إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / المسرح الدولي والإقليمي والعربي (خلال الفترة من 1980 إلى 1990)









أولاً: الموقف العربي

المبحث الثاني

العلاقات العربية ـ الإيرانية/ التركية

أولاً: العلاقات العربية ـ الإيرانية، سياسياً

1. المفاوضات العراقية ـ الإيرانية

    منذ أن توقف القتال بين إيران والعراق، في 20 أغسطس 1988، وبدأت عملية المفاوضات بينهما، ثارت تكهنات بقرب انفراج عربي ـ إيراني، لعدة أسباب، منها الحقائق الجغرافية ـ السياسية، التي تجعل إيران بلداً أساسياً في تفاعلات منطقة الشرق الأوسط، وأن ثقلها الإستراتيجي يملي على العرب طرح الأفكار والمبادرات الإيجابية، لتجسيد حالة من حُسن الجوار، القائم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وإيجاد القواسم المشتركة إزاء القضايا، الإقليمية والدولية، المختلفة. إلاّ أن عملية الانفراج هذه لم يقدر لها، بعد، أن تتجسد عملياً، لأسباب عديدة، منها أسباب تعود إلى إيران نفسها، وأخرى تعود إلى الرؤية العربية، وأولويات القضايا المثارة.

    لقد تعثرت المفاوضات المباشرة بين العراق وإيران، منذ قبول الأخيرة قرار مجلس الأمن، الرقم 598، في 20 يوليه 1987، بوقف إطلاق النار، من أجل وضع البنود الستة لهذا القرار موضع التنفيذ. وفي مطلع عام 1989، عمد ممثل الأمين العام للأمم المتحدة إلى جولة استطلاعية في كلٍّ من البلدَين، لمحاولة الاتفاق على شكل وميعاد ومكان المفاوضات المباشرة بينهما. كما جرت اتصالات، في أوائل شهر فبراير 1989، في نيويورك، بين وزيرَي خارجية البلدَين، على هامش المناقشات، التي أجراها مجلس الأمن في شأن تجديد فترة وجود قوات المراقبة الدولية على الحدود. ومن الناحية الرسمية، لم تكن تلك الاتصالات استئنافاً للمفاوضات المقطوعة بين العراق وإيران.

    وعلى الرغم من كل هذه الجهود والاتصالات، ظلت وجهات النظر مختلفة بين الطرفين، حتى حلول الجولة الرابعة من المباحثات، في 20 أبريل 1989، تحت إشراف الأمين العام للأمم المتحدة. وبدورها، لم تسفر هذه المفاوضات عن أي تطورات جوهرية، إذ ظل كل طرف متمسكاً بوجهة نظره، حول كيفية تنفيذ بنود القرار الدولي 598، وحول الأولويات والخطوات، التي يجب أن يلتزم بها الطرف الآخر أولاً.

    وعقب فشل الجولة الرابعة، من المفاوضات، طالب وزير الخارجية الإيراني، "علي أكبر ولايتيAli-Akbar Velayati" ، الأمين العام للأمم المتحدة، بأن يحدد موعداً لانسحاب القوات العراقية من الأراضي الإيرانية، التي تبلغ مساحتها 2600 كم2، كخطوة ضرورية لكسر الجمود في الموقف. ورفض العراق ذلك، إذ أكدّ وزير خارجيته، طارق عزيز، أنه ليس لإيران الحق في إملاء الأولويات في المفاوضات، التي يجب أن تعالج خطة السلام ككل. ولمّا كانت مشكلة الأسرى ذات طابع إنساني خاص، فقد طالب العراق، من جهته، بأن يجري التعامل مع هذه المشكلة، خارج إطار قرار مجلس الأمن، وأبدى استعداده للتبادل الفوري لجميع الأسرى، بشكل مستقل عن تطور مفاوضات السلام بين الطرفين. أمّا إيران، فقد أصرت على ضرورة معالجة هذه المشكلة، في إطار القرار الدولي. وبعد تدخلات من "خافيير بيريز دى كويلار Javier Perez de Cuellar" ، ونجاحه في الحصول على موافقة إيران على تبادل الأسرى، في الحالات المرضية فقط، جرى تبادل 150 أسيراً، ثم أوقفت إيران العملية، بحجة أن بقية الأسرى من المرضى، قد شفوا في إيران. ولم تفلح محاولات الصليب الأحمر، والأمانة العامة للأمم المتحدة، في تأمين استمرار تبادل الأسرى.

    وفي ذكرى مرور عام على وقف القتال بين إيران والعراق، أرسل بيريز دى كويلار، الأمين العام للأمم المتحدة، مذكرة، في 18 أغسطس 1989، إلى قادة البلدَين لافتاً إلى أن سير المفاوضات قد توقف، على الرغم من محاولات دفعها. ولفت دى كويلار نظر الطرفَين إلى أن أي تسوية للصلح، يجب أن تسير بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 598، الذي قبلاه، ولا يمكن تعديله، ودعاهما إلى اتخاذ مواقف متوازنة. وتبع ذلك جولة مكوكية للمبعوث الخاص للأمين العام،"يان الياسون"، استمرت 17 يوماً، زار خلالها كلاً من بغداد وطهران، ست مرات، وانتهت في 17 نوفمبر 1989. وكان هدف الجولة الرئيسي هو تقديم الاقتراحات، لاستئناف المفاوضات، ولتطبيق القرار الدولي، فضلاً عن تدارس آراء البلدَين، حول كسر الجمود المخيم على الموقف. وأثناء الجولة، أبدت إيران موافقتها على تبادل الأسرى، في الوقت عينه، الذي ينسحب فيه العراقيون من المواقع الإيرانية. وهو ما رفضه العراق، إذ رأى أن هذا الاقتراح، يربط بين قضيتَين، كل منهما لها طبيعتها الخاصة. وأن الانسحاب إلى الحدود الدولية، هو قضية سياسية، في حين أن تبادل الأسرى، هو قضية إنسانية، وهناك اتفاقية دولية تنظم هذه العملية. وقدم العراق اقتراحاً، يتضمن، بالتحديد، تشكيل خمس لجان، هي:

أ. لجنة السيادة على شط العرب.

ب. لجنة الانسحاب.

ج. لجنة الأسرى، في إطار اتفاقات جنيف، وبمشاركة ممثل هيئة الصليب الأحمر الدولية.

د. لجنة الفقرتَين 6 و8، من القرار الدولي 598.

هـ. لجنة الفقرة 4، من القرار الدولي، المتعلقة بتوقيع معاهدة سلام بين الطرفَين.

    وتضمن الاقتراح العراقي إجراء محادثات مباشرة، إيرانية ـ عراقية، على أن تعقد، بالتناوب، مرة في بغداد ومرة في طهران، وألاّ تتجاوز هذه اللقاءات زمناً نهائياً لا يزيد على ثلاثة أشهر، وألاّ تقلّ عن أربع مرات لكل لجنة. ويتلو ذلك، اللقاء على مستوى أعلى، وربما بين وزيرَي الخارجية، ثم في مرحلة لاحقة، إذا تطلب الأمر، على مستوى أعلى من المستوى الوزاري.

    ولم يوافق الإيرانيون على الاقتراح العراقي، وتمسكوا بعملية الربط بين الانسحاب وتبادل الأسرى. وهو ما أعطى انطباعاً قوياً بفشل جولة الياسون، الذي رأى أن مهمته لم تفشل فشلاً تاماً، لأن الطرفَين عبّرا عن اهتمامهما بالاستمرار في وقف القتال، وعدم العودة إليه، وبالرغبة في التفاهم، وتسوية المشكلات المعلقة بينهما، وكذلك، لأن الطرفين اتفقا على لقاء غير مباشر بين وزيري خارجية البلدين، يتم في نيويورك، تحت إشراف الأمم المتحدة، وقد عقد هذا الاجتماع، بالفعل، ولكنه لم يسفر عن جديد. وظلت المفاوضات العراقية ـ الإيرانية معلقة، ولم تحقق أي تقدم أو نجاح.

    وقدمت إيران عرضاً، خصت به الأسرى المصريين لديها، وعبّرت عن رغبتها في الإفراج عنهم، مقابل فتح ملف العلاقات المصرية ـ الإيرانية. إلاّ أن الحكومة المصرية، ارتأت تسوية مشكلة الأسرى، المصريين والعراقيين معاً، في إطار التسوية الشاملة بين البلدَين.

    انصرم عام 1989، من دون إقرار تسوية شاملة للمشاكل القائمة بين العراق وإيران، بسبب الخلافات الكبيرة بينهما، في شأن تفسير القرار 598، المتعلق بوقف إطلاق النار بينهما. وفي 6 يناير 1990، تقدم الرئيس العراقي، صدام حسين، في الذكرى التاسعة والستين لتأسيس الجيش العراقي، بمبادرة، تهدف إلى التسوية الشاملة للقضايا المتنازع فيها، بين بغداد وطهران. وتضمنت المبادرة العراقية البنود التالية:

أ. عقد اجتماعات دورية بين قيادتَي البلدَين، والسماح بتبادل الزيارات المنظمة إلى المقامات الدينية.

ب. التبادل الفوري لكل المرضى والجرحى من الأسرى، خاصة الذين أمضوا مدة طويلة في الأسر.

    ولم تقبل إيران مبادرة الرئيس العراقي، ووصفتها بأنها خدعة، ودعاية له. وبعد خمسة أيام من المبادرة العراقية، أعلنت إيران أنها وافقت على الاقتراح، الذي تقدم به الاتحاد السوفيتي، في يونيه 1989، والمتضمن عقد اجتماع ثلاثي، يضم وزراء خارجية العراق وإيران والاتحاد السوفيتي. وكان العراق قد قبل الاقتراح، في حينه.

    وجاء الرد العراقي على التحول في الموقف الإيراني، في تصريح لسفير العراق إلى فيينا، أعلن فيه تحفظ العراق إزاء أي وساطة خارجية، لإنهاء النزاع بين طهران وبغداد، سواء كانت خليجية أو سوفيتية. وأشار إلى أن العراق قبِل الاقتراح السوفيتي، لا كوساطة سوفيتية، ولكن كاقتراح لجمع الطرفين، تمهيداً للتشاور. وأصرّ العراق على أن تكون مبادرة الرئيس صدام حسين أحد البنود الأساسية في أي اجتماع بين البلدَين.

    لم يتمكن البلدان من عقد الاجتماع الثلاثي، بسبب تباعد مواقف كلٍّ منهما. وإنقاذاً للموقف، تقدم الأمين العام للأمم المتحدة، بتأييد من مجلس الأمن، بمبادرة من ثماني نقاط، اشتملت على ما يلي:

أ. انسحاب قوات البلدين إلى الحدود الدولية المعترف بها.

ب. الإفراج عن الأسرى وإعادتهم إلى وطنهم، وفقاً لاتفاقية جنيف الثالثة، لعام 1949.

ج. التعاون مع الأمين العام على تحقيق تسوية شاملة ومقبولة، وفقاً لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة.

د. تطهير ممر شط العرب.

هـ. بحث إمكانية تكليف الأمين العام بتشكيل هيئة محايدة، للتحقيق في المسؤولية عن الصراع.

و. مبادرة الأمين العام إلى التشاور مع الطرفين وسواهما من دول المنطقة، في دراسة إجراءات تعزيز الأمن والاستقرار الإقليميَّين.

ز. اتخاذ مزيد من الترتيبات، المتعلقة بوقف إطلاق النار، وحرية الملاحة في أعالي البحر ومضيق هرمز.

ح. تقديم الطرفين تأكيدات متبادلة، في ما يتعلق بالطبيعة الواحدة المتكاملة للقرار، ولإحلال السلام، وعلاقات حسن الجوار.

    وتتسم هذه المبادرة بتحقيق نوع من التوازن، بين المطالب العراقية، والمطالب الإيرانية. فهي من جانب، تتوخى التوصل إلى تسوية شاملة، تحت رعاية الأمم المتحدة؛ وهو ما يلبي المطالب العراقية. وتستهدف، من جانب آخر، الانسحاب إلى الحدود الدولية، وتكليف هيئة دولية بالتحقيق في المسؤولية عن الصراع؛ وهو ما يلبي المطالب الإيرانية. غير أن هذه المبادرة لم تسفر عن شيء.

    وفي ضوء هذا الجمود، بعث الرئيس صدام حسين برسالة، في 19 مايو 1990، إلى كلٍّ من الزعيم الإيراني، علي خامِنَئي، والرئيس الإيراني، علي أكبر هاشمي رافسنجاني، رداً على خطابهم المرسل في الأول من مايو 1990. وكرر صدام حسين في رسالته، مقترحاته السابقة، التي بعث بها من قبْل، في 21 أبريل 1990، بعقد قِمة عراقية ـ إيرانية، يسبقها لقاء أولي بين ممثلين من كلا البلدَين ليتمكن كل جانب من أن يتعرف مواقف الطرف الآخر من القضايا المعلقة بينهما، لتوضيح الصورة أمام الرؤساء، قبْل القِمة، حتى يتفرغوا للسعي إلى حل حاسم للمشاكل الناجمة عن الحرب، لتحقيق السلام الشامل في المنطقة، طبقاً لقرار مجلس الأمن الرقم 598. وأعرب الرئيس العراقي، في نهاية رسالته، عن رغبته في عقد القِمة في مكة المكرمة. (أُنظر وثيقة ترجمة رسالة الرئيس صدام حسين إلى كلً من  قائد الثورة الإسلامية الإيرانية، علي خامنيئي، والرئيس الإيراني، علي أكبر هاشمي، في 19 مايو 1990) و(وثيقة أصل الرسالة باللغة الإنجليزية).

    وأبدت إيران اهتماماً غير عادي برسالة الرئيس صدام حسين. فوصفها الرئيس رافسنجاني بأنها"دلالة على حُسن النية، من جانب العراق". كما أبدت الحكومة الإيرانية استعدادها للدخول في مفاوضات مباشرة مع العراق، بإشراف الأمم المتحدة، وفي إطار القرار 598، بشرط أن تُحدَّد الموضوعات، التي ستطرح في المفاوضات، وتنفَّذ بنود اتفاقية الجزائر، عام 1975.

    ويلاحظ أن السياسة الإيرانية تجاه العراق، قد تغيرت لهجتها، في هذه الفترة. فبعد أن كانت تتسم بالتشدد، واستخدام عبارات مثل"معاقبة مجرمي الحرب في بغداد"أو"يزيد الكافر"… إلخ، أصبحت تستخدم عبارات أكثر ودية، مثل الأفكار البناءة للقيادة العراقية، أو خطوة الرئيس العراقي الجديدة. وعلى الرغم من هذه المرونة، فإن الجانبَين، لم يتمكنا من وضع القرار 598 موضع التنفيذ، بسبب الشكوك الإيرانية في النيات العراقية.

2. العلاقات الإيرانية ـ الخليجية

    تمثل العلاقات بين إيران ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حجر الزاوية في تشكيل عملية الاستقرار الإقليمي في الخليج العربي. والمعروف أن دول هذا المجلس، قد اتخذت موقفاً متوازناً من الحرب العراقية ـ الإيرانية، في بدايتها. ولكن هذا الموقف أخذ يتطور ببطء، نحو مساندة أقوى للعراق، على الصعيدين، السياسي والاقتصادي. وقد برزت هذه المساندة في العامَين الأخيرَين للحرب، اللذَين شهدا محاولات إيرانية لتوسيع رقعة القتال، ليشمل دولاً خليجية أخرى، كالكويت، فضلاً عن التأثير في الملاحة في مضيق هرمز.

    وفي حقيقة الأمر، عكس الموقف الخليجي، عبر تطوره، قدراً من التباين بين الدول الخليجية. ويمكن القول إنه كان هناك اتجاهان، يتنازعان دول المجلس، إزاء الحرب والجهود المبذولة من أجل إيقافها.

    الاتجاه الأول، كان يدعو إلى اتخاذ موقف متشدد من إيران لكونها الطرف المعرقل لوقف الحرب، والإفصاح عن المساندة الكاملة للعراق، سياسياً وعسكرياً. ونادى أنصار هذا الاتجاه بالعمل على عزل إيران ومحاصرتها في المنطقة، كنوع من الضغط عليها للاستجابة إلى الجهود الدولية، ولا سيما المبذولة في إطار الأمم المتحدة، لوقف القتال.

    أمّا الاتجاه الثاني، فكان يرى أن اتخاذ موقف خليجي ضاغط على إيران، من شأنه أن يعقّد الموقف، ولا يسهم في تحقيق انفراج فيه. ذلك أن الضغط على إيران، قد يدفعها إلى مزيد من اليـأس، فلا تجد ما يردعها عن توسيع رقعة القتال، وإقحام دول خليجية أخرى في الحرب، وهـو ما يجب تجنّبه. ورأى أصحاب هذا الاتجاه أن الحكمة، تقتضي، ولو جزئياً، استمرار الاتصال مع القيادة الإيرانية ومحاورتها، ومحاولة إقناعها بوقف القتال، والدخول في مفاوضات لتسوية القضايا المختلفة مع العراق. وأن يقدم الخليجيون نوعاً من الضمانة السياسية، والمعونة، لاستقرار الأوضاع في المنطقة.

    وفي واقع الأمر، كانت القرارات، التي تنتهي إليها قمم مجلس التعاون لدول الخليج العربية، قرارات وسطاً، راعت أنصار كل اتجاه. ولم يختلف الأمر كثيراً، فيما بعد توقف القتال، فالمفاوضات العراقية ـ الإيرانية، لم تتح لها الظروف، بعد، أن تتقدم إلى الأمام. وكان هذا التعثر مثار مناقشات بين قادة الدول العربية الخليجية، في القمتَين، التاسعة، التي عقدت في المنامة، في 19 ديسمبر 1988، والعاشرة، التي عقدت في مسقط، في 18 ديسمبر 1989.

    ففي القمة التاسعة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، لم يكن قد مضى على المفاوضات العراقية ـ الإيرانية سوى نصف عام فقط، وكان الاهتمام مركزاً في كيفية المساهمة في دفع هذه المفاوضات، وإعادة صياغة العلاقات الخليجية ـ الإيرانية، بعد وقف القتال. وخلصت القمة إلى أن التعاون مع إيران مرهون، أولاً، بالنجاح في المفاوضات العراقية ـ الإيرانية، وأن الأولوية أمام دول المجلس، هي المساعدة على دفع هذه المفاوضات، والعمل على إنجاحها.

    وحاول النظام الإيراني إيجاد حركات مضادّة للأنظمة الحاكمة، في منطقة الخليج العربي، مستخدماً الأقليات الشيعية، في الكويت والمملكة العربية السعودية. ولكنها لم تنجح في كلتا الدولتَين. إذ قُضي على القلاقل، التي أثارها بعض الشيعة في الأحساء. واتبعت إيران وسائل أخرى، مثل استغلال موسم حج عام 1407 هـ (1987م)، في توزيع منشورات دعائية في مصلحة طهران، وتشكيل مسيرة صاخبة، أشاعت الفوضى والاضطراب بين الحجاج، وأفسدت عليهم عبادتهم. ففي يوم الجمعة السادس من ذي الحجة 1407 هـ، الموافق 31 يوليه 1987، وبعد صلاة العصر، اصطدمت مسيرة من الحجاج الإيرانيين برجال الأمن السعوديين، مما أسفر عن مصرع 85 سعودياً و275 إيرانياً و42 حاجاً من جنسيات مختلفة، إضافة إلى إصابة 649 آخرين بجراح، منهم، 145 سعودياً، من رجال أمن ومواطنين، و201 من حجاج بيت الله الحرام، و303 من الإيرانيين.

    وفي اليوم التالي، الأول من أغسطس 1987، ووسط تطورات سريعة ومتلاحقة، اقتحم مئات من المتظاهرين الإيرانيين، سفارات المملكة العربية السعودية والكويت والعراق وفرنسا في طهران، وأشعلوا النيران في الوثائق والممتلكات في داخلها، وذلك على أثر ما بثته إذاعة طهران، في شأن مصرع المئات من الحجاج الإيرانيين، في اشتباكات مع رجال الأمن السعوديين، حول المسجد الحرام.

    وفي يوم الثلاثاء، 26 أبريل 1988، قطعت المملكة العربية السعودية علاقاتها الدبلوماسية بإيران، حينما تسلّم القائم بالأعمال الإيراني، محمد حسين عزامي، مذكرة بذلك، من وزارة الخارجية السعودية، بسبب ما تعرضت له السفارة السعودية في طهران من دهْم وتخريب، والاعتداء على الدبلوماسيين العاملين فيها، واحتجاز أربعة منهم، مما أفضى إلى استشهاد أحدهم، إضافة إلى تدمير ممتلكات السفارة ونهب وثائقها. وقد اتخذت المملكة العربية السعودية هذا القرار، بعد أن تأكدت من أن هذه الأعمال، كانت بإيعاز من السلطات الإيرانية الرسمية.(أُنظر وثيقة نص مذكرة وزارة خارجية المملكة العربية السعودية، إلى القائم بالأعمال الإيراني في الرياض، في 26 أبريل 1988، في شأن قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين)  

    وفي القمة العاشرة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، دارت المناقشات، المتعلقة بالعلاقات بإيران، في اتجاهَين.

أ. أولهما، دعا إلى استمرار دول المجلس في تأييد جهود الأمين العام للأمم المتحدة، وعدم اتخاذ أي موقف محدد من المفاوضات، يفسَّر بأنه انحياز إلى هذا الطرف أو ذاك.

ب. أمّا الاتجاه الثاني، فرأى أن دول المجلس معنية بنجاح المفاوضات، والوصول بها في أسرع وقت، إلى تسوية سلمية، ما يقتضي الاضطلاع بدور أبعد من دور المراقب، والمؤيد للجهود الدولية، وأنه يمكن أن تؤدي دول الخليج دوراً في دفع المفاوضات، من خلال اتخاذ موقف أكثر تحديداً من القضايا المستعصية، خاصة قضية الأسرى.

    والجدير بالذكر، أن إيران بادرت إلى تحرّك دبلوماسي، قبْل أيام قليلة من القمة الخليجية العاشرة، إذ أرسلت مبعوثاً خاصاً، زار قطَر والإمارات العربية المتحدة، إضافة إلى توجيه رسائل، عبر سفرائها لدى الدول الخليجية، عبّرت فيها عن رغبتها في تحسين العلاقات بكل دول المنطقة. ويبدو أن هذا الجهد الدبلوماسي الإيراني قد آتى ثماره، إذ إن قرار القمة الذي صدر في 21 ديسمبر 1989، جاء حلاً وسطاً بين الاتجاهَين المشار إليهما، فأكد أهمية الدور، الذي تؤديه الأمم المتحدة في المفاوضات العراقية ـ الإيرانية، وأهمية حل قضية الأسْرى، على أساس أن هذه الخطوة، تضفي جواً من الثقة والفاعلية على المفاوضات، وتؤدي إلى تسارع الجهود، في اتجاه حل سلمي، وشامل.

    لقد أتاحت الحرب العراقية ـ الإيرانية الفرصة، لكي تتجاوز الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بتأثيرها، الذي يتخفى تحت العباءة الدينية، منطقة الخليج. ذلك أن سورية، التي دخلت في صراع مرير مع العراق، نشأ شبه تحالف بينها وبين إيران، وعُلِّل هذا التقارب بالتشابه المذهبي بين النظام العلوي الحاكم في سورية، وبين الجمهورية الشيعية في إيران، التي اتخذت من الفقه الجعفري مذهباً رسمياً. كذلك، استفادت سورية اقتصادياً من هذا التقارب، بالحصول على النفط الإيراني بأسعار مخفضة. صحيح أن دولاً عربية أخرى، مالت إلى إيران مثل ليبيا، في السنوات الأولى للحرب، وكذلك الجزائر، ولكن ليس إلى درجة التقارب السوري.

    وعبْر سورية تسرب النفوذ الإيراني في لبنان، حيث كان المجال واسعاً لالتحام حراس الثورة الإيرانيين بميليشيا حزب الله، الذي لم يخفِ ولاءه، السياسي والديني، لإيران.

    وعلى الرغم من التحسن، الذي طرأ على العلاقات بين إيران وبعض دول الخليج العربية، في النصف الأول من عام 1990، إلاّ أن العديد من القضايا ظلت محل خلاف، ولا سيما تلك المتعلقة بالتزام إيران بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج، ووقف الحملات الإعلامية بين طهران والرياض، ورفض إيران، للعام الثالث على التوالي، الاشتراك في موسم الحج. غير أن هذا الموقف سرعان ما تبدد، بعد غزو العراق للكويت، فأصبح الحديث عن اشتراك إيران في الدفاع عن أمن الخليج، وإنشاء علاقات على أُسُس متينة بينها وبين جيرانها، مقبولاً لدى الطرفَين.

    وقد شهد عام 1990 تبادلاً مكثفاً للزيارات والرسائل الرسمية، بين إيران ودول الخليج، بما فيها الكويت، التي استقبلت علي أكبر ولايتي، وزير خارجية إيران، في أول زيارة رسمية لمسؤول إيراني، منذ اندلاع حرب الخليج الأولى. واتفق البلدان على استئناف الرحلات الجوية بين طهران والكويت، وتشغيل خط ملاحي بين ميناء بوشهر الإيراني والكويت، وإنشاء العلاقات بين الطرفَين على أساس حُسن الجوار، والاحترام المتبادل للسيادة الإقليمية للبلدَين. كما زار علي محمد بشارتي، نائب وزير الخارجية الإيراني، عُمان، وأبو ظبي، والبحرين. أمّا الرئيس رافسنجاني، فبعث برسائل خطية إلى دولة البحرين، في 12 أبريل 1990، وسلطنة عُمان، في 12 مايو 1990، والإمارات العربية المتحدة، في 14 يوليه 1990. وتشير هذه الزيارات والرسائل إلى:

أ. أن هناك تياراً قوياً، في إيران، يمثله الرئيس علي أكبر هاشمي رافسنجاني، يرفض ويعارض تصدير الثورة الإيرانية إلى الدول الخليجية المجاورة، من طريق استخدام القوة، أو التدخل في شؤونها الداخلية.

ب. أن هذا التيار، يؤيد فكرة اتخاذ مبادرات عملية، واتخاذ سلسلة من الخطوات والإجراءات، الدبلوماسية والسياسية والإعلامية، تساعد على فتح صفحة جديدة في العلاقات بين إيران ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.

ج. أن مضمونها قد انصب على قضايا، اقتصادية وتجارية، ولم يتطرق إلى مسائل ذات طبيعة أمنية أو عسكرية.

    وعلى الرغم من مناخ الوفاق الجديد بين إيران ودول الخليج، إلاّ أن العلاقات الإيرانية ـ السعودية، سارت في اتجاه معاكس. فقد ازدادت حدّة الحملات الإعلامية بين طهران والرياض، مع اقتراب موسم الحج. وأدى الجدل القائم بين البلدَين، حول عدد الحجاج الإيرانيين، المحدد بـ 45 ألف حاج إيراني، وفقاً لقرار منظمة المؤتمر الإسلامي، والمرفوض من قِبل إيران، إلى تأجيج الحملات الإعلامية بينهما.

ثانياً: العلاقات العربية ـ الإيرانية، اقتصادياً

    تدهورت العلاقات الاقتصادية، بين العرب وإيران، تدهوراً كبيراً، منذ نجاح الثورة الإيرانية، وما تلاها من تهديد بتصدير الثورة الإسلامية، ثم اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية، ثم فتنة حج عام 1407 هـ (1987م)، التي وقعت في مكة المكرمة، وما تلاها من أحداث، ولا سيما الأعمال التخريبية في سفارة المملكة العربية السعودية في طهران، وتسببت بقطع العلاقات بين طهران والرياض.

    وتكاد العلاقات الاقتصادية بين الطرفَين، تكون محصورة في صادرات إيرانية إلى العرب، لم تجاوز 57 مليون دولار، عام 1987، وواردات إيرانية، قدرت بنحو 190 مليون دولار، في العام نفسه. وكان معظم التجارة الإيرانية مع الإمارات العربية المتحدة والكويت وسورية. ولم تزد تجارة إيران مع الوطن العربي على 1.2% من إجمالي تجارتها الخارجية، عام 1987، وفي الوقت عينه، تشكل التجارة العربية مع إيران نحو 0.1% من إجمالي التجارة الخارجية للوطن العربي.

    وقد مثلت عودة العلاقات الدبلوماسية بين الدول العربية وإيران، بعد انتهاء الحرب الإيرانية ـ العراقية، مقدمة منطقية لتطوير علاقاتها الاقتصادية. وإذا كانت الكويت في طليعة الدول العربية، التي استأنفت علاقاتها الدبلوماسية بإيران، بعد قبولها قرار وقف إطلاق النار، الصادر في 20 يوليه 1987، فإن المملكة المغربية هي آخر دولة استعادت علاقاتها بإيران، في ديسمبر 1991. وعلى مدار ثلاث سنوات، هي الفاصلة بين الحدثَين، جرت مياه كثيرة من تحت الجسور، ووَسِع إيران أن تتغلب على بعض العقبات الرئيسية في هذا الخصوص، ومنها العقبة العراقية.

    وشهدت المعاملات التجارية الخليجية ـ الإيرانية دفعة قوية، زيدت، بمقتضاها، قيمة واردات إيران من دبي، من 427 مليون دولار، عام 1989 إلى 520 مليون دولار، عام1990. وفي المقابل، قدِّرت قيمة الواردات البحرينية من إيران، في النصف الأول من عام 1991، بحوالي 9.2 ملايين دولار، مقارنة بـ 6.6 ملايين دولار، على مدار عام 1990.

    لكن ارتفاع حجم التجارة البينية، الخليجية ـ الإيرانية، لم يكن هو الوجه الوحيد لنمو العلاقات الاقتصادية المتبادلة بين الطرفَين. ولم يكن النطاق الخليجي، على أهميته، يمثل الوعاء الوحيد لنمو العلاقات الاقتصادية، بين العرب وإيران. فعلى المستوى الأول، شكلت صيغة المشروعات المشتركة واحدة من أبرز مظاهر التعاون الإيراني ـ الخليجي ، وكان أهمها، على الإطلاق، ذلك المشروع الذي عرف باسم"الأنبوب الأخضر"، الذي يقضي بتوصيل مياه الشرب، من نهر قارون، جنوبي إيران، إلى دولة قطَر، عبْر خط أنابيب ضخم، يبلغ طوله 1800 كم. ويمثل هذا المشروع بديلاً من نظيره التركي"مشروع مياه السلام"، الذي يهدف إلى سحب فائض المياه، من نهرَي"سيهان"و"جيهان"، جنوبي تركيا، وتوصيله إلى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، مروراً بسورية والأردن. ومن تلك الزاوية، فإنه يعكس أحد أبعاد التنافس التركي ـ الإيراني، بعد حرب الخليج الثانية، سواء في المنطقة العربية أو في نطاق الشرق الأوسط.

    وعلى صعيد آخر، تعاونت إيران مع سلطنة عُمان على مدّ الخطوط الملاحية فيما بينهما، تسهيلاً لتدفق الأشخاص والسلع التجارية. كما ساندت السلطنة في مجلس التعاون المشروع الإيراني، المتعلق بمدّ خط للسكك الحديدية، يربط طهران بدول آسيا الوسطى. بل إن موضوع النفط، الذي يُعَدّ أحد الموضوعات الشائكة في العلاقات الخليجية ـ الإيرانية، خاصة مع زيادة إيران حصتها النفطية المقررة، من 3.6 إلى 3.9 ملايين برميل، يومياً، لمواجهة أزمتها الاقتصادية، هذا الموضوع تجنبت إيران أن يصبح سبباً في وقوع مواجَهة حادّة، داخل منظمة الأوبك.

ثالثاً: العلاقات العربية ـ التركية، سياسياً

    لقد تجلت حكمة العقل السياسي التركي العام، في أوضح صورها، في أبعاد الموقف التركي المعلن، والمنفذ، عملياً وواقعياً، إبّان الحرب الإيرانية ـ العراقية، الممتدة لأكثر من ثماني سنوات متتالية. فلقد التزمت تركيا حياداً دقيقاً، حقيقياً، من الحرب، حرصاً منها على علاقاتها بالدولتَين المتحاربتَين، ولم تلجأ إلى أدنى صنوف الضغط، الاقتصادي أو الدبلوماسي، في مصلحة أحدهما ضد الآخر، بل سعت الدبلوماسية الخارجية سعياً حثيثاً إلى مساعدة الطرفَين على التوصل إلى تسوية سلمية لنزاعهما. فاشتركت تركيا، عضواً، في لجنة السلام الإسلامية، التي أنشئت عام 1980، منذ بداية أعمالها، وبذلت الجهود في نطاقها. بل إن الطرفَين المتصارعَين طلبا من أنقرة أن ترعى مصالح كلٍّ منهما لدى الآخر، فاستجابت لهما.

    إن حياد تركيا، وإن كان له جوانب إيجابية على الصعيد الاقتصادي، لكنه لم يساعدها على أداء أي دور إيجابي وحقيقي لإيقاف القتال. والمرة الوحيدة، التي نجحت فيها تركيا، عبْر وساطة شخصية من رئيس الوزراء التركي،"تورجوت أوزال Turgut Ozal" ، كانت في مارس 1988، وتعلقت بمحاولة إيقاف القصف المتبادل للمدن. ولم يدم النجاح التركي سوى أيام قليلة، عادت بعدها مظاهر التصعيد العسكري إلى الذروة. والملاحظ أن تركيا، لم تلجأ أبداً إلى التلويح بممارسة أي نوع من الضغوط الاقتصادية، على أي من المتحاربَين. ومع وقف القتال، في 20 أغسطس 1988، وتعثر المفاوضات بينهما، لم تتغير عناصر الموقف التركي إزاء البلدَين، بل إن عمليات الإعمار الجزئية، تعد، من وجهة النظر التركية، عاملاً إيجابياً، وتفتح المجال أمام الشركات التركية للمساهمة في هذه العمليات، سواء في إيران أو العراق.

    وتأثرت العلاقات العربية ـ التركية، في غضون الثمانينيات، بعدة عوامل، أبرزها التحديات الاقتصادية الداخلية التركية، والحرب العراقية ـ الإيرانية. وقد تضافر هذان العاملان معاً، ونجم عنهما نوع من التقارب العربي ـ التركي. فالتحديات الاقتصادية التي عانتها تركيا، وتمثلت في ضغوط أوروبية، أدّت إلى إعادة العمالة التركية، الموجودة في أوروبا، إلى وطنها، وقدرت بمئات الآلاف من العمال الأتراك، إضافة إلى تقلص فرص تصدير المنتجات التركية إلى أوروبا، ولا سيما الزراعية. وتزامن مع هذه التطورات السلبية تطورات أخرى، ذات طابع إيجابي، إذ تزايد استخدام الأراضي التركية، لعبور الكم الهائل من بضائع الترانزيت إلى العراق ومنطقة الخليج العربي، لسد الحاجات ومتطلبات التنمية في تلك المنطقة. وهكذا وجدت تركيا نفسها مدفوعة إلى إحداث تقارب مع الدول، العربية والخليجية. ولم يكن هذا التقارب مدفوعاً برغبة تركية وحسب، بل وجدت دوافع عربية، اختلطت فيها العناصر الاقتصادية بأخرى إستراتيجية وأمنية مباشرة. ويبدو ذلك التداخل في عدد من الاتفاقات، الموقعة بين تركيا وبعض الدول الخليجية، في المجالَين، الاقتصادي والأمني، إذ وُقعت اتفاقات أمنية حدودية بين العراق وتركيا، واتُّفق على توسيع أنبوب النفط العراقي ـ التركي، ليكون بطاقة مليون ونصف مليون برميل، يومياً، وصار العراق، منذ منتصف الثمانينيات، الدولة الثانية في قائمة الدول المستوردة من تركيا، بينما يحتل المرتبة الثالثة، في قائمة الدول المصدرة إليها.

    وبالنسبة إلى الدول الخليجية الأخرى، فقد اطَّرد تطور علاقاتها بتركيا. وفي خلال عامَي 1984 و1985، زار الرئيس التركي،"كنعان إيفرين Kenan Evren"ـ ، (1982 ـ 1989)، كلاًّ من المملكة العربية السعودية والكويت وقطَر والبحرين والإمارات، حيث وقع عدة اتفاقات، اقتصادية وتجارية. وفي الوقت نفسه، تطورت علاقات تركيا بكلٍّ من مصر ودول المغرب العربي، ولا سيما تونس والمغرب. ومما تجدر ملاحظته أن الاعتراف التركي بإسرائيل، منذ مارس 1949، ووجود علاقات دبلوماسية بينهما، لم يؤثرا في نمو العلاقات، السياسية والاقتصادية، بين العرب وتركيا، إبّان الثمانينيات. ويرجع ذلك إلى سببَين. أحدهما، عربي وهو خاص بنمو التوجهات السياسية العربية، القابلة للتسوية السياسية للصراع العربي ـ الإسرائيلي. والسبب الثاني، وهو تركي، ويرجع إلى مراعاة تركيا للدول العربية، وتقليل مساحة العلاقات بإسرائيل، فضلاً عن تأييد الحقوق الفلسطينية، والحل العادل للصراع العربي ـ الإسرائيلي.

    وتمثل المنطقة العربية أهمية خاصة بالنسبة إلى تركيا، ليس لاعتماد الاقتصاد التركي على النفط العربي فقط، ولكن لمعايير، أمنية وإستراتيجية، فقد نصت الاتفاقات الدفاعية بين تركيا ودول حلف شمال الأطلسي على إمكانية استخدام القواعد التركية، للدفاع عن المصالح الغربية في الشرق الأوسط، بعد موافقة الحكومة التركية. وفي هذا الإطار يمكن تحديد ثلاثة عوامل أساسية، توضح أهمية المنطقة العربية، خاصة الخليج العربي، بالنسبة إلى أمن تركيا:

1. المصالح الاقتصادية لتركيا في المنطقة، إذ تحصل على 60% من حاجاتها النفطية من دول المنطقة، فضلاً عن أن الصادرات التركية إلى الدول العربية، خاصة إلى سورية والعراق والمملكة العربية السعودية، تساعدها على تقليص العجز في ميزانها التجاري مع الغرب.

2. مصلحة تركيا في استمرار تدفق النفط العربي إلى الغرب، نظراً إلى ارتباط أمنها ومصالحها بأمن الغرب ومصالحه.

3. عودة الأحزاب الإسلامية، كقوة مؤثرة في الحياة السياسية التركية، أدّت إلى اهتمام تركيا بقضايا العالمَين، الإسلامي والعربي.

    وخلال النصف الأول من عام 1990، سيطر على العلاقات العربية ـ التركية قضية المياه. فسورية والعراق، يشتركان مع تركيا في الاستفادة من نهرَي دجلة والفرات، اللذَين ينبعان من جبال تركيا الشرقية، ويصبان في الخليج العربي. وقد أدّت المخططات التركية، الرامية إلى بناء السدود على النهرَين إلى توتر العلاقات بين الدول الثلاث، ولا سيما أن 90% من مياه الفرات، تنبع من الأراضي التركية، وتساهم تركيا، وبنفس النسبة تقريباً، في نهر دجلة، قبل التقائه فرعه الشرقي، الذي ينبع من جبال زاجروس، في إيران.

    وقد انفجرت أزمة مياه الفرات، في 13 يناير 1990، حينما أعلنت تركيا قطع مياه الفرات عن كل من سورية والعراق، لمدة شهر كامل، ريثما يمتلئ خزان سد أتاتورك[1]. وقد أدى قرار تركيا إلى إلحاق أضرار كبيرة بالمحاصيل الزراعية، في سورية والعراق، وانقطاع المياه والكهرباء عن بعض المدن السورية. وأثار أزمة سياسية في العلاقات العربية ـ التركية، فدانت جامعة الدول العربية، في بيان رسمي، في 14 يناير 1990، إقدام السلطات التركية على قطع مياه الفرات، وعَدّت ذلك سابقة خطيرة في العلاقات التركية ـ العربية.

    وقد تزامن قرار تركيا قطع مياه الفرات، لمدة شهر، مع بدء المشاورات بين تركيا وإسرائيل، لرفع مستوى العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى درجة سفارة، وكانت العلاقات بين تركيا وإسرائيل، منذ عام 1980، على مستوى مفوضية، بعد أن سحبت تركيا سفيرها لدى تل أبيب، احتجاجاً على ضم إسرائيل للقدس الشرقية. وثمة أسباب دفعت أنقرة إلى النظر في رفع مستوى علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، منها ضعف المساندة العربية للأقلية التركية، في قبرص وبلغاريا، ومساندة بعض الدول العربية للحركة الانفصالية الكردية في تركيا، إضافة إلى أن الحصار الدبلوماسي العربي لإسرائيل، قد ضعف، بعد معاهدة كامب ديفيد 1978. وكان أبرز الخطوات، على صعيد تطبيع العلاقات بين إسرائيل وتركيا، ما أعلنه السفير التركي في عمان، في 14 مايو 1990، أن تركيا ستزود إسرائيل المياه، ولكن ليس من طريق اتفاق رسمي بين الحكومة التركية وإسرائيل، وإنما من خلال اتفاق بين إسرائيل وإحدى شركات القطاع الخاص التركية. ويلاحظ أن تركيا نفت وجود اتفاق رسمي مع إسرائيل، في هذا الشأن، حرصاً على المشاعر العربية.

رابعاً: العلاقات العربية ـ التركية، اقتصادياً

    تحتفظ تركيا بعلاقات اقتصادية وثيقة بالأقطار العربية. وتتنوع تلك العلاقات بين التجارة وهجرة العمالة التركية، للعمل في الوطن العربي، ونشاط شركات تركية في أعمال مقاولة في الوطن العربي، وتوجُّه استثمارات عربية إلى تركيا.

    وقد قدِّرت القيمة الإجمالية للعقود، التي فازت بها الشركات التركية، في الوطن العربي، من عام 1976 وحتى يونيه 1988، بنحو 16 ملياراً و897 مليون دولار، تمثل نحو 97.8% من إجمالي العقود، التي فازت بها الشركات التركية، خارج بلادها. وتركز أغلب العقود التركية في ليبيا والمملكة العربية السعودية والعراق، وكان ترتيبها على التوالي: 54.5%، 28.7% ، 12.1%.

    أمّا في خصوص الاستثمارات العربية المباشرة في تركيا، فحتى عام 1970، لم يكن موجوداً منها سوى استثمارات كويتية محدودة، ثم أخذت الاستثمارات العربية تتزايد، وأصبحت تشكل نحو 13.7 من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا، عام 1986. وتأتي ليبيا والمملكة العربية السعودية والبحرين، في مقدمة الأقطار العربية التي لها استثمارات مباشرة في تركيا. وتتركز الاستثمارات العربية في تركيا في مجالات، التجارة والمصارف والنقل والزراعة والثروة الحيوانية والسياحة والصناعة. ولتركيا حوالي 50 ألف عامل يعملون في المملكة العربية السعودية وليبيا والعراق والكويت، خلال عام 1988.



[1] خزان أتاتورك ، هو جزء من مشروع ضخم: `مشروع الأناضول الكبير`. وتبلغ نفقاته 25 مليار دولار. ويشتمل على 21 سداً، على جانَبي نهرَي دجلة والفرات، الأمر الذي سيؤثر، من دون شك، في منسوب المياه، الذي سيصل إلى سورية والعراق. وتهدف تركيا من المشروع إلى تحويل الأقاليم الجنوبية الشرقية القاحلة، إلى سلة خبز لمنطقة الشرق الأوسط، مما يدعم موقف الاقتصاد التركي، فضلاً عن رفع مستوى المعيشة للأكراد، الذين يقطنون في هذه المنطقة. كما أن للمشروع بُعداً سياسياً، يتمثل في إمكانية استخدامه كأداة للضغط على سورية، عند المطالبة بلواء الإسكندرونة