إسرائيل، شهد عام 1990 إزالة كافة القيود، وبدت الفرصة مثالية أمام المؤسسات الصهيونية للمبادرة إلى واحدة من أكبر عمليات نقْل البشر، في التاريخ المعاصر. ولقد زاد عدد اليهود السوفيت، الذين دخلوا إسرائيل، على 200 ألف مهاجر، وهو رقم يساوي ثلاثة أضعاف مَن هاجر إليها في عام 1989، واثني عشر ضعفاً لمهاجري عام 1988. وهو، بلا شـك، ما لا يتيح للطرف العربي إمكانية التفاوض من موقع قوة، أو على الأقل موقع تعادل. وعلى صعيد آخر أعاد الاتحاد السوفيتي علاقاته الدبلوماسية بإسرائيل.



[1] وقد جددت هذه المعاهدة عام، 1987

[2] يرجع تأسيس قوة الشرق الأوسط، إلى عام 1949، حين شعرت الولايات المتحدة الأمريكية بحاجتها إلى وجود بحري منظم، في الخليج، وذلك لدعم مصالحها، الاقتصادية والإستراتيجية. واتخذت هذه القوة من قاعدة الجفير مركزاً لها، وذلك بموجب اتفاقية، عقدت في ذلك العام، بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، التي كانت تتولى، آنذاك، الإشراف على الشؤون الخارجية لدولة البحرين بموجب علاقاتها التعاقدية معها

[3] في ألمانيا الشرقية، فاز `التحالف من أجْل ألمانيا` بالانتخابات العامة، التي جرت في مارس 1989. وتكونت الحكومة الجديدة بزعامة لوثر دى ميزير، زعيم الحزب المسيحي الديموقراطي، أكبر أحزاب التحالف. وتُعَدّ ألمانيا أهم حالات التحول السياسي في أوروبا الشرقية، بسبب ارتباطها الوثيق بالتوازنات الإستراتيجية بين الغرب والشرق، ومستقبل النظام الدولي ككل. وجرت مباحثات (4+2)، في شكل مائدة مستديرة، في بون، وضمت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي، إضافة إلى الألمانيَتَين، لبحث الوضع العسكري لألمانيا، بعد توحيدها ومستقبل الحدود بين ألمانيا الموحدة وجيرانها، خاصة بولندا