إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع التركي ـ اليوناني، ومشكلة قبرص





نيقوسيا والخط الأخضر

الاقتراح التركي
بحر إيجه والجزر
قبرص التقسيم الفعلي



أولى حروب القرن

المبحث الثاني

تطور المشكلة القبرصية

أولاً: التطور نحو الاستقلال

ليست المشكلة القبرصية وليدة عام 1974، بل هي أقدم من ذلك بكثير، إذ يعود عمرها الحقيقي إلى العقد الثـاني من القرن التاسع عشر. آنذاك، كانت الإمبراطورية العثمانية هي "رجل أوروبا المريض"، وكانت أشبه بصيد ثمين لكل القوى الطامعة، وأولاها الإمبراطورية الروسية القيصرية.

1. اضطرابات من أجل الوحدة مع اليونان "الإينوسيس" Enosis [1]

لقد بدأت الكنيسة القبرصية اليونانية بإثارة الاضطرابات، من أجل تحقيق الوحدة مع اليونـان، منذ عام 1825. غير أن الوالي التركي، أخمد، بسرعة، استعداداتها للقيام بعصيان ضد الحكم التركي. واستأنفت الكنيسة اضطراباتها السياسية، مع مجيء الحكم البريطاني.

عندما وصل  أول حاكم بريطاني إلى قبرص، في 22يوليه 1878، وهو السير جارنت وولسلي Sir Garnet Joseph Wolseley ، طالب كبريانوس Kyprianous، أسقف كيتيوم (Citium (Kition، بتوحيد قبرص مع اليونان، أي (الإينوسيس). لكن زعماء القبارصة الأتراك، عارضوا هذا الأمر، مؤكدين أن قبرص، ليست يونانية، ولم تكن، في أي وقت، جزءاً من اليونان، ومن ثم، لا يمكن التنازل عنها لليونان. وهكذا، بدأت بذور الخلاف بين الطائفتين القبرصيتين.

وفي عام 1931، وقعت محاولة تمرد فاشلة، لتحقيق الوحدة مع اليونان. ونتيجة لذلك، أوقف البريطانيون كل أشكال التمثيل الشعبي في إدارة المستعمرة، وفرضوا قيوداً صارمة على كافة الأنشطة القومية.

واستمر هذا الحال حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، عام 1945، حينما عاد الزعماء، الذين قاموا بالتمرد في عام 1931، إلى الجزيرة، من منفاهم في اليونان، واستأنفوا أنشطتهم المنظمة، لضم الجزيرة إلى اليونان، مما أثار القبارصة الأتراك، الذين عارضوا، بشدة، مثل هذه الوحدة.

2. عروض بريطانية للحكم الذاتي

مرّت السياسة البريطانية في قبرص بمراحل واضحة. فقد بدأت برفض بريطانيا الاعتراف بوجود مشكلة، اسمها المشكلة القبرصية، وبرفضها وجود طرف آخر غيرها. فقد صرح السير أنتوني إيدن Sir Anthony Eden ، في 22 سبتمبر 1953، وكان، آنذاك، وزير خارجية بريطانيا في أثينا، قائلاً: "لا ولن توجد، من وجهة نظر حكومة صاحبة الجلالة، مشكلة، اسمها مشكلة قبرص، يمكن أن تبحث مع حكومة اليونان". بيد أن بريطانيا أخذت تحاول توسيع نطاق المشكلة، بإدخال اليونان وتركيا، طرفين في النزاع. وإذ أخفقت هذه المحاولة، رأت أن تحصر المشكلة فيما بينها وبين قبرص. ثم جاءت المفاوضات، في أعقاب تلك المحاولة، وشعر الإنجليز بأن أي محاولة للتسوية، سوف تقوض الأسس، التي تقوم عليها سياسة الأمن في المنطقة. وفي 14 مارس 1956، أدلى رئيس الوزراء البريطاني، السير أنتوني إيدن، بتصريح في مجلس العموم البريطاني، قال فيه: "إنه لا يمكن الوفاء، بشكل سريع وفعال، بأي التزامات، تتعلق بحلف شمال الأطلسي أو التصريح الثلاثي (الخاص بإسرائيل)، أو حتى معاهدة حلف بغداد، أو أي معاهدة أخرى، تمس الشرق الأوسط أو الخليج العربي، ما لم تحصل بريطانيا على ضمان مطلق، وحر، فيما يختص باستخدام القواعد، التي في قبرص، وأنه لا يمكن الدفاع عن المصالح البريطانية، بكليتها، إلا من طريق فرض حل بريطاني على قبرص".

وفي عام 1948، وأثناء ولاية اللورد وينستر Lord F.Winster ، عرضت الحكومة البريطانية الحكم الذاتي في  قبرص. لكن الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية، رفضت هذا العرض، بحجة أن الحكم الذاتي، هو مقبرة للإينوسيس. أمّا القبارصة الأتراك، فكانوا مستعدين للقبول بالحكم الذاتي، بشرط أن يتم العدول عن الإينوسيس.

شهد عام 1950 حدثين مهمين، هما:

أ. انطلاقة حملة الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية، لتحقيق الوحدة مع اليونان (الإينوسيس). إذ نظمت الكنيسة، في عهد "مكاريوس الثاني Makarios II "، استفتاءً شعبياً، غير رسمـي، في الفترة من 15 إلى 22 يناير 1950، حول هذا المطلب. وأقيمت مراكز مكشوفة للاقتراع في الكنائس، ودُعي القبارصة اليونانيون كافة للتوقيع، مع أو ضد الوحدة مع اليونان، على مرأى من القساوسة. كشف هذا الاستفتاء التعلق الشديد للقبارصة اليونانيين بالوحدة مـع اليونان (95.7%).

ب. في أكتوبر من العام نفسه، تم تنصيب مكاريوس الثالث Archbishop Makarios III، وكان في السابعة والثلاثين من العمر، رئيساً جديداً لأساقفة قبرص. وأهمية هذا الحدث، لا تكمن في  الدور الجوهري، الذي تضطلع به الكنيسة في الحياة السياسية والاقتصادية وحسب، بل في الشخصية الفذة لـ "مكاريوس" أيضاً، وفي تصوره لطريقة حل المشكلة القبرصية. وفي حفلة التنصيب، أعلن مكاريوس، أنه سيكرس كل طاقاته، ما دام حياً، لإنجاز الإينوسيس.

ومنذ ذلك التاريخ، ومكاريوس يدفع القضية القبرصية في اتجاه التدويل، بطرحها على الأمم المتحدة، وعدم حصرها بالحلف الأطلسي، المؤيد تماماً لبريطانيا. وقد طالب الحكومة اليونانية بالقيام بهذا العمل على الرغم من معارضة بريطانيا.

وفي عام 1954، طرحت اليونان المسألة القبرصية على الأمم المتحدة، بهدف تحقيق ضم قبرص إلى اليونان، من خلال تطبيق حق تقرير المصير. غير أن القبارصة الأتراك، وبدعم من تركيا، عارضوا، بشدة، مثل هذا الأمر.

في 26 أكتوبر 1954، وصل إلى قبرص الجنرال جورج جريفاس Georgios Grivas، اليوناني الجنسية، القبرصي المولد ـ بناء على دعوة وجهها إليه رئيس الأساقفة مكاريوس ـ وفي رفقته عدد من الأشخاص، وكميات من الأسلحة اليونانية، من أجل تنظيم حركة سرية، لتحقيق الوحدة مع اليونان. ومنذ ذلك الحين، وضعت كل موارد الكنيسة في تصرف المنظمة، التي بدأت نشاطها في أول أبريل 1955، تحت اسم  ( إيوكا E O K A) [2] .

كانت عضوية إيوكا محظورة تماماً على القبارصة الأتراك، وكذلك على أعضاء الحزب الشيوعي القبرصي اليوناني. وكانت تتعامل مع القبارصة الأتراك على أنهم العدو، القومي والديني، الذي يعارض الإينوسيس. وكانت منشورات إيوكا، تنذر القبارصة اليونانيين بأن الكفاح المقدس، لتحقيق الوحدة بين قبرص واليونان، قد بدأ، ومن يعارض ذلك، سيعامل كخائن، وتتم تصفيته. وكان الصدام، المتوقع مع القبارصة الأتراك، مؤجلاً إلى حين الانتهاء من طرد البريطانيين من قبرص.

ولحماية أنفسهم من هجمات منظمة إيوكا، الموجهة ضدهم، شكَّل الأتراك، في 27 يوليه 1957، منظمة سرية، خاصة بهم، تسمى فولقان Volkan (أي البركان). ثم أمست المنظمة علنية، يتزعمهـا رؤوف رائف دنكتاش ( Rauf Denktash )، وبرهان نعلبند أوغلو Burhan Nalbantoglu ، وكمال طانري سودي Kemal Tanrisevdi، وتعرف باسم منظـمة المقاومة التركية"TMT".وتهدف إلى تكاتف الطائفة التركية، لإثبات دورها في مستقبل الجزيرة، وحشد الدعم من الشعب التركي في الأناضول.

وهكذا، أصبح التصادم بين الجاليتين حائلاً جديداً أمام التعايش السلمي بينهما. وبدأت الجالية التركية، منذ ذلك الوقت، مدعومة من تركيا، بطرح فكرة التقسيم (Taksim) ، رداً على شعار الوحدة مع اليونان(Enosis)

3. سنوات من العنف والاضطرابات

اهتزت نيقوسيا، والمدن الأخرى في الجزيرة القبرصية، في ليلة أول أبريل 1955، نتيجة للانفجارات العنيفة للقنابل. وملأت المنشورات كل المدن والقرى القبرصية، وكانت تحمل توقيع "ديجينيس Digenes , Dighenis "" ، الاسم الحركي لرئيس منظمة "إيوكا" (EOKA) السرية، معلنة بدء الكفاح المسلح، من أجل الاستقلال عن بريطانيا، وسعياً إلى الوحدة مع اليونان.

زار ألان لينوكس بويد Alan Lennox -Boyd ، وزير المستعمرات البريطانية، الجزيرة القبرصية، في يونيه 1955، وتباحث مع الأسقف مكاريوس، وأبلغه أن الحكومة البريطانية، قررت عقد مؤتمر في  لندن، في شأن قبرص. وبالفعل، عُقد المؤتمر، وحضره وزراء خارجية بريطانيا، واليونان، وتركيا، في 29 أغسطس 1955. وكان هدف المؤتمر بحث مشكلات الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك مشكلة قبرص. ولم يكن الشعب القبرصي ممثلاً في هذا المؤتمر. وأعلنت اليونان وجهة نظرها، التي كانت في مصلحة فكرة اتحاد الجزيرة مع اليونان. ورفضت تركيا هذه الفكرة، لأسباب أمنية، أهمها قرب الجزيرة من سواحل آسيا الصغرى، ولأنها لا تريد أن تتخلى عن جزء من الشعب التركي، ليرزح تحت الحكم اليوناني، وكفاها ما هو واقع في تراقيا الغربية.

أعلنت بريطانيا بقاء الجزيرة تحت حكم التاج البريطاني، مع منح الشعب القبرصي استقلالاً داخلياً محدوداً. وأمام هذا الطريق المسدود، أوقف المؤتمر أعماله، في 7 سبتمبر 1955.

استمر القبارصة اليونانيون في عمليات المقاومة، وازدادت عمليات التخريب، والهجمات على الإدارات العامة. وتزايد خطرها على السلطات البريطانية، وعلى القبارصة الأتراك، وبدأت السلطات أعمال القمع، والسجن دون محاكمة، وأعلن حظر التجول، ولكن دون نتيجة فاعلة.

انتهت فترة الحاكم البريطاني "روبرت أرميتاج Sir Robert Armitage "، وجاءت فترة حكم المارشال "جون هاردينج Field- MarshalSir John Harding"، الذي أعلن، لدى وصوله إلى الجزيرة القبرصية، تصميمه على سحق المقاومة المسلحة، التي يقوم بها اليونانيون، وبأي ثمن. وجمع بين يديه كل السلطات، وأعلن حالة الطوارئ، وأغلق المدارس، وتخلى عن كل مشروعات التنمية الاقتصادية في الجزيرة. وانبرت الأعمال الدفاعية إلى مهاجمة رجال منظمة إيوكا.

عقد هاردينج سلسلة من المحادثات مع مكاريوس، بدأت في شهر أكتوبر 1955، على أمل الوصول إلى حل للمشكلة القبرصية. وكانت المفاوضات طويلة. وحتى بداية شهر فبراير 1956، كان الحاكم البريطاني، ورئيس الأساقفة، يتبادلان وجهات النظر والمقترحات، ويتصلان بحكومة لندن، وحكومة أثينا. وأخيراً، وافقت الحكومة البريطانية على منح شعب قبرص استقلالاً ذاتياً محلياً، ولكن، بشكل فعلي، هذه المرة، واحتفظت لنفسها بالاختصاصات، المتعلقة بشؤون الدفاع، والعلاقات الخارجية. وقرر مكاريوس، بعد موافقة ممثلي القبارصة اليونانيين، قبول المشروع البريطاني، ووصل ألان لينوكس بويد، وزير المستعمرات البريطانية، إلى قبرص أواخر فبراير 1956.

4. نفي الأسقف مكاريوس إلى جزر سيشل( Seychelles)

بات الاتفاق بين إنجلترا وقبرص وشيكاً، ولكنه اصطدم، في اللحظات الأخيرة، بمعارضة بريطانيا للتخلي عن موضوع الأمن الداخلي في البلاد لوزير قبرصي، وبموضوع استتباب الأمن، وإنهاء أعمال العنف. فقطعت المحادثات، وعاد وزير المستعمرات إلى لندن. وفي الوقت، الذي كان فيه مكاريوس، يستعد للسفر إلى أثينا، قبض الإنجليز عليه، مع أسقف "كيرينيا"، واثنين من رفاقه اليونانيين، ونفوهم إلى جزر سيشل في المحيط الهندي، في 9 مارس 1956، لاتهامهم بالتورط في أعمال العنف. وبنفي بريطانيا للأسقف مكاريوس، رفعت مكانته في نظر الشعب القبرصي اليوناني، وخلقت منه رمزاً وطنياً. وأصبح، من ذلك الوقت، جزءاً لا يتجزأ من المشكلة القبرصية.

وقد تميزت هذه الفترة، وحتى نهاية 1958، بأعمال عنف بين الطائفتين القبرصيتين، حملت كل سمات الحرب الأهلية.

كان الصراع اليوناني ـ التركي في قبرص، ينعكس، بدوره، في الموطن الأصلي لكلا الشعبين. فقد انهارت علاقة حسن الصداقة والجوار، التي وضع أسُسها كل من رئيس وزراء اليونان، فينيزيلوس (1864 ـ 1936)Sophocles Venizelos ، والزعيم التركي، أتاتورك (1881 ـ 1936) Mustafa Kemal Atatur، في أوائل الثلاثينيات من هذا القرن، والتي استمرت قائمة ربع قرن. وأخذت كل من الدولتين، تندد بسياسة الأخرى، بينما أخذت صحافتا البلدين، تتبادلان الهجوم. ويمكن وصف العلاقة القائمة بين الحكومتين، في ذلك الوقت، بعلاقة حرب غير معلنة.

كانت المسألة القبرصية، تطرح، كل عام، على الجمعية العامة للأمم المتحدة، بناءً على طلب من اليونان. إلاّ أن الجمعية العامة، لم تستجب للمطالب اليونانية، بضرورة تطبيق حق تقرير المصير في  قبرص، على قاعدة، تتجاهل حقوق القبارصة الأتراك، وتفتح الطريق أمام الإينوسيس. وقد حثّت الجمعية على حل هذه المسألة، من خلال مفاوضات سلمية بين الأطراف المعنية.

فيما بعد، أطلق القبارصة اليونانيون على حملة إيوكا تعبير: "النضال من أجل الاستقلال"، متهمين الطائفة القبرصية التركية بالانحياز إلى جانب القوة المستعمرة، ومواجهه، "المقاتلين من أجل الحرية"، أي إرهابيي إيوكا.

5. مشروع دستور اللورد "رادكليف"Lord Radcliffe

كان اللورد "رادكليف" من أكبر رجال القانون والقضاء في إنجلترا، قد كلف بكتابة توصيات في شأن الدستور المقبل للجزيرة، ووضع الأسُس لمشروع دستور قبرص، وكان يحرص على:

أ. أن تظل قبرص تحت السيادة البريطانية، خلال فترة سريان الدستور.

ب. اعتبار استخدام قبرص كقاعدة عسكرية، ضرورة ملحّة، حتى تتمكن الحكومة البريطانية من الوفاء بالتزاماتها، والدفاع عن مصالحها في الشرق الأوسط، ومصالح الدول المتحالفة الأخرى، أو تلك التي ترتبط ببريطانيا.

ج. أن يكون الدستور قائماً على مبادئ الديموقراطية الحرة، وأن تلقى مسؤولية الحكم الذاتي في قبرص، على عاتق ممثلي الشعب المنتخبين، وأن يشتمل على الضمانات، التي تكفل حماية الجماعات الخاصة في الجزيرة، من ناحية الدين والجنس.

في 19 ديسمبر 1956، نشر وزير المستعمرات ألان لينوكس بويد الدستور. وكان ينص على إنشاء مجلس تشريعي أو برلماني، يتكون من 36 عضواً، بينهم 24 من القبارصة اليونانيين، وستة من القبارصة الأتراك، وستة أعضاء، يقوم حاكم الجزيرة باختيارهم من بين ممثلي طوائف الأقليات. كما كان ينص على إنشاء مجلس وزراء، يتشكل من سبعة وزراء، هم: رئيس المجلس، وزير الشؤون التركية، وزير المالية، وزير الداخلية، وزير المواصلات والأشغال العمومية، وزير الخدمة الاجتماعية، ووزير الموارد الطبيعية. أمّا حاكم قبرص، فيعينه التاج البريطاني. وله حق الاعتراض، في  مسائل الدفاع والأمن الخارجي، والعلاقات الدولية. كما نص الدستور على إنشاء محكمة ضمانات، تشكل من أحد اليونانيين وأحد الأتراك، وأحد المحايدين، وستكون اختصاصاتها مشابهة لاختصاص مجلس الدولة في فرنسا.

عند تقديم المشروع إلى مجلس العموم البريطاني، أضاف وزير المستعمرات، أن الحكومة البريطانية، في حالة رفض شعب قبرص للمشروع، لن تتمكن من أن تجد حلاً آخر، سوى اقتراح تقسيم الجزيرة بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك. وهذا منشأ مبدأ التقسيم(Taksim)، الذي تنادي به تركيا.

كانت هذه المقترحات، تتضمن، على الأقل، إقامة دولة موحدة، ودرجة واسعة من الحكم الذاتي. ولم يكن من المستبعد، أن تتطور إلى دولة مستقلة، تتمتع بحق تقرير المصير.

رفضت حكومة اليونان مسوّدة الدستور، وكذلك سكان قبرص. ويرجع هذا الرفض إلى واقع أنهـم كانوا يخططون لإنجاز الإينوسيس، في أقل وقت ممكن. ورفضته تركيا، وطالبت بتقسيم الجزيرة بين الأتراك واليونانيين.

تحت ضغط من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، أُطلق سراح مكاريوس ومن معه، في  التاسع من مارس 1957، بعد أن أصدر بياناً بنبذ العنف في الجزيرة. ولم يسمح له بالعودة إلى قبرص، فتوجه إلى أثينا، في 17أبريل 1957. واستمر الفراغ السياسي في المشكلة القبرصية، الذي نجم عن رفض مقترحات رادكليف.

في بداية يناير عام 1958، وقعت اضطرابات خطيرة، قُتل فيها ستون تركياً، وجرح مئات من الأتراك. وفي 27 يناير، قتل أيضاً تركيان، وجرح سبعون شخصاً في اضطرابات، وصفت بأنها أخطر ما شهدته الجزيرة، في تاريخها، من عنف. وفي أثناء صيف عام 1958، وقعت حوادث عنف بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين. ذلك أن بعض القبارصة اليونانيين من سكان القرى، في أثناء عودتهم إلى قراهم، تعرضوا لهجوم قام به بعض القبارصة الأتراك، وذلك قرب نيقوسيا. كما أحرق بعض المساكن والكنائس اليونانية. وأدى ذلك إلى إصدار الأوامر بمنع التجول، في نيقوسيا، وفي القرى الأخرى. وألقت السلطات، القبض على أكثر من ألفي قبرصي يوناني، ووضعتهم في معسكرات الاعتقال، تفادياً لقيامهم بأعمال انتقامية.

لقد رفض القبارصة اليونانيون هذا المشروع، كما أن رئيس الأساقفة رفضه كذلك، بعد استشارته لعُمَد الجزيرة. وتدخل بول هنري سباك Paul Henri Spaak، السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي، ولكن تدخله هذا لم يؤدِّ إلى نتيجة. أمّا اليونان، فإنها رفضت، وبناء على إصرار رئيس الأساقفة مكاريوس، أن تشترك في المؤتمر، الذي اقتُرح من أجل مناقشة المشروع الإنجليزي والتعديلات، التي اقترح السيد سباك إدخالها عليه. وفضلت أن تطلب، من جديد، عرض المشكلة على الأمم المتحدة.

ثانياً: اتفاقات زيورخ ولندن، وإعلان الجمهورية

1.  اتفاقات زيورخ ولندن (19 فبراير 1959)

أدّى التجاء اليونان إلى الأمم المتحدة، إلى صدور قرار من الجمعية العامة، بالرغبة في رؤية الأطراف المعنية، تستمر في  بذل جهودها، من أجل الوصول إلى حل سلمي، وديموقراطي، وعادل، طبقاً لميثاق الأمم المتحدة. ومع ذلك، فإن الحالة في قبرص، ظلت في منتهى الخطر، بشكل جعل كل البناء الدفاعي لحلف شمال الأطلسي، مهدداً بالخطر، بسبب سوء العلاقات بين اليونان وتركيا.

وفي ذلك الوقت، قررت الولايات المتحدة الأمريكية ضرورة العمل على التقارب بين اليونان وتركيا. وتحت ضغط منها، وبنية البحث عن حل لمشكلة قبرص، قام المندوبون اليونانيون، والمندوبون الأتراك، في ديسمبر 1958، بأول اتصالات دبلوماسية، بعد تبادل وجهات النظر الأولية، على أساس استقلال جزيرة قبرص، واستبعاد أمر اتحادها مع اليونان، وكذلك استبعاد أمر تقسيمها بين اليونانيين والأتراك.

واتفق وزيرا خارجية اليونان وتركيا، على استمرار محادثاتهما في أثينا وأنقرة. وفي 6 فبراير 1959، تقابل رئيس الوزراء التركي، عدنان مندريس Adnan Menderes، ووزير خارجيته، فطين رشدي زورلو Fatin  Rustu Zorlu  مع رئيس الوزراء اليوناني، قسطنطين كرامنليس Constantine  Karamanlis، ووزير خارجيته، أفيروف  Evangelos Averoff، في  زيورخ، من أجل الوصول إلى تسوية المشكلة. وبعد جلسات طويلة، ومضنية، استمرت ستة أيام، اتفقوا، في 11 فبراير 1959، ووقعوا الوثائق، التي تنشئ البنيان الأساسي لجمهورية قبرص، وتقسم الوظائف، الإدارية والحكومة، بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين في  الجزيرة. واتفقوا على أن تحتفظ بريطانيا بالقواعد العسكرية في قبرص. ووقعوا اتفاقية ثانية، باسم "معاهدة الضمان"، ومعاهدة ثالثة، باسم "معاهدة التحالف".

وعرض الاتفاق على الحكومة البريطانية، فأقرته، ووافقت عليه. وأعلن أفيروف، وزير خارجية اليونان أنه عقد، يسوي الخلافات بين حكومتَي أثينا وأنقرة بشكل نهائي، يقوم على أساس التوافق، والحل الوسط، وتُوُصِّل إليه على الرغم من الصعوبات الضخمة. ووجدت الحكومة البريطانية نفسها أمام الأمر الواقع، فلم تتمكن من التراجع، وأبدت بعض التحفظات، في شأن القواعد البريطانية، والتسهيلات في أمور المواصلات داخل الجزيرة، واستخدام مطارَي نيقوسيا وفاماجوستا.

وفي 15 فبراير 1959، دعا هارولد ماكميلان Maurice Harold Macmillan، رئيس الوزراء البريطاني، زميليه، اليوناني والتركي للحضور إلى لندن، للمشاركة في المؤتمر، الذي سيقرر التسوية النهائية لمشكلة قبرص. ومن جانبهما، قامت اليونان وتركيا بدعوة رئيس الأساقفة، مكاريوس، وفاضل كوجك (تلفظ كوتشوك) Fazil Kucuk، ومستشاريهما، لكي يوقعوا الاتفاق باسم طائفتيهما. وفي 19 فبراير 1959، وُقعت الوثائق الخاصة بميلاد الدولة الجديدة، في قصر"لانكستر هاوس Lancaster  House "، من جانب رؤساء وزراء بريطانيا وتركيا واليونان. وقبلها "مكاريوس"، بطريرك قبرص، نيابة عن القبارصة اليونانيين، وفاضل كوجك، نيابة عن القبارصة الأتراك.

وكانت الاتفاقات، التي وُقعت، تشتمل على:

أ. وثيقة أساسية، في شأن جمهورية قبرص Treaty of  Establishment (أُنظر ملحق اتفاقية استقلال قبرص).

ب. معاهدة ضمانات Treaty of Guarantee، بين قبرص من ناحية، واليونان والمملكة المتحدة وتركيا من ناحية أخرى (أُنظر ملحق معاهدة الضمان).

ج. معاهدة تحالف Treaty of Alliance، بين قبرص واليونان وتركيا (أُنظر ملحق معاهدة التحالف).

د. إعلان من جانب الحكومة البريطانية، في شأن القواعد العسكرية، وضمان سلامتها، من جانب اليونان وتركيا وجمهورية قبرص.

هـ. تشكيل ثلاث لجان، تكلف بإعداد:

2. شروط نقل السلطات.

وحدد مكاريوس، في أعقاب إعادة تنصيبه، الخطوط العامة لسياسته. وتلخصت في الآتي:

أ. تنديده بالعنف والإرهاب، اللذين تستخدمهما قوات الجنرال جريفاس، بهدف الاتحاد مع اليونان، إذ يعمل رجالها من دون تقدير للمسؤولية، ويعدون العدة لحرب أهلية.

ب. يجب على الحكومة اليونانية، والحكومة القبرصية، أن تدركا حقيقة عدم تسوية مشكلة قبرص سلمياً، إلا على أساس أنها دولة مستقلة ذات سيادة، وأنها تمثل أمة واحدة، ومن طريق المفاوضات مع الأتراك القبارصة.

ج. ضرورة موافقة الشعب القبرصي على حل لمشكلته، إذ إن بلاده، تهدف إلى حل مشكلتها القومية، ومن ثمّ، لن تقبل أي حل وسط مع الأتراك، يمكن أن يهدد القبارصة اليونانيين.

د. التزام الجمهورية القبرصية بسياستها، القائمة على عدم الانحياز، وسعيها الدائم إلى إقامة علاقة الصداقة والتعاون بجميع الدول، على أساس من المســاواة وعدم التدخل.

ثالثاً: الأزمة القبرصية الأولى (1963 ـ 1964)

بدأ الاستقلال بحذر من كلتا الطائفتين. وفي الوقت نفسه، بدأت تظهر، مرة أخرى، التصريحات المتكررة من مكاريوس، حول الإينوسيس. ومنها ما أدلى به في يوليه 1963، فأوضح "أن جمهورية قبرص، نشأت من اتفاقات زيورخ ولندن، لكن مستقبلها، يجب أن يتحدد طبقاً لإرادة شعبها، ومن ثم، يجب أن يعدل الدستور لتلغى المواد التي لا يمكن تنفيذها". وفي سبتمبر 1963، صرح لمراسل صحيفة (أوسي سومي Uusi Suomi)، التي تصدر في ستوكهولم، قائلاً: "صحيح أن الهدف من نضالنا، هو ضم قبرص إلى اليونان". ولهذه الغاية سمح مكاريوس بإنشاء جيوش سرية، كي تتولى تنفيذ خطة عمل محددة، عرفت باسم "مخطط اكريتاس Akritas Plan " (اُنظر ملحق مخطط اكريتاس) وكان يهدف من ذلك إلى تعديل الدستور، مهما كلف الأمر، وإلغاء الاتفاقات الدولية، التي تحظر الوحدة مع اليونان.

1. تعديلات على الدستور، وأزمة 1964

تقدم الرئيس القبرصي، مكاريوس، في 30 نوفمبر 1963، إلى الجناح التركي في الحكومة  القبرصية، باقتراح، يقضي بإجراء 13 تعديلاً في الدستور. وهي تعديلات، كان يدرك، سلفاً، أنها لن تلقى القبول، لأنها تقلص دور القبارصة الأتراك في الحكومة، وتهمش ذلك الدور، وتجعل من السكان الأتراك أقلية. وكانت حجة مكاريوس، أن هذه المواد، تعوق الدولة عن أداء وظائفها، وأنها تزيد أسباب الاحتكاك والتوتر بين الطائفتين. وبالفعل، رفض القبارصة الأتراك هذه التعديلات، وعدّوا الإجراءات، التي يطالب بها الرئيس، غير دستورية، وأن استمرار الحكم، من دون ممثلي الطائفة التركية، عمل غير شرعي. وانسحبوا من الحكومة، ومن الوظائف الحكومية. وتدهورت الأوضاع بين الطائفتين، وانتشرت الاشتباكات في سائر أنحاء قبرص. وكانت هذه التعديلات أول محاولة لنسف الدستور، وبداية أعمال، قضت على استقلال قبرص (اُنظر ملحق بيان بـ 13 تعديلاً دستورياً).

نشب، بسبب ذلك، القتال الطائفي، في 21 ديسمبر 1963، وغطت موجة من العنف كافة أنحاء الجزيرة، على يد القوات القبرصية اليونانية المسلحة، يساندها رجال الدرك والشرطة، من القبارصة اليونانيين. وكان الهدف من هذه الأعمال ضد القبارصة الأتراك، هو تقويض جمهورية قبرص. قاوم القبارصة الأتراك هذه الحملة، ولكنهم تعرضوا لخسائر في الأرواح والممتلكات.

أعلن رئيس الأساقفة، مكاريوس، أن الاتفاقات القبرصية، أصبحت غير صالحة. وبقوة السلاح، أُقصي كل القبارصة الأتراك، العاملين في أجهزة الدولة، بمن فيهم نائب رئيس قبرص، التركي، والوزراء الأتراك الثلاثة.

دعت تركيا، بوصفها إحدى الدول الثلاث الضامنة للدستور، اليونان وبريطانيا، الدولتين الضامنتين الأخريين، للانضمام إليها، في عمل منسّق، يضع حدّاً لحمام الدم في  الجزيرة. وصرح "عصمت إينونو Ismet Inonu"، رئيس الوزراء التركي، وقتئذِ، قائلاً: "إن هذا القرار، يخالف اتفاقات زيورخ ولندن. وإن تركيا، سوف تأخذ على عاتقها حماية الأتراك في الجزيرة". وأضاف قائلاً: "إن تركيا، لا تلجأ إلى التدخل العسكري، قبل المشاورة والمناقشة مع الدول الضامنة للاتفاقات الدولية. وإن الحكومة التركية، تؤيد شرعية المعاهدات الدولية، ولا يمكن إبطالها من جانب واحد".

لكن اليونان، رفضت الاستجابة. ولم تكن بريطانيا راغبة في التدخل، إلاّ أنها قامت بإرسال فرقة عسكرية، تعزيزاً لقواتها في قبرص. وصرّح مسؤول بريطاني، قائلاً: "إن تدخل بريطانيا في المشكلة القبرصية، هو لمنع انفجار الحرب بين تركيا واليونان. وإن بريطانيا غير مستعدة لتحمل هذا العبء مدة طويلة". وفي الوقت عينه، أرسلت بريطانيا مذكرة إلى مجلس الأمن، للاجتماع، فوراً، لبحث هذا الموقف.

تحركت تركيا، بمفردها، وأرسلت طائرتين حربيتين، قامتا بتحليق إنذاري فوق نيقوسيا. وعلى إثر ذلك، وافق مكاريوس على وقف إطلاق النار، بإشراف قوة بريطانية لحفظ السلام، والمشاركة في  مؤتمر، يضم الدول الثلاث، الضامنة للدستور، وممثلين عن القبارصة، اليونانيين والأتراك، لإيجاد تسوية للأزمة، وتم التوقيع على اتفاق لرسم خط أخضر بين الطائفتين في العاصمة نيقوسيا.

انعقد المؤتمر في لندن، في 15 يناير 1964. ولم يسفر عن أي نتائج إيجابية. ونتيجة لفشل المؤتمر، ازداد تدهور الأوضاع، مع استمرار الهجمات اليونانية على الأتراك، في كل أنحاء الجزيرة. أصبحت قوة حفظ السلام البريطانية، التي تعرضت، بدورها، للاعتداءات، عاجزة عن الاضطلاع بالمهمة المنوطة بها. لذا، رفعت بريطانيا القضية إلى مجلس الأمن الدولي، في منتصف فبراير 1964.

تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية، باسم حلف شمال الأطلسي، لرأب الصدع، الذي حدث بين دولتين من دول الحلف. فأرسل الرئيس الأمريكي ليندون جونسون Lyndon Baines Johnson، مبعوثه الخاص، مساعد وزير الخارجية الأمريكي، جورج بول George W. Ball، ومعه السناتور وليم فولبرايت William Fulbright، إلى كل من أنقرة وأثينا ونيقوسيا.

وخاطب يوثانت U Thant ، كلاً من تركيا واليونان، لمنع أي عمل، من شأنه أن يــؤدي إلى نشوب الحرب. وانعقد مجلس الأمن الدولي، وأصدر القرار الرقم 186، في 4 مارس 1964 (أُنظر ملحق القرار الصادر الرقم 186 الصادر عن مجلس الأمن في 4 مارس 1964)، بتعيين وسيط للأمم المتحدة في قبرص، هو جالو بلازا Galo Plaza ، من الإكوادور Ecuador. وقرر المجلس إرسال قوات دولية لحفظ السلام، قوامها 6500 رجل، عرفت باسم UNFICYP [3] . وتأسس الخط الأخضر في العاصمة نيقوسيا ليفصل بين أحياء الطائفتين. ولتلافي الاختلاف في  وجهات النظر، وحسماً للاشتباكات، التي نشبت بين الطائفتين، فإن مجلس الأمن رأى، أن تتضمن مقدمة قراره الإشارة إلى معاهدة الضمان، الموقعة عام 1960، إضافة إلى المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، التي تقضي بامتناع الدول الأعضاء عن التهديد، أو استخدام القوة، في  مواجهة دولة أخرى. (أُنظر ملحق قرارات الأمم المتحدة، المتعلقة بقضية قبرص والصراع التركي ـ اليوناني)

أمّا رئيس الأساقفة، مكاريوس، فبعد أن نجح في إبعاد شبح التدخل التركي، من خلال قبوله وقف إطلاق النار، أراد أن يثبت للعالم أن اتفاقات عام 1960، التي أعطت تركيا حق التدخل، تتعارض مع مبدأ السيادة. وفيما بعد، ومع كل تجدد للقتال في قبرص، وكل استعداد تركي للتدخل، كان مكاريوس يحتج على أن ثمة تدخلاً خارجياً في الشؤون الداخلية لقبرص.

وفي الخامس من مارس 1964، أرسل الأسقف مكاريوس بياناً إلى الحكومة البريطانية، أعلن فيه عدم اعترافه بخط الهدنة، الذي يفصل الأحياء التركية عن الأحياء القبرصية. وذلك بعد قرار مجلس الأمن الدولي بيوم واحد.

وفي مارس 1964، زار عصمت إينونو، رئيس وزراء تركيا، واشنطن، واجتمع مع الرئيس جونسون. وعقب انتهاء المحادثات، صدر بيان مشترك، جاء فيه: "يؤيد الطرفان تقوية الجهود، المبذولة من قبل الأمم المتحدة، لإعادة السلم والأمن للجزيرة. ويؤكدان احترام جميع الاتفاقات القائمة". وللغرض نفسه، أرسل الرئيس جونسون مبعوثاً شخصياً إلى اليونان، هو دين أتشيسون Dean Acheson  ، الذي قدم عدة اقتراحات لحل المشكلة القبرصية، عرفت بخطة أتشيسون Acheson Plan، وهي:

أ. اتحاد قبرص مع اليونان.

ب. تتخلى اليونان عن جزر الدوديكانس Dodecanese، في بحر إيجه، لتركيا، لأنها أقرب إلى سواحل الأناضول التركية.

ج. بناء قاعدة عسكرية تركية في قبرص.

د. تعويض القبارصة الأتراك، الذين يغادرون الجزيرة، أو مَن يرومون البقاء فيها.

وأحدث هذا الاقتراح قلقاً بالغاً في الأوساط التركية، التي أعلنت الحل، الذي ترتضيه، وهو الفصل بين الجزء التركي والجزء اليوناني.

أبلغت الولايات المتحدة الأمريكية كلاًّ من حكومتَي تركيا واليونان، بأن الحكومة الأمريكية سوف تتخذ إجراءات معينة، للحيلولة دون وقوع حرب بين دولتين من أعضاء حلف شمال الأطلسي. وأعلنت بأنها سوف تضع الأسطول السادس الأمريكي، في البحر المتوسط، لمحاصرة جزيرة قبرص، لتأمينها ضد التدخل التركي المحتمل.

وبعث جونسون رسالة إلى عصمت إينونو، في 5 يونيه 1964، حذّره فيها من اتساع نطاق الصراع في قبرص، مما يؤدي إلى تدخل سوفيتي ضد تركيا، في حالة اشتباكها في حرب مع اليونان، ولفت انتباهه لأن الحلف لن يتدخل لصالح تركيا في تلك الحالة.

ووصف إينونو موقف واشنطن، بأنها "غير راغبة في اتخاذ أي إجراء، يساعد على حل مشكلة قبرص. وإن الموقف بين تركيا واليونان، قـد أصبح مظلماً".

ولقد حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على إقامة حالة قريبة من التوازن، في القوة العسكرية، بين تركيا واليونان، على الرغم من اختلاف حجم البلدين، مساحة وتعداداً..

وبطبيعة الحال، لا يمكن أمريكا التحكم في توازن القوى الاحتياطية البشرية، لدى الدولتين، التي قدِّرت بنحو 800 ألف في تركيا، مقابل 180 ألفاً لدى اليونان. إلاّ أنها استطاعت أن تضمن، إلى حدّ كبير، التوازن في نوع التسليح وكميته، وهو الأمر الأهم في حروب العصر المحدودة، التي تسارع الدول الكبرى إلى إخمادها، حين نشوبها بين الدول الصغرى، خشية اهتزاز خريطة التوازن المرسومة لكل منطقة.

وفي أبريل 1964، أرسل مكاريوس كتاباً إلى رئيسَي الحكومة في كل من تركيا وبريطانيا، يبلغهما نبذه معاهدة التحالف، الموقعة بين الأطراف الثلاثة. لكن الحكومة البريطانية، أوضحت له أنه لا يمكن إلغاؤها، لأن المادة 181 من الدستور القبرصي، تتضمن هذه المعاهدة، وأن الدستور لا يزال ساري المفعول. وقد أثارت هذه التحركات من جانب الرئيس القبرصي، إضافة إلى تصريحاته في شأن سير قبرص نحو الإينوسيس، حفيظة الأتراك القبارصة، وكذلك تركيا.

تجددت الاشتباكات وحوادث العنف بين الطائفتين، التركية واليونانية، في مارس وأبريل 1964. وفي أواخر مايو، أصدر مجلس النواب القبرصي قراراً، يدعو الرجال (18 ـ 59 سنة) إلى الخدمة العسكرية في الحرس الوطني، الذي أنشأته الإدارة القبرصية اليونانية. فاعترض فاضل كوجك، نائب الرئيس، على هذا القرار، مما دفع مكاريوس إلى إعلان أن الدستور أصبح غير قائم، وأن فاضل كوجك أمسى فاقداً لمركز نائب الرئيس.

وصرح، عقب ذلك، رئيس وزراء تركيا، عصمت إينونو، قائلاً: "إن دولتي ستحمي الأتراك القبارصة، إذا لم يتيسر الاحتفاظ بحقوقهم، بالوسائل السلمية، والإجراءات الدولية، الجاري اتخاذها. وإن قرار التجنيد، المذكور، مخالف لاتفاقات زيورخ ولندن". عقب هذا التصريح، أصبحت القوات القبرصية في حالة تأهب قصوى، لمواجهة الأسطول التركي، الذي كان مرابطاً في الإسكندرونة، على بعد 120 ميلاً من قبرص. ونتيجة لذلك، دعا الرئيس الأمريكي، ليندون جونسون، رئيس وزراء تركيا إلى واشنطن، للتشاور معه، في 5 يونيه 1964. ووجّه تحذيراً إلى تركيا، بعدم استخدام القوة في قبرص، وإلا فإنها لن تجد الحماية من حلف شمال الأطلسي، في حالة وقوع أي عدوان روسي عليها. وفي آخر الشهر، دعا الرئيس جونسون رئيسَ وزراء اليونان، جورج باباندريو George Papandreou، للتباحث معه حول الموضوع نفسه.

لم يكن الرأي العام التركي راضياً عن دعوة عصمت إينونو لزيارة واشنطن، لأن الأتراك رأوا فيها مؤامرة من الولايات المتحدة الأمريكية، لمنعهم من التدخل لحماية اتفاقات زيورخ ولندن.

2. الوجود اليوناني في قبرص

وفي فبراير 1966، وُقع اتفاق مشترك بين حكومتَي اليونان وقبرص، ينص على أن أي حل، يستبعد الإينوسيس، لن يكون مقبولاً.

وبعد أشهر قليلة من وصول قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام، التي وافق مجلس الأمن على إرسالها إلى قبرص، في 4 مارس 1964، تم تهريب أكثر من 15 ألف جندي يوناني إلى الجزيرة، تحت غطاء أنهم طلاب أو سياح.

وزار وزير الدفاع اليوناني الجزيرة، في 27 أكتوبر 1964. وأعلن مكاريوس، خلال حفلة الغداء: "لقد جاءت اليونان إلى قبرص، وقبرص هي اليونان. إن قناعتي راسخة، بأن الكفاح الهلّيني من أجل توحيد قبرص مع وطنها الأم، اليونان، سيتوج، قريباً جداً، بالنجاح. هذا النجاح، سيكون بداية لعصر جديد، من المجد والعظمة اليونانيين".

وعاد الجنرال جورج جريفاس، رئيس الحركة القومية اليونانية، إيوكا، وزعيم الاتجاه المؤيد للاتحاد مع اليونان، عاد إلى الجزيرة القبرصية، في يونيه 1964، وعُيّن قائداً للقوة القبرصية اليونانية المسلحة، التي شُكّلت باسم "الحرس الوطني"، وتولى أيضاً، قيادة قوات الأمن. وكان لهذا أثره الواضح في اشتداد حدّة النزاع في الجزيرة. واستمرت القوات اليونانية في التدفق إلى الجزيرة، حيث شنّت، بالاشتراك مع الوحدات القبرصية ـ اليونانية، العديد من الهجمات، على المناطق، التي يقيم بها القبارصة الأتراك.

3. الهجوم على كوفينو Kophinou

في أواسط نوفمبر 1967، شن الجنرال جريفاس، القائد الأعلى لقوات الحرس الوطني القبرصية اليونانية، هجوماً على قرية كوفينو القبرصية التركية، وعلى قرية آيوس ثيودوروس  Ayios Theodoros، المجاورة، في منطقة لارناكا. وكان الهدف من الهجوم على كوفينو، هو إظهار الروح المتقدة للكفاح من أجل الإينوسيس، والإثبات للقبارصة الأتراك، أن تركيا، لا تستطيع أن تفعل شيئاً حيال ذلك. وأشار الأمين العام للأمم المتحدة، في التقرير الرقمS 8286  ، بتاريخ 8 ديسمبر 1967، إلى أن عملية كوفينو، قد أدّت إلى خسائر فادحة في الأرواح، وكان لها مضاعفات خطيرة.

أثارت الأعمال الوحشية، التي ارتكبت أثناء عملية كوفينو، رد فعل قوياً من تركيا، التي وجهت إنذاراً إلى اليونان بضرورة وقف الهجوم فوراً، ووضعت قوة تدخل في حالة استعداد للتوجه إلى قبرص، إذا استمرت الاعتداءات.

وهكذا، وصلت تركيا واليونان، مرة أخرى، إلى حافة الحرب، التي حال دونها تدخل سيروس فانس Cyrus Roberts Vance، المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي جونسون. فزار كلاًّ من أثينا ونيقوسيا وأنقرة، في أواخر نوفمبر 1967. ونجحت مساعيه في عقد اتفاقية سحب القوات، اليونانية والتركية، من قبرص، عدا ما قررته اتفاقات 1960، وإخراج الجنرال جورج جريفاس من الجزيرة، الذي استقال من قيادة الحرس الوطني.

4. الإدارة القبرصية التركية  

في  28 ديسمبر 1967، وإثر الهجوم المكثف، الذي شنته قوات يونانية ـ قبرصية يونانية مشتركة، على قرية كوفينو التركية في منطقه لارناكا، أنشأ فاضل كوجك، يساعده رؤوف دنكتاش، الإدارة القبرصية التركية المؤقتة.

كانت الأحكام الأساسية للإدارة الجديدة، تقضي بقيام مجلس تشريعي، يتكون من الأعضاء القبارصة الأتراك في المجلس النيابي والمجلس الطائفي، وقيام مجلس تنفيذي لممارسة السلطة الإدارية في المناطق القبرصية التركية.

أوضح القسم الأول من الأحكام الأساسية، سبب إنشاء الإدارة وأهدافها. وأشار إلى أنه ريثما يتم تطبيق كافة بنود دستور 1960، على القبارصة الأتراك الارتباط بهذه الإدارة.

ومع تراجع احتمالات العودة إلى الأخذ بدستور 1960، أُسقطت كلمة "المؤقتة"، وتابعت الإدارة القبرصية التركية عملها، كحكومة متكاملة، لتلبية حاجات الطائفة التركية، ودعم مقاومتها الاعتداءات القبرصية اليونانية.

5. محادثات استطلاعية

أدّت أزمة كوفينو إلى نتيجة إيجابية، تمثلت في بدء محادثات بين الطائفتين، على إثر ضغوط من الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. فقد وافق رئيس الأساقفة على إجراء محادثات استطلاعيه، غير رسمية، مع ممثلين للطائفة التركية.

وفي 6 يونيه 1968، بدأت محادثات الطائفتين، في بيروت، بين رؤوف دنكتاش، عن القبارصة الأتراك، وجلافكوس كليريديس Glafcos Clerides، عن القبارصة اليونانيين. وبعد أسبوع، استكملت المحادثات في  نيقوسيا.

كان القبارصة الأتراك، يطالبون بأن يتضمن أي اتفاق مستقبلي تأكيداً للضمانة السابقة ضد الإينوسيس، وضد أي وحدة مع دولة أخرى. وأن يكون الحكم الذاتي المحلي أساساً لحل نهائي، يتم فيه الاعتراف بحق المشاركة للطائفة القبرصية التركية. أمّا الجانب القبرصي اليوناني، فكان مصمماً على عدم توقيع أي اتفاق يمنع الإينوسيس. أمّا مسألة الضمانة، فيجب أن تناقش من قِبل كل موقعي اتفاقات 1960، بعد حل المسائل الدستورية.

 



[1] إينوسيس (Enosis): تعبير يوناني يرمز إلى فكرة وحركة الدعوة إلى الوحدة بين قبرص واليونان على أساس الرابط القومي.

[2] تعليق للمترجم عدنان حطيط: إيوكاE O K A هى إختصار لـ Epanastatiki Organosis Kypriakou Agonos أوEthniki Organosis Kyprion Agonistonالتي تعني المنظمة القومية للكفاح القبرصي. وكلمة قومية عندما يستخدمها زعماء القبارصة اليونانيين، تعنى هلّينية أو وحدوية بما يتعارض تماما مع القبرصية أو الاستقلالية . وتعني ضم قبرص إلى الدولة الأم للهلّينية أي اليونان. وقد التبس هذا الأمر على الكثيرين، فتعاملوا مع إيوكا على أنها حركة تحرير قبرصية من الاحتلال البريطاني وليست حركة قومية هلّينية تهدف إلى إرغام بريطانيا على الإقرار بحق القبارصة اليونانيين في ضم الجزيرة بكاملها إلى اليونان

[3] 'تشكلت قوة حفظ السلام في قبرص ، في 4 مارس 1964، بقرار من مجلس الأمن، وذلك بهدف حفظ السلام بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك. وتشكلت القوة من ثمان دول هي: الأرجنتين ـ أستراليا ـ النمسا ـ كندا ـ فنلندا ـ المجر ـ أيرلندا ـ المملكة المتحدة.